عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فرض الصلاة ليلة الإسراء والمعراج
فإن الله خلق الجن والإنس لعبادته، كما قال سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات:56-57] فالغرض من خلق الجن والإنس هو تحقيق العبودية لله ، وإن من أعظم العبادات وأجلها وأحبها إلى الله تعالى الصلاة التي هي عمود دين الإسلام، وآكد أركان الإسلام بعد الشهادتين؛ ولما فرضت هذه العبادة العظيمة على هذه الأمة، فرضت على نحو خاص، فقد أسري بنبينا محمد من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وصلى بالأنبياء إمامًا في المسجد الأقصى، ثم عُرج به إلى السماء، حتى جاوز السبع الطباق، ووصل إلى سدرة المنتهى فوق السماء السابعة، وصل إلى مقام عظيم، وصل إلى أعلى مكان وصله بشر، حتى إنه سمع صوت صرير الأقلام لكتابة القدر، وكلمه الله تعالى مباشرة من غير واسطة، لكنه لم ير الله تعالى.
ولهذا جاء في صحيح مسلم عن أبي ذر قال: سألتُ النبي هل رأيتَ ربك؟ قال: نور أنى أراه؟ [1]، لأن الإنسان بتكوينه البشري لا يتحمل رؤية الله العظيم، الله تعالى تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن من شدة عظمته، تكاد السماوات على عظمتها أن تتفطر، يعني: تتشقق من فوقها من عظمة الله ، فما بالك بهذا الإنسان الضعيف؛ ولهذا لما سأل موسى ربه: قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا [الأعراف:143]، وخر صعقًا لأنه رأى الجبل المتجلي عليه، فكيف لو رأى المتجلى ، لكن الله تعالى كلمه مباشرة، كما كلّم موسى ، كلم الله محمدًا مباشرة، وفرض عليه وعلى أمته هذه العبادة العظيمة؛ ولما فرضها الله تعالى فرضها خمسين صلاة في اليوم والليلة، خمسين صلاة في أربع وعشرين ساعة.
وهذا يدل على محبة الله لهذا النوع من التعبد، وأنه محبوب إلى الله تعالى، فخمسون صلاة في أربع وعشرين ساعة، معنى ذلك: أنه في كل نصف ساعة تقريبًا صلاة، وكان النبي شديد الحياء من ربه، وشديد التعظيم له، فلما فرض الله تعالى عليه وعلى أمته الصلاة خمسين صلاة في اليوم والليلة، كان من رحمة الله تعالى أن قيض موسى عليه السلام، فسأل النبي : ما فرض ربك على أمتك؟ قال: خمسين صلاة في اليوم والليلة، قال: إني جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، وإن أمتك لا تطيق ذلك، فارجع إلى ربك، فسأله التخفيف، فرجع إلى الله فحط عنه عشرًا، ثم عشرًا، ثم عشرًا، ثم عشرًا، ثم خمسًا، فقال موسى: ارجع إلى ربك، فسأله التخفيف بعدما أصبحت خمس صلوات، قال: إني قد استحييت من ربي، فنادى منادٍ: أن أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي، هي خمس في الفعل، خمسون في الميزان [2].
لماذا فرضت الصلاة ليلة الإسراء والمعراج؟
يعني: هذه الصلوات الخمس التي نصليها، كأننا نصلي خمسين صلاة في اليوم والليلة، وليس من باب الحسنة بعشر أمثالها، لا، أولًا تضعيفها على أنها خمسين صلاة، ثم يأتي التضعيف الثاني: الحسنة بعشر أمثالها، إلى أضعاف كثيرة، وهذا يدل على عظيم الأجر والثواب المرتب على هذه العبادة العظيمة، ففرضيتها بهذه الصفة يدل على عظيم شأنها، ويظهر هذا من وجوه:
- الوجه الأول: أنها فرضت من الله تعالى على نبينا محمد مباشرة من غير واسطة، بينما بقية الفرائض تفرض بواسطة جبريل .
- الوجه الثاني: أنها لما فرضت عرج بنبينا محمد ، وكلمه الله تعالى مباشرة، ووصل إلى أعلى مقام وصله بشر، وفرض عليه هذه العبادة.
- الوجه الثالث: أنها لما فرضت فرضت خمسين صلاة في اليوم والليلة، وهذا يدل على محبة الله لها، وعلى عظيم عناية الشريعة بهذه العبادة.
- الوجه الرابع: أنها لما خففت خففت فقط في الفعل، ولم تخفف في الأجر والثواب أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي، هي خمس في الفعل، خمسون في الميزان وهذا يدل على عناية الشريعة بهذه العبادة، وعلى محبة الله تعالى لها؛ ولهذا كانت هي عمود دين الإسلام.
وقد أخرج الإمام مالك في الموطأ بسند صحيح عن عمر بن الخطاب أنه: كتب إلى عماله: “إن أهم أمركم عندي الصلاة، فمن حفظها فقد حفظ دينه، ومن ضيعها فقد ضيع دينه” [3].
والواقع أنك لا تجد محافظًا على الصلاة إلا قد حفظ دينه، وهو لما سواه أحفظ، ولا تجد مضيعًا للصلاة إلا وقد ضيع دينه، وهو لما سواه أضيع.
هذه العبادة العظيمة هي الصلة بين العبد وبين ربه، يناجي العبد ربه في اليوم والليلة خمس مرات، يتصل بالله مباشرة؛ ولهذا كانت هي محل راحة المؤمنين، كما قال عليه الصلاة والسلام: أرحنا بالصلاة يا بلال [4]، والمسلم إذا صلى صلاة خاشعة يجد السكينة، ويجد الأنس، ويجد انشراح الصدر، ويجد زيادة الإيمان.
فضل الصلاة ومكانتها
وهذه الصلاة التي يصليها المسلم بهذه الصفة بخشوع، وحضور قلب، هي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وقد قال عليه الصلاة والسلام: أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم، يغتسل منه خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فكذلك الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا [5] وهذا الحديث ظاهره أن الصلوات الخمس تكفر الكبائر؛ لأنه قال: هل يبقى من درنه شيء؟ لا يبقى شيء منها، لا صغائر ولا كبائر.
وقد استشكل بعض أهل العلم هذا، والجمع بينه وبين حديث أبي هريرة أن النبي لما قال: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر [6] رواه مسلم، والأقرب -والله أعلم- في الجمع بين الحديثين: أن الصلاة الكاملة هي التي تكفر جميع الذنوب، الصلاة الكاملة التي يؤديها الإنسان بخشوع كامل، وهي التي ينطبق عليها حديث: أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم [7]، وأما الصلاة غير الكاملة التي لا يخشع فيها الإنسان خشوعًا كاملًا كما هو حال أكثر الناس، فهذه تكفر الصغائر فقط.
الصلاة هي عمود دين الإسلام، أرأيت عمود الخيمة إذا سقط، تسقط الخيمة كاملة!
وهي أول ما يحاسب عليه المسلم من أعمال يوم القيامة، أول ما يحاسب عليه الصلاة، وأول ما ينظر من الصلاة الفرائض، فإن كان فيها نقص أو خلل قيل: انظروا هل له من تطوع؟ فترقّع بها كما يرقّع الثوب، وهذا يُبيّن لنا أهمية النوافل؛ لأن بعض الناس يقول: هذه نافلة، وليست واجبة عليّ، نقول: هل تضمن أنك أتيت بالفرائض كاملة كما أمرك الله؟ فالنوافل إذًا تكمل الخلل الذي يقع في الفرائض، ثم إن النوافل تُقرّب من الله تعالى، كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: وما تقرّب إلي عبدي بأحب مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصره به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها أي: أنه يُسدّد في جوارحه ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه [8].
حكم ترك الصلاة
ولهذا كان القول الصحيح من أقوال أهل العلم: أن من ترك الصلاة بالكلية لا يركع لله ركعة، لا جمعة ولا جماعة، أنه يكون كافرًا كفرًا أكبر، مخرج عن ملة الإسلام؛ لأن هذا قطع صلته بالله، كيف يكون مسلمًا؟! لا يركع لله ركعة لا جمعة ولا جماعة، كيف يكون مسلمًا؟!
يقول النبي : بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة [9] أخرجه مسلم، ولا يقال: إن هذا من الكفر الأصغر؛ لأن الكفر إذا عرف بـ(أل) في نصوص القرآن والسنة، فالمراد به الكفر الأكبر، كما قرّر ذلك أبو العباس ابن تيمية وابن القيم، وجمع من المحققين من أهل العلم: إذا عرف بـ(أل) يكون المراد به الكفر الأكبر.
ولهذا قال عبدالله بن شقيق التابعي الجليل: لم يكن أصحاب النبي يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة [10].
ونقل إسحاق بن راهويه الإجماع من زمن الصحابة إلى زمنه على كفر تارك الصلاة [11].
أما إذا كان يصلي أحيانًا، ويترك الصلاة أحيانًا، وهذا حال أكثر المتساهلين بالصلاة يصلي مثلًا الجمعة، ولا يصلي الصلوات الخمس، فهل يكفر كفرًا أكبر أم لا؟
هذا محل خلاف بين العلماء، والقول الراجح: أنه لا يكفر كفرًا أكبر، ولكنه يكون فاسقًا، ويدخل في قول الله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5] دليل على أنه لا يكفر كفرًا أكبر حديث عبادة بن الصامت أن النبي قال: خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فمن حافظ عليهن، ولم يضيع منهن شيئًا، كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة، ومن لم يأتِ بهن لم يكن له عهد عند الله إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة [12]، أخرجه أبو داود.
وهو حديث صحيح من جهة الإسناد، ووجه الدلالة قوله: من لم يأتِ بهن المقصود لم يحافظ عليهن بدليل الحديث الأول، قال: من حافظ عليهن، ولم يضيع منهن شيئًا وقال في آخر الحديث: لم يكن له عهد عند الله إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة وهذا دليل على أنه لا يكفر كفرًا أكبر؛ إذ أنه لو كان كافر كفرًا أكبر لم يكن له سبيل إلى الجنة، ثم إن قوله عليه الصلاة والسلام: بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة [13] ولم يقل: تركه الصلاة.
لكن الذي يصلي أحيانًا، ويترك الصلاة أحيانًا، يدخل في قول الله : فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5] ساهون أي: يتركونها أحيانًا، ويؤخرونها أحيانًا، فهم يدخلون في الساهين الذي توعدهم الله بالويل.
أبرز أخطاء المصلين
ننتقل بعد ذلك للحديث عن أبرز الأخطاء التي تقع من بعض المصلين في الصلاة:
أخطاء في الطهارة
ونبتدئ أولًا بالطهارة التي هي شرط لصحة الصلاة:
فمن الأخطاء التي يقع فيها بعض الناس: ترك بعض مواضع الوضوء الواجب غسلها، كترك العَقِب مثلًا، أو ترك المِرفق، وهذا لا يصح معه الوضوء، وقد جاء في صحيح مسلم أن النبي رأى رجلًا، وفي قدمه قدر ظفر لم يصبه الماء، فأمره أن يعيد الوضوء [14]، مع أنه قدر ظفر، ومع ذلك أمره أن يعيد الوضوء، وعند أبي داود أن يعيد الوضوء والصلاة [15].
ولما رأى النبي قوم يتوضؤون، تلوح أعاقبهم لم يصبها الماء، نادى بأعلى صوته: ويل للأعقاب من النار، ويل للأعقاب من النار [16]، أخرجه البخاري ومسلم.
وهذا يدل على أنه ينبغي للمسلم أن يتأكد من وصول الماء إلى جميع أعضاء الوضوء، وبعض الناس عندما يتوضأ يستعجل، فلا يصيب الماء بعض أعضاء الوضوء، وبخاصة المرفق أو الكعب، وهذا -كما ذكرت- وضوؤه غير صحيح، وصلاته غير صحيحة.
ومن الأمور التي أنبه عليها: أنّ بعض الناس عندما يتوضأ عندما يصل إلى غسل اليدين، يغسل الذراع، ويغسل المرفقين، ولا يغسل الكفين، باعتبار أنه غسل الكفين أول الوضوء، غسل الكفين في أول الوضوء من سنن الوضوء ليس واجبًا أصلًا، لكن غسل الكفين بعد غسل الوجه من فروض الوضوء، غسل الكفين مع الذراع، مع المرفق، غسل الكفين من فروض الوضوء، وهو المذكور في الآية: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ [المائدة:6] فبعض الناس يضع ذراعه تحت صنبور الماء، ويغسل الذراع، ويغسل المرفق، ولا يغسل الكف، وهذا وضوؤه غير صحيح، حتى لو كان قد غسل الكفين في أول الوضوء؛ لأن غسله للكفين في أول الوضوء مستحب، هذا من سنن الوضوء، لكن غسله لليد كاملة بالكف والذراع والمرفق بعد غسل الوجه، هذا من فروض الوضوء.
وهذه من الأخطاء التي يقع فيها بعض الناس، وهي تؤثر على صحة الصلاة، وفي المقابل نجد بعض الناس مبتلى بالوسواس في الطهارة، وتجد أنه عندما يتوضأ يغسل مواضع الوضوء عدة مرات، وقد ورد النهي عن غسلها أكثر من ثلاث مرات، فجاء في حديث الأعرابي أن النبي أراه الوضوء ثلاثًا ثلاثًا، ثم قال: هذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء، أو تعدى، أو ظلم [17] وهذا يدل على أنه لا تشرع الزيادة على ثلاث مرات في غسل أعضاء الوضوء، وغسلها أكثر من ثلاث مرات، هذا يقود إلى الوسواس.
أما إعادة الوضوء، أو تجديد الوضوء، فإن كان قد صلى بوضوئه الأول صلاة فريضة أو نافلة فيشرع تجديد الوضوء، أما إذا كان لم يصل به، فلا يشرع تجديد الوضوء؛ لأن هذا يقود إلى الوسواس، يتوضأ عدة مرات، وهو لم يصل بهذا الوضوء.
أيضًا من الأخطاء التي يقع فيها بعض الناس عدم إزالة ما يمنع وصول الماء إلى أعضاء الوضوء، كأن يكون في يده طلاء، أو ما يُسمى بالبوية، ولا يحكّه، أو يكون بعض النساء تجعل في أظافرها الطلاء الذي يسمى عند العامة بالمناكير، وهذا يمنع وصول الماء إلى الأظافر؛ ولذلك إذا أرادت المرأة أن تتوضأ لا بد من حك هذا الطلاء.
ولو توضأت وعليها هذا الطلاء لم يصح وضوؤها، وإذا كان النبي أمر رجلًا أن يعيد الوضوء؛ لكونه قد رأى في قدمه قدر ظفر لم يصبه الماء، فكيف بامرأة لم يصل الماء إلى جميع أظافرها؟!
وليس معنى هذا أن وضع المرأة لهذا الطلاء أنه لا يجوز، الأصل فيه الجواز، وهو في الأصل من الزينة الجائزة للمرأة، لكن عندما تريد أن تتوضأ تحكه، أو أنها تضعه في الأوقات التي لا تجب عليها الصلاة، كأوقات الدورة الشهرية مثلًا، ونحو ذلك.
وبعض الناس أيضًا يضع لصقة في بعض مواضع الوضوء، ولا يمسح عليها إذا وضع لصقة، فحكمها حكم الجبيرة، فعندما يصل في الوضوء إليها يمسح عليها، والمسح يكفي ولا حاجة لأن يتيمم، حكمها حكم الجبيرة.
أيضًا من الأخطاء التي يقع فيها بعض الناس: الاكتفاء بالغسل المستحب أو غسل التبرد عن الوضوء، وأما الغسل المستحب كغسل الجمعة: فغسل الجمعة غسل مستحب وسنة مؤكدة في قول أكثر أهل العلم؛ وهو لا يكفي عن الوضوء، وبعض الناس يغتسل غسل الجمعة ولا يتوضأ، ثم يأتي للمسجد الجامع، ويصلي صلاة الجمعة، وهذا لم يتوضأ، وأما غسل الجمعة فلا يكفي.
وإنما الذي يكفي هو الغسل الواجب، كغسل الجنابة، هذا هو الذي يكفي؛ لأنهما طهارتان صغرى وكبرى، دخلت الصغرى في الكبرى، وأما غسل الجمعة فإنه غسل مستحب، ولا يكفي عن الوضوء.
وأنقل في هذا فتوى سماحة شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله، سُئل هل الغُسل بجزيء عن الوضوء؟ قال: “إذا كان الغُسل عن الجنابة ونوى المغتسل الحدثين الأصغر والأكبر، أجزأ عنهما، ولكن الأفضل أن يستنجي، ثم يتوضأ، ويكمل غسله؛ اقتداء بالنبي ، وأما إذا كان الغُسل لغير ذلك، كغسل الجمعة، وغسل التبرد والنظافة، فلا يجزئ عن الوضوء، ولو نوى ذلك؛ لعدم الترتيب، وهو فرض من فروض الوضوء؛ ولعدم وجود طهارة كبرى، تندرج فيها الطهارة الصغرى بالنية، كما في غسل الجنابة”.
هذه فتوى سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله، وهي منشورة في مجموع فتاوى الشيخ، في المجلد العاشر صفحة 173، فإذًا الغسل المستحب لا يكفي عن الوضوء، حتى لو نوى ذلك، وهكذا أيضًا غسل التبرد، لا يجزئ عن الوضوء، ولو نوى ذلك، فإذا اغتسل الجمعة، لا بد أن يتوضأ، وإذا اغتسل ينوي به النظافة أو التبرد لا بد أن يتوضأ، وإنما الغسل الذي بجزيء عن الوضوء غسل الواجب كغسل الجنابة.
هذه أبرز الأخطاء التي يقع فيها بعض الناس فيما يتعلق بالطهارة.
تأخير الصلاة عن وقتها
وأما بالنسبة للصلاة، فمن أبرز الأخطاء: تأخير الصلاة عن وقتها، وخاصة صلاة الفجر، وقد قال الله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5] قال ابن عباس رضي الله عنهما: “يُؤخرونها عن وقتها” [18].
لاحظ أنّ الله تعالى وصفهم بالمصلين، هم يصلون، لكن عن صلاتهم ساهون، يعني: أنهم لا يأتون بها كما أمر الله ، ومن السهو عن الصلاة تأخيرها عن وقتها، والوقت هو آكد شروط الصلاة، قد تسقط جميع أركان الصلاة، وجميع شروطها، ما عدا النية، مراعاة لشرط الوقت، لو افترضنا رجلًا عاجزًا عن استقبال القبلة، عاجزًا عن ستر العورة، عاجزًا عن الطهارة، وقل ما شئت من الأركان والشروط، لكنه خشي خروج الوقت، نقول: صل على حسب حالك، ولا تدع الصلاة حتى يخرج وقتها، صلي على حسب حالك، إلا إذا كان مسافرًا أو مريضًا، فيجوز أن يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وأما أنه يترك الصلاة بدون عذر بحجة أنه عاجز عن بعض أركان أو شروط الصلاة، فهذا ليس عذرًا، نقول: صل على حسب حالك، وبهذا يعلم خطأ بعض المرضى في المستشفيات الذين لا يصلون، وعندما يقال له: لماذا لا تصلي؟ يقول: كيف أصلي وأنا علي نجاسة، وأنا لا أستطيع أن أستقبل القبلة؟
نقول: هذا غير صحيح، صل على حسب حالك، حتى لو كان عليك نجاسة، حتى لو صليت بدون وضوء، إذا كنت عاجزًا عن الوضوء، حتى لو كان إلى غير القبلة فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] كما قال النبي : وما أمرتكم فيه بأمر، فأتوا منه ما استطعتم [19] وتعجب عندما ترى الركاب في الطائرة والوقت وقت الصلاة يخرج ولم يقم كثير منهم بأداء الصلاة، كأن تكون صلاة الفجر لا تجمع مع غيرها، أو أنها مما تجمع مع غيرها، وهو وقت الصلاة الثانية كالعصر مثلًا، أو العشاء، ومع ذلك تجد كثيرًا من الركاب لا يقومون، ولا يصلون، وعندما تقول له: لماذا لا تصلي؟ يقول: إذا هبطت الطائرة، وإذا هبطت الطائرة خرج الوقت، لا يجوز، يقول: كيف أصلي وأنا في الطائرة؟ نقول: على حسب حالك، اتقوا الله ما استطعتم، شرط الوقت هو أكد شروط الصلاة، لا يحل للمسلم أن يُؤخر الصلاة عن وقتها بدون عذر، وتأخير الصلاة عن وقتها بدون عذر معدود عند أهل العلم من كبائر الذنوب.
تأخير صلاة الفجر عن وقتها
وإذا نظرنا إلى الواقع نجد أن عددًا من المسلمين ليس بالقليل يُؤخرون صلاة الفجر عن وقتها، وإذا أردت البرهان، فانظر إلى أعداد المصلين في صلاة الفجر، وخذ نسبتهم، يعني: قارن أعدادهم بأعداد من يصلون صلاة المغرب في رمضان، كم النسبة؟ الحقيقة أنه واقع مؤسف، لو أخذتها بالنسبة ستجد أن النسبة قليلة، ربما نسبة قليلة لو أخذت نسبة من يصلون صلاة الفجر بمن يصلون صلاة المغرب في رمضان، ستجد أن النسبة قليلة، فهذه الأعداد الكبيرة الذين لا يصلون صلاة الفجر في وقتها مع الجماعة في المسجد ما حالهم؟
لا يخلو حالهم من ثلاثة أمور:
- إما أنهم لا يصلونها بالكلية.
- وإما أنهم يصلونها في وقتها قبل طلوع الشمس.
- وإما أنهم يصلونها بعد طلوع الشمس.
أما إذا كانوا لا يصلونها بالكلية فسبق القول بأن تارك الصلاة بالكلية أنه كافر كفرًا أكبر، مخرج عن ملة الإسلام، وأما إذا كانوا يصلونها في وقتها، وهذا قليل؛ لأن من يقوم من فراشه، ويصلي الصلاة في وقتها قبل طلوع الشمس يعني: هذا عنده حرص، وهذا سيقوم ويصليها مع الجماعة في المسجد، فهذا قد أخطأ؛ لكونه ترك واجبًا، وهو الصلاة مع الجماعة، وتجب الصلاة جماعة في المساجد على الرجال، وقد جاء في صحيح مسلم أن رجلًا أعمى أتى للنبي فقال: يا رسول الله، إني رجل أعمى، وليس لي قائد يلائمني، فهل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ ماذا قال له النبي وهو الرحيم الرفيق بأمته؟ ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، قال: هل تسمع حي على الصلاة حي على الفلاح؟ قال: نعم، قال: فأجب، فإني لا أجد لك رخصة [20] أي: في أن تصلي في بيتك وأنت تسمع النداء.
والحال الثالثة: أنهم يصلونها بعد طلوع الشمس، فمعنى ذلك أنهم صلوها بعد خروج وقتها، وهؤلاء على خطر عظيم، بعض أهل العلم يقول: إن من ترك صلاة واحدة، أو أخرها حتى تخرج وقتها، فإنه يكفر، وإن كان جماهير أهل العلم أنه لا يكفر، لكنه يكون آثمًا، وهذا هو القول الراجح: أن الصلاة صحيحة ولا يكفر، ولكن يكون آثمًا فيكون من الساهين الذين ذكرهم الله تعالى في قوله: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5].
وقد جاء في صحيح مسلم عن جندب بن عبدالله أن النبي قال: من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فيدركه فيكبه في نار جهنم [21] ما معنى هذا الحديث: من صلى الصبح فهو في ذمة الله؟ يعني: في عهد الله وضمانه وحفظه؛ لماذا من صلى الصبح فهو في عهد الله وحفظه وضمانه؟
لأنه لا يقوم من فراشه ويصلي مع الجماعة في المسجد، ويحافظ على ذلك إلا رجل صادق مع الله، إلا رجل إيمانه قوي، فهذا يستحق من الله ، يستحق الحفظ والعهد؛ ولهذا قال: فهو في ذمة الله يعني: في حفظ الله تعالى، وفي عهد الله ، فلذلك لا أحد يتعرض له، وهذا معنى قوله: من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء يعني: أنّ هذا الذي قد صلى الصبح كما أمر الله تعالى في جماعة، هذا يكون في حفظ الله، وليس لأحد أن يتعرض له، وهكذا المرأة إذا صلت صلاة الصبح في وقتها، المرأة لا تجب عليها الجماعة، لكنها إذا صلت الصبح في وقتها، فإنها تدخل في هذا الحفظ المذكور في هذا الحديث.
عدم الطمأنينة في الصلاة
وأيضًا من الأخطاء التي يقع فيها بعض الناس: عدم الطمأنينة في الصلاة، الإخلال بركن الطمأنينة، وقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة أن رجلًا دخل المسجد فصلى، فأتى النبي فسلّم عليه، فرد عليه السلام، فقال: ارجع فصل، فإنك لم تصل فرجع وصلى، ثم أتى فسلّم عليه، فردّ عليه السلام، فقال ارجع وصل، فإنك لم تصل فرجع فصلى، ثم أتى فسلّم عليه، فردّ عليه السلام، فقال ارجع وصل، فإنك لم تصل قال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير ذلك، فعلمني، فقال: إذا قمت إلى الصلاة، فاستقبل القبلة وكبر، واقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع، حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع، حتى تعدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تعتدل جالسًا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها [22] فدلت هذه القصة على أن الطمأنينة ركن من أركان الصلاة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ارجع فصل فإنك لم تصل لم تصل هنا نفي، والأصل في النفي أنه ينصرف إلى الوجود، فإن لم يمكن، فإلى الصحة، فإن لم يمكن، فإلى الكمال، نفي الوجود يعني أنه لم يصل حقيقة، هذا غير ممكن؛ لأن الرجل صلى، فإذًا ينصرف إلى نفي الصحة، فمعنى قوله: إنك لم تصل يعني: أن صلاتك غير صحيحة، وهذا يدل على أن الطمأنينة في الصلاة ركن من أركان الصلاة، فمن صلى صلاة لم يطمئن فيها لم تصح صلاته، ولو صلى ألف صلاة، وليس له من صلاته إلا التعب، وهذا يشمل الفريضة والنافلة؛ لأن بعض الناس ربما يطمئن في الفريضة، وأما النافلة فلا يطمئن فيها، وهذا يحصل من بعض الناس في صلاة التراويح، حدثني أحد الناس يقول: إنه لا يستطيع أن يقول: سبحان ربي العظيم في الركوع مرة واحدة، معنى ذلك: أن الإمام أخل بركن الطمأنينة، فهؤلاء لا تصح صلاتهم، الطمأنينة إذًا ركن من أركان الصلاة، ارجع فصل، فإنك لم تصل.
وفي هذا الحديث من اللطائف: فسلّم، فردّ عليه السلام، لاحظ هذا الرجل سلّم على النبي كم مرة؟ ثلاث مرات، سلّم ثم قام صلى ركعتين، ولم يطمئن فيها، أي ينقرها، كم تستغرق من الوقت وقت يسير، ثم سلم مره ثانية، ثم سلّم مرة ثالثة، وهذا يدل على أنه لا بأس من تكرار السلام، ولو لم يحل حائل.
وقول بعض أهل العلم: لا بد أن يحول حائل من شجرة أو حائط، هذا قول مرجوح، الصواب: أنه إذا وُجد فاصل مكاني أو زماني، فيشرع تكرار السلام، وتكرار السلام من الأمور التي تدعو إلى المحبة والألفة بين المسلمين، قال عليه الصلاة والسلام: هل أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم [23].
وعلى هذا لا بأس أن تسلم على من كان بجوارك قبل إقامة الصلاة، ولا بأس أن تسلّم عليه بعد الفراغ من الصلاة خاصة عندما تريد أن تخرج من المسجد لا مانع من هذا، ولاحظ في هذه القصة: أنّ هذا الرجل سلّم ثلاث مرات، والفاصل يسير، فاصل مجرد ركعتين بغير طمأنينة، كم تأخذ من الوقت؟
وأيضًا من الأخطاء التي يقع فيها بعض الناس الإخلال بركن القيام في صلاة الفريضة، وإذا أردت أن تعرف التساهل في هذا الركن، فانظر إلى أحوال المساجد الآن، وقارنها بأحوال المساجد قبل أكثر من عشر سنوات، الآن إذا دخلت أي مسجد تجد كراسي مصفوفة خلف الإمام على صفة لم تعهد من قبل، ومن كان عاجز عن القيام، أو كان يشق عليه القيام مشقة يفوت بسببها الخشوع، لا بأس أن يصلي جالسًا، لكن بعض الناس يتساهل، فيصلي جالسًا، مع قدرته على القيام، بدليل أنك تراه في أمور الدنيا أنه يزاول أعماله بكل نشاط، لكن إذا أتت الصلاة ادعى العجز، وصلى جالسًا، والقيام ركن من أركان الصلاة، لكن الشيطان يثقل الصلاة على الإنسان وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45].
وقد ذكر الشافعي رحمه الله أن رجلًا في زمنه قد بلغ التسعين من عمره يعلم الجواري الغناء قائمًا، فإذا أتى إلى الصلاة صلى جالسًا، وهذا تجد بعض الناس يزاول أمور الدنيا نشيطًا، فإذا أتى الصلاة قال: أنا لا أستطيع أن أصلي قائمًا، والقيام مع القدرة من أركان الصلاة.
إذًا ما هو ضابط العجز أو المشقة التي يجوز معها ترك القيام؟
الضابط: إما أن يكون عاجزًا لا يستطيع القيام، وهذا ظاهر، وإما أن يشق عليه القيام مشقة يفوت بسببها الخشوع، وأما إذا كان يشق عليه مشقة يمكن احتمالها، ولا يفوت بسببها الخشوع، فيجب عليه القيام، وكذلك أيضًا ما ذكره أهل العلم: أنه يعتمد على عمود أو جدار، وهو قادر على القيام، فهذا الاعتماد أو الاستناد فيه إخلال بركن من أركان الصلاة في القيام مع القدرة.
مسابقة الإمام
وأيضًا من الأخطاء التي يقع فيها بعض المصلين مسابقة الإمام، ومسابقة الإمام محرمة، وقد قال النبي : أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار، أو يجعل صورته صورة حمار [24] أخرجه البخاري ومسلم، وهذا وعيد لا يكون إلا على أمر محرم.
وفي قوله عليه الصلاة والسلام: أن يجعل الله رأسه كرأس حمار، أو صورته كصورة حمار قال بعض أهل العلم: إن المراد بهذا التحويل تحويل حسي، والله على كل شيء قدير، وقال آخرون: إن المقصود بذلك التحويل المعنوي، وهو أن يجعل هذا الإنسان بليدًا غبيًا، لا يفهم؛ لأن الحمار هو أبلد الحيوانات بسبب مخالفته للسنة.
وعلى كلا القولين هذا وعيد في حق من يسابق الإمام، فمسابقة الإمام محرمة، والمشروع هو المتابعة للإمام؛ لئلا أن ينتقل من الركن، حتى يصل إمامه إلى الركن الذي يليه، وقد جاء في الصحيحين عن البراء قال: كان رسول الله إذا قال: سمع الله لمن حمده لم يحني أحدنا ظهره، حتى يقع رسول الله ساجدًا، ثم نقع سجودًا بعده، فإذا سجد الإمام لا تسجد، حتى يصل الإمام جبهته إلى الأرض، وأما قبل ذلك، فلا تتحرك، بعض الناس تجده يسابق الإمام، يسجد قبل أن يسجد الإمام، يصل إلى الأرض قبل أن يصل الإمام، وهذه مسابقة محرمة، وإذا كانت عن عمد فهي مبطلة للصلاة، وإن كانت عن غير عمد فهي محل خلاف بين أهل العلم.
القراءة من غير تحريك اللسان والشفتين
وأيضًا من الأخطاء التي يقع فيها بعض الناس: قراءة الفاتحة في قلبه، أو الإتيان بأذكار الصلاة عمومًا في قلبه، لا يحرك لسانه، بعض الناس عندما يقرأ الفاتحة يقرأها بقلبه دون تحريك اللسان، وكذلك عندما يقول: سبحان ربي العظيم، يقولها في قلبه، هل هذه قراءة، عندما يقرأ الإنسان في قلبه، هل هذه قراءة؟
هذه ليست قراءة، لا بالمعنى اللغوي، ولا بالمعنى الشرعي، ولا بالمعنى العرفي، هذه مجرد تأمل وتفكير؛ ولذلك لو طلق رجل زوجته في قلبه لم يقع الطلاق بإجماع العلماء، لا بد أن يتلفظ بالطلاق، ولو أن وليًّا قال للرجل: زوجتك ابنتي، قال: نعم، في قلبه، لم ينعقد النكاح، ولو قال الزوج: قبلت بدون أن يتلفظ، لم ينعقد النكاح، إذًا لا بد من التلفظ.
واختلف العلماء هل لا بد أن يسمع نفسه؟ المذهب عند الحنابلة أنه لا بد أن يسمع نفسه بالقراءة، لكن هذا قول مرجوح، والصواب: أنه لا يُشترط أن يسمع نفسه؛ لأنه لا دليل على اشتراط هذا الشرط، وإنما الواجب أن يحرك لسانه؛ لقول الله تعالى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة:16] فدل ذلك على أن المعول عليه تحريك اللسان.
فإذًا لا بد من تحريك اللسان بجميع أذكار الصلاة، بقراءة الفاتحة بالتكبير بالتسبيح، بجميع الأذكار، لا بد من تحريك اللسان، حتى في تلاوة القرآن، بعض الناس تجد يفتح المصحف، يبدأ ينظر من غير أن يحرك لسانه، هذه ليست قراءة، هذه تأمل، وقد يؤجر على تأمله وتدبره، لكن ليست القراءة التي يُؤجر عليها، ويثاب من قرأ حرفًا له حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا بد من تحريك اللسان.
فهذه من الأخطاء الموجودة عند بعض الناس، وكما ترون هذا الخطأ الكبير والمؤثر، يعني: لا تصح معه الصلاة، وقد ورد استفتاء للجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، برئاسة شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله عن رجل صلى إحدى الصلوات السرية يعني: صلاة الظهر أو صلاة العصر، وفي فمه -أكرمكم الله- نخامة، ولم يحرك لسانه بقراءة الفاتحة، وإنما قراها في نفسه، فأفتي بأن يعيد الصلاة؛ لأنه ترك ركنًا من أركان الصلاة.
الإسراع عند إقامة الصلاة
وأيضًا من الأخطاء التي يقع فيها بعض الناس: الإسراع عند إقامة الصلاة، قال عليه الصلاة والسلام: إذا أقيمت الصلاة فامشوا وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا [25] فإذا أقيمت الصلاة ينبغي أن يمشي المسلم بسكينة ووقار وتؤدة؛ لأن إسراعه يشوش على المصلين من جهة، وهو أيضًا إذا دخل في الصلاة سيكون ذهنه أيضًا مشوشًا، يكون مرتبكًا؛ ولذلك فالسنة أن يمشي وعليه السكينة، وبعض العلماء، كابن عباس رضي الله عنهما، وابن تيمية رحمه الله استثنوا من ذلك: ما إذا كان يخشى فوات الجمعة أو الجماعة، كأن يكون الإمام في الركوع من الركعة الثانية من صلاة الجمعة، أو في الركوع من الركعة الأخيرة من أي صلاة، فيقولون: يجوز، وتزول الكراهة، ولا بأس أن يسرع حتى يدرك الركعة، فيدرك الجمعة أو الجماعة، وقالوا: إن قول النبي : فما أدركتم فصلوا وهذا لا يدرك شيئًا إذا فاته الركوع من آخر ركعة، لن يدرك شيئًا، فاستثنوا هذه المسألة، وقالوا في هذه الحالة: إذا كان الركوع من آخر ركعة لا بأس بالإسراع حينئذٍ، وقد روي في ذلك آثار عن بعض السلف.
التأخر في الإتيان إلى الصلاة
وكذلك أيضًا مما يلاحظ على بعض الناس، وربما نقول: كثير من الناس التأخر في الإتيان للصلاة، وقد قال النبي : لو يعلم الناس ما في التهجير لاستبقوا إليه [26] والتهجير هو التبكير، وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم.
ونجد أن كثيرًا من المساجد لا يأتي الناس إلا مع الإقامة، فتكاد الإقامة تقوم مقام الأذان، وربما يكون من أسباب ذلك وجود مكبرات الصوت، ولكن السنة أن يبادر المسلم للمسجد من حين أن يسمع الأذان؛ وذلك لأنه إذا عوّد نفسه على ذلك يكسب أجرًا عظيمًا، فإنه إذا كان ينتظر الصلاة فهو في صلاة، والملائكة تدعو له، تصور أنك في مكان ورجل من أتقى الناس يدعو لك بسبب وجودك في هذا المكان، يدعو لك طيلة الوقت، فكيف بمن تدعو له الملائكة، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، إلى أن تُقضى الصلاة، ثم أيضًا إذا أتى للمسجد مبكرًا هو سوف يشتغل في الغالب بعمل صالح، إما بصلاة، وإما بتلاوة قرآن، وإما بدعاء، وإما بذكر، ثم أيضًا إذا أتى للمسجد مبكرًا يتهيأ لصلاة الفريضة، فيخشع فيها أكثر ممن يأتي متأخرًا؛ لأن من يأتي متأخرًا يعلق ذهنه بآخر أعماله التي كان يزاولها، بخلاف من يأتي للمسجد مبكرًا، فعندما تقام الصلاة يتفرغ ذهنه لأداء الصلاة، فينبغي أن يعوّد المسلم نفسه على التبكير، والأعمش قريبًا من سبعين سنة لم تفته تكبيرة الإحرام، وفي ترجمة سعيد بن المسيب أنه ما نودي للصلاة من أربعين سنة إلا وهو في المسجد.
وفي ترجمة إبراهيم بن ميمون الصائغ: أن ابن معين كان يقول عنه: كان إذا رفع المطرقة فسمع النداء لم يردها، حتى يذهب للمسجد، ويؤدي الصلاة، هذه الأخلاق المروية عن السلف الصالح، وينبغي لنا أن نقتدي بهم، وأن نتأسى بهم، وأن نبادر في المجيء إلى المسجد، ويتأكد ذلك على وجه الخصوص في صلاة الجمعة، فيأتي الآن الخطيب وأكثر المصلين خارج المسجد، فإذا سمعوا الخطيب قد بدأ بدؤوا يتوافدون للجامع، والجمعة على وجه الخصوص قد ورد في التبكير إليها فضل خاص، فقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي قال: من أتى الجمعة في الساعة الأولى فكأنما قرّب بدنة، ومن أتى الجمعة في الساعة الثانية، فكأنما قرب بقرة، ومن أتى الجمعة في الساعة الثالثة، فكأنما قرّب كبشًا أقرن، ومن أتى الجمعة في الساعة الرابعة، فكأنما قرّب دجاجة، ومن أتى الجمعة في الساعة الخامسة، فكأنما قرّب بيضة، فإذا دخل الإمام طويت الصحف، وأقبلت الملائكة تستمع الذكر [27] هذا الحديث رواه البخاري ومسلم.
وفي هذا الحديث ذكر خمس ساعات، وقد كان هدي النبي أنه كان يدخل لخطبة الجمعة مع زوال الشمس، وزوال الشمس إنما يكون في الساعة السادسة، وفي هذا الحديث ذكر خمس ساعات، فمعنى ذلك أن الساعة الأولى تبتدئ بعد طلوع الشمس بساعة، ولكن هل المراد الساعة المعروفة في وقتنا التي هي ستون دقيقة؟ لا، ليس هذا المقصود، لم تكن هذه معروفة، صحيح أن اليوم والليلة كانت العرب تقسمه أربع وعشرين ساعة، لكن ليست هي المقصودة في هذا الحديث، إذًا ما المراد بالساعة؟ المراد بالساعة هو الحصة الزمنية إذا قسمت ما بين طلوع الشمس إلى غروبها على 12، فيخرج لك مقدار الساعة، وقد تصل مع طول النهار إلى خمس وستين دقيقة، أو أكثر قليلًا، وقد تصل مع قصر النهار إلى خمس وخمسين دقيقة أو أقل قليلًا، فهي قريبة من الستين، ليست بعيدة عن الستين دقيقة، لكن القاعدة أن تقسم الفترة الزمنية ما بين طلوع الشمس إلى غروبها على اثني عشر، فيخرج لك المقدار، فالساعة في هذا الحديث هي الساعة المعروفة عند العرب؛ لأن العرب كانوا يقسمون اليوم والليلة على ثنتي عشرة ساعة، فالفترة الزمنية إذا قسمت ما بين طلوع الشمس وغروبها على اثني عشرة يخرج لك مقدار الساعة، وما يسمونه بالساعة الميقاتية.
ومعنى ذلك أن الساعة الأولى تبتدئ بعد طلوع الشمس بنحو ساعة، وكأن الساعة الأولى بعد طلوع الشمس، كما قال الحافظ ابن حجر وغيره، كأنها جعلت لأجل استعداد المسلم بالاغتسال والتنظف والتطيب، ونحو ذلك.
كثير من الناس الآن ما يُحصّل حتى أجر البيضة، حتى أجر الساعة الخامسة، لو كان هذا يحصل بصفة عارضة ربما يعتذر الإنسان؛ لأنه كان مشغولًا، أو نحو ذلك، لكن يكون هذا بصفة مستمرة، وأن المسلم يحرم نفسه من أجر التبكير كل جمعة، فلا شك أن هذا من التفريط، وقد يكون من أسباب ذلك أن كثيرًا من الناس يسهرون ليلة الجمعة، فيحتاجون إلى تعويض النوم بعد صلاة الفجر يوم الجمعة، فلا يقومون إلا متأخرين.
العناية بصلاة الجمعة على وجه الخصوص
فأقول: أيها الأخوة ينبغي الاهتمام بشأن صلاة الجمعة على وجه الخصوص، والعناية بها أولًا من جهة التبكير، يبكر المسلم.
ثانيًا: الاغتسال لصلاة الجمعة سنة مؤكدة جدًّا، قال عليه الصلاة والسلام: إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل [28] وقال: غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم [29] يعني: على كل بالغ.
وكذلك أيضًا أن يمس شيئًا من طيب البيت يتطيب، وأن يلبس أحسن ثيابه، وأن يأخذ زينته، وهذا يقودنا إلى التنبيه إلى ملاحظة على بعض الناس، وهي أنهم لا يأخذون زينتهم في الصلاة، يأتون للمسجد بملابس النوم، أو بملابس رثة، ونحو ذلك، والمطلوب من المسلم أن يأخذ زينته في الصلاة امتثالًا لأمر الله تعالى في قوله: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31] ومعنى عند كل مسجد أي: عند كل صلاة، وليس المقصود به المسجد المعروف الآن، المقصود كما قال المفسرون: عند كل صلاة، فمسجد يعني موضع سجود، والمقصود عند كل صلاة؛ لأن أخذ الزينة في الصلاة إنما هو لحق الله تعالى، وليس لأجل نظر الناس؛ ولذلك حتى لو كنت تصلي النافلة في البيت وحدك، فيشرع لك أن تأخذ الزينة.
لو كنت مثلًا تريد أن تصلي صلاة الوتر، فتلبس أحسن ملابسك، فلا تصلي في ملابس النوم، لو أردت أن تصلي صلاة الضحى تلبس أحسن ملابسك، فأخذ الزينة في الصلاة مشروع، ويتأكد على وجه الخصوص في صلاة الجمعة، وفي العيدين.
وأخذ الزينة المرجع فيه العرف، ما عده الناس في عرفهم زينة، فهو زينة، فعلى سبيل المثال عندنا هنا في المملكة الناس يعدون لبس المشلح أنه من أخذ الزينة؛ ولذلك يلبسونه في الأفراح، وفي المناسبات، وكذلك نقول: صلاة الجمعة أولى بأن يأخذ المسلم زينته فيها، يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31] وإذا أتى المسلم لصلاة الجمعة، وقد اغتسل وتطيب، ولبس أحسن ثيابه، فما أفضل عمل صالح يشتغل به إلى دخول الخطيب؟
أفضل عمل صالح يشتغل به الصلاة؛ لأنها أحب العمل إلى الله تعالى، يصلي مثنى مثنى، من غير عدد، وقد جاء في حديث سلمان أن النبي قال: إذا اغتسل أحدكم ثم ادهن من بيته، ثم أتى للمسجد لا يفرق بين اثنين، ثم صلى ما كُتب له، ثم أنصت إذا تكلم الإمام، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى [30] والحديث في صحيح البخاري، وموضع الشاهد قوله: ثم صلى ما كُتب له يعني: من غير حد بعدد معين؛ ولذلك كان كثير من السلف الصالح يصلون إلى أن يدخل الخطيب، فالأفضل أن تصلي ركعتين ركعتين، مثنى مثنى، إلى دخول الخطيب، ولا بأس عند بعض الناس ربما لا يحفظ القرآن كاملًا، أو لا يحفظ إلا القليل، لا بأس أن تأخذ المصحف وتقرأ؛ لأنها صلاة نافلة هذا أفضل من أن تقرأ القرآن في غير الصلاة، هذا أفضل عمل صالح تشتغل به عندما تأتي للمسجد الجامع.
لكن وقت النهي الذي يكون عند منتصف النهار، اختلف العلماء هل الجمعة فيها وقت نهي أو لا؟
أولًا: هو وقت يسير في حدود خمس دقائق قبيل أذان الظهر، وجمهور العلماء على أن الجمعة كغيرها فيها وقت نهي، والشافعية ذهبوا إلى أن الجمعة ليس فيها وقت نهي، والأقرب هو قول الجمهور؛ لعموم الأدلة، فيعني من أتى المسجد الجامع مبكر يصلي مثنى مثنى إلى قبيل دخول الخطيب بنحو خمس دقائق، يتوقف عن الصلاة حتى لا يصلي في وقت نهي.
ولماذا قلنا: إن الصلاة هو أفضل ما يشتغل به؟ لأن الصلاة هي أحب العمل إلى الله تعالى؛ ولهذا ذكر في ترجمة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله أنه كان يتطوع لله تعالى في اليوم والليلة ثلاثمائة ركعة؛ ولما حصلت له المحنة، وضُرب، وكان يضرب ضربًا شديدًا إلى أن يُغمى عليه، ضعف بدنه، فأصبح يصلي مائة وخمسون ركعة في اليوم والليلة.
وكان الحافظ عبدالغني المقدسي صاحب عمدة الأحكام، كان يقتدي بالإمام أحمد في هذا، فكان يصلي ثلاثمائة ركعة؛ لماذا؟ لأن الصلاة هي أحب العمل إلى الله تعالى، فإذا استطعت أن تكثر من الصلاة من النوافل هذا أحب العمل إلى الله، وقد جاء في الصحيحين عن ابن مسعود قال: سألت النبي عن أحب العمل إلى الله، هذا سؤال عظيم من هذا الصحابي الجليل الفقيه: ما أحب العمل إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها [31] الصلاة هي أحب العمل إلى الله تعالى، فإذا استطعت أن تشغل كثيرًا من الوقت في الصلاة في غير أوقات النهي، فهذا هو أحب العمل إلى الله تعالى؛ ولهذا من فقه الإمام أحمد أنه كان يكثر من النوافل، فكان يصلي هذا العدد الذي ربما يستكثره بعض الناس، لكن الله تعالى يجعل البركة في أوقات بعض عباده.
أسال الله تعالى أن يجعلنا من المحافظين على الصلاة.
وأساله سبحانه أن يجعلنا من الذين قال فيهم: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2].
كما أساله سبحانه أن يستعملنا في طاعته، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى من الأقوال والأعمال، وأن يدخلنا في عباده الصالحين، وأن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله ونبيه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحاشية السفلية
^1 | رواه مسلم:178. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 3207، ومسلم: 164. |
^3 | موطأ مالك، ت: الأعظمي: 9 |
^4 | بنحوه رواه أبو داود: 4985، وأحمد: 23088. |
^5 | رواه البخاري: 528، ومسلم: 667. |
^6 | بنحوه رواه مسلم: 233. |
^7, ^13 | سبق تخريجه. |
^8 | رواه البخاري: 6502. |
^9 | رواه مسلم: 82. |
^10 | رواه الترمذي: 2622. |
^11 | ينظر: تعظيم قدر الصَّلاة رقم: 990، والمحلَّى: 2/ 242-243 |
^12 | رواه أبو داود: 1420، والنسائي: 461، وأحمد: 22693. |
^14 | بنحوه رواه مسلم: 242. |
^15 | رواه أبو داود: 175. |
^16 | رواه البخاري: 163، ومسلم: 241. |
^17 | رواه أبو داود: 135، وابن ماجه: 422. |
^18 | تفسير الطبري: 24/ 631. |
^19 | رواه البخاري: 7288، ومسلم: 1337. |
^20 | بنحوه رواه مسلم: 653. |
^21 | رواه مسلم: 657. |
^22 | رواه البخاري: 757، ومسلم: 397. |
^23 | رواه مسلم: 54. |
^24 | رواه البخاري: 691، ومسلم: 427. |
^25 | رواه البخاري: 635، ومسلم: 603. |
^26 | رواه البخاري: 615، ومسلم: 437. |
^27 | رواه البخاري: 881، ومسلم: 850. |
^28 | رواه البخاري: 877، ومسلم: 844. |
^29 | رواه البخاري: 858، ومسلم: 846. |
^30 | رواه البخاري: 883. |
^31 | رواه البخاري: 527، ومسلم: 85. |