المقدم: الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما أمر، والشكر له وقد تأذَّن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خير البشر، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. أما بعد:
فها نحن وإياكم نلتقي في روضة من رياض الجنة، وفي هذه المجالس التي يغفر الله فيها لكل جالس، يسُرُّ مكتب "الدعوة والإرشاد وتوعية الجاليات" بمحافظة "المزاحمية" في هذا اليوم يوم الأحد السادس والعشرين من شهر جمادى الأولى لعام (1434) للهجرة؛ أن يرحب بمعالي الشيخ الدكتور: سعد بن تركي الخثلان، عضو هيئة كبار العلماء، وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في كلية الشريعة بالرياض، ونقول: حياكم الله وبياكم شيخنا.
يُحدِّثنا في هذه الدقائق عن موضوعٍ تهفو له النفوس السَّمية، وتشرئب له القلوب، ألا وهو موضوع "محبة الله"، والذي نسأل الله جل وعلا أن يرزقني وإياكم حبه، وحب من يحبه، وحب كل عمل يُقرِّبنا إلى حبه. فتفضل شيخنا مشكورًا مأجورًا.
وسيُجيب فضيلة الشيخ على أسئلتكم المكتوبة.
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين. أما بعد:
محبة الله للعبد
فيقول النبي في الحديث الصحيح المتفق عليه: إن الله تعالى إذا أحبَّ عبدًا نادى جبريل، فقال: يا جبريل، إني أحب فلانًا؛ فيُحبه جبريل، ثم يُنادي جبريل في الملائكة: إن الله يحب فلانًا فأحبوه؛ فتُحبه الملائكة، فيُوضع له القبول في الأرض. وإن الله إذا أبغض عبدًا نادى جبريل، فقال: يا جبريل، إني أُبغض فلانًا؛ فيُبغضه جبريل، ويُنادي جبريل في الملائكة: إن الله يُبغض فلانًا فأبغضوه؛ فتُبغضه الملائكة وتُوضع له البغضاء في الأرض[1].
الأول: يُوضع له القبول في الأرض، لا يراه أحدٌ إلا أحبه.
والثاني: تُوضع له البغضاء في الأرض، فلا يراه أحدٌ إلا أبغضه، والقلوب بيدي الله .
فهذا العبد الذي أحبه الله تعالى يا لِلشَّرَفِ العظيم الذي ناله! يحبه ربُّ الكون، ربُّ السماوات والأرض، خالقُ كل شيءٍ، وفوق هذا يُنادي جبريل ويُخبره بأنه يحب فلان ابن فلانٍ باسمه، فيُحبه جبريل ثم تُحبه الملائكة ثم يُوضع له القبول في الأرض، هل هناك شيءٌ أشرف من هذا؟!
فهذه المحبة من الله لهذا العبد المسكين الضعيف ما أسبابها؟ ما أسباب نيل محبة الله ؟ فإن الله تعالى لا يحبُّ إلا من أحبَّه، وكل الناس يدَّعي أنه يحب الله، فالدعوى ما أسهلها، ولكن العبرة بالعمل: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31].
فالحديث في هذه المحاضرة عن هذه المحبة، عن منزلتها، وعن أسباب نيلها التي ينبغي للمسلم أن يسعى إليها؛ فإنه شرف عظيم أن تحب الله وأن يحبك الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ [المائدة:54]، فهذا من فضل الله وعظيم كرمه أن يُوفِّق العبد لمحبته فيحب الله تعالى محبة صادقة ويحبه الله .
وهذا العبد الذي أحبه الله تعالى يكون من أولياء الله سبحانه: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَالَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63]، وهذا الولي يقول فيه النبي في الحديث الذي أخرجه البخاري في "صحيحه": يقول الله تعالى: مَن عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بأحب مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ويده التي يبطش بها، ورِجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه[2]؛ أي: إنه يُصبح مسدَّدًا في بصره وسمعه وتصرفاته. فهذا هو الولي الذي لا خوف عليه ولا يحزن: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَالَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ هم الذين يحبهم الله تعالى ويحبونه.
منزلة المحبة هي التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شَخَص العاملون، وإلى علمها شمَّر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وبروح نسيمها تروَّح العابدون، فهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون، هي روح الإيمان، والأعمال التي متى خَلَت منها كانت كالجسد بلا روح.
محبة الله عندما نريد أن نُعَرِّفها فكما يقول ابن القيم: "لا تُحَدُّ بِحَدٍّ أوضح منها، فالحدود -أي: التعريفات- لا تزيدها إلا خفاءً وجفاءً، فحدُّها وجودها، ولا تُوصف بوصفٍ أظهرَ من المحبة، وإنما يتكلم الناس في أسبابها وموجباتها وعلاماتها".
منزلة المحبة هي أعلى من الخشية، وأعلى من الخوف من الله ؛ لأن الخشية والخوف ليسا مقصودين لذاتهما بل لغيرهما، فهما مقصودان قصد الوسائل؛ ولهذا يزولان بزوال المَخُوف، فإن أهل الجنة لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون. وأما بالنسبة للمحبة؛ فإنها محبة المؤمنين لربهم، لا تزول إذا دخلوا الجنة بل تزداد، أرأيتم كيف تكون منزلة المحبة وعلوِّ درجتها؟! منزلة الخشية والخوف تزولان بدخول المؤمنين الجنة، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، أما منزلة المحبة فإنها تزيد بدخول المؤمنين الجنة.
أوصاف الذين يحبهم الله
هذه المحبة لله ينبغي أن يسعى المؤمن إلى تحصيلها، وإلى معرفة الأسباب التي تُنال بها، وقبل الحديث عن هذه الأسباب نريد أن نقف وقفاتٍ مع بعض الآيات التي ذكر الله فيها أنه يحب بعض عباده، فهذه وردت في القرآن الكريم في عدة مواضع، فمثلًا: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134]، وردت في القرآن الكريم: أتدرون كم مرة؟ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وردت خمس مرات، خمس مرات تَكرَّر قول الله تعالى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، فما هو الإحسان الذي يحب الله مَن اتصف به؟ هذا الذي يوصف بأنه محسنٌ ويحبه الله تعالى، ما هو هذا الإحسان؟
الإحسان -كما قال أهل العلم- يكون في عبادة الله، ويكون إلى عباد الله، فالإحسان في عبادة الله عرَّفه النبي بتعريفٍ ما أحسنه، عرفه في حديث جبريل بقوله: الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك[3]؛ أي: أن تعبد الله كأنك ترى الله تعالى أمامك عبادةَ طلبٍ، فإن لم تكن تراه إن لم تَصِلْ إلى هذه المرتبة فتنتقل للمرتبة الثانية: فإنه يراك؛ أي: عبادة خوف وخشية.
هذا هو الإحسان؛ أن تُراقب الله ، وتستحضر أنك ترى الله ، وأن الله يراك في جميع أحوالك؛ فإنه سبحانه يعلم السر وأخفى، يستوي عنده الجهر والسر: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [الملك:13].
وأما الإحسان إلى عباد الله فبابه واسع، كل إحسان وكل بِرٍّ إلى الناس فإنه يُوصِلُ صاحبه إلى أن يتصف بهذا الوصف (وصف المحسن). وقد ورد في هذا نصوص كثيرة، لكنني أكتفي بالإِشارة إلى قصةٍ وقعت في بيت النبي ، تصف هذه القصةَ أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها كما في "صحيح مسلم"، تقول: أتت إليَّ امرأةٌ ومعها ابنتان تستطعمني. فهي تطلب منها أن تُعطيها صدقة، قالت: فأعطيتها ثلاث تمرات، فأعطت كلَّ واحدة من ابنتيها تمرة، ورفعت التمرة الثالثة لتأكلها، فاستطعمتها ابنتاها فلم تأكلها، وأخذت التمرة فشقتها نصفين، وأعطت كل بنت نصفها، فأعجبني شأنها، فذكرت ذلك للنبي فقال: إن الله أوجب لها بها الجنة، أو قال: إن الله حرمها بها على النار[4].
سبحان الله! لأجل شَقِّ تمرة؟! لأجل شَقِّ تمرة جادت بها هذه المرأة على ابنتيها، تمرةٌ واحدةٌ قسمتها بين ابنتيها نصفين ولم تأكل شيئًا.
فانظروا -أيها الإخوة- إلى منزلة الإحسان في دين الله وعظيم أجره وثوابه! تمرةٌ واحدةٌ جادت بها هذه المرأة لابنتيها أوجب الله تعالى لها بها الجنة! وهذا يدل على عظيم منزلة الإحسان.
ويقول عليه الصلاة والسلام: الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، وكالصائم لا يُفطر، وكالقائم لا يَفتُر[5].
فمن اتصف بهذا الوصف فإن الله يحبه: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134]، مَن كانت نفسه مِعْطاءةً يكون باذلًا للخير منفقًا متصدقًا محسنًا باذلًا بماله وبجاهه وبوقته وبجهده وبكل ما يمكنه أن يبذله للناس ويُحسن إليهم، فإنه يتصف بهذا الوصف (وصف المحسن)، ومن كان كذلك فإن الله تعالى يقول: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
وأيضًا مما ورد في القرآن من ذِكْر الله تعالى أنه يحبهم: وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران:146]، كما في سورة "آل عمران"، فأخبر سبحانه بأنه يحب الصابرين، والصابرون مَن اتصفوا بصفة الصبر، والصبر: هو أعظم عطاءٍ يُعطاه الإنسان كما قال عليه الصلاة والسلام كما في "صحيح مسلم": وما أُعطي أحدٌ عطاءً خيرًا ولا أوسع من الصبر[6]؛ فينبغي تدريب النفس على الصبر.
والصبر حقيقته: حبسُ النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكِّي، وحبس الجوارح عن الأفعال المحرمة، بعض الناس تجده دائمًا متسخِّطًا جَزُوعًا، لا يكاد يصبر على طاعة، قليل الصبر عن المعصية، إذا وقعت له مصيبةٌ جزع وتسخَّط.
ينبغي تدريب النفس على الصبر؛ أن يُصَبِّر المسلم نفسه على طاعة الله، يُصَبِّرها عن معصية الله، يُصَبِّرها على ما يُقَدِّره الله تعالى على العبد من المصائب، يُصَبِّرها على أذى الناس؛ فإن الإنسان لا يسلَم من شرهم. فالصبر مدرسةٌ للمسلم، وإذا اتصف المسلم بالصبر وأصبح من الصابرين؛ فإن الله تعالى يحبه.
وأيضًا يقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة:4]، وهذه وردت في القرآن ثلاث مراتٍ في ثلاثة مواضع، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ يعني: من اتصف بصفة التقوى، والتقوى: هي أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية؛ بفعل أوامره واجتناب معاصيه. والتقوى هي الميزان عند الله ، فليس الميزان في القرب والكرامة عند الله تعالى بالنَّسَب ولا بالحَسَب ولا بالمال ولا بالجاه، ولكن الميزان عند الله: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].
وأيضًا ممن أخبر الله تعالى بأنه يحبهم: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]، والتَّوَّابِينَ صيغة مبالغة، يعني: كثيري التوبة، فالمسلم من صفته أنه يتوب إلى الله بل يُكثر من التوبة، والنبي يقول: أيها الناس، توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة[7].
ويقول عليه الصلاة والسلام: ما من عبدٍ يُذنب ذنبًا، ثم يقوم فيتوضأ ويُصلِّي ركعتين ويستغفر الله، إلا غفر الله له أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" بسند صحيح[8]. وهذه تُسمى صلاةَ التوبة، إذا وقع منك ذنب فقُمْ وتوضأ وصَلِّ ركعتين، ثم استغفر الله وتُبْ إليه: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا [آل عمران:135].
وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ؛ يحب المتطهرين: مَن يحرص على التطهُّر، سواء كانت الطهارة حسية أو معنوية. الطهارة الحسية: بأن يحرص على كمال الطهارة، فيُقبل على العبادة التي يُشترط لها الطهارة بطهارةٍ كاملةٍ، ويبتعد عن النجاسة. وكذلك أيضًا الطهارة المعنوية: سلامة الصدر من الغل والحسد ونحو ذلك، وزكاء النفس.
وأيضًا يقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران:159] كما في سورة "آل عمران"، فالله تعالى يحب من اتصف بصفة التوكل عليه سبحانه. والتوكل على الله هو من أعظم مقامات أعمال القلوب، بل إن النبي ذكر عند الصحابة يومًا السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ثم دخل بيته عليه الصلاة والسلام، فخاض الناس في شأنهم، فقال بعضهم: لعلهم الذين وُلِدوا في الإسلام، وقال بعضهم: لعلهم الذين كذا وكذا، فخرج النبي فقال: ما شأنكم؟ قالوا: يا رسول الله، كنا نتحدث في هؤلاء السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب. فقال عليه الصلاة والسلام: هم الذين لا يَسْتَرْقُون، ولا يَكْتَوُون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون[9].
فذكر لهم أربع صفات: الصفة الأولى: لا يسترقون؛ يعني: لا يطلبون من أحد أن يرقيهم؛ لكمال توكُّلهم على الله ؛ وذلك لأن طلب الرقية بالقرآن وبالأدعية وإن كانت جائزة لكن ربما أن هذا المَرْقي يُشفَى بسبب تلك الرقية فيتعلَّق قلبه بمن رقاه، فيُؤثِّر ذلك على كمال توكُّله، وإلا فالاسترقاء جائز، لكن هؤلاء لكمال توكلهم على الله لا يسترقون.
ولا يكتوون: لا يطلبون من أحد أن يكويهم مع أن الاكتواء جائز، لكن هؤلاء لكمال توكلهم على الله لا يكتوون.
ولا يتطيرون أي: لا يتشاءمون لا بزمان ولا بمكان ولا بصوت ولا بغير ذلك؛ لكمال توكلهم على الله.
ثم ذكر الوصف الجامع الذي تفرَّعت منه الأوصاف السابقة: وعلى ربهم يتوكلون، ما هو التوكل؟ التوكل: "هو صدق اعتماد القلب على الله في جلب المنافع أو دفع المضار، مع فعل الأسباب المأذون فيها"، فهو اعتماد القلب الله مع فعل الأسباب؛ هذه هي حقيقة التوكل، ومن اتصف بصفة التوكل فإن الله يحبه: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران:159].
وكذلك أيضًا يقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [المائدة:42]، وهذا تكرر في القرآن ثلاث مرات: في سورة "المائدة"، وفي سورة "الحجرات"، وفي سورة "الممتحنة". الْمُقْسِطِينَ يعني: العادلين؛ من القسط: الذين يتحرَّون العدل في أمورهم كلها؛ العدل في أقوالهم، العدل في أفعالهم، في تصرفاتهم، العدل فيما أُمروا بالعدل فيه: العدل بين الأولاد، العدل بين الزوجات، العدل في الحكم على الأشخاص، العدل في الحكم على الجماعات، العدل في كل شيءٍ.
وعلى العدل قامت السماوات والأرض، فمِن الناس من تجده غير منصفٍ وغير عادلٍ؛ إن تكلم عن شخصٍ لم يُنصفه، يُبرِز ما عنده من السلبيات ويغضُّ الطَّرْف عما عنده من الحسنات، وهكذا أيضًا في كل شيء، حتى في العدل مع الأعداء: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8]. وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ؛ يعني: لا يحملنكم، شَنَآنُ؛ يعني: بُغض.
وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، حتى مع النفس ومع الوالدين والأقربين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ [النساء:135]، ثم قال: وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [النساء:135]؛ فمن اتصف بصفة العدل وتحرِّي العدل في كل شيء؛ فإن الله يحبه: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.
وكذلك أيضًا يقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ [الصف:4]؛ من يجاهد ويقاتل في سبيل الله لإعلاء كلمة الله فإن الله تعالى يحبه.
فهذه نماذج ممن ذكر الله تعالى أنه يحبهم.
وأيضًا ممن ذكر أنه يحبهم ويحبونه: مَن ذكرهم في سورة "المائدة" في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54]، ثم ذكر أوصافهم:
- الوصف الأول: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [المائدة:54].
- الثاني: أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54].
- الثالث: يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [المائدة:54].
- الرابع: وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ [المائدة:54].
أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي: إنهم يتعاملون مع إخوانهم المؤمنين بالرحمة وحسن الخُلُق والتواضع، حتى كأنهم أذِلَّةٌ مع أنهم أعِزَّاء؛ لذلك لم يقل: "أذِلَّة للمؤمنين" وإنما قال: عَلَى التي تفيد علوَّهم، فهم أعزاء، وهم مكانتهم رفيعة، لكنهم يتذلَّلون للمؤمنين، يتواضعون لهم، يكون المؤمن مع إخوانه هيِّنًا ليِّنًا سمحًا سهلًا متواضعًا رحيمًا رفيقًا. فتأمل هذا الوصف العظيم: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
الثاني: أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ مع الكافرين يكونوا أعِزَّة؛ أعِزَّة بدينهم، وبالمنهج الحق الذي هم عليه، فليس عندهم خنوعٌ، وليس عندهم خضوعٌ، بل هم عزيزون ومعتزُّون بإسلامهم وبدينهم.
الوصف الثالث: يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الجهاد في سبيل الله الذي هو ذروة سنام الإسلام؛ لإعلاء كلمة الله .
الوصف الرابع: وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ؛ وذلك لقوة تمسُّكهم وقناعتهم، فإن الإنسان المقتنع لا يمكن أن يتردَّد، ولا يمكن أن يرُدَّه لومُ لائمٍ، بخلاف الإنسان المتردِّد، فإنه أدنى ملامةٍ تُؤثِّر فيه، أدنى لومٍ يُؤثِّر فيه، لكن الإنسان الصادق القوي المقتنع لا يمكن أن يُؤثِّر فيه لوم لائم وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ.
ومَن اتصف بهذه الصفات الأربع فإن الله تعالى يحبه؛ ولذلك قال: بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ثم ختم الآية بقوله ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ [المائدة:54]، هذا من فضل الله الذي يُؤتيه من يشاء.
الأسباب الجالبة لمحبة الله
ننتقل بعد ذلك إلى الأسباب الجالبة للمحبة، ومِن أحسن من تكلم عنها الإمام ابن القيم رحمه الله، فمن أبرز هذه الأسباب:
قراءة كتاب الله بالتدبُّر والتفهُّم لمعانيه، الارتباط بالقرآن العظيم تلاوةً واستماعًا وتدبُّرًا لمعانيه وتفهُّمًا لها، فهذه من أعظم الأسباب التي ينال بها العبد محبة الله ؛ ولذلك يقول سبحانه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2].
فالمؤمن يزيد إيمانه بالاستماع للقرآن، ويزيد إيمانه بتلاوة القرآن عن تدبُّر؛ لأن هذا القرآن العظيم هو كلام الله تعالى، فيه نبأ ما قبلنا، وخبر ما بعدنا، وحكم ما بيننا، فيه قصص السابقين، وفيه أخبار الآخرة، وأحوال الجنة والنار؛ فمن يقف مع كلام الله متدبِّرًا متفهِّمًا لمعانيه لا شك أنه يزيد إيمانه، سواء كان تاليًا متدبرًا أو مستمعًا: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا.
فينبغي لك أخي المسلم أن تجعل لك نصيبًا من تلاوة القرآن، تتلو فيه كلام الله تعالى بتدبُّرٍ، وألا يمُرَّ عليك يومٌ إلا وقد قرأت فيه شيئًا من كلام الله ؛ فإن بعض الناس تمُرُّ عليه أيامٌ ومُدَدٌ طويلة لم يقرأ فيها شيئًا من كتاب الله ، أو أنه يجعل تلاوة القرآن على الهامش: إن تيسر له وقت فراغ قرأ، وإن لم يتيسر ربما تمضي عليه أيامٌ وربما أحيانًا أسابيع وبعضهم حتى شهورٌ لم يقرأ فيها شيئًا من كتاب الله . وهذا نوعُ هِجْرانٍ لكتاب الله سبحانه: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30].
وقد كان مِن هَدْي النبي وهدي أصحابه أنهم يجعلون لهم كلَّ ليلةٍ حزبًا، وليس المقصود بالحزبِ الحزبَ المعروف عند أهل التجويد، وإنما المقصود بالحزب: القَدْر المعين يُحافظون على تلاوتِه كلَّ ليلة. وهذا ذكره النبي في حديث عمر بن الخطاب ، قال: سمعت النبي يقول: من نام عن حزبه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر؛ كُتب كأنما قرأه من الليل أخرجه مسلم في "صحيحه"[10]. يعني: حتى لو فاتتك قراءة هذا الحزب لمرضٍ أو لسفرٍ أو لأيِّ عارضٍ فتقضيه، وإذا قضيته ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كُتب كأنما قرأته من الليل.
وأيضًا من الأسباب التي تُنال بها محبة الله: التقرُّب إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض، كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: وما تقرَّب إليَّ عبدي بأحبَّ مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه[11]. فإذا أكثر العبد من النوافل؛ أحبه الله تعالى، بعد المحافظة على الفرائض. والفرائض تجب المحافظة عليها من الجميع، وأما النوافل فقد يُفتح للإنسان في باب ولا يُفتح له في باب آخر.
ولذلك؛ ذكر الذهبي في "السِّيَر": أن أحد العُبَّاد كتب إلى الإمام مالك كتابًا ينصحه بأنه مُقِلٌّ من النوافل؛ من نوافل الصيام والصلاة ونحوها، فكتب إليه الإمام مالك جوابًا فقال له: إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، وإن الله قد يفتح على عبده في باب الصلاة، وقد يفتح على عبده في باب الصيام، وقد يفتح على عبده في تلاوة القرآن، وقد يفتح على عبده في باب البذل والإنفاق، وقد يفتح على عبده في باب نشر العلم وتعليمه، وأنا قد فُتِح عليَّ في باب نشر العلم وتعليمه، وما أظن ما أنا فيه بأقل مما أنت فيه.
علَّق بعض أهل العلم على هذا، قال: بل ما فيه الإمام خيرٌ مما فيه هذا العابد؛ لأن نشر العلم وتعليمه نفعه متَعَدٍّ للآخرين، بينما نوافل الصيام والصلاة نفعها قاصرٌ على صاحبها.
فهي فتوحات، تجد من الناس من يُفتح عليه في باب تلاوة القرآن، فتجده دائمًا يتلو القرآن آناء الليل وآناء النهار، ومن الناس من يُفتح عليه في باب صيام النوافل فتجده مكثرًا من صيام النافلة، ومن الناس من يُفتح عليه في باب -مثلًا- تشييع الجنائز، فتجد أنه معظم الأيام يذهب إلى المساجد التي يكون فيها جنائز، ويُصلِّي على الجنائز، ويُشيِّع الجنائز، ومن الناس من يُفتح عليه في باب الإنفاق في سبيل الله، تجده باذلًا منفقًا، وهكذا، فمن فُتح عليه في بابٍ فينبغي أن يغتنم ذلك الفتح وأن يستكثر من النوافل.
ذُكر في ترجمة الإمام أحمد رحمه الله: أنه كان يُصلِّي لله تعالى تطوعًا من غير الفريضة ثلاثمائة ركعة. ثلاثمائة ركعة من غير الفريضة! وكان الحافظ عبدالغني المقدسي صاحب "عمدة الأحكام" يقتدي بالإمام أحمد في هذا؛ وذلك لأن أحب العمل إلى الله الصلاة على وقتها، فهذه العبادة (عبادة الصلاة) هي أحبُّ العمل إلى الله تعالى كما أخبر النبي بذلك.
وأيضًا من الأسباب التي تُنال بها المحبة: الإكثار من ذكر الله ، يقول ابن القيم: "فنصيب العبد من المحبة على قَدْر نصيبه من الذكر". الإكثار من ذكر الله سبحانه يجعلك مرتبطًا بالله ، ويقلُّ تعلُّقك بالدنيا، يقلُّ تعلُّقك بأمور المادة، وهذا من شأنه أولًا: أن يُرقِّق القلب وتزول معه القسوة، ومن شأنه كذلك: أن يجلب المحبة للعبد؛ ولهذا جاء رجلٌ إلى الحسن البصري رحمه الله، فقال له: يا أبا سعيد، أجد قسوةً في قلبي، فما هو العلاج؟ فقال له الحسن: أَذِب قسوة قلبك بكثرة ذكر الله ؛ فإذا أكثر العبد من ذكر الله سبحانه فإن قسوة القلب تزول وينال العبد محبة الله .
ثم إن الإكثار من ذكر الله سبحانه يُورث العبد الطمأنينة، كما قال : الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، هذه الطمأنينة هي سعادةٌ قلبيةٌ يعجز اللسان عن وصفها، وتعجز الكلمات عن التعبير عنها، سعادةٌ من سعادة الروح، هذه السعادة يجدها المُكثِر لذكر الله ، يصفها أحد الصالحين يقول: "والله إنه لتمُرُّ بالقلب ساعاتٌ والله إني أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا النعيم، إنهم لفي عيشٍ طيب"، ويقول آخر: "إننا والله لفي لذَّةٍ ونعيمٍ لو يعلم عنه الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليه بالسيوف". هي سعادة الروح، هي طمأنينة القلب، فهذه السعادة هي الطمأنينة، وهذه الطمأنينة من أعظم الأسباب التي تُنال بها: الإكثار من ذكر الله .
والإكثار من ذكر الله -أيها الإخوة- ورد في فضله من النصوص شيءٌ عظيمٌ، حتى إن المسلم ليعجب من النصوص الواردة في عظيم أجره وثوابه مع سهولته ويُسره، أكتفي بذكر حديثٍ واحدٍ فقط، سمعت شيخنا عبدالعزيز ابن باز رحمه الله يقول: لو أنفق المسلم ملايين في سبيل معرفته لم يكن هذا كثيرًا.
وهذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما وهما أصح كتابين بعد كتاب الله ، يقول فيه النبي : من قال حين يُصبح: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير؛ كانت له عَدْل عشر رقاب، وكُتب له مائة حسنة، ومُحِي عنه مائة سيئة، وكانت حِرْزًا له من الشيطان يومَه ذلك حتى يُمسِي، ولم يأتِ أحدٌ يوم القيامة بأفضل منه، إلا رجلٌ عمل مثلما عمل أو زاد. ومن قال: سبحان الله وبحمده، في يومٍ مائة مرة؛ حُطَّت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر[12].
أيها الإخوة، كم يأخذ من وقت المسلم إذا قال هذا الذكر: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير" مائة مرة؟ كم يأخذ من الوقت؟ كم يأخذ من الجهد؟ ومع ذلك تنال به هذا الأجر العظيم وهذا الثواب الجزيل.
وأيضًا من الأسباب التي تُنال بها محبة الله : مطالعة القلب لأسماء الله تعالى وصفاته، فمَن عرف الله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبه لا محالة، عندما تتأمل في عظمة الخالق وأن هذا الرب العظيم من صفاته السميع البصير، السر والجهر عنده سواء، بل يعلم السر وأخفى من السر، والذي هو أخفى من السر قيل: هو ما تُحَدِّثُ به نفسك قبل أن تُحَدِّثَ به نفسك، فهذا الرب العظيم الذي هو على كل شيء قدير إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، إذا تأملت وتدبرت في أسمائه الحسنى وصفاته العُلا؛ أورث ذلك محبته ولا بد.
لو أخذت مثلًا صفة الرحمة، فالله تعالى الرحمن الرحيم، وهذه الآن نقرؤها في كل ركعة: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَالرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:2-3]، فهو سبحانه رحيمٌ بعباده، أرحم بعبده من الوالدة بولدها جل وعلا، وهو سبحانه الكريم، وهو سبحانه الرؤوف؛ فإذا تأملت هذه الأسماء الحسنى والصفات العُلا فإنك تحبه لا محالة.
وأيضًا من الأسباب الجالبة للمحبة، ابن القيم يقول عن هذا السبب: "وهو من أعجبها: انكسار القلب بِكُلِّيَّتِه بين يدي الله تعالى"، قال: "وليس في التعبير عن هذا المعنى غير الأسماء والعبارات". انكسار القلب بين يدي الله ، الانطراح بين يدي الله سبحانه، خاصةً عندما يكون المسلم خاليًا بِرَبِّه لا يراه أحدٌ من الناس، فينطرح بين يدي الله، وينكسر بين يدي الله، ويُناجي ربه خاصةً في السجود في الثلث الأخير من الليل، هذا من أعظم الأسباب التي يَرِقُّ بها القلب، ومن الأسباب الجالبة للمحبة.
وهذا أبرز ما يكون فيه في قيام الليل الذي هو دَأْبُ الصالحين، فإن الله يقول: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل:6]. ونَاشِئَةَ اللَّيْلِ: هي الصلاة التي تكون بعد القيام من نوم الليل، أَشَدُّ وَطْئًا يعني: أكثر مواطأةً، يعني: اتفاق بين القلب واللسان، فيتدبَّر المسلم ويعي ما يقول. وَأَقْوَمُ قِيلًا يعني: أصوب قراءةً.
فعندما ينطرح المسلم بين يدي الله ويُناجيه؛ فهذا أولًا أمانٌ من النفاق، فإن المنافق لا يمكن أن يقوم الليل، ودليلٌ على الصدق مع الله.
وكذلك أيضًا من أسباب حصول طمأنينة القلب وسعادة الروح، ومن الأسباب الجالبة لمحبة الله ؛ ولهذا ربط ابن القيم هذا السبب بسببٍ آخر: وهو الخلوة بالله تعالى وقت النزول الإلهي لمناجاته، وتلاوة كتابه، والوقوف بالقلب، والتأدُّب بأدب العبودية بين يديه جل وعلا.
وأيضًا من الأسباب الجالبة لمحبة الله : مجالسة الصالحين، والْتقاط أطايب ثمرات كلامهم؛ فإن المجالسة -أيها الإخوة- لها أثرٌ على المسلم، وعندما يتقدم الإنسان لخِطبة امرأة فإنه يُسأل عن جلسائه، فإذا كان يُجالس صالحين؛ يُحكم عليه بالصلاح، وإذا كان يُجالس جلساء سوءٍ يُحكم عليه بمثلهم؛ فالإنسان بجلسائه، فلا بد من أن يتأثر الإنسان بجلسائه شاء أم أبى، هذه طبيعة النفس، فإذا كان المسلم يُجالس أناسًا صالحين تكون مجالسهم عامرةً بذكر الله ، فإن هذا يكون له أثرٌ على صلاحه وزكاء نفسه، ويكون هذا من الأسباب الجالبة لمحبة الله ؛ ولهذا فينبغي للمسلم أن يُلاحظ هذا المعنى، وأن ينتقي من يُجالسه، يُجالس مَن إذا جالسهم زاد إيمانه، وقوي يقينه، وأحس بأثر هذه المجالسة على نفسه وعلى سلوكه.
وكما قال عليه الصلاة والسلام: الجليس الصالح كحامل المسك: إما أن يُحْذِيَك يعني: إما أن يُهدي لك، وإما أن تبتاع منه يعني: تشتري منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، فأنت لست بخاسرٍ بمجالسته، أنت رابح على كل تقدير. وأما مجالسة أصحاب السوء، جليس السوء كنافخ الكير: إما أن يُحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة[13]، فأنت خاسرٌ بكل حال.
وأيضًا من الأسباب التي تُنال بها محبة الله : مباعدةُ كل سببٍ يحول بين القلب وبين الله ، وذلك بأن يبتعد المسلم عن الأسباب التي تحول بينه وبين الاستقامة، ومن ذلك: التعلُّق بالدنيا، فإن التعلُّق بأمور المادة، التعلُّق بالدنيا له أثرٌ في قسوة القلب، وله أثرٌ في الغفلة. فمن كانت مجالسه مجالسَ دنيا، قيل وقال؛ تجد أن الغفلة تغلب عليه، ويقسو قلبه، بخلاف مَن كانت مجالسه عامرة بالذكر؛ فينبغي للمسلم إذًا أن يحرص على التقليل من التعلُّق بالدنيا، وأن يحرص على الابتعاد عن كل سبب يشغله عن طاعة الله ، إذا رأيت هذا الأمر يشغلك عن طاعة الله فابتعد عنه.
وكما قال بعض السلف: الأشغال لا تنقضي، ما إن ينقضي الإنسان من شغلٍ إلا ويدخل في شغلٍ آخر، فما لم يُرتِّب الإنسان وقته ويُخصِّص وقتًا للعبادة؛ فإن النفس تغفل، ويُصبح المسلم يُؤدِّي العبادات على صورة عادات، ويُصلِّي الصلاة وما عقل منها شيئًا.
ولذلك؛ فينبغي للمسلم أن يُعنى بجانب محاسبة النفس، يحاسب نفسه من حينٍ لآخر، إذا كان المسلم على جانب من محاسبة النفس فهو على خير. أما عندما تنعدم المحاسبة؛ فهنا تأتي الغفلة، وقد أمر الله تعالى بمحاسبة النفس فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18]، قال أهل العلم: هذه الآية أصلٌ في محاسبة النفس.
وأيضًا من الأسباب الجالبة للمحبة: إيثار محابِّ الله تعالى على محابِّ العبد عند غلبة الهوى، عندما تتعارض محبة الله مع محبة غيره تُؤثِر محبة الله تعالى، وهذا كل يدعي ذلك ولكن العبرة بالعمل. فعلى سبيل المثال: عندما تسمع المؤذن يُؤذِّن لصلاة الفجر، إن كنت صادقًا في محبتك لله فستنهض من فراشك وتقوم وتُؤدِّي صلاة الفجر مع الجماعة في المسجد، أما من كان غير صادق فإنه سيُقدِّم محبة النوم والراحة والكسل على محبة الله . وكذلك أيضًا عندما تكون هناك معاملة لكن فيها شُبهة، إن كنت صادقًا في محبتك لله تعالى فإنك تترك هذه المعاملة حتى وإن كان فيها أرباح كثيرةٌ ما دام أن فيها شُبهة، وهكذا إذا تعارضت محبة الله تعالى مع محبة غيره تُقدم محبة الله على محبة غيره.
وأختم بهذا السبب من الأسباب الجالبة للمحبة: وهو الدعاء، أن يسأل الله تعالى بأن يحبه وأن يحبه الله ، أن يُوفَّق هو لمحبته وأن يحبه الله تعالى، وأن يلهج بدعاء الله في أن يرزقه محبته، وأن يُلِحَّ على الله تعالى في الدعاء بذلك، وإذا دعا الله تعالى صادقًا مخلصًا فإن الله تعالى لن يُخيِّب رجاءه.
فأقول أيها الإخوة: منزلة المحبة هي من أعلى مقامات أعمال القلوب؛ فينبغي للمسلم أن يُعنى بها، وأن يجتهد في تحصيلها، وأن يستحضر هذا الشرف العظيم: وهو أن الله تعالى إذا أحب هذا العبد نادى الملائكة وأخبرهم بأنه يحبه، فتُحبه الملائكة ويُوضع له القبول في الأرض.
جاء في الصحيح أن النبي نادى أُبيَّ بن كعب وقال له: إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورةَ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ... إلى آخر السورة [سورة البينة]. قال أُبيٌّ: وسمَّاني؟ قال: نعم. فبكى أُبيٌّ [14]، وحُقَّ له أن يبكي، يُسمِّيه الربُّ خالق كل شيءٍ من فوق سبع سماوات.
فأنت أيها العبد الضعيف الفقير المسكين، عندما يحبك الله تعالى خالق كل شيءٍ، يحبك هذا الرب العظيم خالق كل شيءٍ، بل ويُنادي الملائكة ويُخبرهم بذلك، ويأمر الملائكة بأن تحبك، ويُوضع لك القبول في الأرض، هل هناك شرفٌ أعظم من هذا؟ واللهِ إنه الشرف العظيم؛ فينبغي أن نسعى جميعًا لتحصيل هذه المحبة، وأن نسأل الله تعالى إياها، وأن نبذل الأسباب الجالبة لهذه المحبة.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يحبه ويحبونه، اللهم إنا نسألك حبك، وحب من يحبك، وحب العمل الذي يُقربنا إلى حبك. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن تُنادي جبريل فتُخبره بأنك تحبه، ويُنادي جبريل في الملائكة بأن الله يحب فلانًا فيُوضع له القبول في الأرض. وأسأله سبحانه أن يستعملنا جميعًا في طاعته، وأن يُعيننا على شكره وذكره وحسن عبادته.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
^1 | رواه البخاري: 7485، ومسلم: 2637. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 6502. |
^3 | رواه البخاري: 50، ومسلم: 9. |
^4 | رواه مسلم: 2630. |
^5 | رواه البخاري: 5353، ومسلم: 2982. |
^6 | رواه البخاري: 1469، ومسلم: 1053. |
^7 | رواه مسلم: 2702. |
^8 | رواه أحمد: 2، وأبو داود: 1521، والترمذي: 406، والنسائي: 11087، وابن ماجه: 1395. |
^9 | رواه البخاري: 6541، ومسلم: 220. |
^10 | رواه مسلم: 747. |
^11 | سبق تخريجه. |
^12 | رواه البخاري: 3293، ومسلم: 2691. |
^13 | رواه البخاري: 5534، ومسلم: 2628. |
^14 | رواه البخاري: 4961، ومسلم: 799. |