وقد كان السلف الصالح يرتحلون في سبيل طلب العلم.
والرحلات في طلب العلم كثيرةٌ ومشهورةٌ، وصُنف فيها مصنفاتٌ [1]، ومن أشهر الرحلات في طلب العلم.
رحلة الصحابي الجليل جابر بن عبدالله الأنصاري ؛ فقد بلغه أن عند الصحابي الجليل عبدالله بن أُنيسٍ حديثًا سمعه من النبي ، فركب جابرٌ بعيره وحده وسافر من المدينة إلى الشام يقطع الصحاري والقِفَار والأودية والتلال والسهول، ومكث في هذه الرحلة شهرًا كاملًا حتى وصل إلى عبدالله بن أنيسٍ، فلما رآه؛ قال: ابن عبدالله، ما الذي جاء بك؟! واعتنقه، قال: إنه قد بلغني أنك سمعت من النبي حديثًا، فخشيت أن أموت أو تموت ولم أسمعه منك، قال: نعم، سمعت النبي يقول:... ثم ذكر الحديث في القصاص بين الناس بالحسنات والسيئات [2].
فسمع جابرٌ هذا الحديث ثم رجع، ومكث في الإياب شهرًا كاملًا، أي أنه أمضى شهرين، كل ذلك؛ لأجل سماع حديثٍ واحدٍ فقط.
وكذلك أبو أيوب الأنصاري ، نُقل عنه أنه ارتحل إلى مصر من أجل سماع حديثٍ واحدٍ [3].
وعندما نقرأ سير وتراجم العلماء السابقين؛ نجد أن معظمهم يُذكر في ترجمته، وارتحل إلى بلاد كذا وإلى بلاد كذا وإلى بلاد كذا، وأخذ عن العالم الفلاني، وعن العالم الفلاني.
وكانت الرحلة في تلك الأوقات فيها مشقةٌ وفيها غربةٌ، غربةٌ حقيقيةٌ؛ لأن من يذهب ويرتحل ينقطع عن أهله تمامًا، ليس هناك وسائل تواصلٍ، فيذهب وينقطع مُدَدًا طويلةً؛ ولذلك سيأتينا في الدرس بعد العشاء عندما نتكلم عن ميراث المفقود: أن من حدَّد المدة بأربع سنين قال: إنها غالب المدة التي يمكث فيها التجار، ومن يطلب العلم وغيرهم، يعني الغالب أنهم يمكثون أربع سنين.
فينقطع هذه السنين عن أهله وعن أسرته وعن بلده مغتربًا، كل ذلك؛ لأجل طلب العلم.
والآن -ولله الحمد- أصبح العلم متيسرًا ومبذولًا؛ في مثل هذه الدروس وهذه الدورات، وكذلك أيضًا عبر الوسائل الإعلامية، وكذلك أيضًا عبر البرامج الحاسوبية، فأصبح العلم متيسرًا، وبإمكانك أن تتلمذ على أي شيخٍ تريد، بمجرد أن تبحث عن اسم الشيخ، وتبحث عن دروسه، وتستمع لدروسه، وربما أيضًا أنك تستمع للدرس أكثر من مرةٍ وتضبطه.
فأصبح العلم متيسرًا مع هذا الانفتاح الذي نعيشه، مع تيسر وسائل المواصلات والاتصالات، وانفتاح العالم بعضه على بعضٍ، لكن المهم أن توجد الهمة العالية لدى طالب العلم، وأيضًا أن تضبط المنهجية الصحيحة لدى طالب العلم.