logo
الرئيسية/مقاطع/المحاجة بين الجنة والنار

المحاجة بين الجنة والنار

مشاهدة من الموقع

قال: حدثنا ابن أبي عمر، قال: حدثنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة  قال: قال رسول الله : احتجَّت النار والجنة، فقالت هذه: يدخلني الجبارون والمتكبرون، وقالت هذه: يدخلني الضعفاء والمساكين، فقال الله ​​​​​​​ لهذه: أنت عذابي أعذب بك من أشاء -وربما قال: أصيب بك من أشاءوقال لهذه: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، ولكل واحدةٍ منكما مِلؤها [1].

نعم، هذه الأحاديث يخبر فيها النبي عن أمورٍ ستقع، وهذه الأمور لا تُعلم إلا عن طريق الوحي، فذكر عليه الصلاة والسلام أولًا أمورًا قد وقعت، وأمورًا ستقع، فذكر أولًا أن الجنة والنار احتجَّتا، يعني: وقع بينهما مُحاجَّةٌ، فقالت النار: يدخلني الجبارون والمتكبرون، يعني: كأنها تفتخر بذلك، وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا الضعفاء والمساكين؛ ولذلك الرواية الأخرى بينت المقصود، قالت النار: أُوثرتُ بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسَقَطهم وعَجَزهم [2].

وقوله: وسقطهم، يعني: ضعفاؤهم، وقوله: وعَجَزهم، كذلك، يعني: المساكين والفقراء والضعفاء، أيضًا جاء في بعض الروايات، كما عند مسلمٍ: وغرَّتهم [3].

وغرتهم هنا النووي قال: يعني البُلْه الغافلون، الذين ليس بهم حِذقٌ في أمور الدنيا [4]، وقال: إنه قد رُوي في الحديث: أكثر أهل الجنة البله [5]، ولكن هذا محل نظرٍ، هذا لا دليل عليه، وإنما المقصود بهم: ضعفاء الناس في الغالب، أو المتضعفون، يعني المتواضعون المتخشعون، وليس المعنى: أنه لا يدخل الجنة إلا من كان بليهًا، فهذا المعنى بعيدٌ، ولكن المقصود أن أهل الجنة بعيدون عن التكبر، وبعيدون عن التجبر، وكثيرٌ منهم من الفقراء والمساكين، وحتى الأغنياء منهم متخشعون ومتضعفون ومتواضعون، هذا هو المعنى المقصود في الحديث، وأيضًا هذا على الغالب، وإلا فالنار قد يدخلها من غير الجبارين والمتكبرين، إنسانٌ أشرك بالله وهو ليس من الجبارين والمتكبرين، هذا يدخل النار حتى وإن كان من ضعفاء الناس، وهكذا الجنة قد يدخلها أناس ليسوا من الضعفاء، ومن السبعة الذي يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمامٌ عادلٌ [6]، ولكن الكلام عن الغالب، عن غالب من يدخل الجنة وغالب من يدخل النار.

فهذه المحاجة وقعت بين الجنة والنار، لكن هل وقع هذا حقيقةً، أو أن هذا مجازٌ؟

الصحيح: أن هذا وقع حقيقةً، الأصل فيما أخبر الله به، وما أخبر به رسوله ، أنه وقع على الحقيقة، وأما قول بعض الشراح: إنه على المجاز، فهذا غير صحيحٍ، هذا قولٌ باطلٌ، وأبو العباس القرطبي -ليس صاحب “التفسير”- أبو العباس صاحب “المُفْهِم”، قال: منهم من تأول أن المراد: خَزَنَة كل واحدٍ منهما، يعني خزنة الجنة وخزنة النار هم الذين تَحاجُّوا [7]، ولكن هذا بعيدٌ؛ لماذا نلجأ أصلًا لهذا التأويل؟ أليس الله على كل شيءٍ قديرًا؟ أليس الله يجعل الجلود تنطق؟ فلماذا يقال بمثل هذه التأويلات البعيدة؟! النبي عليه الصلاة والسلام يقول: تحاجت الجنة والنار، فلا يُؤوَّل ذلك، إنما الجنة والنار تحاجتا حقيقةً، فالتأويلات التي ذكرها بعض الشراح بعيدةٌ.

والصواب: أن هذه -كما قال الطيبي- محاجَّةٌ حقيقيةٌ، قال: فإن الله قادرٌ على أن يجعل كل واحدةٍ مميِّزةً ومخاطِبةً، أليس الله تعالى قال: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَة عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا [الأحزاب:72]؟ فلها وعيٌ وإدراكٌ وتتكلم، وأبت أن تحمل الأمانة، أمانة التكاليف، فالله على كل شيءٍ قديرٌ [8].

فهذه التأويلات التي ذكرها بعض الشراح هذه بعيدةٌ، فالصواب إذنْ: أن هذه المحاجة وقعت حقيقةً.

وفَصَلَ اللهُ تعالى بين الجنة والنار؛ لمَّا تحاجَّتا بهذا الحوار الذي ذكره النبي عليه الصلاة والسلام، فقال الله تعالى: لهذه -يعني للنار- أنت عذابي أعذب بك من أشاء، وقال للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، ولكل واحدةٍ منكما مِلؤها.

وفي هذا دليلٌ على أن الجنة تسمى رحمةً؛ لأن الله قال: أنت رحمتي، وليس المقصود بها الرحمة التي هي صفةٌ من صفات الله؛ لكنها تسمى الرحمة؛ لأن من يدخلها مرحومٌ؛ ولأن من يدخلها يدخلها برحمة الله وليس بعمله، فسميت الجنة رحمةً؛ لأنها يظهر فيها رحمة الله .

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 4850، ومسلم: 2846.
^2, ^3 رواه مسلم: 2846.
^4 شرح صحيح مسلم للنووي: 17/ 181.
^5 رواه البيهقي في الشعب: 1303.
^6 رواه البخاري: 6806، ومسلم: 1031.
^7 المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي: 7/ 192.
^8 ينظر شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن: 11/ 3596.
مواد ذات صلة
zh