logo
الرئيسية/مقاطع/آكل الربا لا يمكن أن ينطق بحكمة

آكل الربا لا يمكن أن ينطق بحكمة

مشاهدة من الموقع

الربا شؤم على صاحبه، كما قال سبحانه: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا [البقرة:276]، فالربا ممحوق، يمحق الله مال المُرَابي، ويمحق المرابي نفسه ويكون شؤمًا عليه.

وهنا -في هذه الآية- يقول ربنا سبحانه: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275]. قيل: إنهم عندما يقومون من قبورهم يقومون مثل المصروعين.

واستنبط بعض المفسرين من هذه الآية: أن آكِلَ الربا كما يتخبَّط عندما يقوم من قبره، فهو أيضًا في الدنيا يتخبط فلا يكون عنده حِكمة ولا سَدَادُ رأيٍ، بل يعيش أخرق، يُقبل في محلِّ الإدبار، ويُدبر في محل الإقبال؛ لشؤم الربا على صاحبه.

ولهذا يقولون: لم يُعرَف إنسانٌ بالحكمة -ينطق بالحكمة- وهو مُرَابٍ أبدًا، لم نجد أحدًا مُرَابيًا ينطق بالحكمة؛ لأنه مَن رابى يُشوَّش عليه عقله، ولا يهتدي للصواب، ولا يوفق للحكمة، ولا يشتهر بفضيلة، بل يكون من أدنى الناس وأقلهم وأدنسهم؛ جزاءً وفاقًا.

فالربا شؤم على صاحبه في الدنيا والآخرة؛ ولذلك يقول ربنا سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ۝ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:278-279].

آكل الربا محارب لله؛ ومعنى كونه محاربًا لله: يعني فَتَح جبهةَ حربٍ مع الله، وإذا فتح جبهة حرب مع الله معنى ذلك يتوقع أن تأتيه المصائب من أي جهة وبأية طريقة؛ تأتيه مصائب في صحته، تأتيه مصائب في ماله، تأتيه مصائب في ولده، تأتيه مصائب في أي شيء؛ لأنه قد فتح جبهة حرب مع ربه سبحانه.

فالربا شأنه عظيم؛ ولهذا ذكر القرطبي[1] أن رجلًا أتى للإمام مالك يستفتيه يقول: إنه البارحة رأى رجلًا سكرانًا، وإنه من شدة سُكْره يتعاقر ويقفز ويسقط يريد أن يصطاد القمر، ذهب عقله. فتأثَّر هذا الذي رآه وحلف بالطلاق أنه لا يَدخُل جوفَ ابنِ آدم شيء أخبثُ ولا أشر من الخمر.

فلما استفتى الإمام مالكًا استعظم هذه المسألة، وقال: ائت من الغد. فأتاه من الغد، ثم قال: ائت من الغد. فأتاه من الغد، ثم أتاه ثم قال: ائت من الغد. فأتاه في اليوم الثالث، فقال له الإمام مالك: امرأتك طالق؛ فإني لم أرَ في كتاب الله شيئًا أخبث ولا أشر من الربا، إن الله قد أذن فيه بالحرب.

يعني: يقول الإمام مالك: أنت حلفت أنه ليس هناك شيء أخبث من الخمر، ليس هناك شيء يدخل جوف ابن آدم أخبث من الخمر؛ هناك شيء أخبث من الخمر وهو الربا. فأفتاه بوقوع طلاق امرأته.

والربا شأنه عظيم، وهو من الموبقات، ولعن النبي آكِلَ الربا وموكله[2].

وأيضًا لعن كلَّ مَن ساعد على الربا حتى مجرد كتابة الربا، أو الشهادة عليه، كل من أعان عليه مشمول باللعنة؛ لشدة الأمر.

ولذلك؛ الربا محرم في جميع الشرائع السماوية؛ محرم عند اليهود: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ إلى قوله: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ [النساء:160-161]؛ فالربا محرم في جميع الشرائع.

فالربا شددت فيه الشريعة تشديدًا عظيمًا، وسَدَّت جميع الذرائع الموصلة إليه ولو من وجهٍ بعيد؛ ولما سئل النبي عن بيع الرُّطَب بالتمر -يعني مع التقابض ومع التماثل- قال: أينقص الرُّطَبُ إذا يَبِسَ؟. قالوا: نعم. قال: فلا إذن[3].

فلا يجوز أن تبيع كيلو تمر بكيلو رطب مع التقابض؛ لماذا؟ لأن هذا الرطب سينقص إذا يَبِسَ، وهذا يدل على تشديد الشريعة في شأن الربا.

فالربا أمره عظيم جدًّا؛ ولذلك -يعني- العلماء يقولون: إن من وقع في الربا يتخبط في حياته، يتخبط في أموره، ولا يمكن أن ينطق بحكمة، ولا يمكن أن يشتهر بفضيلة.

فعلى المسلم الحذر، والابتعاد عن الربا: قليله وكثيره؛ فإنه من السبع الموبقات، وملعونٌ صاحبُه؛ ملعونٌ آكِلُ الربا ومُوكِلُه وكاتبه وشاهديه.

آكل الربا حتى وإن ملك ثروة، لكن عندما تُدقِّق في أمره تجد أنه محروم منها ما ينتفع بها، مجرد حارس يحرسها؛ لا ينتفع بها ولا تجده سعيدًا، وربما تجد عنده أمراضًا وتجد عنده مشكلات في أسرته، لا يسعد بها. هذا هو الواقع، الواقع أنه لا يسعد بها وإن ملك ثروة كبيرة؛ لأن بعض الناس بمثابة الحارس يحرس ثروته للورثة مِن بعده.

ولذلك؛ لا نجد في التاريخ من كان مُرَابيًا واشتُهر بالعلم والحكمة والفضيلة، ما تجد، أعطِ مثالًا واحدًا فقط ما تجد، يُسلَب عليه عقله كما قال البقاعي، ولا يشتهر بفضيلة، ويتخبط؛ وذلك بسبب شؤم الربا.

^1 ينظر: "تفسير القرطبي": 3/ 364.
^2 رواه البخاري: 2086، ومسلم: 1597.
^3 رواه مالك: 22، وأحمد: 1515، وأبو داود: 3359، والترمذي: 1225، والنسائي: 4545، وابن ماجه: 2264.
zh