الرئيسية/برامج تلفزيونية/عقود المعاوضات المالية- جامعة الإمام/(5) عقود المعاوضات المالية- تتمة البيوع المنهي عنها
|categories

(5) عقود المعاوضات المالية- تتمة البيوع المنهي عنها

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

أيها الأخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

هذه هي المحاضرة الخامسة في هذه المادة، مادة عقود المعاوضات المالية، تكلمنا في المحاضرة السابقة عن جملة من البيوع المنهي عنها، ولم نستكمل الحديث عنها، ووعدنا باستكمالها، في هذه المحاضرة، فسوف أتحدث معكم إن شاء الله تعالى في هذه المحاضرة عن جملة من البيوع المنهي عنها.

النَّجْش

وأبتدئ الحديث عن النجش، النجش نهى عنه النبي ، كما جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله نهى عن النجش [1].

والنَجْش بفتح النون وسكون الجيم، معناه: في اللغة العربية: تنفير الصيد واستثارته من مكانه ليصاد، يقال: نجشتُ الصيد أنجشه نجشًا.

ومعناه في الشرع: الزيادة في ثمن السلعة ممن لا يريد شراءها.

قال الشافعي رحمه الله: “النجش: أن يحضر الرجل السلعة تباع، فيعطي بها الشيء وهو لا يريد شراءها؛ ليقتدي به السوام، فيعطون بها أكثر مما كانوا يعطون، لو لم يسمعوا سومه”، يأتي إنسان لسلعة، مثلًا سيارة في حراج السيارات، يسومها بعشرة آلاف، وهو لا يريد شراءها أصلًا، لكن يريد بذلك نفع صاحب السيارة، فيأتي إنسان ويزيد على العشرة يقول: أحد عشر ألفًا، وهكذا، هذا هو النجش، أو أن السيارة سام أحد مثلًا بأحد عشر ألفًا، فيأتي شخص ويسومها باثني عشر ألفًا، وهو لا يريد شراءها، لكن يريد أن يأتي بعده شخص ويسومها بثلاثة عشر ألفًا، هذا هو النجش المحرم، وسُمي الناجش بذلك؛ لأنه يثير الرغبة في السلعة، قد تكون زيادة الناجش بمواطأة مع البائع، وقد تكون بغير مواطأة، يعني: لا يلزم أن تكون بمواطأة، قد تكون بغير مواطأة، وأما إذا كانت بمواطأة مع البائع، واتفاق مسبق بينهما، فإنهما يشتركان في الإثم، أما إذا كانت بغير مواطأة، فإن الإثم يختص بالناجش فقط.

قال ابن بطال رحمه الله: “أجمع العلماء على أن الناجش عاصٍ بفعله، واختلفوا في البيع إذا وقع”، يعني هل يفسد البيع أو لا يفسد؟ فمن العلماء من قال: إنه يفسد، ولكن القول الصحيح أنه إذا حصل مثل هذا مثل النجش، فإن من وقع عليه النجش يثبت له الخيار، فإن شاء أمضى ذلك البيع، وإن شاء فسخه، فالمشتري إذًا مع النجش يثبت له الخيار في إمضاء ذلك البيع أو رده، ألحق بعض الفقهاء بالنجش ما إذا قال البائع: أعطيت بها كذا، وهو كاذب؛ وذلك لتغريره بالمشتري، قد ورد في هذا الوعيد الشديد، وظاهر هذا أنه من كبائر الذنوب، فإن النبي ذكر الثلاثة الذين لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، وذكر منهم رجلًا حلف على سلعة بعد العصر، فقال: أعطيت بها كذا، وهو كاذب [2].

وهذا يدل على أن هذا العمل من كبائر الذنوب، فبعض العلماء ألحقوا هذه المسالة بالنجش، أيضًا ألحقوا بالنجش ما إذا زاد البائع بنفسه والمشتري لا يعلم، كأن يحرج على سلعة من السلع، فيستغل إما البائع أو الذي يحرج على هذه السيارة أو السلعة، غفلة الناس، ويزيد بنفسه من غير أن يسومها أحد، يعني بعض الناس مثلًا عندما تقع المزايدة على سلعة من السلع، هذا يسومها بكذا، وهذا يزيد، وهذا يزيد، ربما يستغل غفلة الناس، ويقوم ويزيد بنفسه من غير أن يسومها أحد، مثلًا تكون بأحد عشر ألفًا، ثم يقول: أحد عشر ألفًا وخمسمائة، لكن لم يسمها أحد بهذا السوم، هذا أيضًا ملحق بالنجش؛ بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “إنه أعظم من نجش الأجنبي”؛ لإنه في الحقيقة أبلغ في التغرير، فكل هذه الصور إذًا صور محرمة.

والذي ينبغي للمسلم أن يبتعد عن مثل هذه الأمور التي لا تليق بالمسلم حقيقة، ولا تليق بأخلاق المسلم، المسلم يبتعد عن مثل هذه الأشياء التي تلحق الضرر بأخيه المسلم، وتوقعه في الإثم، وفي الحرج.

بيع الطعام قبل قبضه

أيضًا من البيوع المنهي عنها، بيع الطعام قبل قبضه، قد جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه [3].

وفي لفظ: حتى يقبضه [4].

وفي الصحيحين أيضًا عنه قال: “رأيت الناس على عهد رسول الله إذا ابتاعوا الطعام جزافًا، يُضربون في أن يبيعوه في مكانهم؛ وذلك حتى يؤوه إلى رحالهم” [5].

وأيضًا جاء في صحيح مسلم عنه قال: “كنا في زمان رسول الله نبتاع الطعام، فيبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه، قبل أن نبيعه” [6].

فهذه الأحاديث فيها النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، وأيضًا فيها أنه لا بد من نقله من مكان البيع إلى مكان آخر، إذًا لا يجوز للإنسان إذا اشترى سلعة أن يبيعها قبل أن يقبضها، أن يبيعها المشتري قبل أن يقبضها، يعني: لا يجوز أن يبيعها وهي لا زالت في مكانها عند البائع.

فمثلًا: ذهبت واشتريت سلعة من شخص معين، وبقيت السلعة في محله، لا يجوز لي -أنا المشتري- أن أبيعها وهي ما زالت في مكانها، لم أقبضها بعد، بل لا بد أن أقبضها، ثم بعد ذلك أبيعها.

الحكمة من النهي عن البيع قبل القبض

ذكر ابن القيم رحمه الله أن الحكمة من النهي عن البيع قبل القبض هي: عدم تمام استيلاء المشتري على المبيع، وعدم انقطاع علاقة البائع به، فقد يسلمه، وقد لا يسلمه، لا سيما إذا رأى أن المشتري قد ربح فيه، فإنه يسعى في رد البيع، إما بجحد، أو احتيال، أو فسخ، وربما أفضى ذلك إلى الخصام والمعاداة.

قال ابن القيم: والواقع شاهد بهذا. فمن محاسن الشريعة الكاملة الحكيمة منع المشتري من التصرف فيه، حتى يتم استيلاؤه عليه، وينقطع عن البائع، فلا يطمع -أي البائع- في الفسخ والامتناع من الإقباض، قال: وعلى هذا إذا باعه قبل قبضه من بائعه جاز على الصحيح لانتفاء هذه العلة.

إذًا الحكمة في هذا -والله أعلم- هي عدم تمام استيلاء المشتري على المبيع، يعني هو لا زال الآن المبيع في حوزة البائع، ربما إنه اشترى هذه السلعة بخمسمائة، ثم قام وربح فيها، وأراد أن يبيعها على شخص آخر، في وقت قريب من شرائه، بستمائة، فإذا أتى وقال هذا المشتري: أريد أن تعطيني هذه السلعة، يقول البائع الأول، فسيقول لك: بكم اشتريتها؟ فإذا قال: بستمائة، فربما يفهم هذا البائع بأن المشتري قد غلبه، وقد غره، وربما يتحايل على فسخ هذا البيع، أو على الأقل يقع في قلبه شي، يعني تذهب وتشتري سلعة من شخص، ثم تبيعها أنت في الحال على شخص آخر بربح، ربما يرى البائع الأول، أنك قد غررته وخدعته بهذا؛ ولذلك يعني نهى الشارع عن بيع الشي قبل قبضه، إذا قبضته أنت وحزته، فإن البائع الأول تنقطع علاقته بك، وبهذه السلعة، لكن إذا كانت لا زالت في حوزة البائع الأول لا زلت علاقه البائع بهذه السلعة، وإذا ربحت فيها فربما يشعر البائع الأول بأنك قد خدعته، أو على الأقل يقع في نفسه شيء.

هناك أيضًا حكمة أخرى ذكرها بعض أهل العلم، وهي: أن المشتري إذا باع قبل قبضه فقد ربح فيما لم يضمن، يعني فيما لم يدخل في ضمانه؛ لأن هذه السلعة لما لم يقبضها بعد هذا المشتري، هي من ضمان البائع الأول، فإذا قام هذا المشتري وباعها بربح على شخص آخر، فيكون قد ربح فيما لم يضمن، وقد نهى النبي عن ربح ما لم يضمن، فلعل الحكمة -والله أعلم- تعود إلى هذين المعنيين.

حكم التصرف في المبيع قبل قبضه

وقد اتفق العلماء على أنه لا يصح التصرف في المبيع قبل قبضه، إذا كان مكيلًا أو موزونًا أو معدودًا أو مذروعًا، لما ذكرناه من الأحاديث وما جاء في معناها؛ ولهذا قال ابن المنذر: “أجمع العلماء على أن من اشترى طعامًا، فليس له أن يبيعه حتى يقبضه”، هذا إذا كان طعامًا فهو محل إجماع.

وأما ما عدا الطعام من المبيعات، فهل يجوز بيعه قبل قبضه؟

اختلف الفقهاء في هذه المسألة:

  • فمن العلماء من حصر ذلك بالطعام فقط هو الذي لا يجوز بيعه قبل قبضه، أما غير الطعام فيجوز بيعه قبل قبضه، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة.
  • والقول الثاني في المسألة: أنه لا يجوز بيع شيء من المبيعات قبل قبضه مطلقًا، سواء كان طعامًا، أو غير طعام، وهذا هو القول الصحيح في المسألة، هذا هو القول الراجح في المسألة، وهو رواية أيضًا عن الإمام أحمد، وقد اختاره جمع من المحققين من أهل العلم، كشيخ الإسلام ابن تيمة وابن القيم رحمة الله تعالى على الجميع.

والدليل لهذا القول هو ما جاء في بعض الروايات أن النبي قال: إذا اشتريت شيئًا فلا تبعه حتى تقبضه [7] إذا اشتريت شيئًا وهذا يشمل الطعام وغير الطعام فلا تبعه حتى تقبضه.

أيضًا جاء في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه قال ابن عباس رضي الله عنهما: “ولا أحسب كل شيء إلا مثله”، وفي لفظ عنه أنه قال: “وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام” [8].

فهذا ابن عباس رضي الله عنهما الراوي لهذا الحديث، وهو أعلم بما روى، نقل نهي النبي عن بيع الطعام حتى يقبضه، ويرى ابن عباس رضي الله عنهما أن كل شيء مثله، يعني بمنزلة الطعام، ويشمل الطعام وغير الطعام.

وجاء في سنن أبي داود عن زيد بن ثابت أن النبي نهى أن تباع السلع حيث تبتاع، حتى يحوزها التجار إلى رحالهم [9].

والقبض الذي يسوغ للمشتري التصرف في السلعة هو في الحقيقة يختلف باختلاف نوعية السلعة، فكل نوع له قبض يناسبه، فإذا كان المبيع مكيلًا فقبضه بالكيل، إذا كان المبيع موزونًا فقبضه بالوزن، إذا كان معدودًا فقبضه بالعد، إذا كان مذروعًا فقبضه بالذرع، مع حيازة هذه الأشياء إلى مكان المشتري.

ما عدا ذلك مما لا يحتاج إلى حق استيفاء، أي: لا يحتاج إلى كيل أو وزن أو عد أو ذرع، فالمرجع في ذلك إلى العرف؛ يعني المرجع في القبض إلى العرف، فما عدّه الناس في عرفهم قبضًا فهو قبض، وما لم يعدوه قبضًا فليس بقبض.

فمثلًا: قبض الأغنام غير قبض الذهب، غير قبض الأخشاب، غير قبض السيارات، كل شيء يختلف بحسبه، والناس لهم عُرف فيما يتعلق بقبض الأغنام، ولهم عُرف فيما يتعلق بقبض الأخشاب، ولهم عُرف فيما يتعلق بقبض السيارات، فيرجع في هذا إلى العُرف الدارج بين الناس، فمثلًا في السيارات استقر عُرف كثير من أصحاب السيارات على أن حيازة الأوراق الثبوتية، والبطاقة الجمركية الأصلية، مع مفاتيح السيارة أن هذا قبض، فيما يتعلّق بالسيارات، قبض العقار بالتخلية، مع تسلم المفاتيح، هذا يُعتبر في الحقيقة قبضًا، يعني نقل الاسم مثلًا في الصك، هذا من كمال التوثيق، إذًا يعني ينبغي أن يلاحظ المشتري هذه المسألة، وهي ألا يبيع شيئًا قد اشتراه حتى يقبضه، وحتى يحوزه، ويلاحظ تساهل بعض الناس في هذه المسألة، فنجد مثلًا في بعض أسواق التمور من يشتري التمر ثم يبيعه، وهو في مكانه، قبل أن يقبضه، وقبل أن ينقله إلى مكان آخر، وهذا لا يجوز، وقد جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت الناس في عهد رسول الله إذا ابتاعوا الطعام جزافًا يضربون في أن يبيعوه في مكانهم، حتى يؤوه إلى رحالهم.

الاحتكار

أيضًا مما ورد النهي عنه مما نهى عنه النبي ، الاحتكار لما يحتاج إليه الناس، وهذا قد ورد فيه حديث معمر بن عبدالله  أن النبي  قال: لا يحتكر إلا خاطئ [10]، أخرجه مسلم.

قال النووي رحمه الله: “والخاطئ هو العاصي الآثم”، وهذا الحديث صريح في تحريم الاحتكار، قال ابن القيم: “المحتكر الذي يعمد إلى شراء ما يحتاج إليه الناس من الطعام فيحبسه عنهم، ويريد إغلاءه عليهم، هو ظالم لعموم الناس؛ ولهذا كان لولي الأمر أن يكره المحتكرين على بيع ما عندهم بقيمة المثل”، فهذا نجده عند بعض الناس، بعض التجار، يأتون ويشترون ما يحتاج إليه الناس، ويحبسونه عندهم، ثم بعد ذلك يتربصون به الغلاء، ثم بعد ذلك يبيعونه على الناس بغلاء فاحش، فهذا هو الاحتكار الذي قد ورد النهي عنه.

ومما ذكره بعض العلماء في هذا: أن بعض الناس عندما يجلب إلى السوق سلعة، يتفق أهل السوق على ترك مساومتها إلا من شخص واحد يسومها من صاحبها، فإذا لم يجد صاحب السلعة من يزيد عليه اضطر إلى بيعها برخص، ثم اشترك البقية مع المشتري، هذا العمل في الحقيقة عمل محرم، وفيه ظلم وغبن لصاحب السلعة، بل إنه يثبت لصاحبه الخيار في هذه الحال، إذا علم بذلك.

حكم التسعير

وأيضًا مما يدخل في ظلم الناس كذلك، أن يمتنع أرباب السلع من بيعها إلا بزيادة على القيمة المعروفة، مع حاجة الناس إليها، وحينئذٍ يؤمرون ببيعها بقيمة المثل، ويلزمون بذلك؛ ولهذا قال ابن القيم رحمه الله: “التسعير إذا تضمن العدل بين الناس، مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن مثلي، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل، فهذا جائز، بل واجب”.

التسعير يعني كون الإمام -ولي الأمر- يسعر السلع للناس هذا إذا تضمن العدل فلا بأس به؛ وذلك بأن يُكره الناس على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ويمنعهم من أخذ الزيادة على عوض المثل، فهذا جائز بل واجب، فإذا كان مثلًا الناس لو ترك لهم المجال رفعوا الأسعار، واستغلوا حاجة الناس، فهنا يتدخل ولي الأمر، ويسعر الأسعار، ويقول: ليس لأحد أن يزيد على هذا السعر، هذا يُسمّى التسعير، وهذا يعني منوط بولي الأمر.

وابن القيم يرى أن هذا جائز؛ بل إنه واجب، لكن جاء في حديث أنس قال: غلا السعر على عهد النبي ، فقالوا: يا رسول الله، لو سعرت لنا، فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله هو المسعر القابض الباسط، وإني لأرجو أن ألقى الله ولا يطالبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال [11].

فهنا الناس طلبوا من النبي التسعير، لكنه عليه الصلاة والسلام امتنع، وقال: إنّ الله هو المسعر القابض الباسط، وإني لأرجو أن ألقى الله ولا يطالبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال كيف نوفق بين هذا، وبين ما ذكرناه قبل قليل، من أن ولي الأمر يتدخل عندما يحصل هناك جشع من التجار ويسعر السلع والبضائع، ويمنعهم من أن يزيدوا على ثمن المثل؟

نقول: التوفيق بين هذا إن ارتفاع الأسعار في عهد النبي ليس  لأجل جشع التجار أو البائعين، وإنما كان ذلك أمر قد قدره الله ؛ ولهذا لم يشأ النبي التدخل في هذا؛ ولهذا أشار عليه الصلاة والسلام إلى هذا المعنى، فقال: إن الله هو القابض الرازق الباسط المسعر يعني: في إشارة إلى أن هذا تقدير من الله سبحانه أن الأسعار قد غلت، ولم يكن ذلك لأجل جشع التجار؛ ولأجل تواطؤ التجار ورفعهم للأسعار، وإنما كان هذا بتقدير من الله سبحانه، فقوله: المسعر، فيه إشارة لهذا المعنى؛ ولهذا لم يشأ النبي عليه الصلاة والسلام أن يتدخل، يعني قال: إني لأرجو أن ألقى الله ولا يطالبني أحد بمظلمة هذا محمول على ما إذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف، من غير ظلم منهم، وقد ارتفع السعر إما لقلة الشيء، أو لكثرة الخلق، فهذا إلى الله ، ولا يلزم الناس حينئذٍ بالبيع بقيمة بعينها، لكن التسعير المطلوب، هو عندما يكون غلاء السلع بسبب جشع التجار وزيادتهم الزيادة الفاحشة، فهنا يتدخل ولي الأمر ويسعر.

فإذًا إذا أردنا أن نقول: حكم التسعير:

  • التسعير إذا كان بسبب جشع التجار فإنه يكون واجبًا على ولي الأمر.
  • أما إذا كان غلاء الأشياء ليس من قبل التجار، وإنما بتقدير من الله إما لقلة الشيء أو لكثرة الطلب، إما لقلة العرض، أو لكثرة الطلب، فحينئذٍ يكون التسعير ممنوعًا؛ لأن التسعير حينئذٍ فيه ظلم للبائعين وللتجار.

فيكون حكم التسعير بناء على هذا التفصيل إذا كان الغلاء بسبب قلة العرض، أو كثرة الطلب، فحينئذٍ يكون التسعير ممنوعًا، أما لو كان غلاء الأسعار بسبب جشع التجار وزيادتهم الزيادة الفاحشة على سعر المثل، فيكون التسعير واجبًا في حق ولي الأمر؛ لمنع هؤلاء البائعين، ومنع التجار من استغلال حاجة الناس، ومنعهم من الجشع، هذا فيما يتعلق بالتسعير. بهذا نكون قد انتهينا من البيوع المنهي عنها، ونقف عند الشروط في البيع.

الشروط في البيع:

الشروط في البيع، سوف نتكلم إن شاء الله تعالى عنها في المحاضرة القادمة كلامًا مفصلًا، وكذلك أيضًا يلي الشروط في البيع: الخيار في البيع وأقسامه، وتفاصيله هذا إن شاء الله تعالى سوف نتكلم عنه في المحاضرة القادمة.

فنقف إذًا عند الشروط في البيع، يعني لا نريد أن نبتدأ فيها في نهاية هذه الحلقة، وإنما نرجئ البداية بها في المحاضرة القادمة.

اختم هذه المحاضرة بأن أقول: أيها الإخوة: بعد ما انتهينا من الكلام عن البيوع المنهي عنها، والكلام عن شروط البيع، أقول: إني أتأمل عظمة هذه الشريعة، كيف أنها نظمت حياة الناس؟ بيّن النبي كل شيء للناس، حتى يقول: أبو ذر : “توفي رسول الله ، وما طائر يطير بجناحيه إلا ذكر لنا منه علمًا” [12].

هذه الشريعة جعلها الله تعالى كاملة، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة:3] لا يأمر الله تعالى بشيء، ولا يأمر رسوله بشيء إلا وفيه المصلحة، إما المصلحة لفرد، أو المصلحة للمجتمع والأمة جميعًا، لا ينهى الله عن شيء، ولا ينهى رسوله عن شيء إلا لما في ذلك من الضرر، إما للفرد، وإما للمجتمع؛ ولهذا إذا تقيد المسلم بأوامر الله ورسوله، واجتنب ما نهى الله عنه ورسوله، فإنه يحصل على السعادة في الدنيا والآخرة؛ ولهذا لو أن الناس التزموا بالتعاليم الشرعية، فيما يتعلق بالبيوع، فيما يتعلق بالمعاملات، فإن هذا يؤدي في الحقيقة إلى ازدهار الاقتصاد في المجتمع، يؤدي هذا إلى انتفاء بعض الأخلاق الذميمة؛ من الجشع، من الاحتكار، من الظلم، من الغبن، من الغش، تنتفي هذه الأخلاق المذمومة في وسط المجتمع، ويسود الناس الصدق والبيان والوضوح والمحبة.

وقد وضع النبي لنا في هذا معيارًا وميزانًا دقيقًا، فقال: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه [13].

فأنت عندما تريد أن تبيع سلعة ضع نفسك مكان المشتري، هل ترضى بهذا أو لا ترضى؟ عندما تشتري سلعة ضع نفسك مكان البائع، هل ترضى بهذا أم لا؟ فخذ هذا الميزان الدقيق لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه فأحب لأخيك المسلم، سواء كان بائعًا أو مشتريًا أو متعاملًا معك بأي نوع من أنواع التعامل، حب له ما تحب لنفسك.

ونلتقي بكم على خير في المحاضرة القادمة إن شاء الله تعالى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 6963، ومسلم: 1516.
^2 رواه البخاري: 2358، ومسلم: 107.
^3 رواه البخاري: 2126، ومسلم: 1526.
^4 رواه البخاري: 2133، ومسلم: 1526.
^5 رواه البخاري: 2131، ومسلم: 1527.
^6 رواه مسلم: 1527.
^7 رواه أحمد: 15316.
^8 رواه البخاري: 2133، ومسلم: 1525.
^9 رواه أبو داود: 3499.
^10 رواه مسلم: 1605.
^11 رواه أبو داود: 3451، والترمذي: 1314، وابن ماجه: 2200، وأحمد: 12591، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
^12 رواه ابن حبان: 65.
^13 رواه البخاري: 13، ومسلم: 45.
مواد ذات صلة