عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هذه هي المحاضرة الرابعة في هذهِ المادة، وكنا قد تكلمنا في المحاضرة السابقة عن جملة من البيوع المنهي عنها، ونستكمل في هذه المحاضرة ِالحديث عن بقية البيوع، كان آخر ما تكلمنا عنه في المحاضرة السابقة هو بيع العينة، وبيّنا المقصود به، وهو أنّ يبيع السلعة بثمن مؤجل ثم يشتريها بأقل منه نقدًا، والحكم فيها أنها محرمة؛ لقول النبي : إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم الزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلًا، لا ينزعه منكم حتى ترجعوا إلى دينكم [1]، والحكمة من تحريمها أنها ذريعة إلى الربا.
مسألة التورّق
ننتقل بعد ذلك إلى مسألة التورق، فمسألة التورق هي أن يشتري سلعة بثمن مؤجل ثم يبيعها نقدًا على شخص آخر، غير البائع الأول، أن يشتري سلعة بثمن مؤجل، ثم يبيعها نقدًا على شخص آخر غير البائع الأول، فرق بينها وبين العينة، العينة بين الطرفين فقط، يشتري السلعة بثمن مؤجل ثم يبيعها على من اشتراها منه، لكن هنا في مسألة التورق: يشتري السلعة بثمن مؤجل ثم يبيعها نقدًا على طرف ثالث، غير الذي اشتراها منه، يعني غير البائع الأول.
وأوّضح هذا بمثال: رجل احتاج إلى سيولة نقدية؛ لأجل مثلًا زواج أو لبناء مسكن، أو لغير ذلك من الأغراض، فذهب إلى من يبيع بالتقسيط، فاشترى منهم سيارة بخمسين ألف ريال مقسطة، أو مؤجل ثمنها إلى سنتين مثلًا، ثم أخذ هذه السيارة وذهب بها إلى حراج السيارات وباعها بأربعين ألف ريال نقدًا، هذه تسمى مسألة التورق.
الفرق بين العينة والتورّق
فهي بين ثلاثة أطراف، بين البائع الأول الذي باعها بثمن مؤجل، والمشتري منه، والمشتري من هذا المشتري الذي اشتراها نقدًا، فهي بين ثلاثة أطراف، بينما العينة بين طرفين، أن يبيع السلعة بثمن مؤجل، ثم يشتريها بأقل منه نقدًا، فهي بين طرفين، يعني السلعة تذهب، ثم تعود مرة أخرى إلى صاحبها، ويثبت في ذمة المشتري مبلغ مؤجل، ويحصل على ما أراد من النقد، هذه العينة، وهي محرمة، لكن التورق بين ثلاثة أطراف، ليست بين طرفين.
وفيها عقدان منفصلان، العقد الأول هو بين المشتري والبائع الأول يشتريها بثمن مؤجل، ثم تنتهي هذه العملية، ثم العقد الثاني، هذا المشتري يبيع هذه السلعة على طرف ثالث بنقد؛ لأجل أن يحصل على السيولة النقدية، هذه مسألة التورق.
حكم التورق
اختلف فيها العلماء، والقول الصحيح هو أنها جائزة، ولا بأس بها؛ وذلك لأن الأصل في المعاملات الحل والإباحة، ويعني: هذان العقدان منفصلان، ليس بينهما ارتباط، فهو قد اشترى سلعة بثمن مؤجل من شخص، ثم باع هذه السلعة بنقد إلى شخص آخر، فالعقدان منفصلان، وليس بينهما ارتباط، وليس فيها حيلة على الربا؛ ولذلك فإن القول الصحيح: أن مسألة التورق جائزة، ولا بأس بها، ثم إن الحاجة داعية إليها، فليس كل من يحتاج إلى النقد يجد من يقرضه بدون ربا، ففي هذه المعاملة توسيع على الناس، ولكن ينبغي ألا يلجأ إليها، إلا من احتاج إليها، غير المحتاج لا ينبغي أن يرتب في ذمته ديونًا، ولكن من احتاج إليها لأي غرض من الأغراض، فلا بأس بها.
بعض البنوك أتت لهذه المسألة، مسألة التورق ورأت أنها من المعاملات الجائزة، وأرادت أن تطبقها لديها، لكنها توسعت فيها توسعًا كبيرًا، أخرجها من دائرة الجواز إلى دائرة الحظر، كيف هذا؟
يقولون: نحن نبيع بالتورق، لكن يتوكلون عن المشتري في بيعها إلى طرف ثالث، فعندما يريد الإنسان سيولة نقدية، يأتي إلى هذا المصرف، ويقول لهم: أريد سيولة نقدية بمائة ألف ريال مثلًا، فيقولون: عندنا سلعة نبيعها عليك بمائة وعشرة مقسطة على سنتين أو ثلاث سنوات، أو أكثر أو أقل، وتوكلنا في بيعها على طرف ثالث، فبمجرد أن يعبئ استمارة يوقع عليها، يوقع على شراء هذه السلعة، ويوقع على توكيل البنك، ينزل في رصيده ما أراد من السيولة النقدية، ويثبت في ذمته أكثر منه.
الحقيقة أن هذا التوسع بهذه الطريقة، يعني أخرج التورق عن دائرة الجواز إلى الحظر؛ لماذا؟ لأنها في الحقيقة أصبحت حيلة على الربا؛ ولهذا تجد أن هذه السلعة في مكانها، وتباع على عدد من الأشخاص، ربما مئات من الأشخاص، وهذه السلعة في مكانها، ربما تكون حديد أو أرز أو صوف، وهو باقٍ في مكانه، فيباع ويشترى مجرد على الورق فقط، والبنك يعرف أن هذا الشخص لا حاجة له في هذا الحديد، ولا حاجة له في هذا الأرز، ولا حاجة له في هذا الصوف، أو غيره، وإنما غرضه السيولة النقدية؛ ولهذا تجد أن هذا العميل لا يدقق في جودة السلعة، يعني: مهما كانت السلعة رديئة، لا يدقق فيها؛ لأن غرضه الحقيقة هو الحصول على السيولة النقدية، فبمجرد أنه يعبئ بيانات أوراق يحصل على ما أراد من السيولة النقدية، ويثبت في ذمته أكثر من هذا المبلغ.
الحقيقة أن تركيب هذه العملية بهذه الصورة جعلها محرمة؛ لأنها حيلة على الربا، أي فرق بين أن يقول: أريد أن تقرضوني مائة ألف ريال نقدًا بمائة وعشرة مؤجلة، وبين أن يأتي للبنك، ومجرد أنه يعبئ هذه الاستمارة بأنه قد اشترى سلعة، بمواصفات معينة، ثم يوكل البنك في بيعها، ثم خلال ساعات يحصل على ما أراد من السيولة النقدية، ويثبت في ذمته أكثر منها؟ في الواقع لا فرق بين العمليتين، يشبه أن تكون هذه حيلة على الربا، وشبيهة بالعينة في الحقيقة، هي شبيهة بالعينة شبهًا كبيرًا؛ ولهذا درسها مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي وأصدر فيها قرارًا بالمنع، يعني: بمنع التورق المنظم الذي تجريه البنوك بهذه الطريقة، التورق المنظم بهذه الطريقة لا يجوز، وقد صدر فيه قرار من مجمع الفقه الاسلامي برابطة العالم الاسلامي.
لكن لو أردنا أن نصحح هذه العملية ماذا نقول؟
نقول لهذا الشخص المشتري من هذا البنك: اقبض هذه السلعة التي اشتريتها بالتقسيط،، وبعها أنت من غير أن توكل البنك، بعها أنت على طرف خارجي، لا علاقة له بالبنك أيضًا، ومن غير أن توكل البنك في بيعها، مثلًا اشتريت سيارة، اشتريت أرز، اشتريت حديدًا بمبلغ معين بالتقسيط لا بأس بهذا، أن تشتريها من البنك وبالتقسيط، لكن تبحث أنت عمن يشتري منك هذه السلعة من غير أن يكون له علاقة بالبنك، يعني: لا توكل البنك في بيع هذه السلعة، لو تحقق هذا فلا بأس، لو تحقق هذا فلا حرج حينئذٍ، ولكن أن تُركّب المسألة بهذه الطريقة، فهذا في الحقيقة يجعلها شبيهة بالعينة، ولا تجوز، هذا فيما يتعلّق بالتورق.
بيع الحاضر للباد
ننتقل بعد ذلك إلى نوع آخر من أنواع البيوع المنهي عنها، وهو بيع الحاضر للباد، فقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله قال: لا يبع حاضر لباد [2].
وجاء في الصحيحين عن أنس قال: “نهينا أن يبيع حاضر لباد” [3]، وفي رواية مسلم: “وإن كان أخاه أو أباه” [4].
ما معنى حاضر؟ وما معنى باد؟ وكيف يبيع الحاضر للباد؟
الحاضر: هو المقيم بالبلد، الذي يسكن في الحاضرة.
الباد: هو ساكن البادية، يعني البدوي، قال الموفق ابن قدامة رحمه الله في بيان المراد بالبادي في هذا الحديث: “هو من يدخل البلدة من غير أهلها، سواء كان بدويًا، أو من قرية، أو من بلدة أخرى”، فالموفق رحمه الله وسع مفهوم البادي، وقال: إنه لا يختص فقط بالبدوي، وإنما الإنسان الغريب عن البلد الذي يدخل البلدة، وهو ليس من أهلها، سواء كان بدويًا، أو كان من بلدة أخرى، أو من مدينة أخرى، يعني الشخص الغريب الذي يدخل البلد، هذا هو المقصود بالباد، وليس المقصود فقط البدوي، وإنما الشخص الغريب الذي يدخل البلد، البدوي إذا أطلق المقصود به الذي يسكن في البادية، ويتنقل من مكان إلى آخر طلبًا للعشب والكلأ، يكون معه دوابه ويتنقل من مكان لآخر طلبًا للعشب والكلأ، هذا هو الباد، وأما من يسكن الحاضرة فلا يعتبر من البادية، وإنما يعتبر من الحاضرة؛ إذًا بيع الحاضر للباد نحن قلنا: لا ينحصر في البدوي الذي بينَّا المقصود به، وإنما يشمل الغريب عن البلد، الذي يدخل البلدة وهو ليس من أهلها.
ما معنى بيع الحاضر للباد؟ النبي نهى عن بيع حاضر لباد، جاء في عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن قول النبي : لا يبع حاضر لباد فقال: “لا يكون له سمسارًا” [5].
فسّر ابن عباس رضي الله عنهما وهو راوي الحديث، أو أحد الرواة في الحديث، الحديث روي عن أبي هريرة وأنس، لكن ابن عباس رضي الله عنهما لما سُئل عن هذا الحديث، ما المقصود به؟ قال: لا يكون له سمسارًا، ما معنى سمسار؟
يعني: دلالًا، أو وسيطًا، فيكون إذًا معنى بيع حاضر لباد، أن الحاضر المقيم في البلد يأتي لهذا البادي، وهو القادم إلى البلد، من غير أهل البلد، يعني الغريب القادم من بلد آخر، سواء كان من البادية، أو من غيرها، فيطلب منه الحاضر أن يكون له سمسارًا، يقول له: أنت غريب عن البلد، وغريب عن السوق، ولا تعرف أسعار البلد، وأنا أعلم منك بذلك، فدعني أبيع لك بسعر السوق، هذا إذا هو المقصود، أن هذا المقيم في البلد يأتي لهذا الغريب القادم من بلد آخر، أو من البادية، يقول له: أنت لا تعرف الأسعار، وربما أن الناس يخدعونك، فدعني أبيع سلعتك بسعر السوق، فنهى النبي عن ذلك.
لماذا نهى النبي عن هذا؟
لأن هذا قد يكون فيه مصلحة لهذا البادي، هذا البادي يعني لا يخدع، لا يغر، فيه مصلحة له، وفي مصلحة أيضًا لهذا السمسار بما يعطيه إياه من أجرة على السمسرة أو الدلالة أو الوساطة، ففيه مصلحة للطرفين، مصلحة للحاضر، ومصلحة للبادي؛ لماذا نهى النبي عن هذا البيع؟
الحكمة من النهي عن بيع الحاضر للباد
الجواب: جاءت الحكمة منصوصًا عليها، أو مشارًا إليها في بعض الروايات، فقد جاء في صحيح مسلم عن جابر قال: قال رسول الله : لا يبع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض [6]، هذه هي الحكمة، قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “المعنى في ذلك أنه متى ترك البدوي يبيع سلعته اشتراها الناس برخص، وتوسع عليهم السعر، فإذا تولى الحاضر بيعها، وامتنع من بيعها بسعر البلد ضاق على أهل البلد”.
وقد أشار النبي في تعليله إلى هذا المعنى، يعني في قوله: دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض معنى هذا الكلام: أن الإضرار يكون على أهل السوق، إذا كان الحاضر سمسارًا للبادي، كيف؟ هذا الحاضر، عندما يأتي لهذا البادي، يقول: أنت لا تعرف الأسعار، أنا أبيع لك هذه السلعة، سوف يبيعها بسعر السوق، ترتفع الأسعار، لكن لو تُرك هذا البادي، هذا القادم من غير البلد، ترك يبيع سلعته بنفسه، فإنه في الغالب سوف يبيع سلعته برخص، فيكون في ذلك توسعة على أهل السوق، وربما يكون هذا سببًا في رخص بقية الأسعار، ويعني هو في الحقيقة هذا البادي ليس عليه ضرر، السوق أمامه، وربما بإمكانه يسأل، فدعوه يبيع بنفسه، ودعوا الناس يرزقهم الله تعالى من هذا القادم إلى البلد، من هذا البادي.
في الحقيقة يكون في هذا توسعة على الناس، وهذا هو الواقع حقيقة اليوم يعني أن الناس لو طبّقوا هذا، وترك من يقدم من غير أهل البلد يبيع بنفسه، ففي الغالب أنه سوف يبيع برخص، فإذا باع برخص توسعت الأسعار على الناس، ورخصت الأسعار.
إذًا يا أخواني هذا فيه دلالة على عظمة هذه الشريعة، الشريعة راعت جميع الجوانب، لا يكون الإنسان أنانيًّا فقط، ينظر لمصلحته هو، ولا ينظر لمصلحة الآخرين، الشريعة كما تراعي مصلحة الفرد، فإنها تراعي مصلحة المجتمع، ففي بيع الحاضر للباد، ليس فيه إضرار للحاضر ولا للبادي، لكن فيه إضرار بالمجتمع؛ لأن بيع الحاضر للباد يكون سببًا لغلاء الأسعار، لكن إذا ترك البادي يبيع سلعته بنفسه، فإن هذا يكون سببًا لرخص الأسعار، ويكون في هذه توسعة على الناس: ودعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض لا تتدخلوا في هذا، هذا فيه دلالة على عظمة هذه الشريعة التي شملت جميع جوانب الحياة.
الممنوع هو أن يذهب الحاضر إلى الباد، ويقول: أنا أبيع لك، لكن لو أنّ هذا البادي كان حصيفًا ورجلًا مثلًا يعني عنده شيء من التحقق من الأسعار، وكذا، فذهب يسأل البادي، أو أنه طلب من البادي أن يبيع له، إما أنه استنصحه أو أنه ذهب للبادي وقال: أريد أن تبيع هذه السلعة، فيقول العلماء: إن هذا لا بأس به، إذا ذهب البادي من تلقاء نفسه للحاضر، وقال: بع لي هذه السلعة، فإن هذا لا بأس به، ويدل لذلك أنه قد جاء في بعض روايات حديث النهي عن بيع الحاضر للباد، أن النبي قال: دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض فإذا استنصح الرجلُ الرجلَ، فلينصح له.
وأخرج أبو داود في سننه من طريق سالم المكي أن أعرابيًّا حدثه، أنه قدم بجلوبة له على طلحة بن عبيدالله، وهو طلحة بن عبيدالله الصحابي الجليل، أحد العشرة المبشرين بالجنة ، فقال له: إن النبي نهى عن بيع حاضر لباد، قال طلحة: إن النبي نهى عن بيع حاضر لباد، ولكن اذهب إلى السوق، فانظر من يبايعك، فشاورني حتى آمرك أو أنهاك [7].
فإذًا كون البادي هو الذي يأتي من تلقاء نفسه، ويطلب من الحاضر أن يبيع له لا بأس، أو كونه يأتي ويستنصحه لا بأس، إذًا الصورة الممنوعة هي أن البادي يأتي للحاضر من تلقاء نفسه، ويطلب منه أن يكون سمسارًا له أو دلالًا أو وسيطًا، فهذا هو الذي قد ورد النهي عنه؛ لما ذكرنا من الحكمة في هذا.
وبهذا نعرف خطأ بعض الناس اليوم، الذين عندما يأتي الغريب على البلد، ويدخل السوق يقول: نحن نبيع لك هذه السلعة، هذا لا يجوز، وينبغي التنبه والتنبيه لهذه المسألة…؛ لأنه ربما يعني بعض الناس يجهل مثل هذه المسائل، فنقول: من قدم من غير أهل السوق من غير أهل البلد فيترك يبيع سلعته بنفسه، ولا يتدخل أحد ويقول: أنا أبيع لك هذه السلعة، إلا إذا طلب هو من تلقاء نفسه، طلب من أحد أن يبيع له فلا بأس بذلك، أو استنصح أحدًا، فلا بأس أن ينصح له.
تلقي الركبان
ننتقل بعد ذلك إلى أيضا بعض ما ورد النهي عنه فيما يتعلق بالبيوع، وهو تلقي الركبان، فقد جاء في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله لا تلقوا الركبان، ولا يبع حاضر لباد [8].
وفي الصحيحين أيضًا عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: لا تلقوا السلع حتى يهبط بها إلى السوق [9].
وأيضًا جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه فاشترى منه، فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار [10].
هذه الأحاديث وما في معناها فيها النهي عن تلقي الركبان، ما معنى تلقي الركبان؟ وما الحكمة من النهي عن تلقي الركبان؟
الركبان: اسم جمع، واحده راكب، وهو في الأصل يطلق على راكب البعير، ثم اتسع فيه، فقيل لكل راكب دابة: راكب، ويجمع على رُكَّاب، ككافر وكُفار، والتعبير بالركبان، جرى على الغالب، وإلا فالمعنى يشمل القادم إلى البلد، وإن كان ماشيًا، أو كان وحده.
ومعنى تلقي الركبان: تلقي القادمين إلى البلد، قبل وصولهم السوق والشراء منهم.
إذًا معنى تلقي الركبان، تلقي القادمين إلى البلد قبل وصولهم السوق والشراء منهم، يعني يذهب بعض الناس، ويقف يعني على الطرقات والشوارع، التي يعني قبل أن يصل الإنسان للسوق، يعني الطرقات والشوارع المؤدية للسوق، وكلما أتى أحد يريد أن يبيع سلعته تلقاه واشترى منه قبل أن يصل إلى السوق، هذا يسمى تلقي الركبان، وقد نهى النبي عنه؛ لماذا؟
لما فيه من التغرير بهؤلاء القادمين؛ فإن المتلقي لهم يشتري منهم غالبًا برخص؛ لكونهم لا يعرفون الأسعار، وربما غُبنوا في ذلك، كما أنه ربما يحصل الضرر أيضًا لأهل البلد بهذا؛ لأن الركبان إذا وصلوا باعوا بضائعهم، والذين تلقونهم لا يبيعونها سريعًا في الغالب، وإنما يتربصون بها السعر، فيكون ذلك أيضًا في معنى بيع الحاضر للباد، وبهذا يعلم أن السلعة إذا لم يهبط بها صاحبها إلى السوق المعد لبيعها، فإنه يحرم تلقي أصحابها، ومن تلقاها قبل بلوغها السوق فإنه آثم بذلك؛ لما فيه من الخداع والتغرير بالبائع، ولما فيه أيضًا من الإضرار بأهل السوق، وإذا حصل غبن للبائع، فإن له الخيار، إذا قدم السوق، وعرف الأسعار، له الخيار بين إمضاء ذلك البيع أو فسخه؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في الحديث السابق: لا تلقوا الجلبة، فمن تلقاه فاشترى منه، فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار فإذًا نقول: هذا الذي قد تلقي أو اشتري منه، إذا أتى السوق وعرف الأسعار هو بعد ذلك بالخيار بين إمضاء ذلك البيع أو فسخه.
وبهذا أيها الأخوة يعلم خطأ ما يرى من وقوف بعض الناس خارج الأسواق، وتلقي أصحاب البضائع، والشراء منهم قبل دخولهم السوق، فإن هذا يدخل في تلقي الركبان الذي نهى عنه النبي ، أيها الأخوة بهذا نعرف عظمة هذه الشريعة، نجد أن كل ما نهى عنه الشارع ففيه المصلحة؛ إما المصلحة للفرد، أو المصلحة للمجتمع؛ ولهذا لو أن الناس التزموا بتعاليم الإسلام في هذا، فيما يتعلق بأمور تعاملاتهم، البيع والشراء، فإنه يحصل لهم خير عظيم، تتوسع الأسعار على الناس، ولا يحصل تغرير، ولا خداع، ولا غش، ويكون تعامل المسلمين بينهم تعاملًا قائمًا على الصدق، وعلى البيان، وعلى الوضوح، فيكون ذلك من أسباب حلول البركة في بيوعهم، وفي تعاملاتهم.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما [11].
هذا ما تيسر عرضه في هذه المحاضرة، وألتقي بكم على خير في المحاضرة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه أبو داود: 3462. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 2150، ومسلم: 1413. |
^3 | رواه البخاري: 2161، ومسلم: 1523. |
^4 | رواه مسلم: 1523. |
^5, ^8 | رواه البخاري: 2158، ومسلم: 1521. |
^6 | رواه مسلم: 1522. |
^7 | رواه أبو داود: 3441. |
^9 | رواه البخاري: 2165، ومسلم: 1517. |
^10 | رواه مسلم: 1519. |
^11 | رواه البخاري: 2079، ومسلم: 1532. |