عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هذه هي المحاضرة الثامنة عشرة في هذه المادة، مادة عقود المعاوضات المالية، كنا قد تكلمنا في المحاضرة السابقة عن جملة من الأحكام المتعلقة بالسلم، ذكرنا تعريفه في اللغة، وفي الاصطلاح، وذكرنا أنه يطلق في اصطلاح الفقهاء على عقد موصوف بالذمة مؤجل بثمن مقبوض في مجلس العقد، ومثلنا له، وقلنا: كما لو أعطى رجل آخر عشرة آلاف ريال، على أن يُسلِّم له تمرًا من نوع كذا، في شهر كذا، ويسلم له مثلًا مائة كيلو تمر من نوع كذا، في وقت كذا، فهذا هو السلَم، وذكرنا أن العلماء قد أجمعوا على جوازه، وأن جوازه من محاسن الشريعة الإسلامية، وأنه شرع على وفق القياس على القول الراجح، وليس مخالفًا للقياس، وتكلمنا عن أركانه، وابتدأنا بعد ذلك بالكلام عن شروطه، وتكلمنا عن الشرط الأول والثاني.
تتمة شروط السَّلَم
- كان الشرط الأول: أن يكون مما يمكن ضبط صفاته.
- الشرط الثاني: أن يصفه بما يختلف به الثمن ظاهرًا، كذكر الجنس، والنوع، والقدر، والحداثة أو القدم، والبلد، ونحو ذلك.
ننتقل بعد ذلك إلى الشرط الثالث، وكنا قد توقفنا عند الشرط الثالث:
الشرط الثالث: ذكر قَدْر المسلَّم فيه
فلا يصح السلَم بدون ذكر قدر المسلَّم فيه باتفاق العلماء، ويدل لذلك قول النبي : من أسلف في شيء، فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم [1].
فهذا الحديث قلنا: إنه في الصحيحين؛ لما قدم النبي على أهل المدينة، فوجدهم يسلفون في الثمار السنة أو السنتين والثلاث، فقال: من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم وهنا أمر النبي بأن يكون السلَم في شيء معلوم، في قدر معلوم؛ لأنه عوض غائب يثبت في الذمة، فاشترط معرفة قدره كالثمن، أرأيت الثمن في البيع يشترط معرفة الثمن، وقدر الثمن، وذكرنا من شروط صحة البيع معرفة الثمن، وكذلك أيضًا هنا لا بد من معرفة قدر المسلَّم فيه، هو عوض، لكنه عوض غائب، يثبت في الذمة، فاشترط معرفة قدره كالثمن، وهنا إذا ذكر قدره لا بد من ذكر معيار معلوم، ومعهود عند عامة الناس، كالكيل مثلًا، والوزن والذرع، ونحو ذلك، وفي الوقت الحاضر أصبح الناس يتعاملون بالموازين، هنا لقول النبي من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم بل إنه لا بد من تعيين الكيل عند اختلاف المكاييل في البلد.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “اشتراط تعيين الكيل فيما يسلم فيه من المكيل متفق عليه”، من أجل اختلاف المكاييل، إلا أن لا يكون في البلد سوى كيل واحد، فإنه ينصرف إليه عند الإطلاق، وما قيل في الكيل يقال أيضًا في الوزن والذرع وسائر المعايير.
وبناء على هذا لا يصح ذكر قدر المسلَّم فيه بشيء لم يعهد عند عامة الناس، كما لو قال المسلِّم للمسلَّم إليه: أسلمت إليك بمليء هذا الإناء عشر مرات، هنا لا يصح السلَم؛ لماذا؟ لأن هذا الإناء ربما يفقد، وربما يضيع، وربما ينكسر، فيكون ذلك مظنة لوقوع النزاع بين الطرفين، والشرع قد جاء لسد كل ما يُؤدي إلى النزاع بين الطرفين، إذًا لا بد من أن يعرف قدره بمعيار معلوم، ومعهود عند عامة الناس، وهنا يذكر الفقهاء كما أشرت الكيل والوزن والذرع، في وقتنا الحاضر هجر الناس الآن كثيرًا من المكاييل أصلًا، يتعاملون بالموازين.
ما الفرق بين المكيل والموزون؟
المكيل هو تقدير الشيء بالحجم، كالصاع والمُد ونحوه، الموازين تقدير الشيء بالثقل، أصبح الناس الآن يتعاملون بالوزن؛ لأن الوزن في الحقيقة أدق من الكيل، الكيل ربما تضع في هذا الصاع، يعني تمرًا مثلًا من النوع الثقيل، أو تمرًا من النوع الخفيف، وهو يمتلئ به هذا الصاع، ووزن التمر من النوع الثقيل يختلف عن وزنه إذا كان خفيفًا، فإذًا الكيل ليس دقيقًا، لكن الوزن دقيق، فالناس الآن تتعامل بالوزن، وإن كانوا يسمونه كيلًا، يقول: كيلو جرامًا، هذا وزن ليس كيلًا، هو وزن وليس كيلًا؛ ولهذا يمكن أن يكون السلَم يعني بهذه المقاييس المعروفة اليوم، مائة كيلو جرام مثلًا، ومعروف أن المائة كيلو، كمْ تعادل؟ أو الطن مثلًا معروف، أو مثلًا لتر معروف هذه مكاييل معروفة ومعهودة عند الناس، لكن لو أراد أن يسلم في شيء غير معهود عند الناس، هذا لا يصح كما مثلنا، لو قال: أسلمت إليك بملء هذا الإناء مائة مرة، أو عشر مرات، أو أقل أو أكثر، هذا لا يصح، هذا الإناء ربما يُفقد، ربما يضيع، ربما ينكسر، ربما يعني يعتريه ما يعتريه؛ ولذلك لا بد من أن يكون بشيء معهود عند عامة الناس.
الشرط الرابع: ذكر أجل معلوم له وقع في الثمن
وبناء على ذلك لا يصح السلم حالًا، وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة، واستدلوا بقول النبي : من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم ومحل الشاهد إلى أجل معلوم.
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله في بيان وجه الدلالة من هذا الحديث: “أمر النبي في هذا الحديث بالأجل، والأمر يقتضي الوجوب؛ ولأنه أمر بهذه الشروط تبيينا لشروط السلم، ومنعًا منه بدونها؛ ولذلك لا يصح إذا انتفى الكيل والوزن، فكذلك لا يصح إذا انتفى الأجل؛ ولأن الحلول يخرجه عن اسمه ومعناه؛ أما الاسم فإنه إنما سُمي سلَمًا وسلفًا لتعجل أحد العوضين، وتأخر الآخر، وأما المعنى فلأن السلم يعني تأجيل المسلم فيه، وتعجيل رأس المال، وبالحلول لا يكون سلَمًا، وإنما يكون بيعًا؛ لأن الشارع إنما رخص فيه من أجل الحاجة الداعية إليه، ومع حضور ما يبيعه حالًا لا حاجة إلى السلم، فلا يثبت”.
حكم السَّلَم حالًا
ذهب بعض العلماء إلى أنه يصح السلم حالًا، وهو قول ابن منذر وأبي ثور، وهو مذهب الشافعية، إذًا مذهب الشافعية أنه يصح السلم حالًا، قالوا: لأن السلم عقد يصح مؤجلًا، فصح حالًا، كبيوع الأعيان؛ ولأنه إذا جاز مؤجلًا فحالًا أجوز، يعني أولى بالجواز، ومن الغرر أبعد.
وأما قول النبي : من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم فالمقصود به: إذا كان السلَم إلى أجل، فليكن الأجل معلومًا لا مجهولًا؛ ولأن النبي إنما يتكلم عن سلَم موجود في وقته، إنه لما قدم المدينة وجد أهلها يسلفون الثمر السنة والسنتين والثلاث، هم يسلفون إلى أجل، فقال: من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم يعني: ما دام أنه بأجل، فليكن الأجل معلومًا، فقالوا: لا مانع من أن يكون السلَم حالًا، وهذا كما قلنا: مذهب الشافعية، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، قال: “يصح أن يكون السلَم حالًا إذا كان في ملكه”.
قال بعض العلماء: إنّ الخلاف بين الجمهور والشافعية في هذه المسألة إنما هو خلاف في تسمية هذه المعاملة سلَمًا، مع وجود الأجل، وإلا فإنها جائزة شرعًا، سواء سميت بيعًا، أو سلَمًا؛ لأنه ليس فيها ربا، ولا غرر ولا ظلم، والأصل في المعاملات الحل والإباحة؛ ولعل هذا القول هو يعني القول الراجح أنه يصح أن يكون السلَم حالًا، لكن إذا كان في ملكه، يعني: لا يبيعه شيئًا، ليس في ملكه، فمثلًا يقول: خذ هذه عشرة آلاف ريال، وهذا رجل عنده يعني مزارع كبيرة، وتمور كثيرة، ومعروف بالزراعة، فيقول: خذ هذه عشرة آلاف ريال على أن تأتيني بتمر من نوع كذا، صفته كذا، قدره كذا، هذا سلَم تأتي به الآن تأتي به لي الآن، فهذا على قول الشافعية يصح، ويكون سلَمًا، على قول الجمهور أيضًا هو بيع، لكن تأتي مسألة هل يصح يعني بيع ما لا يملك؟
نقول: إذا كان في ملكه فقد زال هذا المحظور؛ ولهذا رأي ابن تيمية رحمه الله، يعني جيد في هذه المسألة، يقول: “يصح بأن يكون السلَم حالًا إذا كان في ملكه”.
طيب السلَم مع الأجل المجهول لا يصح، كقدوم زيد من الناس، مع عدم معرفة وقت قدومه، فهذا أجل مجهول، فلو أعطاه مثلًا عشرة آلاف ريال، على أن يسلم له في ثمر، إلى قدوم زيد، طيب زيد متى يقدم؟ ما ندري، نقول هذا لا يصح؛ لأنه أسلم إلى أجل مجهول، وقد قال النبي من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، وأجر معلوم، إلى أجل معلوم وهنا الأجل غير معلوم، بل هو مجهول.
حكم السَّلَم إلى الحصاد أو الجذاذ
بعض الفقهاء مثّل لهذا للأجل المجهول بالحصاد والجذاذ، ورتبوا على ذلك أنه لا يجوز السلَم إلى الحصاد أو الجذاذ.
وذهب جمع من المحققين من أهل العلم إلى صحة السلَم إلى الحصاد أو الجذاذ، قالوا: ويتعلّق بأول الحصاد وبأول الجذاذ؛ لأنه في العادة لا يتفاوت كثيرًا، فأشبه ما لو قال: إلى رأس السنة، وحينئذٍ فيكون الحصاد، أو الجذاذ أشبه بالأجل المعلوم، وهذا القول لعله -والله أعلم- هو القول الأقرب في هذه المسألة، وإنه يصح أن يكون إلى الحصاد وإلى الجذاذ؛ لأن الجهالة هنا جهالة مغتفرة؛ ولهذا روي عن الإمام أحمد أنه يجوز أن يكون السلَم إلى الحصاد والجذاذ، روي عنه أنه قال: “أرجو ألا يكون به بأس”.
وقال بجوازه الإمام مالك وأبي ثور، وروي عن ابن عمر أنه كان يبتاع إلى العطاء، والعطاء معلوم أن فيه نوع من الجهالة اليسيرة؛ ولهذا قال أحمد: “إن كان شيئًا يُعرف، فأرجو أن لا يكون به بأس”، فمعلوم أن وقت الحصاد موسم ومعروف عند الناس ومعلوم، والجذاذ وقته معلوم ومعروف عند الناس، والتفاوت اليسير، يعني: لا يضر الغرر اليسير في مثل هذا، يغتفر، ثم أيضًا أنه يتعلق بأول الحصاد، وبأول الجذاذ تكاد يعني الجهالة هذه تؤول إلى العلم؛ ولهذا فالقول الصحيح: إنه يصح أن يكون السلَم إلى الحصاد أو إلى الجذاذ، ويتعلّق بأول الحصاد وبأول الجذاذ، فهذا هو القول الراجح في هذه المسألة، والله أعلم.
الشرط الخامس: أن يُوجد المسلَّم فيه غالبًا في وقت حلول أجله
وبعضهم يُعبِّر أن يُوجد المسلَّم فيه غالبًا في محله، يعني وقت حلوله؛ ليمكن تسليمه في وقته، فإن كان المسلَّم فيه لا يُوجد في وقت حلوله، لم يصح، إن كان المسلَّم فيه لا يُوجد في وقت حلوله لم يصح، وهذا قد حكى الموفق ابن قدامة الاتفاق عليه، وقال: “لا نعلم فيه خلافًا”؛ لأنه إذا كان كذلك أمكن تسليمه عند وجوب تسليمه؛ لأنه إذا كان كذلك يعني يمكن أن يوجد فيه غالبًا في محله أمكن تسليمه عند وجوب تسليمه، وإذا لم يكن عام الوجود لم يكن موجودًا عند المحل بحكم الظاهر فلم يمكن تسليمه، فلم يصح بيعه كبيع الآبق، بل هو أولى، فإن السلم احتمل فيه أنواع من الغرر للحاجة، فلا يحتمل فيه غرر آخر؛ لئلا يكثر الغرر فيه.
وهذا الكلام نريد أن نوضحه بمثال، ما معنى: أن يُوجد المسلَّم فيه غالبًا وقت حلول أجله؟ نوضح هذا بمثال، وكما يقال: بالمثال يتضح المقال، يقولون: لو أسلَم في العنب والرطب إلى الشتاء، معلوم أن وقت العنب والرطب الصيف، وليس الشتاء، وقت العنب والرطب الصيف، دعك من مسألة الثلاجات والبرادات، يعني كان الناس إلى وقت قريب إنما يأكلون الرطب في الصيف، والرطب عندما يُؤخذ من النخل، وإنما يُؤخذ وقت الصيف، وهكذا العنب أيضًا، وإنما يكون في الصيف، فلو أنه أسلَم في العنب والرطب في الشتاء، يقولون: إنه لا يصح؛ لأن العنب والرطب لا يُوجد غالبًا في هذا الوقت، وإنما يُوجد في الصيف.
وكما نقلنا من كلام الموفق ابن قدامة رحمه الله، أنه قال: “السلَم اُحتمل فيه أنواع من الغرر”، السلَم الحقيقة فيه غرر، لكن هذا الغرر غرره يسير احتمل هذا الغرر لأجل الحاجة، “فلا يحتمل فيه غرر آخر؛ لئلا يكثر فيه الغرر”، فيقول: كيف يُسَلِّم في عنب ورطب في الشتاء، والعنب والرطب إنما يكونان في الصيف، لكن في وقتنا الحاضر لو أسلَم في رطب أو في عنب، يعني مبرد في الشتاء، هنا يظهر أنه لا بأس به في هذه الحال، لا بأس به، كما قلنا، يعني نظر الفقهاء المتقدمين إنما هو موجود في زمنه، وأما في وقتنا الحاضر نتكلم يعني نأخذ الضابط الذي ذكره الفقهاء، يقولون: لماذا يُشترط الفقهاء هذا الشرط؟ يقولون: لأنه إذا لم يُوجد المسلَّم فيه في محله، يعني في وقت حلوله، لم يمكن تسليمه عند وجوب تسليمه، فيكون في ذلك غرر؛ ولذلك قاسوه على العبد الآبق، والجمل الشارد، وقالوا: فيه غرر، لكن إذا كان يمكن وجوده كرطب مبرد مثلًا في الشتاء، أو عنب مبرد في الشتاء، فالظاهر: أن هذا لا بأس به، لكن نحن نأخذ هذا الضابط، يعني الأمثلة التي ذكرها الفقهاء تحتاج إلى إعادة نظر في وقتنا الحاضر؛ لأجل اختلاف الوقت واختلاف الزمن، وكما قلنا في القاعدة المشهورة عند الأصوليين: إن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، فيكفي إذًا نضبط القاعدة في هذا.
عندما قال الفقهاء: إنه يشترط أن يوجد المسلَّم فيه غالبًا في وقت حلول أجله، عرفنا الحكمة من هذا الشرط؛ لأجل أن يمكن تسليمه في وقته فلا يؤول الغرر؛ لأنه في زمنهم مثلًا قبل مائة عام، ومائتي عام، قبل أن توجد البرادات، لو أسلَم في رطب في الشتاء، هذا لا يمكن تسليمه؛ لأن الرطب إنما يكون في الصيف، لا يكون في الشتاء، لكن في وقتنا الحاضر لو أسلَم في رطب مبرد في الشتاء، فيمكن تسليمه في وقته، فيزول المحظور الذي ذكره الفقهاء.
الشرط السادس: أن يقبض رأس مال السلَم في مجلس العقد
وهو في الحقيقة من أهم الشروط، وهو أن يقبض رأس مال السلَم في مجلس العقد، وقلتُ: إن هذا الشرط من أهم الشروط لأنه عند التطبيقات المعاصرة للسلم يحصل الإخلال كثيرًا بهذا الشرط، فإنه إذا لم يقبض الثمن في مجلس العقد يصبح من قبيل بيع الدين بالدين، وهذا لا يجوز، وهذا الشرط باتفاق العلماء، أنه لا بد من قبض رأس المال في مجلس العقد، إلا أنّ المالكية يرخصون في التأخير لثلاثة أيام فقط، وقد أخذ بهذا مجمع الفقه الإسلامي الدولي، اعتمد رأي المالكية، قالوا: لما فيه من التوسعة على الناس، كيف يعني عدم قبض رأس المال في مجلس العقد؟ يعني لو أن مثلًا عشرة آلاف ريال، هذه قال: أنا سوف أعطيك بعد شهر عشرة آلاف ريال، على أن تسلم لي مائة كيلو تمر من نوع كذا، وقت كذا، في شهر رجب من العام المقبل، هنا رأس المال دين، والمسلف فيه دين، فأصبح من قبيل بيع الدين بالدين، وهذا لا يجوز، إذا اشترطوا أن يقبض رأس مال السلَم في مجلس العقد، ووجه اشتراط هذا الشرط؛ لأنه لو لم يقبض الثمن في مجلس العقد صار من قبيل بيع الدين بالدين، وهو لا يجوز؛ ولهذا قال الإمام الشافعي: “لا يقع اسم السلف فيه حتى يعطيه ما أسلفه قبل أن يفارق من أسلفه”، لا بد من أن يكون رأس مال السلَم معلومًا قدره ووصفه.
إذًا هذا الشرط، وهو أن يقبض الثمن تامًا، أو أن يقبض رأس المال في مجلس العقد الأصل فيه قول النبي : من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم أي: فليعطِ كيلًا معلومًا، ووزنًا معلومًا، إلى أجل معلوم.
عرفنا إذًا وجه اشتراط هذا الشرط: أنه إذا كان رأس المال ليس مقبوضًا فحينئذٍ يكون دينًا، وتؤول المسألة إلى بيع الدين بالدين؛ ولهذا قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “لا خلاف في اشتراط هذا”؛ لأنه يُؤول إلى بيع الدين بالدين، فإذا قلنا: لا بد أن يكون رأس المال معلومًا قدره ووصفه، فلا يصح أن يكون مجهولًا؛ وذلك لأن رأس المال هو كالمسلَّم فيه، فلا يصح أن يكون رأس المال مثلًا بصبرة لا يعلمان قدرها، أو بشيء لا يمكن انضباطه بالصفة، ومعلوم أن وقتنا الحاضر أصل المال يكون نقدًا، يكون بنقود، بريالات مثلًا، يعني تكون معلومة الأوراق النقدية الآن، يعني معلومة فيزول هذا الإشكال الذي ذكره بعض الفقهاء، يعني أن يكون رأس المال معلوم قدره ووصفه في وقتنا الحاضر، أسماء السلَم في كثير من الأحيان، يكون بالأوراق النقدية، وهي منضبطة، ومعلوم قدرها ووصفها، لكن المهم هنا هو التقابض قبل التفرق.
حكم السَّلَم في الذهب والفضة بالأوراق النقدية
ولذلك يقول الفقهاء في قاعدة عندهم: كل مالين حَرُم النسأ فيهما، لا يجوز إسلام أحدهما في الآخر؛ لأن السلَم من شرطه التأجيل، فلا يصح إذًا إسلام في الذهب والفضة بالأوراق النقدية، لا يصح أن يعطيه مثلًا عشرة آلاف ريال على أن يأتي له مثلًا بعد أشهر بذهب نوع كذا، وقدره كذا، وصفته كذا، لا يجوز؛ لماذا؟ لأنه يشترط في بيع الذهب بالأوراق النقدية التقابض كذلك مثلًا الذهب بفضة، أو مثلًا فضة بأوراق نقدية، أو مثلًا بر بشعير، يعني كل ما يشترط فيه التقابض لا يصح السلَم فيه؛ ولهذا فهذه قاعدة عند الفقهاء: كل مالين حَرُم النسأ فيهما لا يجوز إسلام أحدهما في الآخر، وعللوا ذلك لأن السلَم من شرطه التأجيل؛ لقول النبي في الأموال الربوية في حديث عبادة: إلا مثلًا بمثل، يدًا بيد، هاء بهاء [2].
قال الفقهاء: وإن قبض البعض من الثمن في المجلس ثم افترقا قبل قبض الباقي بطل فيما عداه، يعني فيما عدا المقبوض، وصار في المقبوض سلَمًا، إذا لا بد من قبض جميع رأس المال سلَمًا في مجلس العقد، وهذا الشرط في الحقيقة هو من أهم الشروط، وسوف أستكمل إن شاء الله تعالى الحديث عن بقية الشروط، وعن بقية الأحكام المتعلقة بالسلَم في المحاضرة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.