logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح كتاب الأدب من صحيح البخاري/(3) كتاب الأدب- من قوله: "باب: وضع الصبي في الحِجْر .."

(3) كتاب الأدب- من قوله: "باب: وضع الصبي في الحِجْر .."

مشاهدة من الموقع

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه واتَّبع سُنته إلى يوم الدين.

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.

اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.

رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا [الكهف:10].

هذا هو الدرس الثالث والأخير في هذه الدورة العلمية في شرح "كتاب الأدب" من "صحيح البخاري"، وكنا قد وصلنا إلى باب: "وضع الصبي في الحِجْر".

القارئ: الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا ولجميع المؤمنين.

يقول الإمام البخاري رحمه الله تعالى في "كتاب الأدب":

باب: وضع الصبي في الحِجْر

باب: وضع الصبي في الحِجْر.
حدثنا محمد بن المُثنَّى: حدثنا يحيى بن سعيدٍ، عن هشامٍ قال: أخبرني أبي، عن عائشة: أن النبي وضع صبيًّا في حِجْره يُحَنِّكُه، فَبَالَ عليه، فدعا بماءٍ فأَتْبَعه.

الشيخ: نعم، إن النبي وضع صبيًّا في حِجْره يُحَنِّكه، وكان من عادة النبي أنه إذا وُلِدَ مولودٌ يأتي به أهله للنبي فيُحَنِّكه.

ومعنى التَّحنيك: مَضْغُ التَّمرة ونحوها، ووضع شيءٍ من ذلك الذي قد مُضِغَ في فم الصبي، فكان يفعل ذلك؛ يأتي بالتمرة فيمضغها أو جزءًا منها، ثم يضع ذلك في فم الصبي.

حكم تحنيك الطفل

اختلف العلماء في هذا التَّحنيك: هل هو خاصٌّ بالنبي أو ليس خاصًّا به فهو مشروعٌ لكل طفلٍ؟

قولان لأهل العلم:

القول الأول: أنه خاصٌّ بالنبي ، وأن الصحابة إنما كانوا يفعلون ذلك طلبًا لبركة ريق النبي ؛ ليكون أول ما يدخل إلى جوف هذا الطفل ريق النبي ؛ وذلك لأن آثار النبي يُتَبَرَّك بها، فكان الصحابة يتبركون بوضوئه وبشعره وجميع أجزائه وآثاره ، وهذا في حياته، أما بعد مماته فلا يُشرع ذلك.

وأيضًا لا يُتَبَرَّك بغير النبي ؛ ولهذا الصحابة لم يكونوا يتبركون بأبي بكرٍ، ولا عمر، ولا عثمان، ولا عليّ، ولا سائر الصحابة، فهذا التَّبرك خاصٌّ بالنبي ، وخاصٌّ أيضًا بحياته فقط، فمن أهل العلم مَن قصر مشروعية التَّحنيك على النبي .

والقول الثاني: أن التَّحنيك ليس خاصًّا بالنبي ، بل هو مشروعٌ لكل أحدٍ ولكل طفلٍ، وإلى هذا ذهب أكثر العلماء، بل إن النووي رحمه الله حكى اتِّفاق العلماء على ذلك، وإن كانت المسألة ليست محل اتفاقٍ، بل هي محل خلافٍ.

والقول الراجح هو القول الثاني، وهو الذي عليه أكثر أهل العلم: أن التَّحنيك ليس خاصًّا بالنبي ؛ إذ إن الخصوصية تحتاج إلى دليلٍ، ولا دليل يدل لذلك.

وقد ذكر الحافظ ابن كثيرٍ في "البداية والنهاية": أن الحسن البصري لما وُلِدَ ذُهِبَ به إلى عمر فَحَنَّكه بتمرٍ، وكان الصحابة يُحَنِّكون مواليدهم، وهذا يُرجِّح القول بأن التَّحنيك ليس خاصًّا بالنبي .

وقد اختُلف في الحكمة من التَّحنيك:

قال الحافظ ابن حجر: إن الحكمة أن يَتَمَرَّن على الأكل ويقوى عليه.

وتعقبه العيني أيضًا في شرح البخاري، وقال العيني: "سبحان الله! ما أبرد هذا الكلام! وأين وقت الأكل من وقت التَّحنيك؟! وهو حين يُولد، والأكل غالبًا بعد سنتين أو أقلّ أو أكثر".

كانت بينهما منافسةٌ: ابن حجر والعيني؛ ولذلك كثيرًا ما يتعقبه، ثم انتقد العيني كلام ابن حجر.

إذن ما الصواب في نظر العيني؟

قال: "إن الحكمة هي: أنه يتفاءل له بالإيمان؛ لأن التمر ثمرة الشجرة التي شبَّهها النبي بالمؤمن".

وهذا الكلام من العيني أيضًا بعيدٌ، بل إن كلام ابن حجر أقرب من كلام العيني.

وقد ذكر بعض مَن كتب في الإعجاز العلمي في السُّنة: أن في التَّحنيك إعجازًا نبويًّا، وهو: أن المولود حديثًا يكون لديه (الجلوكوز) مُنخفضًا، فإذا حُنِّكَ بتمرٍ ارتفعتْ لديه نسبة (الجلوكوز)، وهذا مفيدٌ لصحته.

وذكروا فوائد كثيرةً لهذا التَّحنيك، والله أعلم، لكن ينبغي إذا قلنا بمشروعية التَّحنيك أن يُفْعَل بالطريقة الآمنة؛ حتى لا يَشْرَق الطفل، يعني: يُؤخَذ شيءٌ يسيرٌ جدًّا من التمر ويُوضع في فم هذا الطفل.

وأيضًا لا بد من أمن انتقال العدوى بألا يكون مَن يفعل ذلك به أمراضٌ ونحوها، فإذا تحقق ذلك فلا بأس بالتَّحنيك، وقد كان  يفعله، وكان الصحابة يفعلونه مع صبيانهم.

كيفية التَّطهر من بول الطفل

قال: "فبال عليه" يعني: بال هذا الطفل على النبي ، "فدعا بماءٍ فَأَتْبَعه"؛ وذلك لأن بول الصبي الذي لم يأكل الطعام نجاسته مُخفَّفةٌ، فيكفي فيه النَّضْح إذا كان الصبي ذكرًا، أما إذا كانت أنثى فلا يكفي النَّضْح، بل لا بد من غسل البول.

وفي هذا ورد حديث أبي السَّمْح: أن النبي قال: يُغْسَل من بول الجارية، ويُرَشُّ من بول الغلام [1]، هذا هو الذي استقرتْ عليه سُنة النبي .

إذن الطفل الذي لم يأكل الطعام -بهذا الشرط: لم يأكل الطعام شهوةً- إذا كان ذكرًا فيكفي نَضْح البول، يكفي نَضْحه، ولا يلزم غسله، أما إذا كان الطفل أنثى فلا بد من غسل بوله، فَيُنْضَح من بول الغلام، ويُغْسَل من بول الجارية.

الحكمة من التَّفريق بين بول الذكر والأنثى

في هذا أقوالٌ كثيرةٌ، لكن لعل الأقرب -والله أعلم- هو: أن الطفل إذا كان ذكرًا فإن فيه حرارةً غريزيةً تُنْضِج الطعام؛ فَتَخِفّ معها النَّجاسة، بينما الأنثى الحرارة عندها أقلّ؛ فتكون نجاسة البول أغلظ من الذكر.

وهذا أمرٌ مُشاهدٌ، قارن بين طفلين في نفس السنِّ، أحدهما ذكر، والآخر أنثى، أيّهما أكثر حركةً؟

الذكر، الذكر أكثر حركةً، وهذه الحركة بسبب الحرارة الغريزية الموجودة لديه، وهذه الحرارة تكون سببًا في قلة نجاسته؛ لأن الطعام معها ينضج أكثر فتضعف النجاسة، بينما لمَّا كانت الأنثى أقلّ حرارةً من الذكر كانت النَّجاسة أغلظ.

فلعلَّ هذه -والله أعلم- هي الحكمة في التَّفريق بين بول الغلام وبول الجارية.

وفي هذا الحديث من الفوائد: حُسن خُلُق النبي ؛ حيث لم يُعنِّف هذا الطفل، ولم يُوبِّخه، ولم يتكلم بكلمةٍ، بل دعا بماءٍ ونَضَح هذا البول فقط، وهذا من كريم خُلُقه .

ولكن هنا ينبغي أن نفهم معنى النَّضْح: النَّضْح ليس كما يفهمه بعض الناس مجرد الرَّش هكذا، لا، النَّضْح معناه: أن يُغْمَر البول بالماء من غير عصرٍ، والغسل هو: أن يُغْمَر بالماء ويُعْصَر.

فالفرق بين النَّضْح والغسل إنما هو في العصر، فالغسل معناه: أنه يُغْمَر بالماء ويُعْصَر حتى تذهب النَّجاسة، أما النَّضْح: فيُغْمَر بالماء من غير عصرٍ، وليس المقصود بالنَّضْح أنه يُرَشّ، فانتبه لهذه الفائدة.

باب: وضع الصبي على الفخذ

القارئ: قال رحمه الله:

باب: وضع الصبي على الفَخِذ.
حدثنا عبدالله بن محمدٍ قال: حدثنا عارمٌ قال: حدثنا المُعْتَمِر بن سليمان: يُحَدِّث عن أبيه قال: سمعتُ أبا تميمة يُحَدِّث عن أبي عثمان النَّهْدِي: يُحَدِّثه أبو عثمان عن أسامة بن زيدٍ رضي الله عنهما: كان رسول الله يأخذني فَيُقْعِدُني على فَخِذِه، ويُقْعِد الحسن على فَخِذِه الأخرى، ثُم يضمُّهما، ثم يقول: اللهم ارحمهما، فإنِّي أرحمهما.
وعن عليٍّ قال: حدثنا يحيى قال: حدثنا سليمان، عن أبي عثمان: قال التَّميمي: فوقع في قلبي منه شيءٌ، قلتُ: حَدَّثْتُ به كذا وكذا، فلم أسمعه من أبي عثمان، فنظرتُ فوجدتُه عندي مكتوبًا فيما سمعتُ.

الشيخ: نعم، كان رسول الله .. يقول: كان يأخذني فَيُقْعِدُني على فَخِذِه، ويُقْعِد الحسن على فَخِذِه الأخرى، ثُم يضمُّهما، ثم يقول: اللهم ارحمهما، فإنِّي أرحمهما.

أما الحسن فقد كان صغيرًا، لكن الإشكال في أسامة بن زيد رضي الله عنهما، فأسامة بن زيد رضي الله عنهما لما تُوفي النبي كان عمره قُرابة عشرين سنةً، فكيف كان يضعه النبي على فخذه وهو كبيرٌ والحسن صغيرٌ؟!

قال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن يكون ذلك وقع من النبي وأسامة مُراهقٌ والحسن طفلٌ، ويكون إقعاده لأسامة في حِجْره بسببٍ اقتضى ذلك؛ كمرض أسامة، كأن يكون أسامة مريضًا، فكان النبي لمحبته لأسامة ومَعَزَّته يُمَرِّضه بنفسه، فيضعه على فخذه.

وقال بعض أهل العلم: لعل الحديث فيه وهمٌ، وأن المقصود الحسن والحسين.

لكن هذا لا دليل عليه، والروايات كلها على أنه أسامة والحسن.

فالذي يظهر -والله أعلم- أن أسامة كان فيه سببٌ اقتضى أن يضعه على فخذه وإلا فإنه كان كبيرًا، كان -يعني- في ذلك الوقت يُقارب أربع عشرة سنةً، فكان كبيرًا، لكن ربما كان مريضًا ونحو ذلك، وأما الحسن فقد كان صغيرًا في ذلك الوقت.

فكان يضع أحدهما على فخذه، والآخر على الفخذ الأخرى، ثم يضمُّهما ويقول: اللهم ارحمهما، فإنِّي أرحمهما.

فيرحم أسامة أولًا، وأسامة أبوه قد قُتِلَ في غزوة مُؤْتَة، وكان ابن حِبِّ رسول الله ، والحسن أيضًا كان صغيرًا.

فكان يرحم الأطفال، وهذا يدل على أنه ينبغي رحمة هؤلاء الأطفال ومُلاطفتهم والرفق بهم.

قال التَّميمي: "فوقع في قلبي منه شيءٌ" يعني: شكّ، "قلتُ: حَدَّثْتُ به كذا وكذا، فلم أسمعه من أبي عثمان، فنظرتُ فوجدتُه عندي مكتوبًا فيما سمعتُ".

وهذا يدل على عناية الرواة بالتَّثبُّت، وأن هذا الراوي لما شكَّ رجع إلى المكتوب فوجده كما هو، وهذا يدل على أن هذه الرواية صحيحةٌ، وأن أحدهما كان أسامة، والآخر كان الحسن.

باب: حُسْن العهد من الإيمان

القارئ: قال رحمه الله:

باب: حُسْن العَهْد من الإيمان.
حدثنا عبيد بن إسماعيل: حدثنا أبو أسامة، عن هشامٍ، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما غِرْتُ على امرأةٍ ما غِرْتُ على خديجة، ولقد هلكتْ قبل أن يتزوجني بثلاث سنين؛ لِمَا كنتُ أسمعه يذكرها، ولقد أَمَرَه ربُّه أن يُبَشِّرَها ببيتٍ في الجنة من قَصَبٍ، وإنْ كان ليذبح الشَّاة ثم يُهْدِي في خُلَّتِهَا منها.

الشيخ: خديجة هي أولى زوجات النبي ، وكانت امرأةً عاقلةً، حَصِيفةً، وكانت ثريةً ذات مالٍ، تزوجتْ رجلًا من قريشٍ ثم تُوفي، ثم تزوجتْ رجلًا آخر ثم تُوفي، وكان عندها مالٌ وثروةٌ، فسمعتْ بأمانة النبي ، وكان يُسمى: الصادق الأمين، فأرسلتْ إليه أن يُتاجر بمالها، فَقَبِلَ في رحلته للشام، وأرسلتْ معه غلامها ميسرة.

فرأى ميسرة في تلك الرحلة عجبًا؛ رأى أن النبي له عنايةٌ ربانيةٌ، حتى إن السحابة تأتي وتُظلِّل عليه وهو في الطريق، وتأثَّر ميسرة بحُسن خُلُق النبي ، ولاحظ العناية الإلهية به.

ولمَّا رجع من هذه الرحلة حدَّث ميسرةُ خديجةَ بما رأى، فأُعجبتْ بالنبي إعجابًا شديدًا، فأرسلتْ إليه إن كان يريد أن يتزوجها، فَقَبِلَ النبي وتزوَّجها، وكان عمره خمسًا وعشرين، وكان عمرها ثماني وعشرين، خلافًا لما هو مشهورٌ من أن عمرها أربعون، الصحيح أن عمرها ثمانٍ وعشرون، وقد جاء هذا في رواية الحاكم: أن النبي تزوَّجها وعمرها ثمانٍ وعشرون سنةً.

ثم إن هذا هو الأقرب من حيث الواقع؛ لأنها أنجبتْ ستة بنين وبنات؛ أنجبت القاسم وعبدالله وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، يعني: ستةً، فالغالب أن عمرها ثمانٍ وعشرون، وليس أربعين، وكما هو في رواية الحاكم، فالأقرب من حيث الرواية: أن النبي تزوَّج خديجة وعمرها ثمانٍ وعشرون سنةً.

ووقفتْ مع النبي وآزرته، ولما أتاه جبريل وهو في غار حراء، وقد أتاه في الليل؛ لأن القرآن نزل في ليلة القدر، فأتى ودخل عليها يَرْجُف وقال: زَمِّلُوني، زَمِّلُوني، فَدَثَّروه، فقالت: "ما شأنك؟" فذكر لها ما جرى، فقالت: "كلا والله ما يُخزيك الله أبدًا؛ إنك لَتَصِل الرحم، وتَحْمِل الكَلَّ، وتكسب المعدوم .."، وذكرتْ من خصاله الشريفة، ومَن كان كذلك فإن الله لا يُخزيه، وذهبتْ به إلى ابن عمِّها ورقة بن نوفل، وكان رجلًا نصرانيًّا، وعنده علمٌ من الكتاب، فقال: "إن هذا هو النَّاموس الأكبر الذي كان يأتي موسى"[2]، فآمن بالنبي ؛ ولذلك هو معدودٌ من الصحابة: ورقة بن نوفل.

ووقفتْ مع النبي إلى أن ماتتْ رضي الله عنها، وكان يُحبها محبةً عظيمةً ويعزّها، ولم يتزوج عليها حتى ماتتْ، وبلغ من حبِّ النبي لها أنه دائمًا يَذْكُرها، وغارتْ عائشة، غارتْ منها وما رأتها، لكن من شدة ذكر النبي  لها، لدرجة أن النبي كان يذبح الشاة ويُهْدِي صديقات خديجة، ولما رأى أختها هالة قال: هذه مشية خديجة.

فكان يذكرها كثيرًا؛ فغارتْ منها عائشة وما رأتها، قالت: "ما غِرْتُ على امرأةٍ ما غِرْتُ على خديجة، ولقد هلكتْ قبل أن يتزوجني بثلاث سنين؛ لِمَا كنتُ أسمعه يذكرها، ولقد أَمَرَه ربُّه أن يُبَشِّرَها ببيتٍ في الجنة من قَصَبٍ" لا نَصَبَ فيه، ولا صَخَبَ؛ وذلك أن النبي قال لخديجة: هذا جبريل يُقْرِؤكِ السلام، فسلَّم عليها جبريل، ثم قال لها: إن ربكِ يُقْرِؤكِ السلام [3].

وهذا -والله- هو الشرف العظيم: أن يأتي جبريل  لبشرٍ ويقول: إن ربك يُقْرِؤك السلام، أي شرفٍ أعظم من هذا؟!

وأمره أن يُبَشِّر خديجة ببيتٍ في الجنة من قصبٍ، يعني: من لؤلؤٍ.

والحكمة في اختيار القصب تفاؤلًا بقصب سبقها للإسلام، فإن لها قصب السَّبق في الإسلام؛ فلذلك بُشِّرتْ في الجنة ببيتٍ من قصبٍ.

وكان يذبح الشَّاة ويُهْدِي إلى خُلَّتها -يعني: صديقاتها- منها؛ وذلك لأن إكرام أصدقاء الإنسان إكرامٌ له، وإكرام أصدقاء الأب من البِرِّ به، وإكرام صديقات الأم من البِرِّ بها؛ ولهذا يقول : إن من أَبَرِّ البِرِّ: صلة الرجل أهل وُدِّ أبيه [4].

وهذا المعنى يخفى على كثيرٍ من الناس، خاصةً مَن كان أبوه أو أمه مُتوفًّى، فمن البِرِّ أن يبحث عن أصدقاء أبيه، أو صديقات أُمه، وأن يصلهم بالزيارة، وبالمال، وبالهدية، وبنحو ذلك، هذا جعله النبي من أَبَرِّ البِرِّ.

كذلك لو كان له صديقٌ يعزّ عليه وتُوفي يُكْرِم أصدقاء هذا الصديق، فهذا من الوفاء؛ ولهذا بوَّب البخاري على هذا الحديث بقوله: "باب: حُسن العهد من الإيمان"، وتبويب البخاري بهذا التبويب؛ لأن هذا قد ورد حديثًا عن النبي ، ولكن هذا الحديث ليس على شرط البخاري، فأورده بهذا اللفظ: "حُسن العهد من الإيمان"، يعني: لم يجعل هذا حديثًا عن النبي ؛ لأنه ليس على شرطه، لكنه قد ورد في حديثٍ، ومعناه صحيحٌ.

ومعنى "حُسن العهد من الإيمان" يعني: رعاية الحُرمة من الإيمان، من كمال الإيمان، فالعهد ورعاية مَن كان الإنسان يُحبهم ويودّهم من كمال الإيمان.

كما ذكرنا في إكرام مَن يُحبهم أبوك أو أُمك، فهذا من كمال الإيمان، وهكذا أيضًا لو كان له صديقٌ -مثلًا- وتُوفي، فيُكرم أصدقاءه، ونحو ذلك، فهذا من الوفاء، ومن حُسن العهد.

باب: فضل مَن يعول يتيمًا

القارئ: قال رحمه الله:

باب: فضل مَن يعول يتيمًا.
حدثنا عبدالله بن عبدالوهاب قال: حدثني عبدالعزيز بن أبي حازمٍ قال: حدثني أبي قال: سمعتُ سهل بن سعدٍ، عن النبي قال: أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وقال بإصبعيه السبابة والوسطى.

الشيخ: "باب: فضل مَن يعول يتيمًا"، اليتيم هو: مَن مات أبوه قبل البلوغ، أما مَن ماتت أُمه قبل البلوغ فهل يُعتبر يتيمًا؟

الجواب: لا يُعتبر؛ لأن فقد الأب أشدُّ من فقد الأم، فالأم يمكن أن يأتي الأب بأية امرأةٍ تقوم برعاية هذا الابن وحضانته والقيام على شؤونه، لكن فقد الأب أشدّ؛ لأن الأب هو الذي يُنْفِق على هذا الابن ويرعاه، فاليتيم هو: مَن فقد أباه قبل البلوغ، أما بعد البلوغ فلا يُسمَّى: يتيمًا.

واليتيم ليس بالضرورة أن يكون فقيرًا، قد يكون اليتيم غنيًّا، كأن يكون -مثلًا- ورث من أبيه ثروةً كبيرةً، لكن الغالب على اليتامى الفقر، وإن كان هذا ليس لازمًا، فاليتيم الفقير إذا مات أبوه انكسر خاطره، فهو بحاجةٍ إلى مَن يجبر خاطره، ويقوم على شؤونه وإكرامه وعدم إذلاله، كما قال الله : فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ [الضحى:9]، فإكرام اليتيم ليس بالمال فقط، بل حتى بالمشاعر؛ ولذلك قال: فَلَا تَقْهَرْ، وقال: كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ [الفجر:17]، فهذا اليتيم الذي أحسَّ بمرارة فقد أبيه ينبغي أن يُعوَّض بالإحسان إليه بجميع وجوه الإحسان.

وقد ذكر الله اليتيم، وأوصى بالإحسان لليتامى في القرآن في أكثر من عشرين موضعًا.

وفي هذا الحديث يقول النبي : أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا والمقصود بكافل اليتيم: مَن يقوم على رعايته ومصالحه والإنفاق عليه، فيضمُّه إلى بيته، ويُعامله كما يُعامل سائر أولاده، هذه هي كفالة اليتيم.

أما ما تقوم به بعض المؤسسات الخيرية من الإنفاق على اليتامى، وتخصيص مُخصصاتٍ لهم، ويُسمون هذا: كفالة يتيمٍ، فهذا ليس كفالة يتيمٍ، وإنما هذه صدقةٌ على يتيمٍ.

فرقٌ بين كفالة اليتيم والصدقة على اليتيم؛ لأن كفالة اليتيم لا تنحصر في الأمور المالية فقط، بل القيام بمصالح هذا اليتيم؛ القيام على شؤونه ورعايته وتدريسه وتعليمه وكل ما يحتاج إليه، هذه هي كفالة اليتيم.

لكن مع ذلك هذه المؤسسات التي تقوم بالإنفاق على هذا اليتيم وإعطائه ما يحتاج إليه من الأمور المادية، هذا عملٌ صالحٌ عظيمٌ، وهم مأجورون على ذلك، ويُشْكَرون عليه، لكن ينبغي -ونحن في درس علمٍ- أن نُحقق في المسألة، ونُسمي الأمور بأسمائها الدَّقيقة المناسبة لها، فهذه تُسمى: صدقة على يتيمٍ، أما كفالة اليتيم فمعناها: الرعاية الشاملة لليتيم، وأكملها: أن يكون هذا اليتيم عنده في البيت، ويقوم على جميع شؤونه.

وقول النبي في هذا الحديث: أنا وكافل اليتيم، جاء في بعض الروايات: له أو لغيره [5]، له بأن يكون قريبًا له، كأن يكون جدّ اليتيم، أو يكون أُم اليتيم أيضًا؛ لأننا قلنا: إن اليتيم مَن فقد أباه، فإذا كان القائم عليه أُم اليتيم تكون أيضًا هي كافلةٌ لهذا اليتيم، أو جدّ اليتيم يكون كافلًا لهذا اليتيم، هذا معنى قوله: له.

أو لغيره بأن يكون أجنبيًّا عنه، ليس قريبًا له، لكنه يقوم برعايته.

قال: في الجنة هكذا، وشبَّك بين أصبعيه السبابة والوسطى هكذا، يعني: أنه في درجة النبي ، وهذا فضلٌ عظيمٌ.

قال ابن بطالٍ رحمه الله -أحد شُرَّاح "صحيح البخاري"-: "حقٌّ على مَن سمع هذا الحديث أن يعمل به؛ ليكون رفيق النبي في الجنة، ولا منزلة في الآخرة أفضل من ذلك".

وهذا يدل على أن كفالة اليتيم من الأعمال الصالحة العظيمة التي ترفع صاحبها درجاتٍ.

لكن يرد على هذا إشكالٌ، وهو: أن درجات الأنبياء أعلى درجات البشر، فكيف يكون الذي يكفل يتيمًا في درجة النبي مع أنه لا تكون له أعمالٌ صالحةٌ كثيرةٌ؟

وأُجيب عن ذلك: بأن الغرض هو المُبالغة في رفع درجته في الجنة، وليس المقصود أنه يكون مع النبي في نفس الدرجة، فقد يكون إنسانٌ ليست عنده أعمالٌ صالحةٌ كثيرةٌ، لكن مجرد أنه كفل يتيمًا، هل يكون مع النبي في نفس الدرجة؟

لا، ليس هذا المقصود، ولكن المقصود المُبالغة في رفع درجته، وأن هذا عملٌ صالحٌ عظيمٌ يرفع صاحبه درجاتٍ؛ ولهذا فكفالة اليتيم من أفضل وأعظم الأعمال الصالحة، إن استطاع الإنسان أن يكفله الكفالة التي هي الرعاية بمعناها الشامل، فهذه هي الكفالة المقصودة في الحديث، وإن لم يتيسر فلا أقلّ من أن يتصدق على اليتيم؛ وذلك بالاشتراك مع الجمعيات الخيرية التي تكون عندها كفالةٌ للأيتام، وهي مُنتشرةٌ -ولله الحمد- وهي من المظاهر المُشرقة في الأُمة: وجود هذه المؤسسات التي تقوم على رعاية الأيتام، فهذا مظهرٌ من المظاهر المُشرقة، والقائمون عليها يُرْجَى لهم خيرٌ عظيمٌ؛ لأنهم يقومون على شؤون هؤلاء الأيتام.

بقي اللَّقيط: اللَّقيط الذي يكون ولد زنا، ولا يُعْرَف أبوه ولا أُمه، فهذا إذا كانت كفالة اليتيم الذي يُعْرَف أبوه وأُمه بهذه المنزلة العظيمة، فاللَّقيط من باب أولى؛ لأن اليتيم له أقارب يمكن أن يقوموا بشؤونه، لكن هذا اللَّقيط ليس له أحدٌ؛ ولهذا فكفالة اللَّقيط في معنى كفالة اليتيم في الأجر والثواب، بل ربما تكون أولى من اليتيم.

باب: السَّاعي على الأرملة

القارئ: قال رحمه الله:

باب: السَّاعي على الأرملة.
حدثنا إسماعيل بن عبدالله قال: حدثني مالكٌ، عن صفوان بن سُلَيْمٍ يرفعه إلى النبي قال: السَّاعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو كالذي يصوم النهار ويقوم الليل.
حدثنا إسماعيل قال: حدثني مالكٌ، عن ثور بن زيدٍ الدِّيلِي، عن أبي الغَيْثِ -مولى ابن مُطِيعٍ- عن أبي هريرة، عن النبي مثله.
باب: السَّاعي على المسكين.
حدثنا عبدالله بن مسلمة: حدثنا مالكٌ، عن ثور بن زيدٍ، عن أبي الغَيْثِ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : السَّاعي على الأرملة والمسكين كالمُجاهد في سبيل الله، وأحسبه قال -يَشُكُّ القَعْنَبِيُّ-: كالقائم لا يَفْتُر، وكالصائم لا يُفْطِر.

الشيخ: السَّاعي على الأرملة والمسكين.

المقصود بالأرملة: التي لا زوج لها.

وقال بعضهم -كصاحب "القاموس"-: "إن الأرملة هي المُحتاجة"، ولكن هذا محل نظرٍ؛ إذ لو كان المقصود بالأرملة المُحتاجة لما عطف عليها المسكين؛ لأن المسكين هو المُحتاج، فالأرملة هي: التي لا زوج لها، لكنها أيضًا مُحتاجةٌ أو فقيرةٌ.

وأما المسكين فإذا أُطلق يشمل الفقير، وهو المُحتاج الذي ليس له دخلٌ يكفيه، فالذي ليس له دخلٌ يكفيه أو لا دخل له مطلقًا هذا يُسمى: فقيرًا أو مسكينًا.

لكن أيّهما أشدّ حاجةً: الفقير أم المسكين؟

الفقير أشدُّ حاجةً من المسكين؛ ولهذا قال : أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [الكهف:79]، مساكين لهم سفينةٌ.

فالفقير هو المُعْدم الذي ليس عنده شيءٌ، أو عنده دون نصف الكفاية.

والمسكين: مَن عنده نصف الكفاية أو أكثر الكفاية، لكن ليس عنده تمام الكفاية.

فالذي ليس عنده شيءٌ هذا فقيرٌ.

طيب، عنده دخلٌ يكفيه إلى عشرةٍ من الشهر: فقيرٌ أم مسكينٌ؟

فقيرٌ، دون نصف الكفاية فقيرٌ.

عنده دخلٌ يكفيه إلى نصف الشهر: مسكينٌ.

عنده دخلٌ يكفيه إلى عشرين من الشهر: مسكينٌ.

عنده دخلٌ يكفيه لآخر الشهر: هذا مُكْتَفٍ، ليس فقيرًا، ولا مسكينًا، ولا تحلّ له الزكاة.

عنده دخلٌ يكفيه لآخر الشهر ويدَّخر شيئًا منه: هذا غنيٌّ، وغِنَى كل شيءٍ بحسبه.

إذن هذا هو المقصود بالمسكين.

فهنا في هذا الحديث يقول : السَّاعي على الأرملة والمسكين كالمُجاهد في سبيل الله، السَّاعي معناه: القائم بمصالحهما وشؤونهما، كالمُجاهد في سبيل الله يعني: يكون أجره كأجر المُجاهد في سبيل الله؛ لأن ما يقوم به -في الحقيقة- هو نوعٌ من الجهاد، القيام على شؤون الأرامل والمساكين نوعٌ من الجهاد، أو كالذي يصوم النهار ويقوم الليل.

وفي الحديث الآخر قال: "وأحسبه قال: كالقائم لا يَفْتُر، وكالصائم لا يُفْطِر"، وهذا الشَّك من القعنبي، وهو عبدالله بن مسلمة، يعني: شكَّ هل سمع هذه اللفظة من مالكٍ أم لا؟

لكن ساق البخاري هذا الحديث في كتاب "النفقات" من طريق يحيى بن قزعة قال: حدثنا مالكٌ.

يعني: من طريقٍ آخر عن مالكٍ من غير شكٍّ، بلفظ: السَّاعي على الأرملة والمسكين كالمُجاهد في سبيل الله، أو كالقائم الليل، والصائم النهار، بهذا يتبين زوال الشك في هذا اللفظ.

وعلى هذا فثواب السَّاعي على الأرملة والمسكين مثل ثواب المجاهد في سبيل الله، ومثل ثواب الصائم الذي لا يُفْطِر، ومثل ثواب الذي يقوم الليل لا يَفْتُر.

الله أكبر!

انظروا إلى عظيم ثواب القائم على الأرملة والمسكين، فأجره عند الله عظيمٌ جدًّا، أجره مثل أجر المجاهد في سبيل الله، وأجره مثل أجر الذي يصوم النهار لا يُفْطِر، ومثل أجر الذي يقوم الليل لا يَفْتُر، فما أعظم أجر مَن قام على شؤون اليتامى والأرامل والمساكين! فأجره عند الله عظيمٌ، وثوابه جزيلٌ.

باب: رحمة الناس والبهائم

القارئ: قال رحمه الله:

باب: رحمة الناس والبهائم.
حدثنا مُسدَّدٌ قال: حدثنا إسماعيل قال: حدثنا أيوب، عن أبي قِلَابَةَ، عن أبي سليمان مالك بن الحُوَيْرِث قال: أتينا النبيَّ ونحن شَبَبَةٌ مُتقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلةً، فظنَّ أنَّا اشتقنا أهلنا، وسألنا عمَّن تركنا في أهلنا، فأخبرناه، وكان رفيقًا، رحيمًا، فقال: ارجعوا إلى أهليكم، فعلِّموهم ومُرُوهم، وصلُّوا كما رأيتُموني أُصَلِّي، وإذا حضرت الصلاة فَلْيُؤذِّن لكم أحدكم، ثم لِيَؤُمَّكم أكبركم.

الشيخ: قال: "باب: رحمة الناس والبهائم"، رحمة الناس وأيضًا رحمة البهائم، ثم ساق المُصنِّف بسنده هذا الحديث عن مالك بن الحُوَيْرِث قال: "أتينا النبيَّ ونحن شَبَبَةٌ"، يعني: شبابًا مُتقاربين، "فأقمنا عنده عشرين ليلةً" يطلبون العلم، يعني: كأنهم يريدون دورةً علميةً من النبي ، أقاموا عنده عشرين ليلةً يطلبون العلم.

قال: "فظن أنَّا اشتقنا أهلنا" يعني: لما أقاموا عشرين ليلةً -النبي كان عظيم الفراسة- عرف أنهم قد اشتاقوا لأهليهم، "وسألنا عمَّن تركنا في أهلنا، فأخبرناه، وكان رفيقًا، رحيمًا"، وجاء في بعض النُّسخ -في بعض نسخ "صحيح البخاري"-: "وكان رقيقًا" بقافين، وفي هذه النسخة: "وكان رفيقًا".

قال الحافظ ابن حجر: "إن الأكثر على أنه بقافين: رقيقًا، رحيمًا"، فيكون معنى "رقيقًا" من الرقة، و"رفيقًا" من الرفق، والنبي جمع الخصلتين: كان رفيقًا ورقيقًا.

فقال: ارجعوا إلى أهليكم، فعلِّموهم فأذن لهم في الرجوع، وطلب منهم أن يُعلِّموا أهلهم وقومهم، يعني: كأنه يقول: أنتم طلبتم العلم عندي، فانقلوا هذا العلم وبلِّغوه إلى أهليكم، وقد قال : بلِّغوا عني ولو آية [6].

قال: فعلِّموهم ومُرُوهم، وصلُّوا كما رأيتُموني أُصَلِّي يعني: مُرُوهم بما تعلَّمتم، وصلُّوا كما رأيتُموني أُصَلِّي؛ ولذلك الأحاديث التي رواها مالك بن الحُوَيْرِث كانت في آخر حياة النبي ، فمثلًا: جلسة الاستراحة رواها مالك بن الحُوَيْرِث، ورواها أبو حُميدٍ السَّاعدي، وكانا قد التقيا بالنبي في آخر حياته.

ولذلك القول الراجح في جلسة الاستراحة: أنها تُفْعَل عند الحاجة، أو أنها تُسَنُّ عند الحاجة، كما هو المذهب عند الحنابلة، وهذا اختيار المُوفق ابن قدامة رحمه الله؛ لأن النبي ما فعلها إلا لما كبرتْ سِنُّه في آخر حياته، ولم يفعلها قبل ذلك، وفِعْلُها سُنَّةٌ، وتَرْكها سُنَّةٌ، فمَن كان مُحتاجًا لجلسة الاستراحة كانت سُنةً في حقِّه، ومَن لم يكن بحاجةٍ لجلسة الاستراحة فليست بسُنةٍ في حقِّه.

فالذي روى حديث جلسة الاستراحة هو مالك بن الحُوَيْرِث، هذا الشابّ.

قال: وإذا حضرت الصلاة فَلْيُؤذِّن لكم أحدكم، ثم لِيَؤُمَّكم أكبركم؛ وذلك لأنهم مُتقاربون في الحفظ، ومُتقاربون في العلم، فهم شبابٌ تعلَّموا عند النبي ؛ فلذلك قال: فَلْيُؤذِّن لكم أحدكم، ثم لِيَؤُمَّكم، ما قال: أقرؤكم لكتاب الله؛ لأنهم مُتساوون في القراءة، ولا قال: أعلمكم بالسُّنة؛ لأنهم مُتساوون في العلم، فانتقل إلى الدرجة الثالثة، قال: ثم لِيَؤُمَّكم أكبركم؛ لأن المُقدَّم في الإمامة: يَؤُمُّ ‌القومَ أقرؤُهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواءً فأعلمهم بالسُّنة، فإن كانوا في السُّنة سواءً فأقدمهم هجرةً، فإن كانوا في الهجرة سواءً ‌فأكبرهم ‌سِنًّا [7].

وهذا الحديث فيه فوائد، منها:

  • أولًا: حُسن خُلُق النبي ، وانظروا كيف تعامل مع هؤلاء الشباب بهذا التعامل العظيم، ولما رأى شوقهم لأهليهم أَذِن لهم في الرجوع، وطلب منهم أن ينقلوا ما تعلَّموه من العلم، فهذا يدل على حُسن خُلُقه ، وعلى رحمته بهم، وكريم أخلاقه.
  • أيضًا من الفوائد: فضل تبليغ العلم، فإن النبي قال لهؤلاء: ارجعوا إلى أهليكم، فعلِّموهم، وقال: بلِّغوا عني ولو آية، فتبليغ العلم ونشر العلم من الأعمال الصالحة العظيمة، بل إن ابن المبارك قال: "لا أعلم بعد النبوة عملًا أفضل من نشر العلم"، فنشر العلم عملٌ صالحٌ عظيمٌ، ولا يلزم أن يكون نشر العلم بأن تُلْقِي درسًا أو محاضرةً، قد يكون عبر وسائل التقنية الحديثة، فتنتقي المقاطع النافعة الهادفة المفيدة وتنشرها، هذا يدخل في نشر العلم.
    وأيضًا ما تعلَّمه الإنسان يستطيع أن يُبلغه، وأن ينشره، فالنبي يقول: بلِّغوا عني ولو آية.
  • أيضًا من فوائد هذا الحديث: أن إمامة الصبي صحيحةٌ؛ لقوله: ثم لِيَؤُمَّكم أكبركم، وكان هؤلاء شبيبةً، صبيانًا صغارًا، وإن كان بعضهم يقول: إنهم قد بَلَغُوا، وإن أعمارهم فوق سنِّ البلوغ، لكن على تقدير أنهم دون سنِّ البلوغ أخذ بعض العلماء من هذا فائدةً وهي: صحة إمامة الصبي، وهذا هو القول الراجح: أن إمامة الصبي صحيحةٌ، وعمرو بن سلمة كان يَؤُمُّ قومه وعمره سبع سنين أو ثمانٍ.

فضل رحمة البهائم

القارئ: قال رحمه الله:

حدثنا إسماعيل قال: حدثني مالكٌ، عن سُمَيٍّ -مولى أبي بكرٍ- عن أبي صالحٍ السَّمَّان، عن أبي هريرة: أن رسول الله قال: بينما رجلٌ يمشي بطريقٍ اشتَدَّ عليه العطش، فوجد بئرًا، فنزل فيها فشرب ثم خرج، فإذا كلبٌ يَلْهَثُ، يأكل الثَّرَى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي، فنزل البئر فملأ خُفَّه، ثم أمسكه بِفِيهِ، فسقى الكلب؛ فشَكَرَ اللهُ له فغفر له، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؟ فقال: في كل ذات كَبِدٍ رَطْبَةٍ أجرٌ.

الشيخ: هذا الحديث أيضًا أخرجه مسلمٌ في "صحيحه"، يُخبر فيه النبي بأن رجلًا يمشي بطريقٍ اشتَدَّ عليه العطش، فوجد بئرًا، فنزل فيها فشرب.

وكان الناس قديمًا هذه طريقتهم، المياه الجوفية كانت قريبةً، فالبئر يجعلون عليها مثل السُّلم، ومَن أراد أن يستقي ينزل إلى البئر ويستقي من ماء البئر مباشرةً.

ثم لمَّا خرج هذا الرجل إذا بكلبٍ يَلْهَثُ، يأكل الثَّرَى يعني: التراب، من شدة العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي، فنزل البئر فملأ خُفَّه يعني: ما وجد شيئًا يضع فيه هذا الماء إلا خُفَّه، ثم أمسكه بِفِيهِ، فسقى الكلب، فكان هذا سببًا لمغفرة الله له.

فقال الصحابة: وإن لنا في البهائم أجرًا؟ قال: في كل ذات كَبِدٍ رَطْبَةٍ أجرٌ.

وقوله: رَطْبَةٍ كنايةٌ عن الحياة، يعني: في كل حيٍّ تُحْسِن إليه أجرٌ، سواء كان إنسانًا أو حيوانًا أو طيرًا فيه أجرٌ.

ومحل الشاهد من هذا الحديث هو: رحمة البهائم، وأن هذا الرجل قد غُفِرَ له بسبب رحمته لهذا الكلب، وهذا يدل على عناية الشريعة بالإحسان للبهائم والحيوانات عمومًا.

هذا الدين دينٌ عظيمٌ شاملٌ لكل شيءٍ، وهذه الشعيرة سبقتْ ما تقوم به الآن جمعيات الرفق بالحيوان، والمُنتشرة في بلاد الغرب وغيرها.

نقول: في ديننا الإسلام العناية بالحيوان، فهذا الرجل غُفِرَ له بسبب سقايته لكلبٍ، وامرأةٌ دخلت النار بسبب أنها حبستْ هِرَّةً، لا هي أطعمتها إذ هي حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خَشَاش الأرض [8]، فهذا يدل على عناية الشريعة بالرفق بالحيوان، والإحسان للحيوان.

ومغفرة الله لهذا الرجل تدل على أن الإنسان لا يدري عن مَحَالِّ مَحَابِّ الله ومرضاته، فربما تعمل عملًا صالحًا قليلًا، أو تظنّه قليلًا أو يسيرًا، لكنه يكون عند الله عظيمًا.

وكما مَرَّ معنا في درسٍ سابقٍ في قصة المرأة التي أخذت التمرة وشقَّتها بين ابنتيها نصفين، فقال النبي : إن الله قد أوجب لها بها الجنة، وفي هذا الحديث هذا الرجل سقى كلبًا يأكل الثَّرَى من شدة العطش؛ فغفر الله له، فلا يدري الإنسان عن مَحَالِّ مَحَابِّ الله ومرضاته، فَرُبَّ عملٍ صالحٍ تظنه يسيرًا، لكنه يكون عند الله عظيمًا.

فلا يحتقر الإنسان أي عملٍ صالحٍ، فربما يكون هذا العمل يقع عند الله موقعًا عظيمًا ويُغْفَر للإنسان بسببه.

القارئ: قال رحمه الله:

حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شُعيبٌ، عن الزُّهري قال: أخبرني أبو سلمة بن عبدالرحمن: أنَّ أبا هريرة قال: قام رسول الله في صلاةٍ وقُمنا معه، فقال أعرابيٌّ وهو في الصلاة: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا. فلمَّا سَلَّمَ النبي قال للأعرابي: لقد حَجَّرْتَ واسعًا يريد رحمة الله.

الشيخ: هذه قصةٌ وقعتْ في عهد النبي ، وذلك أن مسجد النبي لم تكن له أبوابٌ، وإنما كان مُسَوَّرًا، وكان مسقوفًا بجذوع النخل، وكان هذا الأعرابي يعيش في البَرِّ -في البادية- فلم يعلم أنه لا يُبَالَ في المسجد، فَبَالَ في المسجد، فَنَهَرَه بعض الصحابة: كيف تبول في المسجد؟! فقال النبي : دَعُوه حتى يُكْمِل بوله، وهذا من حكمته ؛ لأن هذا الأعرابي لو قطع بوله فإنه سيتسبب في مفاسد:

أولًا: انتشار النَّجاسة في المسجد؛ لأنه إذا قام سينشر النَّجاسة.

ثانيًا: تلويث ملابسه بالنَّجاسة.

ثالثًا: قد يتسبب هذا أيضًا في مشاكل صحيةٍ لهذا الرجل؛ لأن كون الإنسان يبول ثم يقطع بوله هذا يُؤثِّر عليه صحيًّا.

فلذلك النبي  بحكمته قال: دَعُوه حتى يُكْمِل، فلما أكمل لم يترك النبي إنكار المنكر، دعاه وقال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيءٍ من هذا ‌البول ولا القَذَرِ، إنما هي لذكر الله ​​​​​​​ والصلاة وقراءة القرآن [9]، فقال هذا الأعرابي .. يعني: تقبَّل هذه النصيحة من النبي ؛ لأنه رفق به، بينما نَهَرَه غيره، فقال: "اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا"، فقال : لقد حجَّرتَ واسعًا يريد رحمة الله.

وهذا الحديث فيه فوائد:

  • أولًا: رحمة النبي ورفقه بالناس؛ حيث رفق بهذا الأعرابي، وطلب من الصحابة أن يتركوه حتى يُكْمِل بوله، وقد تأثَّر هذا الرجل الأعرابي بموقف النبي  حتى قال هذه المقولة.
  • وأيضًا فيه من الفوائد: حكمة النبي ؛ فإن كونه يقول للصحابة: اتركوه حتى يبول، هذا من حكمته ؛ لما يترتب على قطعه لبوله من المفاسد التي ذكرنا.
  • ثالثًا: قوله: "اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا"، هذه المقولة فيها نكارةٌ؛ ولذلك أنكرها النبي على هذا الأعرابي؛ لأنه بَخِلَ برحمة الله، وحجَّر رحمة الله الواسعة عليه وعلى رسول الله ، فأنكر عليه النبي فقال: لقد حَجَّرْتَ واسعًا يعني: رحمة الله واسعة، كيف تُحجرها عليَّ وعليك فقط؟!

ويُفهم من هذا: أن مثل هذه الدعوات مُنكرةٌ، فلا يقل أحدٌ: اللهم ارحمني وفلانًا، ولا ترحم غيرنا، أو: اللهم اغفر لي ولفلانٍ، ولا تغفر لغيرنا. هذا مُنكرٌ؛ ولذلك أنكر النبي  على هذا الأعرابي هذا الكلام، حتى لو كان ذلك على سبيل المزاح فإنه لا يجوز.

وقد أثنى الله على مَن يقول خلاف ذلك فقال: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10].

هذا الدعاء من الأدعية العظيمة التي ينبغي أن يحرص عليها المسلم، وأن تدعو الله كل يومٍ بهذا الدعاء: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ.

القارئ: قال رحمه الله:

حدثنا أبو نُعيمٍ قال: حدثنا زكريَّاء، عن عامرٍ قال: سمعتُه يقول: سمعتُ النعمان بن بشيرٍ يقول: قال رسول الله : ترى المؤمنين في تراحُمهم وتَوَادِّهم وتعاطفهم كمَثَلِ الجسد، إذا اشتكى عضوًا تَدَاعَى له سائر جسده بالسَّهَر والحُمَّى.

الشيخ: في هذا الحديث العظيم يصف النبي المؤمنين في تراحمهم وتوادِّهم وتعاطفهم بالجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمَّى.

أرأيت جسدك عندما يشتكي عضوٌ منه ألمًا في السنِّ، أو في الرجل، أو في اليد، أو في أي عضوٍ من أعضاء الجسد، تجد أن سائر الجسد يشتكي كذلك، يتداعى سائر الجسد بالسَّهر والحُمَّى.

هكذا أيضًا المسلمون كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالحمى والسَّهر، وهذا يدل على قوة العلاقة بين المؤمنين.

وذكر النبي في هذا الحديث ثلاثة مُصطلحاتٍ، قال: في تراحمهم وتوادِّهم وتعاطفهم، فذكر التَّراحم والتَّواد والتَّعاطف، وهي مُتقاربة المعنى، لكن بينها فرقٌ لطيفٌ:

فالتراحم معناه: أن يرحم بعضهم بعضًا لأُخوة الإيمان، لا بسببٍ آخر.

والتَّواد معناه: التواصل فيما بينهم الجالب للمحبة بالتَّزاور، أو التَّهادي، أو نحو ذلك.

والتَّعاطف معناه: إعانة بعضهم بعضًا، كما يعطف الثوب عليه ليُقويه، فالتعاطف معناه: إعانة بعضهم بعضًا.

فالمسلمون إذن كالجسد الواحد؛ ولذلك ينبغي أن يستشعر المسلم مُصابَ إخوانه المسلمين في أي قُطْرٍ من العالم، فتبقى بينه وبينهم أُخوة الإسلام، وأُخوة الإيمان، فإذا أصاب المسلمين في أي قُطْرٍ من العالم مُصابٌ ينبغي أن يستشعر المسلمون ذلك، وأن يُساعدوهم بما يستطيعون.

القارئ: قال رحمه الله:

حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن أنس بن مالكٍ، عن النبي قال: ما من مسلمٍ غَرَسَ غَرْسًا فأكل منه إنسانٌ أو دابَّةٌ إلا كان له صدقةً.

الشيخ: ما من مسلمٍ غَرَسَ غَرْسًا فأكل منه إنسانٌ أو دابَّةٌ إلا كان له صدقةً، وفي روايةٍ: ما من مسلمٍ يغرس غَرْسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه طيرٌ أو إنسانٌ أو بهيمةٌ إلا كان له به صدقةٌ [10]، حتى ولو لم يقصد ذلك.

ولهذا ذهب بعض العلماء إلى أن أفضل المكاسب الزراعة، وممن ذهب إلى ذلك النووي رحمه الله، وذهب بعضهم إلى أن أفضل المكاسب التجارة، وقال آخرون: إن أفضل المكاسب هو أن يأكل من عمل يده. وهذا هو الأقرب -والله أعلم- لقول النبي : ما أكل أحدٌ طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود  كان يأكل من عمل يده [11]، ولكن الزراعة تدخل في عمل اليد.

ومن فوائد هذا الحديث: فضل الزراعة، وأن الإنسان إذا زرع زرعًا أو غرس غَرْسًا فما يأكله إنسانٌ أو طيرٌ أو بهيمةٌ إلا كان له به صدقةٌ، وهذه بُشْرَى عظيمةٌ للمزارعين.

فنقول: أبشروا، فما تزرعونه ما يأكل منه إنسانٌ أو طيرٌ أو بهيمةٌ إلا كان لكم به أجرٌ وصدقةٌ تُؤْجَرون وتُثابون عليها.

ومن فوائد هذا الحديث: أنه قد يحصل للمسلم الأجر وإن لم يقصد ذلك، فإن الذي يزرع الزرع أو يغرس الغرس ربما لا يخطر بباله الأجر، لكنه يُؤْجَر على ذلك، وهذا يدل على أن مَن تسبَّب في الخير فإنه يُؤْجَر عليه حتى وإن لم يقصد ذلك.

القارئ: قال رحمه الله:

حدثنا عمر بن حفصٍ قال: حدثنا أبي قال: حدثنا الأعمش قال: حدثني زيد بن وهبٍ قال: سمعتُ جرير بن عبدالله، عن النبي قال: مَن لا يَرْحَم لا يُرْحَم.
الشيخ: هذا مَرَّ معنا في الحديث السابق في قصة الأقرع بن حابس لمَّا قال: إن عندي عشرةً من الولد ما قبَّلتُ منهم أحدًا. فقال : مَن لا يَرْحَم لا يُرْحَم، وتكلَّمنا عن شرح هذا في الدرس السابق.

باب: الوصاة بالجار

القارئ: قال رحمه الله:

باب: الوَصَاة بالجار.
وقول الله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إلى قوله: مُخْتَالًا فَخُورًا [النساء:36].
حدثنا إسماعيل بن أبي أُوَيْسٍ قال: حدثني مالكٌ، عن يحيى بن سعيدٍ قال: أخبرني أبو بكر بن محمدٍ، عن عَمْرَةَ، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي قال: ما زال يُوصِينِي جبريلُ بالجار حتى ظننتُ أنه سيُوَرِّثه.
حدثنا محمد بن مِنْهَالٍ قال: حدثنا يزيد بن زُرَيْعٍ قال: حدثنا عمر بن محمدٍ، عن أبيه، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ما زال جبريل يُوصِينِي بالجار حتى ظننتُ أنه سيُوَرِّثه.

الشيخ: انتقل المؤلف بعد ذلك للكلام عن حقِّ الجار، وابتدأ ذلك بالآية الكريمة: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ .. إلى آخر الآية.

والجار المقصود به: الذي يسكن قريبًا منك، وحَدَّه بعض العلماء بأربعين دارًا من كل جانبٍ، وقد جاء هذا في حديثٍ عن عائشة رضي الله عنها، لكنه حديثٌ ضعيفٌ، ولو صحَّ فَدُور الناس قديمًا كانت صغيرةً، أما دور الناس في الوقت الحاضر فقد أصبحتْ كبيرةً؛ ولذلك فالأقرب في تحديد الجار العُرْف، والناس يُفَرِّقون في عُرْفهم بين الجار وغير الجار، يقول أحدهم: فلانٌ جارٌ لنا، وفلانٌ بعيدٌ عنا.

فالضابط في الجوار إذن هو العُرْف.

وفي الآية الكريمة ذكر الله تعالى نوعين من الجيران فقال: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى يعني: كان جارًا قريبًا، وَالْجَارِ الْجُنُبِ يعني: جارًا ليس بالقريب، فأمر الله تعالى بالإحسان إلى الجارين جميعًا، سواء كان الجار قريبًا أو بعيدًا.

أقسام الجار من حيث الحقوق

قسَّم بعض أهل العلم الجار إلى ثلاثة أقسامٍ:

  • جارٌ له حقٌّ واحدٌ، وهو الجار غير المسلم، فله حقُّ الجوار.
  • والثاني: جارٌ له حقَّان، وهو الجار المسلم، له حقُّ الجوار وحقُّ الإسلام.
  • والثالث: الجار المسلم القريب، فله ثلاثة حقوقٍ: حقُّ الجوار، وحقُّ الإسلام، وحقُّ القرابة، فيكون حقُّه آكد.

وفي هذا الحديث يقول : ما زال جبريل يُوصِيني بالجار يعني: هذا بوصية الله له، حتى ظننتُ أنه سيُوَرِّثه يعني: سيأمر بتوريث الجار من جاره، ويجعل له مُشاركةً في ماله.

وهذا يدل على عظيم حقِّ الجار، والنبي -وهو الصادق المصدوق- يقول: من كثرة وصية جبريل لي بالجار ظننتُ أن الجار سيكون له حقٌّ في الميراث من جاره.

ولو لم يرد في حقِّ الجار إلا هذا الحديث لكفى، فهذا يدل على عظيم حقِّ الجار، وأنه ينبغي للمسلم أن يحرص على الإحسان لجيرانه بجميع أَضْرُب الإحسان، ومن ذلك: الزيارة، ومن ذلك: إلقاء السلام والتَّحية عليه، ومن ذلك: الهدية، فإن بعض الجيران يتهادون، فهذا من الإحسان للجار.

ومن ذلك ما يُسمى: بدورية الجيران، فبعض الأحياء عندهم هذا المظهر المُشْرِق؛ يكون للجيران دوريةٌ: إما -مثلًا- شهرية، وإما أسبوعية، أو نحو ذلك، هذا نوعٌ من الإحسان للجار.

ومن ذلك أيضًا: وضع مجموعةٍ على (الواتساب) أو وسيلة من وسائل التواصل الاجتماعي للجيران يتبادلون فيها السلام، ويتواصلون عبرها، وتُوضع فيها مقاطع مُفيدة، هذا نوعٌ من التواصل بين الجيران.

فينبغي للمسلم أن يكون حريصًا على الإحسان لجيرانه بجميع وسائل الإحسان.

باب: إثم مَن لا يأمن جاره بَوَائِقَه

القارئ: قال رحمه الله:

باب: إثم مَن لا يأمن جاره بَوَائِقَه.
يُوبِقْهُنَّ [الشورى: ٣٤]: أي يُهْلِكهنَّ، مَوْبِقًا [الكهف:٥٢]: مَهْلِكًا.
حدثنا عاصم بن عليٍّ قال: حدثنا ابن أبي ذئبٍ، عن سعيدٍ، عن أبي شُرَيْحٍ: أن النبي قال: والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: ومَن يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جارُه بَوَائِقَه.
تابعه شبابة وأسد بن موسى.
وقال حُميد بن الأسود، وعثمان بن عمر، وأبو بكر بن عيَّاش، وشُعيب بن إسحاق: عن ابن أبي ذئبٍ، عن المَقْبُرِي، عن أبي هريرة.

الشيخ: قال: "باب: إثم مَن لا يأمن جاره بوائقه".

والبَوَائق جاء تفسيرها في رواية أحمد أنهم قالوا: وما بوائقه؟ قال: شرّه [12].

يعني: إثم مَن لا يأمن جارُه شرَّه.

قال عليه الصلاة والسلام: والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن يعني: لا يؤمن الإيمان الكامل.

الذي لا يأمن جارُه بَوَائِقَه يعني: مَن لا يأمن جارُه شرَّه.

وهذا يدل على عظيم إثم مَن آذى جاره، ومَن كان جاره لا يأمنه؛ إما -مثلًا- بسبب أنه يتحرش بأهله، أو يُؤذيهم بالنَّظرات، أو نحو ذلك، أو من جهة أنه يُؤذي جاره بكثرة المشاكل، وأحيانًا ربما يشتكيه، أو يُهدده بالشكوى، أو نحو ذلك، أو أنه يُؤذي جاره أيضًا بإلقاء القمامة والنِّفايات ونحو ذلك أمام باب جاره، أو يُؤذيه -مثلًا- بأن يُوقف سيارته عند باب جاره، أو نحو ذلك من صور الإيذاء.

صور الإيذاء كثيرةٌ، فالذي يُؤذي جاره، وجاره لا يأمنه، فإثمه عند الله عظيمٌ؛ ولذلك حلف النبي عليه الصلاة والسلام بالله قال: والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن ثلاث مراتٍ في هذا الإنسان الذي بلغتْ أذيته لجاره أن جاره لا يأمن شرّه.

نحن أخذنا ضابط الكبيرة، فهل أذية الجار تُعتبر من كبائر الذنوب أم من الصغائر؟

من الكبائر، من أين أخذنا هذا؟

من قوله: لا يؤمن، فإن ما ورد فيه نفي إيمانٍ يدل على أنه من الكبائر، وهذا يدل على أن أذية الجار من كبائر الذنوب.

باب: لا تحقرنَّ جارةٌ لجارتها

القارئ: قال رحمه الله:

باب: لا تحقرنَّ جارةٌ لجارتها.
حدثنا عبدالله بن يوسف قال: حدثنا الليث قال: حدثنا سعيدٌ -هو المَقْبُرِيُّ- عن أبيه، عن أبي هريرة قال: كان النبي يقول: يا نساء المسلمات، لا تحقرنَّ جارةٌ لجارتها ولو فِرْسِنَ شاةٍ.

الشيخ: هذا الحديث فيه الحثُّ على الهدية بين الجيران، وأنه ينبغي إهداء الشيء ولو كان يسيرًا، وأن هذا كما يشمل الرجل فهو أيضًا يشمل المرأة، لكن خصَّ النساء بالذكر قال: يا نساء المسلمات، خُصَّت النساء بالذكر.

قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": "خُصَّ النَّهي بالنساء؛ لأنهنَّ موارد المودة والبغضاء؛ ولأنهنَّ أسرع انفعالًا في كلٍّ منهما".

ذكر أمرين:

الأمر الأول: موارد المودة والبغضاء، يعني: المرأة إذا أحبتْ جارتها انعكس ذلك على الأسرة كلها، فكل الأسرة أحبّوا الأسرة الأخرى، وإذا أبغضتْ جارتها انعكس ذلك على الأسرة كلها، فهي تُؤثِّر على زوجها وعلى أولادها في محبة الجيران أو في بُغْضِهم.

وكذلك أسرع انفعالًا، يعني: الهدية تُؤثِّر في المرأة أكثر من الرجل، وإن كان هذا مطلوبًا من الرجل ومن المرأة، فمطلوبٌ التَّهادي بين الجيران ولو بشيءٍ يسيرٍ؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: لا تحقرنَّ جارةٌ لجارتها ولو فِرْسِنَ شاةٍ.

ومعنى الفِرْسِن: حافر الشَّاة الذي يُسمى: الظّلْف.

يعني: حتى لو كانت الهدية بشيءٍ يسيرٍ فلا يُحْتَقر.

فهذا يدل على أنه ينبغي شيوع التَّهادي بين الجيران، والتَّهادي يختلف باختلاف الأزمان والأماكن، فتنظر لما يُحبه جيرانك وتُهدي لهم، فهذا من الإحسان للجار، ويشمل هذا الخطاب الرجال والنساء.

بقي فقط في الحثِّ على الجار حديثان أو بابان نأخذهما -إن شاء الله- بعد الأذان، ثم نجعل بقية الوقت للإجابة عن الأسئلة.

باب: مَن كان يُؤمن بالله واليوم الآخر فلا يُؤْذِ جاره

القارئ: قال رحمه الله:

باب: مَن كان يُؤمن بالله واليوم الآخر فلا يُؤْذِ جاره.
حدثنا قتيبة بن سعيدٍ قال: حدثنا أبو الأحوص، عن أبي حصينٍ، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يُؤْذِ جاره، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فَلْيُكْرِمْ ضيفه، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فَلْيَقُلْ خيرًا أو لِيَصْمُتْ.
حدثنا عبدالله بن يوسف قال: حدثنا الليث قال: حدثني سعيدٌ المَقْبُرِيُّ، عن أبي شُرَيْحٍ العدوي قال: سمعتْ أُذُنَايَ وأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ حين تكلَّم النبي فقال: مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فَلْيُكْرِمْ جاره، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فَلْيُكْرِمْ ضيفه جائزته، قال: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: يومٌ وليلةٌ، والضِّيافة ثلاثة أيامٍ، فما كان وراء ذلك فهو صدقةٌ عليه، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فَلْيَقُلْ خيرًا أو لِيَصْمُتْ.

الشيخ: قال: مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يُؤْذِ جارَه هذا يُؤكد ما ذكرناه قبل قليلٍ من أن أذية الجار مُحرَّمةٌ؛ لأنه رتَّب على ذلك نفي الإيمان.

وشهادة الجار للإنسان لها اعتبارها؛ ولهذا أخرج الإمام أحمد بسندٍ صحيحٍ: أن النبي جاءه رجلٌ فقال: كيف لي أن أعلم إذا أحسنتُ وإذا أسأتُ؟ قال: إذا سمعتَ جيرانك يقولون: قد أحسنتَ، فقد أحسنتَ، وإذا سمعتهم يقولون: قد أسأتَ، فقد أسأتَ [13].

فشهادة الجيران مُعتبرةٌ شرعًا، فالجيران يعرفون أن هذا الرجل -مثلًا- لا تفوته الصلاة مع الجماعة في المسجد، وأنه حسن الخُلُق، كريم التَّعامل، فيشهدون له بأنه قد أحسن.

أو -مثلًا- أنه لا يُصلي، أو تفوته الصلاة كثيرًا، أو أنه سيئ الأخلاق، فيشهدون عليه بالسُّوء.

وإذا تأملتَ هذا وجدتَه دقيقًا، يعني: هذا المعيار، فالجيران إذا كانوا يُثْنُون على إنسانٍ ويشهدون له فهذه شهادةٌ منهم على إحسانه، وهذه الشهادة مُعتبرةٌ شرعًا، وإذا شهدوا على إنسانٍ بالسوء فهذه شهادةٌ مُعتبرةٌ شرعًا.

ثم قال عليه الصلاة والسلام: ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فَلْيُكْرِمْ ضيفه، ثم قال: ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فَلْيَقُلْ خيرًا أو لِيَصْمُتْ.

طيب، سنعود لإكرام الضيف.

مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو لِيَصْمُتْ هذا يدل على أن قول الخير مُقدَّمٌ على الصمت، قول الخير بأن يتكلم بكلامٍ يُفيد الحاضرين، أو على الأقل يتكلم بكلامٍ مُباحٍ لأجل المُباسطة والمُؤانسة، أما إذا كان سيتكلم بكلامٍ مُحرَّمٍ، نقول: لا، الأفضل أن تصمت، ولا تتكلم بكلامٍ مُحرَّمٍ.

وقوله: فَلْيُكْرِمْ ضيفه جاء في حديث أبي شُريحٍ قال: "سمعتْ أُذُنَايَ وأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ"، هذا لتأكيد أنه سمع ذلك من النبي ، قال: مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فَلْيُكْرِمْ جاره، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فَلْيُكْرِمْ ضيفه جائزته.

ثم فسَّر المقصود بجائزته قال: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: يومٌ وليلةٌ، والضِّيافة ثلاثة أيامٍ، فما كان وراء ذلك فهو صدقةٌ عليه، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فَلْيَقُلْ خيرًا أو لِيَصْمُتْ.

الضيافة: الضيف معناه: القادم من خارج البلد الذي ينزل على الإنسان، فضيافته واجبةٌ يومٌ وليلةٌ.

والناس قديمًا ما كانت عندهم فنادق ولا شقق، فكان الإنسان المسافر يأتي وينزل على أحد أهل البلد، فيجب عليه أن يُضَيِّفه يومًا وليلةً، ويُستحب ثلاثة أيامٍ، وما زاد على ذلك فهو صدقةٌ، وكانت هذه من مكارم الأخلاق عند العرب التي أقرَّها الإسلام، لكن الذي يأتيك من داخل البلد لزيارتك هل يُعتبر ضيفًا؟

لا، يُعتبر هذا زائرًا، وليس ضيفًا، إنما الضيف الذي يَقْدُم عليك من خارج البلد، فتجب ضيافته لمدة يومٍ وليلةٍ، بل قال الفقهاء: إن هذا الرجل إذا نزل عليه ضيفٌ ولم يقم بواجب الضيافة، فإنه يأخذ مقدار الضيافة بالقوة عن طريق الحاكم؛ لأن هذا حقٌّ للضيف، يرفع أمره للحاكم، ويأخذ مقدار الضيافة.

كان فيما سبق القضاء سهلٌ، مباشرةً يذهب إلى القاضي ويحكم له مباشرةً، ويُنفَّذ الحكم في ساعةٍ واحدةٍ، لكن هذا يدل على تأكد حقِّ الضيف.

وإكرام الضيف أمرٌ مطلوبٌ شرعًا، وأثنى الله على إبراهيم لمَّا أتته الملائكة على صورة رجالٍ لأول مرةٍ يراهم، ومع ذلك جاء بعجلٍ سمينٍ، وهذا يدل على كرمه، وأثنى الله عليه.

فالكرم أمرٌ محمودٌ شرعًا وعُرْفًا وعقلًا، فهو أمرٌ مطلوبٌ ومحمودٌ.

بقي معنا بابٌ أخيرٌ نختم به.

باب: حقِّ الجِوَار في قُرْب الأبواب

القارئ: قال رحمه الله:

باب: حقِّ الجِوَار في قُرْب الأبواب.
حدثنا حجَّاج بن مِنْهَالٍ قال: حدثنا شعبة قال: أخبرني أبو عمران قال: سمعتُ طلحة، عن عائشة قالت: قلتُ: يا رسول الله، إنَّ لي جارين، فإلى أيِّهما أُهْدِي؟ قال: إلى أقربهما منكِ بابًا.

الشيخ: سبق أن ذكرنا أن القول الراجح في حدِّ الجوار: أن المرجع في ذلك للعُرْف، لكن يتأكد حقُّ الجار الأقرب فالأقرب؛ ولذلك لما سُئل النبي عليه الصلاة والسلام: "إن لي جارين"، سألته عائشة: "إن لي جارين، فإلى أيِّهما أُهْدِي؟" قال: إلى أقربهما منكِ بابًا، فمَن كان أقرب بابًا فهو آكد في الإكرام، وفي الإهداء، كلما كان الجار أقرب كان حقُّه آكد.

قيل: الحكمة في ذلك: أن الأقرب يرى ما يدخل في بيت جاره من هديةٍ وغيرها أكثر من غيره، فيتشوف أكثر من الأبعد.

وقيل: إن الأقرب أسرع إجابةً لما يقع لجاره مما يحتاج إليه من الأبعد.

وقيل غير ذلك، لكن الأقرب آكد حقًّا من الأبعد.

وبهذا نكون قد انتهينا من شرح ما أردنا شرحه من "صحيح البخاري" من "كتاب الأدب"، وبقية الأحاديث لعلها -إن شاء الله تعالى- تكون في دورةٍ قادمةٍ بإذن الله .

إن شاء الله نعدكم بأن نستكمل شرح ما تبقَّى من "كتاب الأدب" في دورةٍ علميةٍ قادمةٍ يُعلن عنها في حينها بإذن الله .

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

الأسئلة

الآن نُجيب عما تيسر من الأسئلة حتى تُقام الصلاة.

هذه بعض الأسئلة من الأخوات:

س: "مَن أحسن إلى هؤلاء البنات بشيءٍ كُنَّ له سترًا من النار"، هل الخطاب للأب أم للوالدين جميعًا؟

ج: الجواب: الخطاب للوالدين جميعًا، بل إن هذه القصة وردتْ في شأن المرأة التي معها ابنتان، فظاهر الحديث: أن المقصود أصلًا هو المرأة، وكذلك الرجل.

س: قالت: ولماذا لا يترتب هذا الأجر عند الإحسان للذكور؟

ج: كذلك الأجر مُترتبٌ عند الإحسان للذكور، لكن لمَّا كان عند أهل الجاهلية أنهم يَئِدُون البنات، ويحتقرون البنات؛ جاء التأكيد على حقِّ البنات أكثر، وإلا فإنه يشمل الذكور والإناث.

س: إذا ترتب على صلة الرحم أذيةٌ، فهل يكفي الدعاء لهم؟

ج: إذا كان الرحم مُؤذيًا يقوم الإنسان بحقِّ الصلة ويُقلل الاحتكاك به، يعني: يُسلِّم عليه، يزوره ولا يُطيل عند الزيارة، ويُقلل الاحتكاك به، لكن هذا لا يكون عذرًا له في ترك الصلة، لكن يقوم بالحدِّ الأدنى من إلقاء السلام عليه، لكن يُخفف العلاقة به أو الاحتكاك به حتى يتحاشى أذيته.

هنا بعض الأسئلة وردتْ في الدرس لا نُكررها: حدود صلة الرحم، ومَن هم الأرحام؟

تكلمنا عن هذا كلامًا مُفصلًا، والدروس مُسجلةٌ عبر (اليوتيوب)، فمَن فاته شيءٌ لعله يرجع للدروس.

س: كيف يصل المرء رحمه البعيد عن بلده؟

ج: في وقتنا الحاضر أصبح التواصل سهلًا عبر الجوال، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، ونحو ذلك، وأيضًا الهدية يمكن أن يُرسلها الآن عبر شركات الشحن، فأصبح التواصل الآن ميسورًا في وقتنا الحاضر أكثر من أي وقتٍ مضى.

س: كيف نُوفِّق بين بِرِّ الوالدين وعدم تضييع الوقت وتعويد النفس على الرخاء، فالأم تريد من البنت الجلوس والتَّحدث لفتراتٍ طويلةٍ، وتعتبر عدم قيامها بذلك عقوقًا؟

ج: النبي وضع ضابطًا فقال: إنما الطاعة في المعروف [14]، فما خرج عن حدود المعروف لا تلزم فيه الطاعة.

فيمكن أن تتلطف هذه المرأة مع أمها، وتحاول أن تَبَرَّ بها وتُحْسِن إليها بقدر ما تستطيع، وتعتذر -مثلًا- إذا كانت تريد وقتًا طويلًا بانشغالها بأمورٍ أخرى، يعني: تتلطف بها، وتتقي الله تعالى ما استطاعتْ.

س: ما حكم التعامل بالعملات الرقمية؟

ج: التعامل بالعملات الرقمية محل خلافٍ بين العلماء المعاصرين، وكنتُ قد توقفتُ فيها بُرْهَةً من الزمن، ثم ظهر لي بعد البحث والمناقشة والاستماع أيضًا للخبراء الماليين أنها إلى الجواز أقرب، فالذي يظهر -والله أعلم- أنها لا بأس بها.

وما ذُكِرَ فيها من التَّغرير لا يُسلم بذلك، فهذا واردٌ على أموالٍ كثيرةٍ، يعني: الأسهم -مثلًا- الأسعار فيها مُتذبذبةٌ، بل إن الأسهم التي ليس فيها حدُّ 10% نزولًا أو صعودًا هي مُقاربةٌ للعملات الرقمية، فهذه كسائر العملات، وكسائر السلع التي يكون فيها تذبذبٌ.

فالذي يظهر -والله أعلم- هو القول بالجواز.

وعلى كل حالٍ الأسبوع القادم -إن شاء الله- دورة مجمع الفقه الإسلامي الدولي، وسيُناقش هذا الموضوع، وسيخرج فيه برأيٍ أيضًا، إن شاء الله تعالى.

س: هل التَّبني يدخل في كفالة اليتيم؟

ج: أولًا: ما المقصود بالتَّبني؟

إذا كان المقصود: أن الإنسان يأخذ طفلًا ويجعله ابنًا له ويُلْحِق نسبه إليه؛ فهذا لا يجوز، هذا أبطله الإسلام، كان موجودًا وأبطله الإسلام، وقال الله: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب:5]؛ فلذلك ينبغي عدم التَّعبير بهذا المصطلح: التَّبني.

لكن إذا كان مقصود الأخ السائل: أن الإنسان يأخذ لقيطًا ويرعاه عنده في البيت، فهذا -كما ذكرنا- أجره أجر كفالة اليتيم.

س: هل تدخل في صلة الرحم: المحارم المُحرَّمة تحريمًا مُؤقتًا حتى وإن انتهى التَّحريم؟

ج: لا تدخل، لكن تُستحب الصلة هنا، ولا تجب.

س: هل الوفاء بالوعد واجبٌ؟

ج: واجبٌ على الإنسان عندما يَعِدُ وعدًا أن ينوي الوفاء.

وبهذا يُعلم أن خُلْفَ الوعد المذموم هو: أن يَعِد وعدًا وفي نيته عدم الوفاء، وهذا من خصال المنافقين: إذا وعد أخلف.

لكن إذا وعد وعدًا ومن نيته الوفاء، ثم لم يَفِ به لأي سببٍ، فلا حرج عليه.

وقد ورد هذا في حديثٍ عند أبي داود وغيره: إذا وعد الرجل أخاه، ‌ومن ‌نيته أن يَفِي له، فلم يَفِ، ولم يجئ للميعاد؛ فلا إثم عليه [15]، وإن كان في سنده ضعفٌ، لكن معناه صحيحٌ.

إذن خُلْف الوعد المذموم: أن يَعِدَ الإنسان وعدًا ومن نيته عدم الوفاء، أما إذا وعد وعدًا ومن نيته الوفاء، ثم حصل له عذرٌ؛ لا يُعتبر هذا من خُلْف الوعد المذموم، بل حتى لو لم يحصل له عذرٌ، تغيَّرت قناعاته، وتغيَّر رأيه، لا يُعتبر من خُلْف الوعد المذموم، إنما خُلْف الوعد المذموم: أن يَعِدَ ومن نيته عدم الوفاء.

س: ذكرتم: أن اليتيم مَن هو دون سنِّ البلوغ وتُوفي أبوه، فإذا بلغ هل ينتفي عنه وصف اليُتْم؟

ج: نعم، إذا بلغ لا يُعتبر يتيمًا، ينتفي عنه ويرتفع عنه وصف اليُتْم.

س: العناية بالقطط بأكلٍ خاصٍّ وعلاجٍ بمبالغ ضخمةٍ في العيادات، هل يُؤْجَر عليه الإنسان؟

ج: هذا أقرب للوزر منه للأجر، اجعل الأموال في بني آدم، هناك فقراء من بني آدم، فقراء مسلمون، ومساكين مسلمون، فما تريد أن تبذله لهذه الحيوانات ابذله لهؤلاء، فهذه حيوانات تكفَّل الله برزقها: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]، لو جعلتها في الشارع رزقها مضمونٌ، تكفَّل الله برزق جميع الدواب: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا؛ فلذلك إنفاق هذه الأموال على هذه القطط ربما يدخل في السّرف، وفي تبذير الأموال، فاجعل ما تبذله لهذه الحيوانات اجعله في صدقةٍ على الفقراء والمساكين والأرامل واليتامى.

س: ما الذي يُعين على قيام الليل؟

ج: الذي يُعين على قيام الليل: أن يهتم الإنسان بقيام الليل، فإذا اهتممتَ بقيام الليل ستقوم الليل.

الإنسان أي شيءٍ يهتم به يُحققه -بإذن الله تعالى- فلو كان عندك اختبارٌ، كنتَ طالبًا وعندك اختبارٌ، تجد أنك تتهيأ وتستعد للاختبار، وتذهب قبل الاختبار بوقتٍ مُبكرٍ؛ لأن الاهتمام عالٍ.

لو كان عندك موعدٌ في المطار، تجد أنك تستعد وتذهب للمطار في وقتٍ مُبكرٍ، وتحتاط للعوارض.

المسألة هي مسألة اهتمامٍ، فمَن اهتمَّ بشيءٍ فإنه -بإذن الله- يُحققه، وسيجد من الوسائل ما يُعينه، لكن المهم هو: أن يكون مستوى الاهتمام كبيرًا.

س: أُعلِّم غيري القرآن مُتطوعًا، فتأتيني من بعض الطلاب هدايا، فهل أردّ الهدية؟ مع العلم بأن تعليمي لا يترتب عليه نجاحٌ ولا رسوبٌ.

ج: ما دام أن هذا التعليم لا يترتب عليه نجاحٌ ولا رسوبٌ فلا بأس بقبول الهدية، وفيها أيضًا جبرٌ لخاطر هذا الطالب، وأيضًا شيوعٌ للمحبة والمودة بين المعلم وطلابه، فلا بأس بقبول هذه الهدية، ولا يتحرج من ذلك.

س: أُعاني من شدة العُجْب بعملي ومحبة الثَّناء عليَّ، وأُجاهد نفسي في الإخلاص والعبادة.

ج: عليك أن تُجاهد نفسك في هذا، وأن الإنسان لا يُعْجَب بعمله؛ لأن هذا العُجْب قد يكون أمارةً على عدم قبول العمل، كما قال ابن القيم وغيره: "من علامة قبول العمل: أن الإنسان يستقلّه ولا يستكثره، ولا يُعْجَب به، ومن علامة عدم قبوله: إعجاب الإنسان بعمله".

فالإنسان مهما عمل من أعمالٍ يرى أنها قليلةٌ، وأيضًا محبة الثناء وطلب الثناء من الناس والتَّشوف لذلك هذا يُنافي الإخلاص.

نعم، لو أنك أخلصتَ لله ، ثم وجدتَ مَن يُثْنِي عليك، هذا من عاجل بُشْرَى المؤمن؛ ولهذا جاء في "صحيح مسلم": أن النبي قيل له: أرأيتَ الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناسُ عليه؟ قال: تلك عاجل بُشْرَى المؤمن [16] يعني: في قول الله : أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ۝ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ۝ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ [يونس:62- 64]، في الآخرة الجنة، لكن ما البُشْرَى في الحياة الدنيا؟

البُشْرى في الحياة الدنيا: ثناء الناس على الإنسان، وحُسن سُمعته وسيرته.

وأيضًا من البُشْرى كذلك: الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرَى له.

فهذه كلها داخلةٌ في البُشْرى، ولا تقدح في الإخلاص.

المهم أنك عندما تعمل عملًا يكون خالصًا لله، لكن تجد ثناءً من الناس بعد ذلك، فهذا لا يضرّ، بل هو من عاجل بُشْرَى المؤمن.

س: أنا طالبٌ في إحدى الجامعات هنا في المملكة، وأحضر -ولله الحمد- الحِلَق والدورات العلمية، فكيف أُواصل طلب العلم عند رجوعي لبلادي؟

ج: في الوقت الحاضر تيسرت مع وسائل التقنية الحديثة، تيسر للإنسان أن يتابع الدروس والحِلَق العلمية والدورات من أي مكانٍ في العالم، فإذا رجعتَ إلى بلدك بإمكانك أن تُواصل هذه الدروس التي تحضرها عبر وسائل التقنية الحديثة، والآن معظم المشايخ الذين يُلقون دروسًا ويُشاركون في دوراتٍ تُبَثّ دروسهم مباشرةً، وأيضًا تُحفظ مُسجَّلةً، فبالإمكان الرجوع إليها.

س: هل يجوز أن تنظر المرأة للرجال؟

ج: نظر المرأة للرجل فيه تفصيلٌ:

إن كان نظر شهوةٍ فإنه لا يجوز؛ لقول الله : وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:31].

أما إذا كان نظرًا بغير شهوةٍ -نظرًا مُجردًا- فلا بأس به؛ لأن نساء الصحابة كُنَّ ينظرن للرجال، وعائشة رضي الله عنها كانت تنظر للحبشة وهم يلعبون في المسجد بالحِرَاب يوم العيد [17]، وقال عليه الصلاة والسلام لفاطمة بنت قيس: اعتَدِّي عند ابن أم مكتوم، فإنه رجلٌ أعمى، تضعين ثيابكِ [18]، مع أنها تراه، إلى غير ذلك من الأحاديث.

فالمرأة إذا نظرتْ للرجل ليس نظر شهوةٍ لا بأس، أما إذا نظرتْ إليه نظر شهوةٍ فلا يجوز.

أما نظر الرجل للمرأة فلا يجوز مطلقًا، لا لشهوةٍ، ولا لغير شهوةٍ؛ لأنه حتى وإن نظر لغير شهوةٍ فإنه مظنةٌ للشهوة، بخلاف المرأة؛ لأن طبيعة المرأة تختلف عن طبيعة الرجل، فشريعة الإسلام راعت اختلاف هذه الطبائع.

س: ما حكم تكرار النظر للمخطوبة؟

ج: النظر للمخطوبة يكون بقدر الحاجة، والنظر للمخطوبة سُنةٌ، وقد أمر النبي بذلك وقال: إنه أحرى أن يُؤْدَم بينكما [19]، فإذا احتيج لتكرار النظر لا بأس.

وأيضًا إذا جاز النظر للمرأة المخطوبة مباشرةً، فيجوز النظر لها عبر الصورة، مع التَّحفظ من أن تنتقل لآخرين، لكن ينظر لها الخاطب فقط.

وتجوز أيضًا المكالمة من باب أولى، إذا جاز النظر جازت المكالمة، لكن كل ذلك بقدر الحاجة.

س: كيف نجمع بين أَبْلِي وأَخْلِقِي مع أن الدعاء بطول العمر ينبغي أن يُقيَّد بالطاعة وحُسن العمل؟

ج: أولًا: الدعاء بطول العمر لا يلزم تقييده بالطاعة؛ لأنه معلومٌ من سياق الدَّاعي أنه يريد ذلك، لكن الأفضل والأكمل تقييده بأن يكون على طاعة الله، وإلا فدعاء النبي عليه الصلاة والسلام لأنسٍ بطول العمر لم يُقيد ذلك بالطاعة، قال: وأَطِلْ عمره، ولم يقل: على طاعة الله.

وهكذا أيضًا في قصة أم خالد قال: أَبْلِي وأَخْلِقِي؛ لعلمه عليه الصلاة والسلام بأنها صحابيةٌ، وإذا طال عمرها سيطول مع حُسن العمل، لكن الأكمل والأحوط هو أن يُقيد ذلك بطاعة الله، فتقول: أطال الله عمرك على طاعته.

س: ما المقصود بـ: الطفل لا عورة له؟

ج: يعني: الطفل الذي هو دون سبع سنين لا عورة له، يعني: يجوز النظر لعورته، ولا يأخذ حكم الكبير؛ ولهذا جاء في بعض الروايات: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يُقبِّل عورة الحسن والحسين وهما أطفالٌ صغارٌ [20]؛ لأنه لا عورة له قبل سنِّ السابعة، يعني: تكون عورته كسائر أعضائه.

س: هل التَّوسل بالأعمال الصالحة ينقص من أجرها؟

ج: الظاهر أنه لا ينقص من أجرها، كما لو توسلتَ إلى الله -مثلًا- بمحبته ومحبة رسوله ، فهذا لا يقدح في الإيمان، ولا ينقص من أجره، وإنما هو توسُّلٌ مشروعٌ.

س: ما حكم صلة الأرحام الذين يفعلون بعض المعاصي في اجتماعاتهم؟

ج: الصلة واجبةٌ، لكن تنصحهم بالطريقة المناسبة التي لا يكون فيها تنفيرٌ.

وأيضًا إذا كنتَ تخشى أو لا يستجيبون لك فتُقلل الاحتكاك بهم مع بذل النَّصيحة.

وهناك قاعدةٌ ذكرها ابن تيمية وغيره، وهي: أن الإنسان قد يُحَبُّ من وجهٍ، ويُبْغَض من وجهٍ، يعني: بعض الناس ما عنده هذا الخيار؛ إما أن يُحب الإنسان حبًّا كاملًا، وإما أن يبغضه بُغْضًا كاملًا.

لا، هناك بعض الناس يمكن أن يُحَبَّ من وجهٍ، ويُبْغَض من وجهٍ، وهذا له نظائر في أمور الحياة، فتُحب هذا الإنسان لكونه مسلمًا، مؤمنًا بالله واليوم الآخر، لكن تبغض ما عنده من المعاصي، وتعامله بناءً على ذلك، وتبذل الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر بحسب استطاعتك.

وهذا -كما ذكرتُ- له نظائر في أمور الحياة، يعني: الدواء الذي يأخذه المريض يُحبه من وجهٍ، ويبغضه من وجهٍ؛ يُحبه لأنه وسيلةٌ للشفاء بإذن الله ، لكنه يبغضه -مثلًا- لمرارته، يعني: هذا الدواء مُرٌّ، كَرِيه الرائحة، فهو يُحبه من وجهٍ، ويبغضه من وجهٍ.

هكذا في علاقة الإنسان مع الآخرين؛ قد يُحب هذا الإنسان من وجهٍ، ويُبغضه من وجهٍ آخر، وهذا لا يُسقط حقّ الصلة إذا كان ممن تجب صلته.

س: حكم الدعاء من الغير والاستغفار كما في قصة أويس، وهل الأفضل تركه؟

ج: بعض أهل العلم قال: إن الأفضل أنك لا تطلب من الآخرين الدعاء. ولكن الأظهر -والله أعلم- أنه ينبغي عدم الإكثار من ذلك، لكن لو فعلتَ ذلك أحيانًا خاصةً ممن تظنه أهلًا للصلاح، ويُرْجَى أن يكون من أولياء الله ، فلا بأس أن تطلب منه الدعاء، بدليل أن النبي أمر عمر إذا لقي أُويس القرني أن يدعو له، فإذا فعلتَ ذلك أحيانًا فلا بأس، لكن لا تُكثر منه.

الأسئلة كثيرةٌ، وما استطعنا أن نُجيب على قدرٍ كبيرٍ من الأسئلة.

س: ذكرتم أن المسلم يُؤجر عند الزرع أو الغرس، كيف يتم الجمع بين ذلك وحديث: إنما الأعمال بالنيات [21]؟

ج: الغرس والزرع لا يُشترط للحصول على الأجر المُترتب على أكل الإنسان أو الطير أو البهيمة، لا تُشترط النية؛ لأن الخير المُترتب على ذلك لا تُشترط له النية، ومثل ذلك أيضًا: الصدقة، ومثل ذلك -كما مرَّ معنا-: العتق، ومثل ذلك: الإحسان للأرامل والمساكين ونحو ذلك، لا تشترط لهذه الأعمال النية، لكن وجود النية يُعظم من الأجر والثواب؛ ولذلك قلنا: إن هذه الأمور حتى الكافر يُثاب عليها، لكن يُثاب ثوابًا في الدنيا.

إذن الغرس والزراعة هذه يُؤجر عليها الإنسان إذا أكل منها طيرٌ أو إنسانٌ أو بهيمةٌ، ولو لم يَنْوِ ذلك المزارع، لكنه إذا نوى كان أجره عند الله أعظم؛ ولذلك ينبغي للمزارع أن ينوي ذلك، وأن ينوي بهذه الزراعة حصول الأجر لما يأكله الإنسان أو البهيمة أو الطير من هذه المزرعة.

لعلنا نختم بهذا السؤال:

س: هل ردّ سباب الوالدين بسباب والديه من المُباحات؟

ج: لا يجوز، حتى لو سبَّ والديك لا تسبَّ والديه، ما ذنب والديه حتى تسبَّهما؟! هما لم يعتديا عليك، لكن يجوز لك أن تسبَّه بمثل ما سبَّك، لو سبَّك أنت يجوز أن تسبَّه، وإن كان الأفضل ترك ذلك، لكن أن تسبَّ والديه، والداه ما ذنبهما حتى تسبَّهما؟!

هما لم يُخطئا عليك، ولم يتعدَّيا عليك، حتى لو قام هو بسبِّ والديك ليس لك أن تسبَّ والديه، مع أن الأفضل ترك السّباب.

والمسلم ينبغي أن يكون عفيف اللسان، والمسلم ليس بالسَّباب، ولا بالطَّعان، ولا بالفاحش، وإنما يختار الطيب من القول، ويُقابل الطبقات غير المُحترمة بالإعراض عنها: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان:63]، وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص:55].

يعني: هذه الطبقات غير المُحترمة التي تستمتع بأذية الآخرين أفضل طريقةٍ للتعامل معها: الإعراض عنها.

يعني: هذا هو الذي ذكره الله تعالى من صفات عباد الرحمن: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا.

لا تُضيِّع وقتك وجهدك وطاقتك في خصومة إنسانٍ غير مُحترمٍ، فوقتك ينبغي أن تَضِنَّ به عن مُخاصمة هذه الطبقات غير المُحترمة، وهذه الطبقات موجودةٌ في كل زمانٍ ومكانٍ؛ ولذلك ينبغي أن يكون عند الإنسان حُسن تعاملٍ مع هذه الطبقات الصعبة غير المُحترمة بعدم الدخول معها في معارك؛ لأنك إذا دخلتَ معها في معارك -أولًا- لا تدري إلى ماذا تنتهي إليه، وفي بعض الأحيان ربما تنتهي لأمورٍ لا تُحْمَد عُقْبَاها من القتل ونحو ذلك.

ثانيًا: أنك تُضيِّع وقتك بهذه المعارك.

ثالثًا: أنك تُضيِّع جهدك وطاقتك، وبدلًا من أن تصرفها في أمورٍ نافعةٍ تصرفها في التَّعارك مع هذه الطبقات غير المُحترمة.

رابعًا: أنت واثقٌ من نفسك، فكون هذا الإنسان -مثلًا- يُسيء إليك وتُعْرِض عنه لن ينقص هذا من قدرك.

ولذلك أحسن وسيلةٍ للتعامل معها هو الإعراض عنها، فضع دائمًا قول الله : وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا، ضَعْهُ دائمًا نُصْبَ عينيك.

ونكتفي بهذا القدر، وإن شاء الله نعدكم بإكمال شرح "كتاب الأدب" من "صحيح البخاري" في دورةٍ علميةٍ قادمةٍ.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

^1 رواه أبو داود: 376، والنسائي: 304.
^2 رواه البخاري: 3، ومسلم: 160.
^3 رواه البخاري: 3820، ومسلم: 2432.
^4 رواه مسلم: 2552.
^5 رواه مسلم: 2983.
^6 رواه البخاري: 3461.
^7 رواه مسلم: 673.
^8 رواه البخاري: 3482، ومسلم: 2242.
^9 رواه مسلم: 285.
^10 رواه البخاري: 2320، ومسلم: 1553.
^11 رواه البخاري: 2072.
^12 رواه أحمد: 8432.
^13 رواه أحمد: 3808.
^14 رواه البخاري: 7145، ومسلم: 1840.
^15 رواه أبو داود: 4995، والترمذي: 2633.
^16 رواه مسلم: 2642.
^17 رواه البخاري: 950، ومسلم: 892.
^18 رواه مسلم: 1480.
^19 رواه الترمذي: 1087 وقال: حسنٌ، وابن ماجه: 1865.
^20 روى البيهقي في "السنن الكبرى": 657 حديث تقبيل النبي عورة الحسن، وروى الطبراني في "المعجم الكبير": 2658 حديث تقبيل النبي عورة الحسين.
^21 رواه البخاري: 1، ومسلم: 1907.
zh