logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح كتاب الأدب من صحيح البخاري/(1) كتاب الأدب- من قوله: "باب: قول الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ}"

(1) كتاب الأدب- من قوله: "باب: قول الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ}"

مشاهدة من الموقع

جدول المحتويات

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه واتَّبع سُنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فحيَّاكم الله تعالى جميعًا في هذه الدورة العلمية المُقامة في هذا المسجد -مسجد الدعوة- في هذا اليوم: السبت العشرين من شهر رجب من عام ألفٍ وأربعمئةٍ وأربعةٍ وأربعين للهجرة.

وأسأل الله تعالى أن يجعل هذا المجلس مجلس ذكرٍ، وأن يجعله مُباركًا.

فضل مجالس العلم

أخبر النبي بأن لله تعالى ملائكةً سيَّارةً تلتمس مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلس ذكرٍ قالوا: هَلُمُّوا إلى حاجتكم، فتجتمع وتَحُفّ بالحضور، وفي آخر الحديث: أن الله يقول لهؤلاء الملائكة السيَّارة: أُشْهِدُكم أني قد غفرتُ لهم، فتقول الملائكة: يا ربّ، فيهم فلانٌ ليس منهم، إنما جاء لحاجةٍ، فيقول الله: هم القوم لا يَشْقَى بهم جليسهم [1].

ومجالس العلم هي من مجالس الذكر؛ ولذلك فإن مجرد حضور هذه المجالس فيه تعرُّضٌ لنفحات الله ومغفرته ورحمته، والملائكة تَحُفُّ الجالسين والحاضرين بالرحمة، حتى إن المغفرة تشمل كل مَن حضر المجلس ولو لم يكن قاصدًا، وهذا ببركة حضور هذه المجالس.

ولهذا ينبغي أن يحرص المسلم عليها، فإننا في هذا الوقت الذي كثُر فيه تعلُّق كثيرٍ من الناس بالحياة المادية يحتاج المسلم إلى مثل هذه المجالس لكي:

  • أولًا: يتقرب بها إلى الله ، ويتعرض لمغفرة الله ونفحاته.
  • ثانيًا: أنه يزداد بها علمًا وتَفَقُّهًا في دين الله ، وقد قال : مَن يُرِد الله به خيرًا يُفقهه في الدين [2].

فالإنسان لا يمكن أن يعبد الله كما يُحب الله إلا عن طريق العلم؛ ولذلك إذا أردتَ أن تتقرب إلى الله أكثر فاحرص على طلب العلم.

وطلب العلم لا يعدله شيءٌ لمَن صَحَّتْ نيته، كما قال الإمام أحمد رحمه الله.

وسُئل الإمام أحمد: كيف ينوي طلب العلم؟ قال: "ينوي رفع الجهل عن نفسه، ورفع الجهل عن غيره".

ولهذا ينبغي -أيها الإخوة- للمسلم أن يحرص على طلب العلم، ولا يُقيِّد ذلك بقيودٍ، فإن بعض الناس يُقيِّد هذا بِسِنٍّ مُعينةٍ، وهذا غير صحيحٍ، فكثيرٌ من الصحابة طلبوا العلم وهم كبارٌ، فلا يتقيد طلب العلم بِسِنٍّ مُعينةٍ، ولا يتقيد أيضًا بمرحلةٍ مُعينةٍ، إنما المسلم مأمورٌ بأن يعبد الله حتى يأتيه اليقين: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]، ولا يمكن أن تعبد الله كما أمر الله إلا عن طريق العلم، فينبغي رفع مستوى الهمة في طلب العلم.

الرحلة في طلب العلم

كان السلف الصالح يرتحلون في سبيل طلب العلم، وجابر بن عبدالله الأنصاري .. وهذه قصةٌ أشار لها البخاري في "صحيحه" تعليقًا، يعني: بصيغة التَّعليق، وأيضًا بصيغة الجزم؛ لأن مُعلَّقات البخاري بصيغة الجزم تأخذ حكم الموصول، فأشار لهذه القصة البخاري: أن جابر بن عبدالله الأنصاري ارتحل من المدينة إلى الشام من أجل سماع حديثٍ واحدٍ فقط، حديثٍ واحدٍ!

وارتحل ليس في سيارةٍ أو طائرةٍ، على بعيره وحده، لم يكن معه أحدٌ، ومكث في رحلة الذهاب شهرًا، وفي الإياب شهرًا، أي: مكث شهرين من أجل سماع حديثٍ واحدٍ فقط!

وقطع في رحلته من المدينة إلى الشام، قطع الصحاري والقِفَار والمفاوز، وتعرَّض لما تعرَّض له من المخاطر حتى وصل إلى عبدالله بن أُنَيس ، فلما رآه عبدالله بن أُنَيس اعتنقه وقال: "ابن عبدالله، ما الذي أتى بك؟" قال: "بلغني أنك سمعتَ من النبي حديثًا، فأردتُ أن أسمعه منك، فإني خشيتُ أن أموت أو تموت ولم أسمعه منك"، فذكر له عبدالله بن أُنَيس الحديث، فلما استمع له جابرٌ رجع، وبقي شهرًا أيضًا في الإياب!

وارتحل أبو أيوب الأنصاري أيضًا من المدينة إلى مصر.

والرحلة في طلب العلم صُنِّفتْ فيها مُصنَّفاتٌ، بل أكثر العلماء السابقين تجد أن في سِيَرهم الرحلة في طلب العلم؛ وهذا لعلمهم بأن طلب العلم أمرٌ عظيمٌ، ومنزلته عليَّةٌ في الشريعة الإسلامية؛ ولهذا ينبغي أن يحرص على مثل هذه المجالس، والحضور أفضل من الاستماع لها عن بُعْدٍ، فإن بعض الناس أيضًا بدأ يتَّكل مع وجود وسائل النقل المباشر والتَّسجيل، لكن نقول: إن الحضور أفضل؛ لأن الذي يحضر يتعرض لنفحات الله ومغفرته، وأيضًا الملائكة تحفُّه بالمجلس، وهذا قدرٌ زائدٌ على مجرد الاستماع لمثل هذه الحِلَق عن بُعْدٍ.

لكن إن لم يتيسر الحضور فلا أقلّ من أن يستمع لها عن بُعْدٍ، وهذه من المظاهر المُشرقة لآلات التقنية الحديثة ووسائل التواصل: أنها يمكن عن طريقها نقل الدروس والمحاضرات والحِلَق ونحو ذلك.

حاجة طالب العلم إلى الأدب

اخترنا في هذه الدورة .. يعني: في الدورات السابقة في السنوات الماضية، في كل سنةٍ نعقد دورةً في مثل هذا الوقت إلا لمَّا أتتْ فقط فترة (كورونا)، لكن ما قبلها كنا نعقد دورةً، وكانت جُلّ تلك الدورات في الأحكام الفقهية، وفي الفرائض، وفي النوازل، وفي المعاملات المعاصرة، لكن هذه المرة أردنا أن تكون هذه الدورة مُرتبطةً بأحاديث "صحيح البخاري"، وفي كتاب "الأدب"؛ وذلك لحاجة طالب العلم إلى ضبط هذه المسائل، وإلى التَّخلق بها في حياته العملية؛ لأنه توجد لدى بعض طلبة العلم أزمة أخلاقٍ، وتظهر هذه الأزمة في بعض وسائل التواصل الاجتماعي وفي غيرها.

لا يتعامل المسلم مع إخوانه المسلمين بأخلاق المؤمنين، يتعامل معهم معاملةً فيها سُوء خُلُقٍ، وقد يصحبها أيضًا سُوء ظنٍّ، وقدحٌ في الأعراض، وتطاولٌ، وقذفٌ، وتصنيفٌ، ونحو ذلك.

هذا -كما ترون- موجودٌ في الساحة، ومن أسباب ذلك: قِلة العناية بمثل هذه المعاني؛ معاني الأدب والأخلاق وتربية طلاب العلم على كريم الخُلُق، وأن يتعاملوا مع المسلمين عمومًا بأخلاق المؤمنين، ومع طلاب العلم خصوصًا بمكارم الأخلاق؛ فلهذا قد تكون قِلة العناية بهذا الجانب من أسباب هذه الأزمة، وإن كانت -ولله الحمد- ليست كبيرةً، لكنها موجودةٌ وواقعةٌ.

والهدم -كما تعلمون- أسهل من البناء، يعني: الهدم يُؤثِّر كثيرًا؛ ولذلك فمثل هذه الإشكالات التي توجد في أخلاق بعض طلبة العلم ينبغي أن تكون هناك عنايةٌ بمُعالجتها، ومن ذلك: تكثيف الدورات والحِلَق في الأدب، وآداب طالب العلم، والنصوص الواردة في الأدب، ونحو ذلك، وإلا إذا كان طالب علم سيِّئ الخُلُق، وكان شرسًا، وكان يتعامل مع الناس بغير أخلاق المؤمنين؛ إذن ما الفائدة من علمه؟! ما الفائدة من هذا العلم؟!

إذا كان رسول الله المُؤيَّد بالوحي ومع ذلك يقول له ربنا: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ أكمل الآية: لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، وهم يعلمون أن ما يقوله رسول الله حقٌّ، بل وحيٌ، ومع ذلك: لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ.

وتأمَّل قوله: لَانْفَضُّوا ليس فقط مجرد ذهابٍ، بل انفضاضٌ؛ لأن هذا أمرٌ فطر الله النفوس عليه، فالناس تنفر من الغليظ، الفَظِّ، القاسي، سيِّئ الخُلُق.

فلا بدَّ -أيها الإخوة- أن يكون طلبة العلم أولى الناس بحُسن الخُلُق وكريم التَّعامل، وأن يتعاملوا مع المسلمين عمومًا بأخلاق المؤمنين: من المحبة، والمودة، وحُسن الظنِّ، والتراحم، والإعذار، والتواضع، والرحمة، ونحو ذلك من المعاني.

ولهذا سنقرأ في هذه الأحاديث شيئًا من وصف الصحابة لخُلُق النبي ، وترى عجيب تعامل النبي مع الطبقات كافةً، حتى مع الأطفال يُلاطفهم ويُمازحهم ويُؤانسهم، بل حتى يُكنِّيهم، وسيأتينا: يا أم خالد، هذا سَنَا [3]، طفلةٌ يقول لها: يا أم خالد، ويا أبا عُمَير، ما فعل النُّغَير؟ [4]، بل كان إذا كلَّمه أحدٌ أنصت إليه بجميع حواسه، حتى إن عمرو بن العاص ظنَّ أنه أحبُّ الناس إليه، فقال: أيُّ الناس أحبّ إليك؟ قال: عائشة، قلتُ: من الرجال؟ قال: أبوها [5]، يعني: من شدة احتفاء النبي به، وكان هذا صنيع النبي   مع جميع الناس.

نبذة عن الإمام البخاري و"صحيحه"

لذلك -أيها الإخوة- في هذه الدورة سيكون التركيز على هذه المعاني، ولكن كتاب "الأدب" أحاديثه كثيرةٌ، لا نستطيع أن نُغطيها في هذه الدورة، فسنقسمها لقسمين، سنأخذ ما تيسَّر في هذه الدورة، والقسم المُتبقي في دورةٍ قادمةٍ -إن شاء الله- لكن الإخوة طبعوا مئة حديثٍ، يعني: احتياطًا.

قبل أن نشرح جميع الأحاديث سنشرح ما تيسَّر منها بحسب ما يتسع الوقت إلى صلاة العشاء، بإذن الله .

وهذه الأحاديث من كتاب "الأدب" من "صحيح البخاري"، و"صحيح البخاري" كتابٌ عجيبٌ، هو أصحُّ كتابٍ بعد القرآن، وجعل الله له ولـ"صحيح مسلم" -جعل الله لهذين الكتابين- القبول، تلقتهما الأُمة بالقبول.

فالأصل أن ما يرد في الصحيحين أنه صحيحٌ إلا أحاديث يسيرةً -خاصةً في "صحيح مسلم"- للعلماء فيها كلامٌ، لكنها قليلةٌ جدًّا.

والبخاري لم يكن عربيًّا، فهو من بلاد بُخارى، ولم يكن في باله أن يُؤلِّف كتاب "الصحيح"، لكن أحيانًا بعض المُبادرات وطرح الأفكار تتسبب في هذه المشاريع العظيمة، فقد طرح شيخه إسحاق بن راهويه في أحد الدروس قال: لو أن أحدكم جمع الصحيح من كلام النبي . فقال البخاري: فوقعتْ هذه الكلمة في نفسي.

كلمةٌ من إسحاق تسببتْ في هذا المشروع العظيم؛ مشروع "صحيح البخاري"، فبدأ من ذلك الحين يُفكر، ثم تحولت الفكرة إلى مشروعٍ، وقام بتأليف هذا الكتاب العظيم "صحيح البخاري".

وكان -رحمه الله- ورعًا تَقِيًّا، حتى إنه يقول: "إني لأرجو أن ألقى الله ولا يُحاسبني أني اغتبتُ أحدًا أبدًا"، يعني: عندما يصل الإنسان لهذه الدرجة من عفَّة اللسان.

علَّق على هذا الحافظ الذهبي فقال: صدق رحمه الله.

يقول: حتى في الجرح والتعديل لا يأتي بعبارةٍ فيها جرحٌ صريحٌ، أحيانًا يأتي بعبارةٍ فيها شيءٌ من الورع، يقول: فيه نظر، فيه كذا.

هذه أخلاق الكبار، وأخلاق المؤمنين، أخلاق الأئمة والعلماء.

وقد ابتُلي رحمه الله وأُوذي في الله ، وقصته معروفةٌ، وسيرته مشهورةٌ، ولكن أبقى الله تعالى ذِكْرَه في هذه الأُمة بتأليفه هذا الكتاب العظيم "صحيح البخاري".

مناهج شرح الأحاديث النبوية

نبتدئ في التعليق أو في شرح هذه الأحاديث، وهناك ثلاثة مناهج:

هناك منهج التَّطويل؛ وهو ألا يُبْقِي الشارح شاردةً ولا واردةً إلا أتى بها، وهذا منهجٌ مُتَّبعٌ، لكن يعيب هذا المنهج أنه سيقتصر على أحاديث قليلةٍ.

يُقابله منهج التَّعليق اليسير؛ مجرد تعليقٍ يسيرٍ على كل حديثٍ، وهذا يستوعب معظم الأحاديث، لكن تفوت طالب العلم بعض الفوائد والتَّعليقات المهمة.

والمنهج الثالث: الوسط؛ أن يكون التعليق مُتوسطًا، فلا يكون طويلًا، ولا يكون قصيرًا، وهذا هو الذي -إن شاء الله- سنتَّبعه: أنه يكون متوسطًا؛ لأن هذا هو الأنفع لطالب العلم، حتى نستطيع أن نأخذ أحاديث كثيرةً، وأيضًا لا تفوتنا أبرز المعاني المهمة المتعلقة بشرح ذلك الحديث، لكن سنسلك هذا المسلك، ولن نشرح الشرح الطويل الذي يستوعب ما قاله أو جُلّ ما قاله الشُّراح؛ لأن هذا سيترتب عليه ألا نأخذ إلا أحاديث قليلةً جدًّا، فسنسلك المسلك الوسط في الشرح.

الأدب مع الخَلْق

قبل أن نبدأ في الأحاديث، المؤلف رحمه الله ابتدأ هذا الكتاب بقوله: "كتاب الأدب"، والأدب يكون مع الله، ويكون مع الخَلْق.

ومُراد المُصنِّف بقوله: "كتاب الأدب" القسم الثاني، أي: الذي يكون مع الخَلْق، وإلا فإن الأدب أيضًا مطلوبٌ مع الله ، لكن أيضًا هو مطلوبٌ مع الخَلْق، ومطلوبٌ مع الناس؛ ولذلك لو أن الإنسان أحسن الشعائر التعبدية فيما بينه وبين الله، وكان كثير الصلاة والزكاة والصدقة والصيام والذِّكْر وسائر الشعائر التعبدية التي بينه وبين الله، لكنه أَخَلَّ بتعامله مع الآخرين، فما الحكم في هذا؟

الحكم في هذا: استمع إلى هذا الحديث العظيم الذي أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" عن أبي هريرة : أن النبي قيل له: يا رسول الله، إن فلانة يُذْكَر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها، غير أنها تُؤذي جيرانها بلسانها. قال: هي في النار، قال: يا رسول الله، فإن فلانة يُذْكَر من قِلة صيامها وصدقتها وصلاتها، وإنها تصدق بالأثوار من الأَقِط، ولا تُؤذي جيرانها بلسانها. قال النبي : هي في الجنة [6].

لاحظوا: الأولى غلَّبتْ جانب الشعائر التعبدية فيما بينها وبين الله، لكن أَخَلَّتْ بجانب العلاقات والتعامل مع الناس، خاصةً مع مَن حقُّه مُتأكدٌ كالجيران، فالنبي  قال: هي في النار، ما دامتْ وصلتْ إلى أذية الجيران فهي في النار.

والثانية عندها توازنٌ، صحيحٌ أنها ليست بكثيرة الصلاة والصيام والصدقة، لكن أيضًا عندها حُسن تعاملٍ مع جيرانها، وإذا أحسنت التعامل مع جيرانها فستُحْسن التعامل مع بقية الناس، فقال النبي : هي في الجنة.

وهذا يُبيِّن لنا أهمية العناية بهذا الجانب؛ لأن بعض الناس يُعْنَى بالشعائر التعبدية فيما بينه وبين الله، فتجد أنه كثير الصلاة، وكثير صيام النافلة، وكثير تلاوة القرآن، وكثير الذكر، وصاحب قيام ليلٍ، لكنه سيِّئ الخُلُق، سيِّئ التعامل مع الآخرين، فهذا عنده خللٌ، ينبغي التوازن.

ينبغي أن يكون المسلم مُتوازنًا، يُحْسِن العلاقة فيما بينه وبين ربه، ويُحْسِن كذلك تعامله مع الآخرين، خاصةً مَن لهم عليه حقٌّ مُتأكدٌ: كجيرانه، وأرحامه الذين تجب صلتهم، وأهله وأسرته، ونحو ذلك.

ارتباط الأدب بالخُلُق

إذن الأدب معناه: استعمال ما يُحْمَد قولًا وفعلًا، وقد يكون مع الله، وقد يكون مع الآخرين.

ومُراد المُصنِّف هنا: الأدب الذي يكون مع الآخرين، مع الناس، وهذا الأدب مُرتبطٌ بالخُلُق.

والخُلُق يُعرِّفه علماء الأخلاق بأنه: هيئةٌ راسخةٌ في النفس تَصْدُر عنها الأفعال بسهولةٍ ويُسْرٍ.

هذا معنى الخُلُق.

تعريف الخُلُق: هيئةٌ راسخةٌ في النفس تَصْدُر عنها الأفعال بسهولةٍ ويُسْرٍ.

يعني مثلًا: الحِلْم، هذه هيئةٌ ترسخ في النفس تَصْدُر عنها الأفعال بسهولةٍ ويُسْرٍ.

يتصرف الحليم بسهولةٍ ويُسْرٍ، يتحكم في تصرفاته، ويتعامل مع الآخرين بحِلْمٍ.

وعكسه الغضب، فالغضب: هيئةٌ راسخةٌ في النفس، لكن تَصْدُر عنها الأفعال -عن هذه الهيئة- فيتصرف تصرفاتٍ غير مناسبةٍ بسبب شدة الغضب.

وهل الخُلُق فطريٌّ أم أنه مُكْتَسَبٌ؟

ما الجواب عن هذا السؤال؟

الأخلاق هل هي فطريةٌ أم مُكْتَسَبةٌ؟

أحد الطلاب: .......

الشيخ: نعم، أحسنتَ، منها ما هو فطري، ومنها ما هو مُكْتَسَب.

فالفطري: أن الإنسان يُفْطَر ويُولَد بأخلاقٍ كريمةٍ: حليمًا، كريمًا، شجاعًا، أو على العكس.

والمُكْتَسَب: أن الإنسان لا يُخْلَق كذلك، لكنه يكتسب الأخلاق الكريمة.

ولهذا في قصة أشجِّ عبدالقيس لمَّا قال له النبي : إن فيك خَصلتين يُحبُّهما الله: الحِلْم والأناة، قال: يا رسول الله، أنا أَتَخَلَّقُ بهما أم الله جَبَلَني عليهما؟ قال: بل الله جَبَلَك عليهما، قال: الحمد لله الذي جَبَلَني على خَلَّتَين يُحبهما الله ورسوله [7].

فقوله: "أنا أَتَخَلَّقُ بهما أم الله جَبَلَني عليهما" دليلٌ على أن الأخلاق منها ما هو جِبِلِّي، ومنها ما هو مُكْتَسَبٌ.

وإذا لم يُرزَق الإنسان الخُلُق الكريم فينبغي أن يسعى لاكتسابه؛ فإن الأخلاق تُكْتَسَب، والحِلْم بالتَّحلم.

يعني مثلًا: إنسانٌ يعرف من نفسه شدة الغضب، وأنه عصبيٌّ بطبعه، يستطيع أن يكون حليمًا ويكتسب صفة الحِلْم لكن بالتَّدريج؛ ولهذا جاء رجلٌ إلى النبي فقال: يا رسول الله، أوصني. قال: لا تغضب، قال: أوصني. قال: لا تغضب، قال: أوصني. قال: لا تغضب، فردَّد مرارًا قال: لا تغضب [8].

قال بعض العلماء: لعلَّ هذا الرجل كان عصبيًّا، وكان سريع الغضب، فأوصاه النبي بترك الغضب، ولولا أن ترك الغضب مُستطاعٌ لما أوصاه النبي بذلك، فكيف يُوصيه بأمرٍ غير ممكنٍ؟!

فبإمكان الإنسان سريع الغضب أن يكون حليمًا، فمثلًا يقول: هذا اليوم من الساعة كذا إلى الساعة كذا -من الرابعة إلى الخامسة- لن أغضب مهما كان السبب. وفي اليوم الثاني يجعلها ساعتين، وفي اليوم الثالث أربع ساعاتٍ، وفي اليوم الرابع خمس ساعاتٍ، وهكذا، سيجد نفسه مع مرور الوقت قد أصبح حليمًا، وهكذا بالنسبة لخُلُق الكرم، وخُلُق الشجاعة، وسائر الأخلاق الكريمة.

إذن الأخلاق كما أنها فِطريةٌ ويُجْبَل الإنسان عليها إلا أنها تُكْتَسَب.

قال: "كتاب الأدب"، ثم ابتدأ المُؤلِّف بالآية والحديث.

نعم، تفضَّل.

القارئ: الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم اغفر لنا، ولشيخنا، ولجميع المؤمنين.

يقول الإمام أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى في كتابه "الجامع المُسند الصحيح المُختصر من أمور رسول الله وسُننه وأيامه":

كتاب الأدب

بسم الله الرحمن الرحيم.
كتاب الأدب.
باب: قول الله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ [العنكبوت:8].
حدثنا أبو الوليد: حدثنا شعبة قال: الوليد بن عَيْزَارٍ أخبرني قال: سمعتُ أبا عمرٍو الشيباني يقول: أخبرنا صاحب هذه الدار -وأومأ بيده إلى دار عبدالله- قال: سألتُ النبي : أيُّ العمل أحبُّ إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قال: ثم أي؟ قال: ثم بِرُّ الوالدين، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قال: حدثني بهنَّ، ولو استزدتُه لزادني.

أحق الناس بالأدب

الشيخ: قال: "كتاب الأدب، باب: قول الله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ"، وجاء في بعض النسخ: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا.

وابتدأ المُصنِّف رحمه الله كتاب "الأدب" بأحقّ الناس بالأدب؛ وهما الوالدان، فابتدأ بذكر الأحاديث الواردة في بِرِّ الوالدين، وبقول الله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا.

وهذه الآية نزلتْ في سعد بن أبي وقاصٍ ، فإنه لما أسلم حلفتْ أُمه ألا تُكلمه، وألا تأكل ولا تشرب حتى يكفر بدينه، وقالت: زعمتَ أن الله وصَّاك بوالديك، وأنا أُمك، وأنا آمرك بهذا [9]. فأبى، فأصبحتْ لا تأكل ولا تشرب، وقالت: حتى أموت فَتُعَيَّر بأمك ويُقال: إن سعدًا قتل أمه!

فقال لها: والله لو كانت لكِ مئة نفسٍ فخرجتْ نفسًا نفسًا ما تركتُ ديني.

فلما يئستْ منه أن يرجع عن دينه مهما بذلتْ من المحاولات كَفَّتْ عنه، وأنزل الله هذه الآية: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا [10]، هذه في سورة العنكبوت.

وفي سورة لقمان: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ۝ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ [لقمان:14- 15].

فأمر الله في التعامل مع الوالدين إذا كانا كافرين بألا يُطيعهما الولد فيما أَمَرَا به من معصية الله، لكن وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا، فأمر الله  بصحبتهما في الدنيا معروفًا.

من أحبِّ الأعمال إلى الله تعالى: الصلاة على وقتها

ثم ساق المُصنِّف حديث ابن مسعودٍ قال: سألتُ النبي : أيّ العمل أحبّ إلى الله؟

وهذا سؤالٌ عظيمٌ من هذا الصحابي الجليل، وهو من علماء الصحابة: أيّ العمل أحبّ إلى الله؟

أنا أريد أن أعرف: ما العبادة التي هي أحبّ العبادات إلى الله؟ والعمل الذي هو أحبّ الأعمال إلى الله ؟

فقال له النبي : الصلاة على وقتها، فبيَّن أن أحبَّ عملٍ إلى الله: الصلاة على وقتها.

وقوله: على وقتها "على" من حروف الاستعلاء، فيكون ذلك يعني: الصلاة في أول وقتها إلا ما دلَّ الدليل على استحباب تأخيره: كصلاة العشاء، فإن صلاة العشاء يُستحب تأخيرها إلى ثلث الليل إن لم يشقَّ ذلك.

ويشمل ذلك أيضًا صلاة النافلة، فالصلاة هي أحبُّ العمل إلى الله؛ لأنها تشتمل على معظم ما يُعظِّم به العبدُ ربَّه، فهي تشتمل على الخضوع لله بالسجود والركوع، وتشتمل على أذكارٍ كثيرةٍ؛ تشتمل على قراءة القرآن، وعلى التَّسبيح والتَّحميد والتَّهليل والتَّكبير والصلاة على النبي والدعاء، فهي صِلةٌ بين العبد وربه، وفيها مُناجاةٌ لله ؛ فلذلك كانت هي أحبّ الأعمال إلى الله.

ولهذا لمَّا قال الله سبحانه: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، قال: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ، ثم ذكر بعد ذلك صفاتٍ: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ۝ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ۝ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المؤمنون:3- 9]، ابتدأ بالصلاة، وختم بالصلاة.

وأيضًا في سورة المعارج: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ۝ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ۝ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ۝ إِلَّا الْمُصَلِّينَ ۝ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ [المعارج:19- 23].

ثم أيضًا ذكر عدة صفاتٍ، ثم قال: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ۝ أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ [المعارج:34- 35].

فتجد العناية العظيمة بالصلاة، كيف أن الله يُكرر ذكرها مرتين؟

ولذلك لمَّا فُرضت الصلاة فُرضتْ على صفةٍ خاصةٍ: عُرِجَ بنبينا محمدٍ حتى جاوز السماء السابعة، وبلغ إلى سِدْرَة المُنْتَهى -إلى أعلى مكانٍ وصله البشر- حتى سمع صوت صَرِير الأقلام بكتابة القدر، وكلَّمه الله مباشرةً، وفرض عليه وعلى أُمته الصلاة خمسين صلاةً في اليوم والليلة.

ثم بعد ذلك قيَّض الله موسى وقال: ما فرض ربك على أُمتك؟ قال: خمسين صلاةً كل يومٍ، قال: إني قد جرَّبتُ الناس قبلك، وعالجتُ بني إسرائيل أشدَّ المُعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التَّخفيف، فَحَطَّ عنه عشرًا، ثم عشرًا، ثم عشرًا، ثم عشرًا، ثم خمسًا، ثم أيضًا في الخمس قال موسى: ارجع إلى ربك فاسأله التَّخفيف، قال: قد رجعتُ إلى ربي حتى استحييتُ منه، فنادى مُنَادٍ: أمضيتُ فريضتي، وخفَّفْتُ عن عبادي [11]، هي خمسٌ في الفعل، خمسون في الميزان.

طيب، كون الصلاة تُفرض خمسين صلاةً في أربعٍ وعشرين ساعةً هذا يدل على محبة الله لهذا النوع من التَّعبد؛ لأن خمسين صلاةً في أربعٍ وعشرين ساعةً تستهلك وقتًا كثيرًا، يعني: لو أنها لم تُخفَّف لكُنَّا تقريبًا كل نصف ساعةٍ نصلي صلاةً تأخذ وقتًا كثيرًا، وهذا يدل على محبة الله لهذه العبادة.

ثم أيضًا لما خُفِّفتْ خُفِّفتْ فقط في الفعل، لكن لم تُخفَّف في الميزان، فهذه الصلوات الخمس التي نُصليها أجرها أجر خمسين صلاةً، ثم يأتي بعد ذلك التَّضعيف: الحسنة بعشر أمثالها إلى أضعافٍ كثيرةٍ.

أرأيتم عظيم عناية الله بالصلاة؟

وهذا لا يُعْلَم له نظيرٌ في سائر العبادات، يعني مثلًا: الزكاة والصيام والحجّ وبقية العبادات تُفرض من الله على نبينا محمدٍ بواسطة جبريل إلا الصلاة فرضها الله تعالى على نبينا محمدٍ وعلى أُمته مباشرةً، وقد كلَّمه الرب ، كلَّم نبينا محمدًا كما كلَّم موسى ، لكن هل رأى النبي ربَّه ليلة المعراج؟

جاء في "صحيح مسلم" عن أبي ذرٍّ قال: سألتُ النبي : هل رأيتَ ربك؟ قال: نورٌ أَنَّى أراه؟ فلم يَرَ الله؛ لأن الإنسان بتكوينه البشري في الدنيا لا يتحمل رؤية الله الذي الأرض قبضته يوم القيامة، والسماوات مطوياتٌ بيمينه، تكاد السماوات يتفطرن -يتشققن- من شدة عظمته، وهيبةً، وفَرَقًا، فكيف يتحمل الإنسان بتكوينه البشري في الدنيا رؤية الله؟!

ما يمكن؛ ولذلك موسى عليه الصلاة والسلام لمَّا قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى مجرد تَجَلٍّ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا [الأعراف:143]، الجبل دُكَّ، فما بالك بالإنسان الضعيف؟!

موسى أيضًا ما تحمَّل الموقف؛ خَرَّ صعقًا، غُشِيَ عليه من شدة الموقف: وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ [الأعراف:143]، لكنَّ الله يُمكِّن المؤمنين في الجنة من رؤيته، والنَّعيم الذي يحصل للمؤمنين برؤية الله أعظم من نعيم الجنة؛ ولهذا يقول : فيكشف الحجاب، فما أُعطوا شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إلى ربهم ​​​​​​​ [12] كما في الصحيح.

فكلَّمه الله مباشرةً، وفرض عليه وعلى أُمته هذه العبادة، فهذه العبادة هي أحب عملٍ إلى الله، أحب عبادةٍ إلى الله؛ ولذلك إذا استطعتَ أن تشغل وقتك بالصلاة فافعل، مثنى، مثنى إلا في أوقات النَّهي.

ونُقِلَ عن الإمام أحمد -وهذا نقله غير واحدٍ في ترجمته- أنه كان يُصلِّي لله في اليوم والليلة ثلاثمئة ركعة تطوعًا من غير الفريضة، لكن لما ابتُلي في المحنة المشهورة، وكان يُضْرَب ضربًا شديدًا حتى يُغْمَى عليه من شدة الضرب، ويسيل ظهره من الدم؛ ضَعُف بدنُه، فأصبح يُصلِّي مئةً وخمسين ركعةً.

وكان الحافظ عبدالغني المقدسي -صاحب "عمدة الأحكام"- يقتدي بالإمام أحمد في هذا، لكن يظهر أنها صلاةٌ خفيفةٌ، كان يُصلِّي ثلاثمئة ركعة في اليوم والليلة؛ لعلمهم بأن الصلاة هي أحبُّ العبادة إلى الله .

ولهذا إذا أتيتَ المسجد الجامع يوم الجمعة، ما أفضل عملٍ تشتغل به؟

الصلاة، تُصلِّي مثنى، مثنى، مثنى إلى وقت النَّهي، يعني: إلى قُبيل الزوال بنحو عشر دقائق تتوقف، يعني: من سبع إلى عشر دقائق، وهذا مأثورٌ عن السلف.

وبعض الناس لا يعرف من الأعمال الصالحة إلا تلاوة القرآن، لكن نقول: ما أجمل أن تجعل تلاوة القرآن داخل الصلاة! ولو أن تقرأ من المصحف لا بأس؛ لأن هذه صلاة نافلةٍ.

من أحبِّ الأعمال إلى الله: بِرُّ الوالدين

إذن أحبُّ العمل وأحبُّ العبادات إلى الله : الصلاة، قال: الصلاة على وقتها، قلتُ: ثم أيّ؟ يعني: بعد الصلاة على وقتها، قال: بِرُّ الوالدين، قلتُ: ثم أيّ؟ قال: الجهاد في سبيل الله.

فقدَّم النبي بِرَّ الوالدين على الجهاد في سبيل الله، مع عظيم شأن الجهاد ومنزلته في الدين، ولكنَّ بِرَّ الوالدين هو -في الحقيقة- نوعٌ من الجهاد، بل جهادٌ عظيمٌ؛ وذلك لأن بِرَّ الوالدين أمرٌ مُتكررٌ، مُستمرٌّ، وقد لا يكون الوالدان كما يريد الابن؛ قد يكون الوالد أو الوالدة -مثلًا- سريع الغضب، وقد يكون سيِّئ الخُلُق، وقد يكون فيه ما فيه، فيحتاج إلى مُجاهدة نفسه للقيام بِبِرِّهما، خاصةً عند الكِبَر، فإن الإنسان عند الكِبَر تضيق نفسه في الغالب، وقد يكون سريع الغضب، وقد لا يتحمل الولد أفعاله، فهو بحاجةٍ إلى الصبر، بل بحاجةٍ إلى جهادٍ.

إذن بِرُّ الوالدين عملٌ عظيمٌ، صالحٌ، مُقدَّمٌ على الجهاد في سبيل الله، مُقدَّمٌ في الفضل والمنزلة.

كيف يكون البِرّ؟

كيف يكون بِرُّ الوالدين؟

بِرُّ الوالدين المرجع فيه للعُرف، وليس هناك شيءٌ مُحددٌ إذا عملتَه نقول: إنك بررتَ بوالديك، وإنما المرجع فيه للعُرف، ويشمل ذلك جميع أنواع الإحسان للوالدين، ومن ذلك: الإحسان إليهما بالمال، والبدن، والخدمة، والكلام الحسن، والدعاء.

أما بالمال: فأن تُساعدهما خاصةً إذا احتاجا؛ ولهذا تعجب من بعض الناس يقول: هل أُعطي والدي أو والدتي زكاة مالي؟

كيف تُعطيه زكاة مالك وهي أوساخ المال؟!

يجب أن تُعطيه من حُرِّ مالك إذا احتاج، وليس من وَسَخ مالك؛ ولهذا لا يُجزئ إعطاء الزكاة للوالدين، بل حتى لو لم يكونا مُحتاجين فينبغي الإحسان إليهما بالمال، بالهدية، والصِّلة، ونحو ذلك.

وأما الإحسان بالبدن فيكون ذلك بالخدمة، وبكل ما يحتاجان إليه.

كذلك أيضًا بالكلام الحسن؛ بالمُخاطبة باحترامٍ وتوقيرٍ، ولا يُخاطبه مُخاطبة النّد للنّد؛ ولذلك حتى الجدل، لا تُجادل والدك، ولا والدتك، هذا يُنافي البِرَّ، والنقاش الحادّ مع الوالدين أيضًا يُنافي البِرَّ.

معاملة الوالدين معاملةً خاصةً لا يكون فيها جدلٌ، ولا يكون فيها نقاشٌ حادٌّ، بل لا يكون فيها أدنى إساءةٍ لهما: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ أدنى كلمة تضجُّرٍ: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا۝ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء:23- 24]، فهذا هو الإحسان بالبدن.

وبالدعاء: وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24]، الدعاء لهما أحياءً وأمواتًا، وأفضل دعوةٍ تدعو بها لوالديك هذا الدعاء المذكور في الآية: رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا.

وبعض الناس يغفل عن هذا المعنى -الدعاء لوالديه- مع أن الله أمر به، وجعله من صور البِرِّ بهما: وَقُلْ يعني: أيها الولد من ابنٍ أو بنتٍ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا.

ولذلك ينبغي كل يومٍ أن تدعو لوالديك، وأفضل ما تدعو لهما به هذا الدعاء المذكور في الآية: رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا حيَّيْن كانا أو ميتَيْن، ومَن يفعل ذلك فلعلَّ الله يُقيِّض له من أولاده مَن يدعو له.

لكن هنا أيضًا مسألةٌ مهمةٌ: هناك مقولةٌ مُشتهرةٌ عند كثيرٍ من الناس: أن مَن بَرَّ والديه بَرَّه أولاده، ومَن عَقَّ والديه عَقَّه أولاده.

هل هذه المقولة صحيحةٌ على إطلاقها؟

ضعف حديث: "بِرُّوا آباءكم تَبَرّكم أبناؤكم"*

"بِرُّوا آباءكم تَبَرّكم أبناؤكم"، هذا ليس حديثًا صحيحًا.

طيب، نجد الواقع خلاف هذا؛ فهناك مَن يَبَرُّ والديه ويَعُقّه أولاده، وهذا نجده في المجتمع.

فهذه المقولة مقولةٌ غير صحيحةٍ؛ لأن الدنيا ليست بدار جزاءٍ، الجزاء في الآخرة، لكن هذه ترد على ألسنة بعض الوعَّاظ من باب الترغيب في بِرِّ الوالدين، لكن بعض الناس يسمع هذا الكلام، ثم يرى العقوق من أولاده فَيُصْدَم.

نقول: هذا لم يرد في كتاب الله، ولا في سُنة رسول الله ، وما يُروى حديثًا: "بِرُّوا آباءكم تَبَرّكم أبناؤكم" هذا ليس حديثًا عن النبي ، ليس حديثًا صحيحًا؛ لأن الدنيا ليست دار جزاءٍ، والدنيا ليست دار عدالةٍ، الدنيا فيها ظالمٌ ومظلومٌ، وقد يموت الظالم وما لقي جزاءه: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [إبراهيم:42].

دار الجزاء ودار العدالة المُطلقة هي الدار الآخرة، فلا يلزم من بِرِّ الإنسان والديه أن يَبَرَّه أولاده، بل نقول: جزاؤك عند الله في الدار الآخرة.

أقول هذا لأن بعض طلبة العلم وبعض الوعَّاظ عندما يعظون الناس ويحثُّونهم على بِرِّ الوالدين يأتون بهذه المقولة، فيأتي مَن يعترض ويقول: ها أنا بارٌّ بوالدي، فلماذا أولادي يعقُّونني؟!

فنقول: هذا لم يرد، لم يرد أن مَن بَرَّ والديه بَرَّه أولاده، هذا كلامٌ يجري ويشتهر على ألسنة بعض الوعَّاظ، لكنه كلامٌ غير صحيحٍ على إطلاقه؛ لأن الدنيا ليست دار جزاءٍ، وليست دار عدالةٍ، إنما مَن بَرَّ والديه فله الأجر من الله ، والتَّوفية إنما تكون في الآخرة: وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185].

التعليق على مقولة: "مَن يَزْنِ يُزْنَ به"

هكذا مقولة بعض الناس: "مَن يَزْنِ يُزْنَ به" هذا غير صحيحٍ، فقد يكون هذا الإنسان فاجرًا، وأهله صالحين، ما ذنبهم حتى يقع الزنا منهم؟! أو العكس.

فهذه المقولات ينبغي أن تُحرَّر، مثل هذه المقولات مقولات غير دقيقةٍ، وإذا أردنا أن نُنفِّر الناس من عقوق الوالدين ومن الزنا نأتي بما ورد في كتاب الله، وفي سُنَّة رسوله ، أما الإتيان بهذه الكلمات فهذه -أولًا- غير صحيحةٍ على إطلاقها، وثانيًا: أن بعض الناس قد يرى في الواقع خلاف ذلك، ويظن أن هذا من كلام الله وكلام رسوله ، فيقع في الشكِّ أو في شيءٍ من هذا القبيل.

ولذلك ينبغي لطالب العلم أن يكون مُحقِّقًا، وأن يحرص على تحقيق كل كلمةٍ وكل مقولةٍ، يسأل عنها: هل وردتْ؟ ما الدليل عليها؟ ما رأي أهل العلم فيها؟

من أحبِّ الأعمال إلى الله: الجهاد في سبيل الله

ثم قال: الجهاد في سبيل الله، الجهاد في سبيله هو ذُرْوَة سَنَام الإسلام، والجهاد في سبيله كما يكون بالسلاح يكون كذلك بالدعوة، فإن جهاد الدعوة هو الأصل، بل إنَّ جهاد السلاح ما شُرِعَ أصلًا إلا لنشر الدعوة إلى الله ؛ ولذلك لو أن الأعداء لم يقفوا في طريق الدعوة لم يَجُز قتالهم، لو أنهم لم يقفوا في طريق الدعوة وبذلوا الجزية لم يَجُز قتالهم أصلًا، فجهاد الدعوة هو الأصل، ومن ذلك: الجهاد بتعليم القرآن، فإن الله تعالى يقول: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ يعني: بالقرآن جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان:52].

قال: "ولو استزدتُه"، قال: "حدَّثني بهنَّ ولو استزدتُه لزادني"، يعني: لعلمه بحرص النبي على بذل العلم وإبلاغ الرسالة، لكنه لم يستزده، لعلَّ ذلك لعلمه بأن الحال غير مُناسبٍ، ولكل مقامٍ مقالٌ، فاكتفى بذلك.

وأيضًا من فوائد هذا الحديث: تفاضُل الأعمال، وأنها تتفاوت في محبة الله .

ومن فوائد هذا الحديث أيضًا: إثبات صفة المحبة لله ، وهي من الصفات الفعلية، وهي صفةٌ حقيقيةٌ على الوجه اللائق بالله ، وقد أنكرتها بعض الطوائف وتأوَّلوها وقالوا: إن المحبة هي إرادة الإحسان.

وهذا كلامٌ باطلٌ، بل إن المحبة صفةٌ حقيقيةٌ نُثْبِتها لله كسائر صفاته جلَّ وعلا، نعم.

باب: مَن أحقُّ الناس بِحُسْن الصُّحْبَة؟

القارئ: أحسن الله إليكم، قال رحمه الله:

باب: مَن أحقُّ الناس بِحُسْن الصُّحْبَة؟
حدثنا قتيبة بن سعيدٍ قال: حدثنا جريرٌ، عن عُمارة بن القَعْقَاع بن شُبْرُمَة، عن أبي زُرْعَة، عن أبي هريرة قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، مَن أحقُّ بِحُسْن صحابتي؟ قال: أُمُّك، قال: ثم مَن؟ قال: أُمُّك، قال: ثم مَن؟ قال: أُمُّك، قال: ثم مَن؟ قال: ثم أبوك.
وقال ابن شُبْرُمَة ويحيى بن أيوب: حدثنا أبو زُرْعَة .. مثله.

الشيخ: نعم، هذا الحديث في بيان مَن أحقُّ الناس بحُسن الصُّحبة، وقد بيَّن فيه النبي عظيم حقِّ الأم، وأن حقَّ الأم أعظم من حقِّ الأب؛ ولهذا جعل للأم ثلاثة حقوقٍ، وللأب حقًّا واحدًا.

قال: "مَن أحقُّ الناس بِحُسْن صحابتي؟"، وفي روايةٍ: "مَن أحقُّ الناس بِحُسْن صُحْبَتي؟"، وهما بمعنًى واحدٍ، وإنما كان حقُّ الأم آكد من حقِّ الأب؛ لأن الأم تتحمل من المشاقِّ أكثر من الأب، فإن الأم هي التي تحمل هذا الولد من ابنٍ أو بنتٍ، وتُعاني ما تُعاني من الحمل وصعوبته، فإن له ثِقَلًا وشدةً كما قال الله تعالى: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا، ثم تُعاني مُعاناةً شديدةً عند وضعه: وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا [الأحقاف:15]، ويُقال: إن أشدَّ ألمٍ يأتي الإنسان هو ألم المرأة حينما تلد.

ثم بعد وضعه كذلك إرضاعه وحضانته والقيام عليه، فهي تقوم بمهامّ أصعب من الأب؛ ولذلك كان حقُّ الأم آكد من حقِّ الأب، كما قال سبحانه: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [لقمان:14]، فَسَوَّى الله تعالى بينهما في الوصاية: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ، لكنه خصَّ الأم بمزيدٍ من الحقِّ فقال: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ.

يُروى أن أبا الأسود الدُّؤلي تنازع مع امرأته في ابنٍ لهما، فأتت امرأتُه إلى والي البصرة -يُقال له: زياد- فقالت: أصلح الله الأمير، هذا الابن بطني وعاؤه، وحجري فناؤه، وثديي سقاؤه، أَكْلَؤُه إذا نام، وأحفظه إذا قام، فلم أزل بذلك سبعة أعوام، حتى إذا استوفى فصاله، وكملتْ خصاله، وأَمَّلْتُ نفعه، ورجوتُ رفعه؛ أراد أن يأخذه مني كرهًا.

هي طبعًا امرأةُ رجلٍ أديبٍ وضليعٍ في اللغة: أبي الأسود الدُّؤلي، فلعلها تأثرتْ بهذا الجو فأتتْ بهذا الكلام البليغ.

فردَّ عليها أبو الأسود الدُّؤلي بكلامٍ مسجوعٍ أيضًا فقال: أصلح الله الأمير، هذا ابني، حملتُه قبل أن تحمله، ووضعتُه قبل أن تضعه.

وأراد أن يسترسل في الكلام، فقال الأمير: دَعْكَ من هذا السَّجع، ورُدَّ عليها الابن.

وهذه من اللطائف التي ذكرها بعض الشُّراح.

والأم أحقُّ بابنها إلى سبع سنوات، هي الأحقُّ: أنتِ أحقُّ به ما لم تَنْكِحي [13]، ما لم تتزوج.

أما بعد بلوغ سبع سنوات فيكون عند الأصلح من الأب أو الأم، فإن تساويا في الصلاح فَيُخَيَّر الابن.

وأما البنت فمحل خلافٍ بين الفقهاء، والراجح أنها تكون عند الأم، كما رجَّح ذلك ابن القيم.

ونظام الأحوال الشخصية اعتمد أيضًا هذا القول، وهو المُرجَّح عند كثيرٍ من المُحققين، بخلاف المذهب المشهور: أنها تكون عند الأب.

إذن حقُّ الأم -كما ذكرنا- آكد من حقِّ الأب، لكن إذا تعارض حقُّ الأم والأب، هل يُقدّم حقّ الأم أم الأب؟

أولًا: إذا أمكن الجمع بينهما فيُجمع.

أما إذا لم يمكن الجمع فمن العلماء مَن قال: إن حقَّ الأم مُقدَّمٌ مطلقًا.

ومنهم مَن قال: إن حقَّ الأب مُقدَّمٌ مطلقًا.

والقول الراجح المُختار عند كثيرٍ من المُحققين هو التَّفصيل: فإن كانت الأم ليست في حِبَال الأب بأن كانت مُطلقةً، فحقُّ الأم آكد، فلو أمره أبوه بأمرٍ، وأمه بأمرٍ، يُقدّم أمر الأم؛ لأن الأم حقّها آكد.

أما إذا كانت الأم في حِبَال أبيه فهي زوجته؛ فإن حقَّ الأب مُقدَّمٌ على حقِّ الأم، لماذا؟

لأن الأم مأمورةٌ بطاعة زوجها الذي هو الأب، فمن باب أولى أن ما تأمر به تبعٌ لأمره، فهي أصلًا مأمورةٌ بطاعة زوجها، فما تأمر به تبعٌ لأمر زوجها الذي هو الأب.

إذن إذا كانت الأم في حِبَال الأب فيُقدَّم أمر الأب على أمر الأم، أما إذا لم تكن في حِبَاله فالأم مُقدَّمٌ أمرها على أمر الأب.

هذا هو القول الراجح المُختار عند كثيرٍ من المُحققين من أهل العلم، وهذه مسألةٌ مهمةٌ؛ لأنه أحيانًا يقع السؤال عنها من بعض الناس، يقول: أبي يأمرني بأمرٍ، وأمي تأمرني بأمرٍ آخر، أيُّهما أُقدِّم؟

إذا لم تكن الأم في حِبَال الأب فيُقدَّم أمر الأم، لكن إذا كانت الأم في حِبَال الأب فيُقدَّم أمر الأب.

قال: ثم مَن؟ قال: ثم أبوك إذن الأم لها ثلاثة حقوقٍ، والأب له حقٌّ واحدٌ، ومطلوبٌ من الابن أن يَبَرَّهما جميعًا، لكن الأم -كما ذكرنا- تختص بزيادة البِرِّ.

باب: لا يُجاهد إلا بإذن الأبوين

القارئ: قال رحمه الله:

بابٌ: لا يُجاهد إلا بإذن الأبوين.
حدثنا مُسَدَّدٌ قال: حدثنا يحيى، عن سفيان وشعبة قالا: حدثنا حبيبٌ. ح، قال: وحدثنا محمد بن كثيرٍ قال: أخبرنا سفيان، عن حبيبٍ، عن أبي العبَّاس، عن عبدالله بن عمرٍو قال: قال رجلٌ للنبي : أُجاهد؟ قال: لك أبوان؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد.

الشيخ: نعم، دَلَّ هذا الحديث على أن بِرَّ الوالدين مُقدَّمٌ على الجهاد في سبيل الله، وأنه لا يجوز الذهاب للجهاد في سبيل الله إلا بإذن الوالدين؛ ولهذا لمَّا أتى هذا الرجل يستأذن النبيَّ في الجهاد قال: لك أبوان؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد؛ لأن بِرَّ الوالدين -كما ذكرنا- نوعٌ من الجهاد في سبيل الله، ولكن هذا محمولٌ عند أهل العلم على ما إذا كان الجهاد فرض كفايةٍ، وهو الأصل.

أما لو كان فرض عينٍ فلا يلزم الإذن -إذن الوالدين- فيما لو كان فرض عينٍ، كما لو حاصر العدو البلد ونحو ذلك.

وفي قوله: ففيهما فجاهد إشارةٌ لما ذكرنا من المعنى: من أن بِرَّ الوالدين نوعٌ من الجهاد في سبيل الله؛ وذلك لأن بِرَّ الوالدين أمرٌ مُستمرٌّ ومُتكررٌ، فيحتاج إلى جهادٍ عظيمٍ من الإنسان لنفسه حتى يقوم بِبِرِّه بوالديه.

س: .......؟

ج: المقصود البلد التي يُقيم فيها فقط، ثم البلد التي بعدها، وهكذا، على ما ذكره الفقهاء.

بابٌ: لا يَسُبُّ الرجلُ والديه

القارئ: قال رحمه الله:

بابٌ: لا يَسُبُّ الرجلُ والديه.
حدثنا أحمد بن يونس قال: حدثنا إبراهيم بن سعدٍ، عن أبيه، عن حُميد بن عبدالرحمن، عن عبدالله بن عمرٍو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : إنَّ من أكبر الكبائر أن يلعن الرجلُ والديه، قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجلُ والديه؟! قال: يَسُبُّ الرجلُ أبا الرجل؛ فَيَسُبّ أباه ويَسُبّ أُمَّه.
الشيخ: نعم: إنَّ من أكبر الكبائر أن يلعن الرجلُ والديه، إذا كان اللعن مُباشرًا فهذا لا شكَّ أنه من أكبر الكبائر، ولكن هذا يأباه الطَّبع السَّليم والفطرة: أن الإنسان يَسُبُّ والديه مُباشرةً؛ ولهذا استغرب الصحابة فقالوا: يا رسول الله، كيف يلعن الرجل والديه؟! فقال عليه الصلاة والسلام: يَسُبُّ الرجلُ أبا الرجل؛ فَيَسُبّ أباه ويَسُبّ أُمَّه، أي: أنه يتسبَّب في سَبِّ والديه بسبِّه لوالِدَيْ إنسانٍ آخر.
فإذا سَبَّ إنسانٌ والِدَيْ إنسانٍ، فقام هذا الذي سُبَّ وسَبَّ الذي سَبَّه، فيكون هذا قد تسبَّب في سَبِّ والِدَيْه، كأنه هو الذي سَبَّ والِدَيْه، مع أن مُقابلة السّباب بمثله الأصل فيها الجواز، وإن كان الأفضل ألا يفعل ذلك؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: المُسْتَبَّانِ ما قالا فعلى البَادِئ يعني: الإثم كله على البادئ، أما الذي بُدِئَ فما عليه إثمٌ: ما لم يَعْتَدِ المظلوم [14].
فلو أن أحدًا سبَّك يجوز لك أن تسبَّه بمثل ما سبَّك، لكن لا تزيد، لا تسبّه وتسبّ والِدَيْه، هذا هو الاعتداء، لكن وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40]، لكن لو سبَّك لا تسبَّ والِدَيْه؛ لأنك لو سبَبْتَ والِدَيْه فسيَسُبّ والِدَيْك، فتتسبَّب أنت في سبِّك لوالديك.

هذا الحديث أصلٌ في سَدِّ الذَّرائع

قال ابن بطالٍ رحمه الله .. أحد شُرَّاح البخاري، وكثيرًا ما ينقل منه الحافظ ابن حجر، بل معظم شرح ابن بطال منقولٌ بنصِّه في "فتح الباري"، فلو قارنتَ بين الشرحين تجد معظم ما ذكره ابن بطال ينقله ابن حجر.

قال ابن بطالٍ رحمه الله: "هذا الحديث أصلٌ في سدِّ الذَّرائع، ويُؤخذ منه أن مَن آل فعله إلى مُحرَّمٍ يَحْرُم عليه ذلك الفعل، وإن لم يقصد ذلك المُحرَّم".

سَدَّ الذَّرائع قاعدةٌ مُعتبرةٌ عند أهل العلم، وأكثر مَن يُعْمِل هذه القاعدة من المذاهب الفقهية: المالكية، ثم الحنابلة.

ووجه كون هذا الحديث أصلًا في قاعدة سَدِّ الذَّرائع: أن النبي نهى عن أن يَسُبَّ الإنسان والِدَيْ إنسانٍ؛ حتى لا يسبّ ذلك الشخص والِدَيْه، فيكون قد تسبَّب في سبِّه لوالديه.

ومن ذلك أيضًا قول الله تعالى: وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108]، مع أن الأصل في سَبِّ آلهة المشركين أنها جائزةٌ، لكن لمَّا كان ذلك يتسبب في سَبِّ الله كان ممنوعًا منه.

وهكذا أيضًا كل فعلٍ يُفْضِي إلى مفسدةٍ، فينبغي أن يُسدَّ ذلك الباب.

فلو أن إنسانًا -مثلًا- أراد أن يفعل فعلًا، لكن هذا الفعل يتسبب في تشويه الإسلام، هنا يتركه إذا كان في هذا تشويهٌ، حتى لو كان الفعل الذي يريد أن يفعله أمرًا مُباحًا، لكن إذا كان يتسبب في التَّنفير وفي تشويه الإسلام، فكل أمرٍ يتسبب في أمرٍ مُحرَّمٍ يجب تركه.

وجعل النبي هذا الأمر من أكبر الكبائر، قال: من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، جعله من أكبر الكبائر.

ومن فوائد هذا الحديث: أن للمُتسبب حكم المُباشر؛ ولهذا جعل النبي هذا الرجل سابًّا لوالديه، مع أنه لم يسبّهما حقيقةً، لكنه تسبَّب في سبِّهما، فالمُتسبب له حكم المُباشر.

ولذلك مَن تسبَّب في هداية غيره كان له مثل أجره، ومَن تسبَّب في ضلال غيره كان عليه مثل وزره، يقول : مَن دعا إلى هدًى كان له من الأجر مثل أجور مَن تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومَن دعا إلى ضلالةٍ كان عليه من الإثم مثل آثام مَن تبعه [15].

فلو أنه أسلم على يدك رجلٌ واحدٌ فقط -شخصٌ واحدٌ- يكون لك مثل أجر صلاته وزكاته وصيامه وحجِّه وجميع أعماله الصالحة.

انظر إلى فضل الدعوة إلى الله تعالى: إلى أن يموت يكون لك مثل أجوره وأعماله الصالحة تمامًا، وهذا فضلٌ عظيمٌ، هذا ليس له نظيرٌ؛ ولهذا قال : وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ [فصلت:33]، ليس هناك أحدٌ أحسن منه، وهكذا لو تسبَّبتَ أيضًا في هداية إنسانٍ يكون لك مثل أجوره.

وفي المقابل مَن تسبَّب في ضلالةٍ -نسأل الله العافية- يكون عليه من الآثام والأوزار مثل أوزار مَن تبعه؛ ولهذا قال لما أُرِيَ الجنة والنار: رأيتُ عمرو بن لُحَيٍّ يَجُرُّ قُصْبَه في النار [16].

عمرو بن لُحَيٍّ هو أول مَن سيَّب السَّوائب، أول مَن جلب الأصنام لمكة.

كان الناس في مكة على دين إبراهيم، فذهب للشام ورأى الناس يعبدون الأصنام، فجلب الأصنام لمكة، فتسبَّب في انتشار عبادة الأصنام في مكة، فكان إثمه عند الله عظيمًا، ورآه النبي يَجُرُّ أمعاءه -قُصْبَه- في النار.

إذن مَن تسبَّب في خيرٍ كان له من الأجر مثل أجور مَن تبعه، ومَن تسبَّب في ضلالٍ كان عليه من الأوزار مثل أوزار مَن تبعه.

وعلى المسلم أن يحرص على أن يتسبَّب في هداية غيره، بل حتى في مجرد الدلالة، فالدلالة على الخير يكون لك بها مثل أجر مَن فعل ذلك الخير؛ جاء في "صحيح مسلم": أن النبي قال: مَن دلَّ على خيرٍ فله مثلُ أجر فاعله [17].

لو دَلَلْتَ إنسانًا على أي خيرٍ -دَلَلْتَ مثلًا على مثل هذا المجلس- يكون لك مثل أجره، دَلَلْتَه على صيام نافلةٍ يكون لك مثل أجره، أو دَلَلْتَه على ذِكْرٍ يكون لك مثل أجره.

والدلالة لا يلزم أن تكون دلالةً مُباشرةً، حتى لو أرسلتَ له -مثلًا- مقطعًا فيه دعوةٌ إلى عملٍ صالحٍ، فقام وعمل ذلك العمل الصالح بسبب المقطع يكون لك مثل أجره: مَن دلَّ على خيرٍ فله مثل أجر فاعله.

باب: إجابة دعاء مَن بَرَّ والديه

القارئ: قال رحمه الله:

باب: إجابة دعاء مَن بَرَّ والديه.

قصة أصحاب الصخرة

حدثنا سعيد ابن أبي مريم قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة قال: أخبرني نافعٌ، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله قال: بينما ثلاثة نَفَرٍ يَتَمَاشَوْن أخذهم المطرُ؛ فَمَالُوا إلى غارٍ في الجبل، فَانْحَطَّتْ على فم غارهم صخرةٌ من الجبل فَأَطْبَقَتْ عليهم، فقال بعضهم لبعضٍ: انظروا أعمالًا عملتُموها لله صالحةً، فَادْعُوا الله بها؛ لعله يَفْرُجُها.
فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، ولي صِبْيَةٌ صغارٌ، كنتُ أرعى عليهم، فإذا رُحْتُ عليهم فحلبتُ بدأتُ بوالدي أسقيهما قبل ولدي، وإنه نَأَى بي الشجر يومًا، فما أتيتُ حتى أمسيتُ، فوجدتُهما قد ناما، فحلبتُ كما كنتُ أحلب، فجئتُ بالحِلَاب، فقمتُ عند رؤوسهما، أكره أن أُوقِظَهما من نومهما، وأكره أن أبدأ بالصِّبْيَة قبلهما، والصِّبْيَة يَتَضَاغَون عند قدمي، فلم يزل ذلك دَأْبِي ودَأْبَهم حتى طلع الفجرُ، فإنْ كنتَ تعلم أنِّي فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فَافْرُجْ لنا فرجةً نرى منها السماء.
فَفَرَجَ الله لهم فرجةً حتى يرون منها السماء.
وقال الثاني: اللهم إنه كانت لي ابنة عمٍّ أُحِبُّها كأشدِّ ما يُحِبُّ الرجالُ النساءَ، فطلبتُ إليها نفسها، فَأَبَتْ حتى آتيها بمئة دينارٍ، فَسَعَيْتُ حتى جمعتُ مئة دينارٍ، فَلَقِيتُها بها، فلمَّا قعدتُ بين رجليها قالت: يا عبدالله، اتَّقِ الله، ولا تفتح الخاتم. فقمتُ عنها، اللهم فإنْ كنتَ تعلم أنِّي قد فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فَافْرُجْ لنا منها. فَفَرَجَ لهم فرجةً.
وقال الآخر: اللهم إني كنتُ استأجرتُ أجيرًا بِفَرَقِ أَرُزٍّ، فلما قضى عمله قال: أعطني حقِّي. فعرضتُ عليه حقَّه فتركه ورَغِبَ عنه، فلم أزل أزرعه حتى جمعتُ منه بقرًا وراعيها، فجاءني فقال: اتَّقِ الله، ولا تظلمني، وأعطني حقِّي. فقلتُ: اذهب إلى تلك البقر وراعيها. فقال: اتَّقِ الله، ولا تَهْزَأ بي. فقلتُ: إني لا أَهْزَأُ بك، فَخُذْ تلك البقر وراعيها. فأخذه، فانطلق بها، فإنْ كنتَ تعلم أني فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فَافْرُجْ ما بقي. ففرج الله عنهم
.

الشيخ: هذه قصةٌ عظيمةٌ -قصة أصحاب الصخرة- وقد قصَّها علينا النبي لأجل أن نأخذ الدروس والعِبَر والفوائد منها، وهي أيضًا قد رواها مسلمٌ في "صحيحه"، فهي بالصحيحين.

وبوَّب المُصنِّف على هذه القصة، مع أنه ذكرها في مواضع، لكن بوَّب عليها هنا قال: "باب: إجابة دعاء مَن بَرَّ والديه"، وأخذ هذا من أن أحد هؤلاء الثلاثة بَرَّ والديه بِرًّا عظيمًا، ودعا الله بأن تنفرج عنهم هذه الصخرة، فانفرجتْ قليلًا، فاستُجيبتْ دعوته بسبب بِرِّه بوالديه.

فدلَّ هذا على أن بِرَّ الوالدين من أسباب إجابة الدعاء، وهؤلاء الثلاثة انطبقتْ عليهم الصخرة في هذا الغار الذي دخلوه، فقالوا: إنه لن يُنجيكم إلا أن تتوسلوا إلى الله تعالى بصالح أعمالكم. يعني: بخبيئة عملٍ صالحٍ.

وهذا يدل على أن الإنسان ينبغي أن تكون له خبيئة أعمالٍ صالحةٍ يتوسل بها إلى الله، خاصةً عندما يقع في كُرْبَةٍ.

إذا وقعتَ في كُرْبَةٍ فانظر وابحث عن أعمالٍ صالحةٍ خبيئةٍ فيما بينك وبين الله وتوسَّل إلى الله تعالى بها كما فعل هؤلاء الثلاثة، فتقول: اللهم إني فعلتُ كذا وكذا، إن كان ذلك ابتغاء وجهك فافرج عني ما أنا فيه من الكُرْبَة.

ففي الغالب أن الإنسان تُفْرَج كُرْبَته إذا توسَّل إلى الله بذلك، لكن لا بد أن تكون خبيئة عملٍ صالحٍ عظيمٍ، كما فعل هؤلاء الثلاثة.

التوسل بِبِرِّ  الوالدين

أما الأول فضرب مثلًا عظيمًا في بِرِّه بوالديه إلى هذه الدرجة: أنه يأتي لهما بِغَبُوقهما، يعني: بالحليب، ويُقدِّمهما على أهله، وعلى أولاده.

وذات مرةٍ تأخَّر، نَأَى به طلب الشجر، فأتى ووجد والديه قد ناما، وعنده أطفاله يصيحون يريدون أن يشربوا من هذا الحليب، وكره أن يُوقظ والديه من عظيم بِرِّه بهما، فظلَّ قائمًا على رأسيهما، والغَبُوق بيده، وأطفاله يصيحون.

يعني: ضغطًا نفسيًّا شديدًا عليه؛ هؤلاء الأطفال يريدون هذا الحليب، وهو لا يريد أن يُوقظ والديه، فبقي قائمًا طوال الليل وبيده هذا الحليب في إناءٍ، والأطفال يصيحون، إلى أن طلع الفجر؛ فاستيقظ والداه، فشربا هذا الحليب.

يعني: هذا الرجل ضرب مثلًا عظيمًا في بِرِّه بوالديه إلى هذه الدرجة، فتوسل إلى الله بذلك؛ فانفرجت الصخرة قليلًا، غير أنهم لا يستطيعون الخروج، فدلَّ هذا على أن بِرَّ الوالدين من أسباب تفريج الكُربات، وأن بِرَّ والديك -كما قال البخاري في الترجمة هنا- من أسباب إجابة الدعاء.

وأيضًا في قصة التابعي الجليل أُويس القَرَني، فإن النبي قال: يأتي عليكم أُويس .. له والدةٌ هو بها بَرٌّ .. فإن استطعتَ أن يستغفر لك فافعل، فكان عمر كلما أتى وفدٌ من اليمن سأل: هل فيكم أُويس؟ هل فيكم أُويس؟ حتى وجد أُويسًا وطلب منه أن يستغفر له، وقال: أين تريد؟ قال: الكوفة. قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غَبْرَاء الناس أحبّ إليَّ [18].

الشاهد: أن النبي ذكر أنه مُستجاب الدعوة بسبب بِرِّه بأُمه.

إذن بِرُّ الوالدين من أسباب إجابة الدعاء، ومن أسباب تفريج الكُربات.

التوسل إلى الله بالابتعاد عن الفاحشة مع تهيُّئ أسبابها

أما الثاني فتوسل إلى الله بعفته عن الزنا مع قُدرته عليه، فكان له ابنة عمٍّ يُحبها حبًّا شديدًا: "كأشدِّ ما يُحب الرجال النساء"، فأرادها عن نفسها فَأَبَتْ، حتى أَلَمَّتْ بها سَنَةٌ، يعني: فقرًا وشدةً، فوافقتْ لأجل الحاجة، فأعطاها مئة دينارٍ، لكن لما قعد بين رجليها وعظته موعظةً عظيمةً، وكان الرجل صالحًا، لكن غلبته الشهوة، قالت: يا عبدالله، اتَّقِ الله، ولا تفتح الخاتم، فوقعتْ هذه الكلمة في قلبه، فقام عنها، وترك المال الذي أعطاها إياه، فقال: اللهم فإنْ كنتَ تعلم أنِّي قد فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فَافْرُجْ لنا منها. فَفَرَجَ لهم فرجةً.

إذن توسَّل إلى الله بهذا العمل الصالح: بعفته عن الزنا مع تهيُّئ أسبابه؛ ولذلك ذكر النبي أن من السبعة الذين يُظلهم الله تحت ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظله، ذَكَرَ منهم: ورجلٌ دَعَتْهُ امرأةٌ ذات منصبٍ وجمالٍ فقال: إني أخاف الله [19].

فعندما تتهيأ أسباب الفاحشة ويتركها الإنسان خوفًا من الله ، فهذا عملٌ صالحٌ عظيمٌ، وهو من أسباب تفريج الكُربات، ومن أسباب أن يكون الإنسان مع الذين يُظلهم الله تحت ظله يوم لا ظلَّ إلا ظله، كما حصل ليوسف ؛ فإن يوسف قد اجتمعتْ في حقِّه جميع أسباب الفتنة: رجلٌ شابٌّ وأعزب وغريبٌ، والغريب لا يَسْتَنْكِف ولا يتحاشى ما يتحاشى المُقيم، فالمُقيم يخشى من تعيير قومه وأهله وجماعته، والغريب ما يستنكف مثلما يستنكف غيره.

وأيضًا رقيقٌ، مُسْتَرَقٌّ، مع أنه هو أكرم البشر، الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، نبيٌّ، وأبوه نبيٌّ، وجده نبيٌّ، وأبو جدِّه نبيٌّ، لكن هذه حال الدنيا: أن يُباع رقيقًا.

ثم التي دَعَتْهُ امرأةٌ غير عاديةٍ؛ امرأةٌ جميلةٌ، من أجمل النساء، وهي سيدته، سيدة القصر، وفوق ذلك تَجَمَّلَتْ وتهيَّأتْ له، وغلَّقت الأبواب.

فاجتمعتْ جميع مُقومات الإغراء، وجميع أسباب الفتنة، لكنه ترك ذلك لله : وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ [يوسف:24]، هي همَّتْ به ودَعَتْه، لكن هو لم يَهِمَّ بها.

ما معنى قوله: وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا؟

يعني: لو أتيت بالآية، يعني معناها: لولا أن رأى برهان ربه لَهَمَّ بها، هذا معنى الآية: لولا أن رأى برهان ربه لَهَمَّ بها؛ ولذلك هرب.

وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ [يوسف:25]، وقلبت الدعوى عليه، جعلته هو الذي دعاها للفاحشة: قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [يوسف:25]، حتى شهد شاهدٌ من أهلها، وعرف العزيز أنها هي التي دعتْ يوسف، ولكن الغيرة عنده ضعيفةٌ: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ [يوسف:29]؛ ولذلك لما رأتْ عنده ضعف الغيرة دَعَتْ يوسف مرةً ثانيةً وثالثةً، حتى اجتمع معها النِّسوة ودَعَوْنَه، فلجأ إلى الله في أن يصرف عنه كيدهنَّ.

ثم بعد ذلك حصل ما حصل له مما قصَّه الله تعالى علينا في سورة يوسف.

الشاهد: أن يوسف أيضًا حصلتْ له هذه المَنْقَبة، وهي: أنه دَعَتْهُ امرأةٌ ذات منصبٍ وجمالٍ فترك ذلك خوفًا من الله .

فهذا الرجل توسَّل إلى الله تعالى بعفته عن الزنا مع قُدرته على ذلك، فكان هذا سببًا لانفراج جزءٍ آخر من الصخرة.

التوسل إلى الله بالمُحافظة على الأمانة

أما الثالث فتوسل إلى الله تعالى بأمانته العظيمة؛ فإنه استأجر أُجَراء، وأعطى كل واحدٍ أَجْرَه إلا واحدًا منهم، كأنه استقلَّ أُجرته؛ فذهب وترك أَجْرَه، فقام هذا الرجل وثَمَّرَ له أجره ونَمَّاهُ له، وأتى بعد حينٍ من الدهر وقال: اتَّقِ الله، ولا تظلمني، وأعطني حقِّي، قال: لك كل ما ترى.

هنا في هذه الرواية قال: اذهب إلى تلك البقر وراعيها، يعني: الرقيق، لكن في روايةٍ أخرى: من الإبل والبقر والغنم، خُذْهَا كلها.

ما صدَّق هذا الرجل، قال: اتَّقِ الله، ولا تَهْزَأ بي، قال: إني لا أَهْزَأُ بك، فَخُذْ تلك البقر وراعيها، فأخذه كله ولم يُبْقِ لي منه شيئًا.

يعني: كان يفترض هذا الرجل الذي تعامل معك بهذه الأخلاق الكريمة أن تُعطيه شيئًا من هذا، لكنه ما ترك له منه شيئًا، أخذ هذه كلها.

فقال: فإنْ كنتَ تعلم أني فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فَافْرُجْ ما بقي. ففرج الله عنهم، فانفرجت الصخرة؛ فخرجوا يمشون.

فدلَّ هذا على أن الأمانة من أسباب تفريج الكُربات.

ولاحظ: هنا في دعوات هؤلاء الثلاثة تواضعٌ: اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك يعني: لا يُزَكِّي نفسه، يقول: أنا ما أدري يا ربي، أنا فعلتُ هذا العمل، إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك، فلم يُعْجَب بعمله، ولكنه توسَّل إلى الله تعالى بهذا العمل، وعلَّق الأمر بمشيئة الله: إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه.

ولهذا ينبغي إذا توسَّلتَ إلى الله بعملٍ صالحٍ أن تأتي بهذه الصيغة، فتقول: يا ربي، إني فعلتُ كذا وكذا، اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فَفَرِّج عني ما أنا فيه من الكُرْبَة.

لكنَّ بعض الناس عندما تقع له كُربةٌ يتأمل فما يجد له خبيئة عملٍ صالحٍ؛ لذلك ينبغي أن تكون للإنسان خبيئة عملٍ صالحٍ لا تعلم به زوجته، ولا أهله، ولا أي أحدٍ، عملٌ صالحٌ بينك وبين الله ، أو عملٌ صالحٌ عظيمٌ يُضْرَب به المثل: في بِرِّ والِدَيْن، في عفَّةٍ، في أمانةٍ، في مُساعدة فقيرٍ، في أي شيءٍ بحيث لو وقعتْ لك كُرْبَةٌ تتوسَّل إلى الله بهذا العمل الصالح، وهذا من التوسل المشروع.

التوسل إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة من أنواع التوسل المشروع.

طيب، هل يجوز أن يتوسل إلى الله تعالى بالعمل الصالح وهو لم يقع في كُرْبَةٍ؟ يجوز أو ما يجوز؟

نعم يجوز، يُشرع، لا بأس، ومن ذلك -مثلًا- تقول: اللهم إني أتوسل إليك بإيماني بك وبرسولك -مثلًا- أو بأي عملٍ صالحٍ.

إذن التوسل إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة مشروعٌ، بل هو من أسباب إجابة الدعاء.

بابٌ: عقوق الوالدين من الكبائر

القارئ: قال رحمه الله:

بابٌ: عقوق الوالدين من الكبائر.
حدثنا سعد بن حفصٍ قال: حدثنا شيبان، عن منصورٍ، عن المُسيّب، عن وَرَّادٍ، عن المغيرة بن شعبة، عن النبي قال: إنَّ الله حرَّم عليكم عقوقَ الأُمَّهات، ومَنْعًا وهَاتِ، ووَأْدَ البنات، وكَرِهَ لكم قيل وقال، وكثرةَ السؤال، وإضاعةَ المال.
الشيخ: نعم، قال: "بابٌ: عقوق الوالدين من الكبائر".

ومُراده بذلك حديث عبدالله بن عمرو بن العاص: أن النبي قال: الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النَّفس [20].

وهذا ذكره المُصنِّف أيضًا من حديث أنسٍ، وجاء من حديث عبدالله بن عمرو، ذكره في الحديث التالي، يعني: ليس الحديث الأول، ولا الثاني، الثالث، فهذا مُراد المُصنِّف بهذا.

وأورد الحديث الأول، وهو حديث المغيرة بن شعبة، عن النبي قال: إنَّ الله حرَّم عليكم عقوق الأُمهات، ومَنْعًا وهَاتِ، ووَأْدَ البنات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال، وفي لفظٍ: إن الله حرَّم عليكم ثلاثًا، وكره لكم ثلاثًا.

عقوق الأُمَّهات

عقوق الأُمهات يعني: عقوق الوالدين، لكنه خصَّ الأُمهات بالذكر لأمرين:

أولًا: أن عقوق الأُمَّهات أعظم في الإثم من عقوق الآباء؛ لأن حقَّ الأم آكد.

ثانيًا: لأن الأم -في الغالب- أضعف من الأب، ولا تستطيع أن تأخذ حقَّها، فيقع عليها من العقوق أكثر مما يقع على الأب؛ فلهذا خصَّ الأُمَّهات بالذكر، وإن كان يشمل أيضًا الآباء.

قال: ومَنْعَ وهَاتِ، وفي لفظٍ: ومَنْعًا وهَاتِ أي: منع ما أُمِرَ بإعطائه، وطلب ما لا يستحق أخذه.

فهو -مثلًا- يمنع الزكاة التي أُمِرَ بإعطائها، ويطلب ما لا يستحق؛ يطلب زكاةً، أو يطلب شيئًا لا يستحقه، فيكون جَمُوعًا، مَنُوعًا، وهذا من أسوأ ما يكون من خِصَال الإنسان: أن يكون جَمُوعًا، مَنُوعًا؛ يمنع ما أُمِرَ بإعطائه، ويطلب ما لا يستحقه، فهذا أمرٌ مُحرَّمٌ.

والأمر الثالث: وَوَأْدُ البنات يعني: دفنهنَّ أحياء، وكان هذا من عادة بعض أهل الجاهلية، يُقال: إن أول مَن فعل ذلك قيس بن عاصم، وكان أغَارَ عليه بعض أعدائه فَأُسِرَت ابنته، ثم إن هذا لمَّا أُسِرَت ابنته، مَن أسرها أراد أن يتزوجها، فتزوج بها، ثم حصل صلحٌ بين قيس بن عاصم وهؤلاء الذين أغاروا عليه، فخيَّروا ابنته بين أن ترجع إلى أبيها أو تبقى عند زوجها الذي كان في الأصل قد أسرها، فاختارتْ زوجها على أبيها؛ فغضب أبوها غضبًا شديدًا، وحلف بالله العظيم ألا تُولد له بنتٌ إلا دفنها حيةً، ثم قلَّده بعض الناس، والناس يُقلِّد بعضهم بعضًا في الشرِّ، فقلَّده بعض الناس، وانتشر وَأْدُ البنات عند العرب.

وكما ذكرنا: عمرو بن لُحَيٍّ أتى بالأصنام، وقلَّده بعض الناس، وهنا تأتي خطورة التقليد؛ ولذلك هذه قيمة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر؛ حتى يُنكر على الناس مثل هذا التقليد الأعمى، والله تعالى يقول: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ۝ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير:8- 9]، وقال: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ۝ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ [النحل:58- 59]، وهذا يدل على أن وَأْدَ البنات كان موجودًا في الجاهلية.

أما ما يقوله بعض الكُتَّاب من أن وَأْدَ البنات ليس موجودًا عند العرب، فهذا غير صحيحٍ: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122]، فالله تعالى ذكر هذا، فكيف يُنكر وَأْد البنات والله تعالى ذكره في القرآن؟! لكن ليس عند جميع العرب، وإنما عند بعض العرب في الجاهلية، لكنه موجودٌ، ذكره الله تعالى في أكثر من موضعٍ في القرآن.

وأما ما يُنْسَب لعُمر ، فهنا لا بد أيضًا أن تُذْكَر هذه القصة، ما يُنْسَب لعمر : أنه كان يدفن ابنته في الجاهلية، وأن ابنته أثناء دفنها كانت تمسح لحيته، هذا غير صحيحٍ، هذا مكذوبٌ على عمر ، وعمر لم يَئِد ابنةً قط، بل إن أكبر بناته حفصة أم المؤمنين، لكن عمر هناك مَن يكذب عليه، ويذكر روايات مكذوبة، ومنها هذه الرواية: أن عمر  وَأَدَ ابنته، وأنها جعلتْ تمسح -ابنته- عنه التراب وهو يدفنها، هذا غير صحيحٍ، لا تصح عن عمر ، لكن دفن البنات أحياء كان موجودًا عند بعض العرب في الجاهلية بدليل أن الله ذكره في القرآن.

الكراهة في كلام الشارع

وكَرِهَ لكم قيل وقال، كَرِهَ لكم هل المقصود بالكراهة هنا الكراهة في اصطلاح الفقهاء، وهي: ما يُثاب تاركه، ولا يُعاقَب فاعله؟

الجواب: ليس هذا المقصود، فالكراهة في لسان الشارع تختلف عن الكراهة في اصطلاح الفقهاء.

فقد يُراد بالكراهة التَّحريم؛ ولذلك لمَّا ذكر الله تعالى بعض الأمور المُحرَّمة -ومنها: الشرك وقتل النفس والزنا- قال: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء:38].

إذن مُراد النبي  بقوله: وكَرِهَ لكم يعني: حرَّم عليكم.

المقصود بقوله : قيل وقال

اختلف العلماء في المقصود بقوله : قيل وقال:

  • فقيل: المراد كثرة الكلام؛ لأن كثرة الكلام مظنَّةٌ للوقوع في الخطأ.
  • القول الثاني: أن المراد بـقيل وقال حكاية أقاويل الناس والبحث عنها: قال فلان كذا، وقيل في فلانٍ كذا، ونحو ذلك.
  • القول الثالث: أن المراد حكاية الاختلاف في أمور الدين والإكثار منها بحيث قد يقع الزلل.
  • والقول الرابع: أن هذه الأمور كلها صحيحةٌ، وهذا هو الأقرب -والله أعلم- أن هذه الأمور كلها صحيحةٌ، فتشمل هذه الأمور.

فينبغي للإنسان ألا يُكْثِر من "قيل وقال" وكثرة النُّقولات، وأيضًا ألا ينقل كل خبرٍ يسمعه، قال : كفى بالمرء كذبًا أن يُحَدِّث بكل ما سمع [21]، يعني: ما تسمعه مَيِّزه، لا تُحَدِّث بكل ما تسمع.

وهكذا أيضًا في وسائل التواصل الاجتماعي، ليس كل مقطعٍ يأتيك تنشره، مَيِّز بينها: هل هو مقطعٌ مُفيدٌ؟ هل هو نافعٌ؟

كثرة السؤال

قال: وكثرة السؤال، قال الحافظ ابن حجر: "هل المراد سؤال المال، أم سؤال العلم؛ وذلك بالسؤال عن المشكلات والمُعضلات، أم أعمّ من ذلك؟".

قال: "والأولى حمله على العموم"، وهذا هو الصحيح.

فيشمل ذلك أولًا: سؤال المال، وسؤال المال من غير حاجةٍ مُحرَّمٌ؛ لقول النبي : مَن سأل الناس أموالهم تَكَثُّرًا فإنما يسأل جَمْرًا، فَلْيَسْتَقِلَّ أو لِيَسْتَكْثِر [22].

وبعض الناس عوَّد نفسه على سؤال المال من غير حاجةٍ، وهذا لا يجوز، هذا يمحق البركة، ويكسب به آثامًا: فإنما يسأل جَمْرًا، فَلْيَسْتَقِلَّ أو لِيَسْتَكْثِر، لكنه مرضٌ عند بعض الناس: يُعوِّد نفسه على السؤال -سؤال الناس أموالهم- وهو غير مُحتاجٍ، بل حتى لو كان مُحتاجًا ينبغي أن يتعفف عن السؤال.

ويشمل ذلك أيضًا: سؤال العلم على الوجه المذموم، كأن يريد بذلك إحراج المسؤول، أو يريد بذلك ضرب أقوال العلماء بعضها ببعضٍ، أو أنه يريد -كما يقول العلماء- الأُغْلُوطات أو الأشياء المُتكلَّفة.

ويشمل ذلك أيضًا: السؤال وقت الوحي، فإنه قد ورد النَّهي عنه، كما في قول الله : لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [المائدة:101].

فهذه كلها تدخل في السؤال المذموم، لكن هناك السؤال الممدوح في طلب العلم، وهذا من أسباب تحصيل العلم؛ فإن ابن عباسٍ لمَّا سُئل: كيف حصَّلتَ العلم؟ قال: بقلبٍ عقولٍ، ولسانٍ سَؤُولٍ.

فكون الإنسان يسأل بأدبٍ عما يحتاج إليه هذا من الأمور الحسنة، ولا يُعتبر هذا مذمومًا.

طيب، هل للإنسان أن يسأل عن مسألةٍ يعرف جوابها؛ لأجل أن يستفيد الحاضرون؟

هل هذا من قسم السؤال المذموم أم السؤال الممدوح؟

السؤال الممدوح، والدليل لذلك: أن جبريل  لما أتى النبيَّ سأله عن الإسلام، وعن الإيمان، وعن الإحسان، وعن أشراط الساعة، وكان جبريل يعرف الجواب، لكن لأجل تعليم الصحابة، فقال النبي : هذا جبريل جاء ليُعلم الناس دينهم [23].

طيب، المعلم هل هو النبي أم جبريل  في هذه القصة؟

النبي هو الذي قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تُشرك به شيئًا، وتُقِيم الصلاة .. إلى آخره، فلماذا جعل جبريل هو المعلم: هذا جبريل جاء ليُعلم الناس دينهم؟

لأنه تسبَّب في التعليم، فالمُتسبِّب في تعليم غيره يُعتبر مُعلمًا؛ ولذلك لو أنك -مثلًا- تعرف جواب مسألةٍ، وأردتَ أن يستفيد الحاضرون فطرحتَ السؤال، فلا بأس بذلك، بل إن هذا هو الأفضل، ويكون لك أيضًا أجر التعليم، مثل أجر المعلم نفسه.

إضاعة المال

قال: وإضاعة المال إضاعة المال مُحرَّمةٌ، وهذا يُؤيد ما ذكرنا من أن الكراهة في هذا الحديث المقصود بها كراهة التَّحريم.

ومعنى إضاعة المال: الإسراف في الإنفاق، وذلك بأن يُنفق المال في غير وجهه المأذون فيه شرعًا، والتَّبذير، ونحو ذلك.

وإذا أردنا أن نضع ضابطًا لإضاعة المال فليس هناك ضابطٌ مُحدَّدٌ في الشرع، وإنما المرجع فيه للعُرف.

والقاعدة: أن كل ما ورد في الشرع مطلقًا، وليس له حدٌّ في الشرع، ولا في اللغة؛ فالمرجع فيه للعُرف.

والناس يُفَرِّقون في عُرْفهم، يقولون: فلانٌ يُضيِّع المال، وفلانٌ يُحْسِن تدبير المال.

فإضاعة المال إذن من الأمور المُحرَّمة.

أكبر الكبائر

القارئ: قال رحمه الله:

حدثني إسحاق قال: حدثنا خالدٌ الواسطي، عن الجُرَيْرِي، عن عبدالرحمن بن أبي بَكْرَة، عن أبيه قال: قال رسول الله : أَلَا أُنَبِّئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان مُتَّكِئًا فجلس فقال: أَلَا وقول الزُّور، وشهادة الزُّور، أَلَا وقول الزُّور، وشهادة الزُّور، فما زال يقولها حتى قلتُ: لا يسكت.
حدثني محمد بن الوليد قال: حدثنا محمد بن جعفرٍ قال: حدثنا شعبة قال: حدثني عبيدالله بن أبي بكرٍ قال: سمعتُ أنس بن مالكٍ قال: ذكر رسول الله الكبائر، أو سُئل عن الكبائر فقال: الشِّرك بالله، وقتل النَّفس، وعقوق الوالدين، فقال: أَلَا أُنَبِّئُكم بأكبر الكبائر؟ قال: قول الزُّور، أو قال: شهادة الزُّور.
قال شعبة: وأكثر ظنِّي أنه قال: شهادة الزُّور.
الشيخ: نعم، في حديث أبي بكرة قال عليه الصلاة والسلام: أَلَا أُنَبِّئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله. جعلها أكبر الكبائر، يعني: هي كبيرةٌ، لكنها أكبر الكبائر، وذكر ثلاثة أمورٍ.

قبل أن نذكر هذه الأمور هنا مصطلح "الكبائر".

الكبائر جمع: كبيرةٍ، والكبيرة إذا فعلها الإنسان يكون فاسقًا.

مُعتقد أهل السُّنة والجماعة في مُرْتَكِب الكبيرة

أهل السُّنة والجماعة يرون أن مُرتكب الكبيرة لا يكفر، لكنه في الدنيا ..

مُعتقد أهل السُّنة والجماعة في مُرتكب الكبيرة: أنه في الدنيا مؤمنٌ بإيمانه، فاسقٌ بكبيرته، وفي الآخرة تحت مشيئة الله: إن شاء عذَّبه، وإن شاء عفا عنه، لكنه لا يُخلَّد في النار إذا دخل النار.

انتبه: هذا مُعتقد أهل السُّنة والجماعة في مُرتكب الكبيرة.

مَن يُعيده مرةً أخرى: مُعتقد أهل السُّنة والجماعة في مُرتكب الكبيرة؟

نعم، تفضَّل.

طالب: .......

الشيخ: نعم، في الدنيا؟

طالب: .......

الشيخ: نعم، احفظوا هذا يا مشايخ، فهو مهمٌّ: في الدنيا مؤمنٌ بإيمانه، فاسقٌ بكبيرته.

وفي الآخرة؟

طالب: .......

الشيخ: في الآخرة نقول: تحت مشيئة الله: إن شاء الله عذَّبه، وإن شاء عفا عنه، لكنه غير مُخلَّدٍ في النار.

أحسنتَ، بارك الله فيك.

إذن مُرتكب الكبيرة في الدنيا لا يكفر، مؤمنٌ بإيمانه، فاسقٌ بكبيرته، يكون فاسقًا.

وأما في الآخرة فهو تحت مشيئة الله: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، لكنه إذا دخل النار لا يُخلَّد فيها.

هذا مُعتقد أهل السُّنة والجماعة، خلافًا للخوارج الذين قالوا بتكفير مُرتكب الكبيرة، والمُعتزلة الذين قالوا بأنه في الدنيا في منزلةٍ بين منزلتين، وأما في الآخرة فقد اتَّفقوا على أنه مُخلَّدٌ في النار، وخلافًا للمُرجئة الذين قالوا: لا يضرُّ مع الإيمان ذنبٌ.

وأهل السُّنة وسطٌ بين المُرجئة وبين الخوارج والمُعتزلة.

ضابط الكبيرة

طيب، هذا يقودنا لمعرفة ضابط الكبيرة، ما ضابط الكبيرة؟

أحسن ما قيل في الضابط هو الضابط الذي ذكره ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى، وهو: كل معصيةٍ ورد فيها حدٌّ في الدنيا أو وعيدٌ في الآخرة من لعنةٍ، أو غضبٍ، أو سخطٍ، أو نارٍ، أو نفي إيمانٍ، أو نفي دخول الجنة، ونحو ذلك.

كل معصيةٍ فيها حدٌّ في الدنيا: جميع المعاصي التي فيها حدودٌ من الكبائر: الزنا، القذف، الحِرَابة، السرقة، هذه كلها من الكبائر.

أو وعيدٌ في الآخرة من لعنةٍ: أي معصيةٍ تجد فيها: لعن الله أو لعن رسول الله مَن فعل كذا، فهي كبيرةٌ، مثلًا: النَّمْص كبيرةٌ؛ لعن النَّامصة والمُتَنَمِّصَة.

كل معصيةٍ فيها لعنٌ كبيرةٌ، أو غضبٌ: غضب الله على مَن فعل كذا، أو سخطٌ: سخط الله عليه، أو نارٌ: مَن فعل كذا دخل النار، أو نفي دخول الجنة، مثلًا: لا يدخل الجنة نَمَّامٌ [24]، دلَّ هذا على أن النَّميمة من كبائر الذنوب، ونحو ذلك.

هذا هو ضابط الكبيرة.

الإشراك بالله تعالى

في هذا الحديث ذكر النبي أكبر الكبائر، قال: الإشراك بالله، الإشراك بالله هو أعظم الذنوب، أعظم ذنبٍ عُصِيَ الله به الشرك بالله: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:48]، وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا [النساء:116]، إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ [المائدة:72].

والأمم السابقة أرسل الله لها الرُّسل، وأنزل لها الكتب؛ لأجل دعوة الناس لترك الشرك، وتحقيق التوحيد وإخلاص الدين لله .

والنبي بُعِثَ وعُمره أربعون سنةً، وتُوفي وعُمره ثلاثٌ وستون، يعني: بقي في البعثة والرسالة كم سنة؟

بقي ثلاثًا وعشرين، بقي في البعثة والرسالة ثلاثًا وعشرين فقط.

انظروا إلى بركة وقت النبي : ثلاثٌ وعشرون سنةً فقط غيَّر فيها وجه التاريخ، أمضى ثلاث عشرة سنةً منها في مكة في دعوة الناس إلى تحقيق التوحيد وترك الشرك فقط -فترة مكية- ما دعا الناس للصلاة والصيام والزكاة والحجّ وسائر الشرائع، دعا الناس لتحقيق التوحيد: يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تُفْلِحوا [25].

وفي السنوات العشر الأخيرة دعا الناس إلى بقية شرائع الإسلام، وهذا يدل على أهمية العناية بتحقيق التوحيد وإخلاص الدين لله ؛ لأن مَن مات على التوحيد فهو على خيرٍ، وإلى خيرٍ، حتى وإن دخل النار لا يُخلَّد فيها، لكن المصيبة فيمَن وقع في الشرك، ومَن مات على الشرك.

فالشرك إذن هو أعظم الذنوب، وهو أكبر الكبائر، وقد حرَّم الله الجنة على مَن مات مُشركًا: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ [المائدة:72].

عقوق الوالدين

الأمر الثاني: قال: وعقوق الوالدين جعل النبي عقوق الوالدين من أكبر الكبائر، بل جعله يَلِي الشرك في الإثم.

وعقوق الوالدين يشمل أمرين:

الأمر الأول: الإساءة إليهما بأي نوعٍ من الإساءة، سواء كانت إساءةً بالفعل، أو إساءةً بالقول، أو بأي نوعٍ من أنواع الإساءة.

والأمر الثاني: ترك بِرِّ الوالدين هو عقوقٌ، وهذا -مع الأسف- هو الذي يقع من بعض الناس، وربما نقول -مع الأسف- يعني: من عددٍ ليس بالقليل من الناس؛ يترك بِرَّه بوالديه ويقول: أنا ما عققتُ والدي!

ترك بِرِّ الوالدين هو نوعٌ من العقوق، فالذي يبقى لا يرى أباه وأُمَّه مدةً طويلةً، لا يزورهما، ولا يتواصل معهما؛ يُعتبر عاقًّا.

بعض الناس لا يرى والديه شهورًا، ولا يتصل بهما، ولا يسأل عنهما؛ يُعتبر عاقًّا.

كيف يرجو الله أن يستجيب دعاءه ويقبل أعماله الصالحة وهو عاقٌّ لوالديه؟!

بل ذكر لي أحد كبار السنِّ قال: إن ولديه لم يرهما منذ أكثر من خمس سنين!

يقول: هما مُتعلمان، وفي وظائف. يعني: مراتب عالية، لكنه كبيرٌ في السنِّ، ولا يرجوان منه -يعني- مصلحةً دنيويةً فتركاه، وهما في أعمالهما مشغولين عنه!

هذا من العقوق، فترك بِرِّ الوالدين يُعتبر عقوقًا، وهو من أكبر الكبائر، والله يقول: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23] أدنى كلمة تَضَجُّرٍ، كما ذكرنا قبل قليلٍ، حتى مجرد النِّقاش الحادِّ نوعٌ من العقوق.

شهادة الزُّور

قال: "وكان مُتَّكِئًا فجلس فقال"، "وكان مُتَّكِئًا" الاتِّكاء معناه: أن يميل إلى أحد جانبيه، هذا هو الاتِّكاء، وهذا أصحُّ ما ورد في معنى الاتِّكاء.

يعني: هكذا -مثلًا- ثم يجلس، هذا معنى الاتِّكاء.

أما القول بأن الاتِّكاء يعني: ذكروا أقاويل أخرى: أن الاتِّكاء التَّربع، أو أن الاتِّكاء يعني: ذكروا عدة صفاتٍ كلها لا تثبت.

أصحُّ ما قيل في معنى الاتِّكاء هو ما ورد في هذا الحديث: الميل إلى أحد جانبيه؛ ولذلك الناس في عُرفهم الآن يأتي بوسادةٍ أو يأتي بشيءٍ ويقول: اتَّكِئ عليه. يعني: تميل عليه بأحد جانبيك.

فكان مُتَّكئًا فجلس، يعني: مُعَظِّمًا ما يريد أن يقوله، فجلس وقال: أَلَا وقول الزُّور، وشهادة الزُّور، فما زال يُكررها، وما زال يقولها "حتى قلتُ: لا يسكت"، وفي اللفظ الآخر: "حتى قلنا: ليتَه سكتَ" شفقةً عليه؛ لأنه بدأ يُكررها ويُكررها، فأشفق عليه الصحابة وقالوا: "حتى قلنا: ليتَه سكتَ"، وفي هذه الرواية قال: "حتى قلتُ: لا يسكت".

وشهادة الزور هي: أن يشهد الإنسان عند القاضي شهادةً كاذبةً، فيحكم القاضي بمُوجب شهادته، أو يشهد عند القاضي على أمرٍ لا يعلمه، فهذه هي شهادة الزور، وإثمها عند الله تعالى عظيمٌ جدًّا؛ لأنه يتسبب في تضليل القاضي، وأن القاضي يحكم بحكمٍ غير صحيحٍ بسبب هذه الشهادة، ويتسبب في أن أحدًا يأخذ مالًا لا يستحقّه، وأن يُنْزَع حقٌّ من آخر وهو يستحقّه، فآثارها سيئةٌ؛ ولذلك كانت شهادة الزور من أكبر كبائر الذنوب.

وكذلك أيضًا الشهادة عند غير القاضي، لكن عند القاضي هي أشدُّ ما يكون، لكن أيضًا الشهادة عند غير القاضي -شهادة الزور أيضًا- من أكبر الكبائر؛ كأن يشهد إنسانٌ على أمرٍ وهو يعلم أنه فيه كاذبٌ، أو يشهد على أمرٍ لا يعلمه.

ولذلك على الإنسان أن يتورع عن أن يشهد على أمرٍ لا يعلمه، إذا كان لا يعلمه يعتذر، ومن ذلك: أن يشهد بتزكية شخصٍ وهو لا يعرفه، هذا يدخل في شهادة الزور.

إذا كنتَ لا تعرف هذا الإنسان لا تُزَكِّه، أو تأتي بعبارةٍ تقول -مثلًا-: زكَّاه بعض الناس، أو زكَّاه فلانٌ، لكن إذا كنتَ لا تعرفه لا تُزَكِّه.

ويدخل في ذلك ما يُسمى بالتصويت؛ يُصوِّت إنسانٌ لآخر وهو لا يعرفه، أو يُصوِّت له على أمرٍ غير صحيحٍ؛ لأن التَّصويت نوعٌ من الشهادة، فعلى الإنسان ألا يشهد إلا بما يعلم.

وقوله: "فما زال يقولها حتى قلتُ: لا يسكت" إنما كرَّر النبي شهادة الزور قالوا: لأن الشرك يَنْبُو عنه المسلم، والعقوق يَنْبُو عنه الطَّبع، أما شهادة الزور فيحصل التَّساهل والتَّهاون فيها؛ فلذلك حذَّر النبي منها، واهتمَّ بشأنها، وهذا يدل على تعظيم شأن شهادة الزُّور.

وفي هذا الحديث من الفوائد: إشفاق التلميذ على شيخه إذا رآه مُنزعجًا، وتَمَنِّي عدم غضبه؛ لما يترتب على الغضب من تغيُّر المزاج؛ ولهذا قال: "فما زال يقولها حتى قلتُ: لا يسكت".

ثم في الحديث الآخر، حديث أنسٍ قال: ذكر رسول الله الكبائر، أو سُئِل عن الكبائر فقال: الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، هذا -يعني- مثل حديث أبي بكرة إلا أنه ذكر هنا: قتل النفس.

وقتل النفس من أكبر كبائر الذنوب، والله تعالى يقول: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93].

فقال: أَلَا أُنَبِّئُكم بأكبر الكبائر؟ قال: قول الزُّور، أو قال: شهادة الزُّور.

قال شعبة: وأكثر ظنِّي أنه قال: شهادة الزُّور.

وأكثر الروايات على: شهادة الزُّور.

فشهادة الزور إذن هي من أكبر كبائر الذنوب.

باب: صِلَة الوالد المُشْرِك

القارئ: قال رحمه الله:

باب: صِلَة الوالد المُشْرِك.
حدثنا الحُمَيدي قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا هشام بن عروة: أخبرني أبي: أخبرتني أسماء بنت أبي بكرٍ قالت: أَتَتْنِي أُمِّي راغبةً في عهد النبي ، فسألتُ النبيَّ : آصِلُها؟ قال: نعم.
قال ابن عيينة: فأنزل الله تعالى فيها: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ [الممتحنة:8].
باب: صِلَة المرأة أُمَّها ولها زوجٌ.
وقال الليثُ: حدثني هشامٌ، عن عروة، عن أسماء قالت: قَدِمَتْ أُمِّي وهي مُشركةٌ في عهد قريشٍ ومُدَّتِهِم إذ عاهدوا النبي ، مع أبيها، فَاسْتَفْتَيْتُ النبي فقلتُ: إن أُمِّي قَدِمَتْ وهي راغبةٌ. قال: نعم، صِلِي أُمَّكِ.
حدثنا يحيى قال: حدثنا الليث، عن عُقَيلٍ، عن ابن شهابٍ، عن عبيدالله بن عبدالله: أن عبدالله بن عباسٍ أخبره: أنَّ أبا سفيان أخبره ..

الشيخ: هذا نُرْجِؤه، نريد فقط حديثين بمعنًى واحدٍ.

قال: "باب: صِلَة الوالد المُشرك"، ثم ساق المُصنِّف حديث أسماء بنت أبي بكرٍ قالت: "أتتني أُمي"، وأُمها لم تكن مسلمةً بَعْدُ في عهد النبي .

"وهي راغبةٌ" قيل: المعنى: أنها راغبةٌ في أن أصلها.

وقيل: راغبةٌ في الإسلام، فأمر بصلتها تأليفًا لها.

والأول أظهر، يعني: أنها راغبةٌ في أن تصلها.

قالت: في عهد النبي ، فسألتُ النبي : آصلها؟ قال: نعم.

قال ابن عيينة: فأنزل الله الآية: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ، فدلَّ هذا على أن الوالد إذا لم يكن مسلمًا أن هذا لا يمنع من بِرِّه وصِلَته، والله تعالى يقول: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا لكن وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15]، حتى وإن كان الوالد كافرًا يجب على الابن والبنت أن يَصِله، وأن يَبَرَّ به.

فهنا أسماء لمَّا أَتَتْ أُمُّها راغبةً في أن تصلها -يعني: تُعطيها شيئًا- استَفْتَت النبيَّ : هل تصلها؟ قال: نعم، وأنزل الله تعالى في ذلك: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.

وهذا يدل على عظيم شأن حقِّ الوالدين، حتى وإن كان الوالد مُشركًا، بل حتى لو كان يُجاهد ولده في الإشراك بالله في أعظم ذنبٍ عُصِيَ الله به، ومع ذلك يجب بِرُّه وصِلَته: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا.

وأيضًا في الحديث الآخر -ذكر المُصنِّف هذا الحديث- قالت أسماء: "قَدِمَتْ أُمي وهي مُشركةٌ في عهد قريشٍ ومُدَّتِهم"، وعهد قريشٍ ومُدَّتهم يعني: بعد صُلح الحُديبية، فإنه بعد صُلح الحُديبية ما بين السنة السادسة إلى السنة الثامنة كانت هذه عهد قريشٍ ومُدَّتهم، فقدمتْ أُمُّها في هذه المدة.

قالت: إذ عاهدوا النبي ، مع أبيها، فاستَفْتَيْتُ النبيَّ فقلتُ: إن أُمي قَدِمَتْ وهي راغبةٌ. قال: نعم، صِلِي أُمَّكِ.

وأراد البخاري بهذه الترجمة: "صِلَة المرأة أُمّها ولها زوجٌ" أراد أن يُبيِّن من ذلك: أن المرأة يجوز لها أن تتصرف في مالها دون إذن زوجها؛ لأن أسماء كانت زوجة الزبير، وتصرفتْ بغير إذن زوجها.

وأراد البخاري بهذا الردّ على مَن قال من العلماء: إن المرأة لا يجوز لها أن تتصرف في مالها إلا بإذن الزوج.

هو قولٌ لبعض أهل العلم، ليس في مال الزوج، في مالها هي، لكنه قولٌ مرجوحٌ.

والصواب: أن المرأة يجوز لها أن تتصرف في مالها بغير إذن زوجها، وهذا هو الذي ترجم عليه البخاري: "باب: صِلَة المرأة أُمّها ولها زوجٌ" يعني: أنها لا تحتاج إلى أن تستأذن زوجها في تصرفاتها في أموالها الخاصة.

ثم ذكر المؤلف الحديث الثاني؛ حديث ابن عباسٍ، نعم.

يأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف والصِّلَة

القارئ:

حدثنا يحيى قال: حدثنا الليث، عن عُقَيلٍ، عن ابن شهابٍ، عن عبيدالله بن عبدالله: أن عبدالله بن عباسٍ أخبره: أنَّ أبا سفيان أخبره: أنَّ هرقل أرسل إليه فقال: فما يأمركم؟ -يعني: النبي - فقال: يأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف والصِّلَة.

الشيخ: نعم، هذه في قصة هرقل، وهرقل هو ملك الروم، وكان رجلًا عاقلًا، وكان عنده علمٌ أيضًا، ولمَّا أتاه كتاب النبي عَظَّمه، بينما كسرى كان رجلًا سفيهًا، أحمق، لمَّا أتاه كتاب النبي مَزَّقه، فدعا عليه النبي بأن يُمزِّق الله مُلْكَه، فَمَزَّق الله مُلْكَه؛ فلم يَقُم للأكاسرة مُلْكٌ بَعْدُ إلى اليوم، بينما هرقل -ملك الروم- كان عاقلًا، عظَّم كتاب النبي فبقي مُلْكُه.

وهناك رجلٌ ثالثٌ أيضًا كتب له النبي كتابًا يدعوه للإسلام، وهو النَّجاشي، عظَّم كتاب النبي ، بل أسلم سِرًّا وكتم إسلامه، ووفَّقه الله للخير؛ جمع خَيْرَي الدنيا والآخرة، فبقي على مُلْكِه، وكان مسلمًا؛ ولذلك لمَّا مات النَّجاشي صلَّى عليه النبي صلاة الغائب، وكبَّر عليه أربعًا، وقال: إنه مات اليوم رجلٌ صالحٌ.

الشاهد: أن هرقل عظَّم كتاب النبي ، وقال: "ائتوني بمَن كان هاهنا من العرب"، فوافق أن الموجود أبو سفيان، فسأل هرقلُ أبا سفيان عشرة أسئلةٍ، وأجاب عنها أبو سفيان وقال: "لولا أني أخشى أن يُؤْثَر عني كذبًا لَكَذَبْتُ"، يعني: يخشى أن يقول الناس: إنه يكذب، سبحان الله! حتى الكافر في الجاهلية يخشى من أن يُؤْثَر عنه كذبًا!

فقال هرقل: لئن كان ما تقوله حقًّا لَيَمْلُكَنَّ صاحبكم موضع قَدَمَيَّ هاتين، ولَوَدِدْتُ أني أذهب إليه فَأُقَبِّل قدميه.

قال أبو سفيان: "فوقع في نفسي أنه سيظهر"، مَلِك بني الأصفر يُعَظِّمه، يعني: لمَّا رأى ملك الروم يُعَظِّم النبيَّ يقول أبو سفيان: "وقع في نفسي أنه سيظهر"، إلى أن أسلم أبو سفيان .

والشاهد من هذه القصة -والكلام عنها يطول- لكن الشاهد: أن هرقل قال: ما يأمركم به محمدٌ؟ قال: "يأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف والصلة"، يعني: هذه شهادةٌ من أبي سفيان أن هذه أوامر النبي ، يأمرهم بهذه الأمور: بالصلاة والصدقة والعفاف والصلة، يعني: صِلَة الرحم، وهذا هو موضع الشاهد.

فلما قال ذلك، قال: "وهكذا الرسل"، يقول هرقل: "وهكذا الرسل تدعو إلى ذلك"، بل إن هرقل عقد اجتماعًا مع كبار مُستشاريه وأهل الدولة، وأمر بأن تُقْفَل الأبواب، وقال: "هل لكم في أمرٍ فيه رُشْدٌ لكم، وفيه خيرٌ لكم، وتبقون في مُلْكِكم؟ اتَّبعوا هذا النبي"، فَحَاصُوا كما تَحُوص الحُمُر، ونفروا نفرةً شديدةً، فقال: "لا، أنا فقط إنما أردتُ أن أختبر تَمَسُّكَكم بدينكم"، وهو كان يختبرهم أصلًا يريد أن يُسلم، وأن يُسلم قومه؛ لأنه كان رجلًا عاقلًا، لكنه آثر الدنيا على الآخرة، فما نفعه عقله ولا إيمانه؛ لكونه آثر الدنيا على الآخرة.

الشاهد: أن أبا سفيان قال: "إن النبي كان يأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف والصلة"، يعني: صِلَة الرحم، فكان معروفٌ عن النبي أنه يأمرهم بهذه الأمور، ومنها: صِلَة الرحم؛ فلهذا أورد المؤلف هذا الحديث للدلالة على أنه كان يأمر الناس بهذه الأمور مع دعوته للتوحيد، كان يأمر بالصلاة والصدقة والعفاف وصِلَة الرحم؛ ولذلك قال هرقل: "هكذا تأمر الرسل أتباعها بذلك"، واستدلَّ بهذا على أنه نبيٌّ من عند الله تعالى حقًّا، لكن هرقل آثر الدنيا على الآخرة.

ونقف عند "باب: صلة الأخ المُشرك"، نفتتح به -إن شاء الله تعالى- الدرس القادم.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

نتوقف الآن فترة استراحة للغداء وصلاة العصر، ثم نستأنف -إن شاء الله تعالى- الدرس بعد صلاة العصر، والأسئلة -إن شاء الله- نجعلها في الدرس الأخير -بإذن الله تعالى- ستُجْمَع وتكون -إن شاء الله- بعد الدرس الأخير.

^1 رواه البخاري: 6408، ومسلم: 2689.
^2 رواه البخاري: 71، ومسلم: 1037.
^3 رواه البخاري: 5845.
^4 رواه البخاري: 6129، ومسلم: 2150.
^5 رواه البخاري: 3662، ومسلم: 2384.
^6 رواه أحمد: 9675.
^7 رواه أبو داود: 5225.
^8 رواه البخاري: 6116.
^9 رواه مسلم: 1748.
^10 رواه البغوي في "تفسيره": 3/ 551.
^11 رواه البخاري: 3887، ومسلم: 162.
^12 رواه مسلم: 181.
^13 رواه أبو داود: 2276، وأحمد: 6707.
^14 رواه مسلم: 2587.
^15 رواه مسلم: 2674.
^16 رواه البخاري: 3521، ومسلم: 2856.
^17 رواه مسلم: 1893.
^18 رواه مسلم: 2542.
^19 رواه البخاري: 1423، ومسلم: 1031.
^20 رواه البخاري: 6675.
^21 رواه مسلم: 5.
^22 رواه مسلم: 1041.
^23 رواه البخاري: 50، ومسلم: 9.
^24 رواه مسلم: 105.
^25 رواه أحمد: 16023.
zh