logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح كتاب الأدب من صحيح البخاري/(2) كتاب الأدب- من قوله: "باب: صِلَة الأخ المُشْرِك .."

(2) كتاب الأدب- من قوله: "باب: صِلَة الأخ المُشْرِك .."

مشاهدة من الموقع

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

أما بعد: فأسأل الله تعالى أن يُعلِّمنا ما ينفعنا، وينفعنا بما علمنا، وأن يرزقنا الفقه في دينه، ويستعملنا في طاعته: رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا [الكهف:10].

هذا هو الدرس الثاني في هذه الدورة العلمية في شرح كتاب "الأدب" من "صحيح البخاري"، وكنا قد وصلنا إلى "باب: صِلَة الأخ المُشْرِك".

القارئ: الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

باب: صِلَة الأخ المُشْرِك

قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى في كتاب "الأدب":

باب: صِلَة الأخ المُشْرِك.
حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا عبدالعزيز بن مسلمٍ قال: حدثنا عبدالله بن دينارٍ قال: سمعتُ ابن عمر رضي الله عنهما يقول: رأى عمر حُلَّةً سِيَرَاءَ تُباع، فقال: يا رسول الله، ابْتَعْ هذه وَالْبَسْها يوم الجمعة، وإذا جاءك الوفود. قال: إنما يلبس هذه مَن لا خَلَاقَ له، فأُتِيَ النبيُّ منها بِحُلَلٍ، فأرسل إلى عمر بِحُلَّةٍ، فقال: كيف ألبسها وقد قلتَ فيها ما قلتَ؟! قال: إني لم أُعْطِكَها لتلبسها، ولكنْ تبيعها أو تكسوها، فأرسل بها عمرُ إلى أخٍ له من أهل مكة قبل أن يُسْلِمَ.
الشيخ: نعم، قال: "باب: صِلَة الأخ المُشْرِك"، أراد المُصنِّف رحمه الله أن يُبيِّن أن الأخ وإن لم يكن مسلمًا إلا أن صِلَته واجبةٌ، كما ذكرنا ذلك في الوالد غير المسلم أيضًا، يبقى بِرُّه وصِلَته واجبةٌ: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15].

وأورد المُصنِّف بسنده هذا الحديث: "رأى عمر حُلَّةً سِيَرَاء" الحُلَّة معناها: إزارٌ ورداء، وسِيَرَاء أي: ذات خطوطٍ، وكانت من الحرير.

والمقصود بالحرير هنا: الحرير الطبيعي الذي يكون من دود القَزِّ، وإنما قلتُ ذلك؛ لأنه الآن في الأسواق هناك أنواعٌ من الأقمشة تُسمى: حريرًا، لكنها حريرٌ صناعيٌّ، ليست حريرًا طبيعيًّا، لكنها لنعومتها تُسمى: حريرًا، فهذه لا تدخل في النَّهي عن لبس الرجال للحرير؛ لأنها ليست حريرًا طبيعيًّا.

العبرة بالحقيقة، وليست العبرة بالتسمية، فمثلًا: عند بعض محلات الأقمشة ثياب حريرٍ وملابس حريرٍ، وهذه لا بأس بلبسها للرجال؛ لأنها حريرٌ صناعيٌّ، ليست حريرًا طبيعيًّا، وتسميتها "حريرًا" أصلًا تسميةٌ غير صحيحةٍ؛ لأنها ليست حريرًا طبيعيًّا، لكن العبرة بالحقيقة.

ويتضح لك: هل هي حريرٌ طبيعيٌّ أو صناعيٌّ من قيمتها، فالحرير الطبيعي قيمته باهظةٌ وكبيرةٌ جدًّا؛ لأنه يُستخرج من دود القَزِّ، أما الحرير الصناعي فهو أقمشةٌ عاديةٌ، لكن لنعومتها ولتسويقها تُسمى: حريرًا، لكن الحرير الطبيعي موجودٌ الآن، وإن كان قليلًا لكنه موجودٌ، وهو الذي يكون من دود القَزِّ، وأكثر ما يُسمى: حريرًا الآن هو حريرٌ صناعيٌّ لا يدخل في النَّهي.

فرأى عمر هذه الحُلَّة تُباع، فقال: "يا رسول الله، ابْتَعْ هذه" يعني: اشتَرِها "والبسها يوم الجمعة وإذا جاءك الوفود"، وهذا دليلٌ على أن يوم الجمعة ينبغي أن يلبس المسلم أحسن ملابسه، وأن يأخذ زينته، وهكذا أيضًا في العيدين، كأنه ذاهبٌ لأهم مناسبةٍ عنده.

وهذا داخلٌ في أخذ الزينة في الصلاة، وقد قال الله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]، ومعنى عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ليس كما يفهمه بعض الناس: المقصود به المسجد المعروف الذي تُقام فيه الصلوات الخمس، لا، المقصود بقول الله تعالى: عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ يعني: عند كل صلاةٍ، لكنه سمَّى الصلاة "مسجدًا" إشارة للسجود الذي هو آكد أركانها، فمعنى الآية: خُذوا زينتكم عند كل صلاةٍ.

ولذلك يُشرع أخذ الزينة حتى في صلاة النافلة التي تُصليها في البيت وحدك؛ لأن أخذ الزينة إنما هو لحقِّ الله ، وليس لأجل نظر الناس.

ولهذا المرأة إذا صَلَّتْ في بيتها يجب عليها أن تُغطي شعرها، وأن تُغطي جميع بدنها إلا الوجه، فتكشف وجهها ما دام أنها تُصلي في البيت، ويُستحب لها أيضًا ستر الكفين والقدمين، مع أنه لا يُشاهدها رجلٌ أجنبيٌّ، ومع ذلك يجب عليها أن تُغطي شعرها، لماذا؟

لأن أخذ الزينة هنا إنما هو لحقِّ الله ، وليس لأجل نظر الناس؛ ولهذا لما رأى ابن عمر غلامه يُصلي حاسر الرأس قال: أرأيتَ لو خرجتَ للسوق تخرج هكذا؟ قال: لا. قال: فالله أحقُّ أن يُتَزين له.

وبعض الناس يأتي للمسجد بملابس النوم، أو بملابس رَثَّةٍ! ولا يأخذ زينته في الصلاة، وهذا يدل على قِلة اهتمامه بالصلاة.

ينبغي أن يأخذ المسلم زينته في الصلاة حتى لو كان يُصلي في البيت.

يعني مثلًا: لو أردتَ أن تُصلي في البيت صلاة الضحى، أو سُنةً راتبةً، أو صلاة الوتر، يُستحب أن تلبس ملابسك، ولا تُصلِّ بملابس النوم، تلبس ملابسك.

وأيضًا إذا كانت عادة أهل البلد تغطية رؤوسهم تُغطي رأسك -مثلًا- بالغُتْرَة أو الشِّماغ ونحو ذلك، هذه هي السُّنة، ويتأكد هذا في يوم الجمعة؛ ولهذا قال عمر هنا: "والبسها يوم الجمعة"، وكذلك أيضًا في العيدين.

قال: "وإذا جاءك الوفود" يعني: كان النبي إذا جاءه الوفود يلبس أحسن ملابسه، يتهيَّأ لاستقبالهم بالملابس الحسنة.

فقال : إنما يلبس هذه مَن لا خَلَاقَ له، إنما يلبس هذه يعني: يلبس هذا الحرير، مَن لا خَلَاقَ له يعني: لا حظَّ ولا نصيب له؛ وذلك لأن الحرير لا يجوز للرجال لبسه، فعمر لم يتنبه لهذا، فَنَبَّهه النبي بأن لبس الحرير للرجال مُحرَّمٌ.

قال: "فَأُتِي النبي منها بِحُلَلٍ"، "بِحُلَلٍ" يعني: من حريرٍ، "فأرسل إلى عمر بِحُلَّةٍ"، أرسل إلى عمر بِحُلَّةٍ من حريرٍ، فعمر استغرب، فأتى النبيَّ وقال: يا رسول الله، كيف ألبسها وقد قلتَ فيها ما قلتَ؟! قلتَ لي: إنما يلبس هذه مَن لا خَلَاقَ له، فقال النبي : إني لم أُعْطِكَها لتلبسها، ولكنْ تبيعها أو تكسوها يعني: لكي تنتفع بها وتستفيد منها: إما ببيعٍ، وإما بكسوة قريبٍ لك، أو بكسوة امرأةٍ، كسوة قريبٍ لك غير مسلمٍ، أو بكسوة امرأةٍ.

"فأرسل بها عمرُ إلى أخٍ له من أهل مكة قبل أن يُسْلِمَ"، وهو أخوه من أمه، واسمه: عثمان بن حكيم، ثم أسلم، لكن في ذلك الوقت كان مُشركًا.

من فوائد هذا الحديث

أولًا: مشروعية صِلَة القريب غير المسلم، فإن عمر أرسل بهذه الحُلَّة لأخٍ له غير مسلمٍ.

وكما مرَّ معنا في حديث أسماء: أنها وصلتْ أُمَّها، والله تعالى يقول: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15]، مع أنهما يُجاهدان ولدهما على الشِّرك.

أيضًا من فوائد هذا الحديث: مشروعية أخذ الزينة للصلاة، ويتأكد هذا يوم الجمعة.

أيضًا من الفوائد: أنه يجوز للإنسان أن يبيع ما يمكن أن يُستخدم في الحلال أو في الحرام، بشرط: ألا يعلم أن هذا المُشتري سيستخدمه في الحرام.

ووجه الدلالة: أن النبي أهدى إلى عمر حُلَّةً من حريرٍ، والحرير يمكن أن يلبسه الرجل، ويمكن أن يُستفاد منه بإعطائه لامرأةٍ، أو إعطائه غير مسلمٍ، فدلَّ هذا على أنه يجوز بيع ما يمكن أن يُستخدم في الحلال والحرام إذا لم تعلم أن المشتري سيستخدمه في الحرام.

وهذا له مسائل كثيرة، يعني مثلًا: لو أردتَ أن تبيع الهاتف الجوال أو المنقول، والمشتري منك قد يستخدمه في الحلال، وقد يستخدمه في الحرام، إذا لم تعلم أنه سيستخدمه في الحرام جاز لك أن تبيعه، وسائر الأجهزة أيضًا كذلك.

أمورٌ كثيرةٌ تُستخدم في الحلال والحرام، فالأصل جواز بيعها إلا إذا علمتَ أن المشتري سيستخدمها في الحرام، أما إذا لم تعلم فتبني الأمور على الأصل ويجوز بيعها.

باب: فضل صِلَة الرحم

القارئ: قال رحمه الله:

باب: فضل صِلَة الرحم.
حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا شعبة قال: أخبرني ابن عثمان قال: سمعتُ موسى بن طلحة، عن أبي أيوب قال: قيل: يا رسول الله، أخبرني بعملٍ يُدْخِلني الجنة.
حدثني عبدالرحمن قال: حدثنا بَهْزٌ قال: حدثنا شعبة قال: حدثنا ابن عثمان بن عبدالله بن مَوْهَبٍ وأبوه عثمان بن عبدالله: أنَّهما سمعا موسى بن طلحة، عن أبي أيوب الأنصاري : أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله، أخبرني بعملٍ يُدْخِلُني الجنة. فقال القوم: ما له؟! ما له؟! فقال رسول الله : أَرَبٌ ما له، فقال النبي : تعبد الله لا تُشْرِك به شيئًا، وتُقِيم الصلاة، وتُؤْتِي الزكاة، وتَصِل الرحم، ذَرْهَا، قال: كأنه كان على راحلته.

الشيخ: قال: "باب: فضل صِلَة الرحم"، ثم ساق المُصنِّف هذا الحديث: أن رجلًا قال: "يا رسول الله، أخبرني بعملٍ يُدْخِلُني الجنة"، فقال القوم: "ما له؟! ما له؟!" يعني: لماذا تسأل هذا السؤال؟ فقال الرسول : أَرَبٌ ما له يعني: له حاجةٌ، بل حاجةٌ كبيرةٌ؛ لأن السؤال عظيمٌ، فيقول: حاجةٌ.

"ما له؟!" أجابهم النبي عن قولهم: "ما له؟!" قال: له حاجةٌ، وحاجةٌ كبيرةٌ، وهي: الإجابة عن هذا السؤال العظيم: "ما له؟!" أَرَبٌ ما له يعني: جوابًا عن سؤالهم، تقولون: "ما له؟!" أَرَبٌ يعني: حاجة، له حاجةٌ كبيرةٌ.

فقال النبي جوابًا عن سؤاله: تعبد الله لا تُشْرِك به شيئًا، وتُقِيم الصلاة، وتُؤْتِي الزكاة، وتَصِل الرحم.

ذكر هذه الأمور الأربعة، ولم يذكر الصيام، ولم يذكر الحج؛ وذلك لأن هذا السؤال كان قبل أن يُفرض الصيام والحج.

ثم قال: ذَرْهَا يعني: دَعْهَا، وكان الرجل على راحلته، وقد أمسك بزمامها لئلا تمشي، فسأل النبيَّ وهو على راحلته، فلمَّا أجابه النبي وانتهى من الجواب قال: ذَرْهَا يعني: أطلق اللِّجام لراحلتك وَامْشِ.

هذا معنى قوله: ذَرْهَا، قال: كأنه كان على راحلته.

حكم صِلَة الرحم

أورد المُصنِّف هذا الحديث لقوله: وتصل الرحم، فقد قرن النبي صلة الرحم بعبادة الله، وتحقيق التوحيد، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وجعل ذلك من أسباب دخول الجنة، فدلَّ هذا على فضل صلة الرحم، ولكن صلة الرحم هل هي واجبةٌ أم مُستحبةٌ؟

طالب: .......

الشيخ: واجبةٌ، معنى ذلك: أننا نحتاج إلى ضابطٍ.

منها ما هو واجبٌ، ومنها ما هو مُستحبٌّ؛ لأننا لو قلنا: إن صلة الرحم .. كل أرحامك تجب صلتهم.

طيب، معنى ذلك: أن الإنسان له أرحامٌ كثيرون، له أبناء عمومةٍ كثيرون، فنحتاج إلى ضابطٍ للرحم التي تجب صلتها.

الرحم منها ما تجب صلته، ومنها ما تُستحب.

الأرحام الذين تجب صلتهم

اختلف العلماء في ضابط ما تجب به صلة الرحم، والقول الراجح المُختار عند كثيرٍ من المُحققين: أن الأرحام الذين تجب صلتهم هم المحارم، وهم كل قريبٍ للإنسان إذا قُدِّر أن أحدهما ذكرٌ والآخر أنثى لم يحلّ له أن يتزوج بها.

انتبه لهذا الضابط: كل قريبٍ للإنسان بحيث إذا فُرِضَ أن أحدهما ذكرٌ والآخر أنثى لم يحلّ له أن يتزوج بها.

وعلى هذا فالأرحام الذين تجب صلتهم هم:

  1. الوالدان وإن عَلَوا: يدخل في ذلك الأجداد وآباء الأجداد.
  2. والأولاد وإن سفلوا: الأولاد والأحفاد وأولاد الأحفاد.
  3. والإخوة والأخوات.
  4. والأعمام والعمَّات.
  5. والأخوال والخالات.

هؤلاء تجب صلتهم، وقطيعتهم من كبائر الذنوب.

فمثلًا: العمّة، لو افتُرض أن أحدهما ذكرٌ والآخر أنثى، هل يجوز أن يتزوجها؟

لا يجوز، الرجل ما يتزوج عمَّته، لكن بنت العمّة يجوز، فبنت العمّة إذن ما تجب صلتها، تُستحب، بناءً على هذا الضابط.

أبناء العمّ تجب صلتهم أم تُستحب؟

نُطبِّق الضابط: لو فُرِضَ أن أحدهما ذكرٌ والآخر أنثى يحلّ له أن يتزوجها أو لا يحلّ؟

يحلّ، تكون بنت عمِّه، فإذن تُستحب صلتهم ولا تجب.

أبناء الخال تُستحب أم تجب؟

تُستحب.

أبناء الخالة؟

تُستحب.

أبناء الأخ؟

لو فُرِضَ أن أحدهما ذكرٌ والآخر أنثى، إذن تجب.

فَخُذْ هذا الضابط.

ما الدليل لهذا الضابط؟

الدليل لهذا الضابط هو قول النبي : لا يُجْمَع بين المرأة وعمَّتها، ولا بين المرأة وخالتها [1].

وإنما نهى النبي عن الجمع بين المرأة وعمَّتها والمرأة وخالتها؛ لأن ذلك ذريعةٌ لقطيعة الرحم، وقطيعة الرحم هنا مُحرَّمةٌ، فَنُهِيَ عما كان ذريعةً للمُحرَّم، لكن لم يَنْهَ النبي عن الجمع بين بنات الأعمام.

لو كانت لك بنت عمٍّ وتريد أن تتزوج بنت العمِّ الآخر، يجوز أو ما يجوز؟

يجوز، مع أن هذا أيضًا قد يُفْضِي إلى قطيعة الرحم، لكن صلة الرحم هنا غير واجبةٍ، فلم يكن مُفْضِيًا لأمرٍ مُحرَّمٍ.

انتبه لهذه الفائدة.

إذن هذا ضابط صلة الرحم، فهؤلاء المحارم الذين لو فُرِضَ أن أحدهما ذكرٌ والآخر أنثى يجب عليك أن تصلهم، وأما مَن عداهم يُستحب أن تصلهم.

وعلى هذا فصلة الرحم منها ما هو واجبٌ، ومنها ما هو مُستحبٌّ.

الضابط في صلة الرحم

طيب، ما الضابط في صلة الرحم؟

طالب: .......

الشيخ: نعم، ضابط صلة الرحم كما قلنا في بِرِّ الوالدين، ضابط صلة الرحم: العُرْف، فكل ما عَدَّه الناسُ صلةً فهو صلةٌ، وكل ما عَدَّه الناسُ قطيعةً فهو قطيعةٌ.

ويقول الناظم:

وكلُّ ما أتى ولم يُحَدَّدِ بالشرع كالحِرْزِ فبالعُرْفِ احدُدِ

قاعدة: ما ورد مطلقًا في الشرع، وليس له حَدٌّ في الشرع ولا في اللغة، فالمرجع فيه للعُرْف.

فصلة الرحم في عُرْف الناس تكون -مثلًا- بالزيارة، وتكون كذلك بالهدية، وتكون بالمساعدة، وبِسَدِّ الحاجة، وتكون بكل ما عَدَّه الناسُ صلةً.

والناس تُفرِّق بفطرتها بين الواصل والقاطع، فعندما يذكرون مناقب إنسانٍ يقولون: كان واصلًا لرحمه. وعندما يريدون ذمَّ آخر يقولون: كان قاطعًا لرحمه.

فصلة الرحم إذن المرجع فيها للعُرْف.

هل يدخل في صلة الرحم: المُشاركة في مجموعات على "الواتساب" أو وسائل التواصل الاجتماعي بين الأرحام؟

نعم، يدخل؛ لأنها صلةٌ، وهذه كأنها قاعةٌ افتراضيةٌ تُشبه المجلس؛ ولذلك تجد أن الذين تتواصل معهم عبر هذه المجموعات تشعر بقُربك منهم وتواصلك معهم، وإذا رأيتَ أحدهم تشعر بأنك لم تَغِبْ، ولم يَغِبْ عنك مدةً طويلةً.

ولذلك ينبغي أن تنشأ هذه المجموعات بين الأرحام؛ لتحقيق صلة الرحم، مثلًا: يكون فيها السلام عليهم، وتكون تهنئتهم في المناسبات، ويكون أيضًا إتحافهم بالمقاطع المفيدة، ونحو ذلك.

إذن مرجع صلة الرحم: العُرْف، ما عَدَّه الناسُ صلةً فهو صلةٌ.

وهنا ذكر النبي أن صلة الرحم من أسباب دخول الجنة، بل جعلها مُقارنةً للتوحيد ولإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وهذا يدل على عظيم شأنها في الدين.

باب: إثم القاطع

القارئ: قال رحمه الله:

باب: إثم القاطع.
حدثنا يحيى بن بُكَيْرٍ قال: حدثنا الليث، عن عُقَيل، عن ابن شهابٍ: أنَّ محمد بن جُبير بن مُطْعِمٍ قال: إنَّ جُبير بن مُطْعِمٍ أخبره: أنَّه سمع النبي يقول: لا يدخل الجنة قاطعٌ.

الشيخ: نعم، لا يدخل الجنة قاطعٌ أي: قاطع رحمٍ.

قال: "باب: إثم القاطع".

وسبق أن ذكرنا في ضابط الكبيرة: أن ما ورد فيه نفي دخول الجنة فهو كبيرةٌ، وعلى ذلك فقطيعة الرحم من كبائر الذنوب؛ لأن النبي نفى دخول الجنة عن قاطع الرحم، ولكن ما المراد بنفي دخول الجنة؟

معنى حديث: لا يدخل الجنة قاطعٌ

سبق أن قلنا: إن أهل السُّنة والجماعة يقولون: إن مُرتكب الكبيرة مؤمنٌ بإيمانه، فاسقٌ بكبيرته، وإنه في الآخرة تحت المشيئة، لكنه إذا دخل النار لا يُخلَّد فيها.

فكيف إذن نفهم هذا الحديث: لا يدخل الجنة قاطعٌ؟

نقول: المراد بدخول الجنة في هذا الحديث الدخول الكامل المُطلق الذي لم يُسبق بعذابٍ، فقاطع الرحم حتى وإن دخل الجنة لا بد أن يسبق دخوله الجنة عذابٌ إلا أن يعفو الله عنه.

ودخول الجنة نوعان:

  • الدخول المُطلق الذي لم يُسبق بعذابٍ.
  • ودخولٌ مُقيَّدٌ يُسبق بعذابٍ.

فإذا جاء نفي دخول الجنة في معصيةٍ لم تبلغ حدَّ الكفر فَيُحْمَل على الدخول المُطلق الذي لم يُسبق بعذابٍ، وبذلك لا يكون هناك تعارضٌ.

فمعنى قوله : لا يدخل الجنة قاطعٌ يعني: لا يدخل الجنة الدخول المُطلق الذي لم يُسبق بعذابٍ، لكنه قد يُعذَّب ويدخل الجنة، أو قد يعفو الله عنه، والله تعالى لا يُسأل عما يفعل، له الحكمة البالغة جلَّ وعلا.

إذن نأخذ من هذا الحديث: أن قطيعة الرحم من كبائر الذنوب، وأن النَّفي هنا نفيٌ للدخول المُطلق للجنة الذي لم يُسبق بعذابٍ، وليس نفيًا لدخول الجنة مُطلقًا.

وأهل السُّنة والجماعة يقولون: إن مُرتكب الكبيرة لا يكفر، وإذا دخل النار فإنه لا يُخلَّد فيها.

ضابط قطيعة الرحم

ضابط قطيعة الرحم هو العُرْف أيضًا، ومن ذلك: الإساءة للرحم، والتَّعدي عليها بالقول أو بالفعل، أو القذف، أو السَّب، أو الشتم، أو نحو ذلك، كل هذا داخلٌ في قطيعة الرحم.

أيضًا يدخل في قطيعة الرحم: عدم صلة الرحم، فعدم صلة الرحم يُعتبر قطيعةً.

مثلًا: إنسانٌ له أخٌ لم يَصِلْهُ مدةً طويلةً يُعتبر قاطعًا لرحمه، له عمَّةٌ لم يصلها مدةً طويلةً يُعتبر قاطعًا لرحمه.

باب: مَن بُسِطَ له في الرزق بصلة الرحم

القارئ: قال رحمه الله:

باب: مَن بُسِطَ له في الرزق بصلة الرحم.
حدثني إبراهيم بن المُنذر قال: حدثنا محمد بن مَعْنٍ قال: حدثني أبي، عن سعيد بن أبي سعيدٍ، عن أبي هريرة قال: سمعتُ رسول الله يقول: مَن سَرَّهُ أن يُبْسَطَ له في رزقه، وأن يُنْسَأَ له في أثره؛ فَلْيَصِلْ رحمه.
حدثنا يحيى بن بُكَيْرٍ قال: حدثنا الليث، عن عُقَيل، عن ابن شهابٍ قال: أخبرني أنس بن مالكٍ: أن رسول الله قال: مَن أحبَّ أن يُبْسَطَ له في رزقه، ويُنْسَأَ له في أثره؛ فَلْيَصِلْ رحمه.

الجزاء الدنيوي لصلة الرحم

الشيخ: نعم، من فضائل صلة الرحم: أن واصل الرحم يكون له جزاءٌ دنيويٌّ مُعجَّلٌ قبل الجزاء في الآخرة، وهو بسط الرزق وطول العمر.

بسط الرزق لقوله: مَن سَرَّهُ أن يُبْسَطَ له في رزقه.

وطول العمر لقوله: وأن يُنْسَأَ له في أثره أي: يُطَوَّل له في عمره، وطول العمر مع حُسن العمل نعمةٌ من الله ؛ ولهذا لما سُئل : أيُّ الناس خيرٌ؟ قال: مَن طال عمره وحَسُنَ عمله، فقيل: فأيُّ الناس شرٌّ؟ قال: مَن طال عمره وساء عمله، رواه أحمد بسندٍ صحيحٍ [2]؛ لأنك بطول العمر تزداد أعمالًا صالحةً عظيمةً.

وقد جاء عند أبي داود وغيره بسندٍ جيدٍ: أن اثنين من أصحاب النبي ماتا، أحدهما قُتِلَ في سبيل الله، والآخر مات بعده على فراشه بعد سنةٍ، فرآهما أحد الصحابة في المنام، ورأى أن الذي مات على فراشه بعد سنةٍ في درجةٍ في الجنة أعلى من الذي قُتِلَ شهيدًا في سبيل الله، فاستشكل هذا، وذهب للنبي -وكان الرجلان من قبيلة بَلِي- فقال النبي : أليس قد مكث هذا بعده سنةً؟ وأدرك رمضان فصام؟ وصلَّى كذا وكذا سجدةً في السنة؟ [3].

فأعمالٌ صالحةٌ في سنةٍ واحدةٍ جعلتْ هذا الرجل يكون في درجةٍ أعلى من الرجل الذي مات في سبيل الله.

سبحان الله!

وهذا يدل على أن طول العمر مع حُسن العمل من أعظم النعم، بينما طول العمر مع سُوء العمل من أعظم النِّقم؛ لأنه تكثر ذنوبه؛ ولهذا ينبغي عندما تدعو لأحدٍ بطول العمر أن تُقيِّد ذلك بـ: على طاعة الله، أطال الله عمرك على طاعته؛ لأنك إذا قلتَ: أطال الله عمرك، ولم يكن على طاعة الله، كأنك تدعو عليه، فطول العمر مع حُسن العمل نعمةٌ.

هل يُشرع للمسلم أن يسأل الله تعالى أن يُطيل في عمره؟

نعم، لكن ينبغي أن يُقيِّد ذلك بحُسن العمل، تقول: اللهم أَطِلْ عمري مع حُسن العمل، اللهم ارزقني طول العمر مع حُسن العمل، أو أَطِلْ عمري على طاعتك.

وقد دعا النبي بهذا لأنسٍ  فقال: اللهم أَطِلْ عُمُره، فأطال الله عمره حتى جاوز مئة عامٍ.

إذن طول العمر نعمةٌ، ومن أسباب طول العمر: صلة الرحم، ومن أسباب طول العمر: الدعاء أيضًا.

المقصود بِبَسْط الرزق وطول العمر

هنا قال: مَن أحبَّ أن يُبْسَط له في رزقه، وأن يُنْسَأ له في أثره؛ فَلْيَصِلْ رحمه.

إذن دلَّ هذا الحديث على أن صلة الرحم من أسباب بسط الرزق، ومن أسباب طول العمر، لكن كيف نُوفِّق بين هذا وما نجده في الواقع من أناسٍ واصلين لأرحامهم وفقراء؟ ومن أناسٍ واصلين لأرحامهم ويموتون صغارًا؟ يموتون -مثلًا- في سنِّ الشباب أو نحو ذلك، وهم من أعظم الناس صلةً لأرحامهم! فكيف نُوفِّق بين ما ذُكِرَ في هذا الحديث وما نراه في الواقع؟

للعلماء في الجواب عن هذا السؤال عدة أجوبةٍ:

منها: أن المراد بذلك البركة، فمعنى أن يُبْسَط له في رزقه يعني: يُبَارَك له في رزقه، وأن يُنْسَأ له في أثره يعني: يُبَارَك له في عمره، فيكون رزق هذا الواصل مُباركًا، ويكون عمره مُباركًا.

والقول الثاني: أن المقصود ببسط الرزق وطول العمر: بسط الرزق النِّسبي، وطول العمر النِّسبي، وهذا هو القول الراجح.

ومعنى ذلك: أن هذا الإنسان يُكتب عمره في الصحف التي بأيدي الملائكة: أن عمره كذا، مثلًا: أربعون سنةً، وأنه بسبب صلته لرحمه يُمَدُّ له في عمره كذا سنة، فيكتب بالصحف التي بأيدي الملائكة: أن عُمْر فلان ابن فلان أربعون سنةً، وبسبب صلته لرحمه يُصبح عمره خمسين سنةً، لكن الذي في اللوح المحفوظ هو الشيء الذي ينتهي إليه الأمر، أي: خمسون سنةً.

وهكذا بالنسبة لبسط الرزق: يُكتب أن رزق فلان ابن فلان كذا، وبسبب صلته لرحمه يُبْسَط له في رزقه إلى كذا، والذي في اللوح المحفوظ هو ما ينتهي إليه الأمر.

وهذا معنى قول الله : يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ يعني: في الصحف التي بأيدي الملائكة، وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39] يعني: اللوح المحفوظ، هذا لا يدخله مَحْوٌ ولا إثباتٌ.

فهذا أصحُّ ما قيل في الجواب عن هذا السؤال، وبذلك يرتفع هذا الإشكال.

فنقول عن هذا الإنسان الواصل لرحمه الذي رأيته فقيرًا، نقول: لو لم يَصِلْ رحمه لكان أفقر من ذلك، وهذا الذي رأيته واصلًا لرحمه ومات شابًّا لو لم يَصِلْ رحمه لمات قبل ذلك، وبذلك يرتفع الإشكال.

وأعرف رجلًا كان مضرب المثل في صلته لرحمه، وأصابه مرضٌ عُضَالٌ، لا يستمر صاحبه معه طويلًا، واستُؤْصِلَتْ أمعاؤه بسبب ذلك المرض، ومع ذلك عاش ثلاثين عامًا بعد إصابته بالمرض، فقلتُ -والله أعلم-: لعلَّ هذا الرجل أمدَّ الله في عمره بسبب صلته لرحمه، وإلا عادةً إذا أُصيب الناس بهذا المرض لا يعيشون طويلًا، لكن هذا الرجل عاش ثلاثين عامًا، فلعلَّ الله تعالى أمدَّ له في عمره هذه الثلاثين عامًا بسبب صلته لرحمه.

إذن صلة الرحم سببٌ لبسط الرزق وطول العمر، لكن -كما ذكرنا- بسط الرزق النِّسبي، وطول العمر النِّسبي.

ومن اللطائف التي ذكرها بعض أهل العلم: أن الأُسرة التي يكون بين أفرادها تواصلٌ تنمو وتكثر الأسرة، بل القبيلة، وتشيع بين أفرادها البركة، بينما الأسرة التي تنتشر بين أفرادها قطيعة الرحم تبدأ بالانقراض وتُمْحَق منها البركة.

وقد جاء هذا في حديث عائشة رضي الله عنها، وقد حسَّن إسناده بعض أهل العلم: أن النبي قال: صلة الرحم وحُسْن الجوار يعمران الديار، ويزيدان في الأعمار [4].

فصلة الرحم كلها بركةٌ، وإذا سادتْ صلة الرحم في أفراد أسرةٍ تشيع فيها البركة وتنمو، ويكثر الخير فيها، بينما إذا شاعتْ فيها قطيعة الرحم تُمْحَق منها البركة، وتبدأ في الانقراض.

نعم، تفضَّل.

باب: مَن وصل وصله الله

القارئ: قال رحمه الله:

باب: مَن وصل وصله الله.
حدثني بشر بن محمدٍ قال: أخبرنا عبدالله قال: أخبرنا معاوية بن أبي مُزَرِّدٍ قال: سمعتُ عمِّي سعيد بن يسارٍ يُحَدِّث عن أبي هريرة، عن النبي قال: إن الله خلق الخَلْق، حتى إذا فرغ من خلقه قالت الرَّحم: هذا مقام العائذ بك من القطيعة. قال: نعم، أما تَرْضَيْنَ أن أَصِلَ مَن وصلكِ، وأقطع مَن قطعكِ؟ قالت: بلى يا ربِّ. قال: فهو لكِ، قال رسول الله : فاقرؤوا إنْ شِئْتُم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ [محمد:22].
حدثنا خالد بن مَخْلَدٍ قال: حدثنا سليمان قال: حدثنا عبدالله بن دينارٍ، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة ، عن النبي قال: إنَّ الرَّحم شِجْنَةٌ من الرحمن، فقال الله: مَن وصلكِ وصلتُه، ومَن قطعكِ قطعتُه.
حدثنا سعيد بن أبي مريم قال: حدثنا سليمان بن بلالٍ قال: أخبرني معاوية بن أبي مُزَرِّدٍ، عن يزيد بن رُومان، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها -زوج النبي - عن النبي قال: الرحم شِجْنَةٌ، فمَن وصلها وصلتُه، ومَن قطعها قطعتُه.

الشيخ: قال: "باب: مَن وصل وصله الله"، ثم ساق بسنده حديث أبي هريرة : أن النبي قال: إن الله خلق الخلق، وجاء في روايةٍ: لمَّا خلق الله الخلق، وفي روايةٍ: لمَّا خلق الله السماوات والأرض.

حتى إذا فرغ من خلقه قالت الرحم: هذا مقام العائذ بك من القطيعة. قال: نعم، أما تَرْضَيْنَ أن أَصِلَ مَن وصلكِ، وأقطع مَن قطعكِ؟ قالت: بلى يا ربِّ. قال: فهو لكِ.

معنى قوله: هذا مقام العائذ بك من القطيعة

متى حصل هذا؟

متى حصل أن الرحم قامت وقالت: يا ربِّ، هذا مقام العائذ بك من القطيعة؟

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "يحتمل أن يكون هذا بعد انتهاء خلق أرواح بني آدم" عند الإشهاد "عند قوله: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف:172]، لما أخرجهم من صُلْب أبيهم آدم مثل الذَّر".

"ويحتمل أن يكون هذا بعد خلق السماوات والأرض"، والله تعالى أعلم وأحكم.

أما الإشهاد: فإن الله لمَّا خلق آدم أخرج ذُريته من صُلْبه وقال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ۝ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف:172- 173]، كل بني آدم شهدوا هذا، كلنا شهدنا هذا الإشهاد.

فإن قال قائلٌ: أنا لا أتذكره.

طيب، هل تتذكر لمَّا كنتَ في بطن أمك؟ هل تتذكر وقت ولادتك؟ بل هل تتذكر لمَّا كان عمرك سنةً أو سنتين؟

ومع ذلك تُصدِّق، أليس كذلك؟

تُصدِّق أن أُمك حملتك في بطنها، وأنها ولدتك، وأنك عِشْتَ في تلك المرحلة -مرحلة الطفولة- فكيف لا تُصدِّق ربَّ العالمين وهو يُخبرك أنه تعالى استخرج من آدم ذُريته: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا؟!

ولذلك فالإنسان مفطورٌ على معرفة الله ، لكن هذه الفطرة قد تنطمس بالمطامع والشهوات، لكنها تخرج متى؟

تخرج عند الشدة؛ ولهذا لو أن مُلحدًا يُنكر وجود الله يمشي في صحراء، ما معه أحدٌ، ووقع في بئرٍ مُظلمةٍ، وما عنده أحدٌ، ماذا يقول؟

يا الله، يتَّجه بقلبه إلى الله؛ لأنه مفطورٌ.

ولهذا في تاريخ البشرية المُلحدون قِلةٌ أو نُدْرَةٌ، والأقوام السابقة: قوم نوح وعاد وثمود، والأمم السابقة هل كانوا يُنكرون وجود الله؟

ما كانوا يُنكرون وجود الله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25].

المشكلة: عندهم انحرافٌ في العقيدة فقط؛ اتَّخذوا أصنامًا وقالوا: نريد من هذه الأصنام أن تُقَرِّبنا إلى الله: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3].

فيحتمل -والله أعلم- أن الرحم قامتْ بعد الإشهاد، هذا قول بعض أهل العلم.

وقيل: إنه بعد خلق السماوات والأرض، والله أعلم.

هذه أمورٌ غيبيةٌ لا نستطيع الجزم فيها بشيءٍ؛ لأن العقل البشري لا يستطيع أن يصل فيها إلى شيءٍ، أمورها مبناها على الوحي؛ ولذلك ذكر بعض الشُّراح عدة أقوالٍ، ولسنا بحاجةٍ لأن ندخل في هذه الأقوال، ما قاله الله وما قاله رسوله حقٌّ، فنؤمن بأن الرحم كما قال عليه الصلاة والسلام أن الله لمَّا خلق الخلق قامتْ.

طيب، كيف الرحم؟

الرحم شيءٌ معنويٌّ، والله قادرٌ على تجسيد الشيء المعنوي ليكون حسيًّا.

الموت بعدما يستقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، يُؤْتَى به على صورة كبشٍ أملح، ويُذْبَح في مكانٍ بين الجنة والنار، ويُقال: يا أهل الجنة، خلودٌ فلا موت، ويا أهل النار، خلودٌ فلا موت.

كيف موتٌ يُؤْتَى به على صورة كبشٍ؟!

الله على كل شيءٍ قديرٌ، فلا تقل: كيف؟ الله على كل شيءٍ قديرٌ، المهم صحة ما ورد إذا كان من القرآن، أو أن يكون صحيحًا بالسند الصحيح من السُّنة.

إذن لا نُطيل في: متى قامت الرحم وتكلمتْ بهذا الكلام؟ لكنه قد وقع قطعًا.

معنى قوله: مَن وصلكِ وصلتُه، ومَن قطعكِ قطعتُه

قالت الرَّحم: هذا مقام العائذ بك من القطيعة. قال: نعم، أما تَرْضَيْنَ أن أَصِلَ مَن وصلكِ، وأقطع مَن قطعكِ؟ قالت: بلى يا ربِّ. قال: فهو لكِ، فَتَكَفَّل الله تعالى للرحم بأن يصل مَن وصلها، وأن يقطع مَن قطعها.

ما معنى: يصل مَن وصلها، ويقطع مَن قطعها؟

يصل مَن وصلها بكل خيرٍ وبِرٍّ وتوفيقٍ وتيسيرٍ، ويقطع مَن قطع رحمه من كل خيرٍ وبِرٍّ وتوفيقٍ وتيسيرٍ.

ولذلك تجد أن الواصل لرحمه من أَهْنَأ الناس عيشًا، ومن أطيبهم وأكثرهم سعادةً.

وتجد القاطع لرحمه من أتعس الناس وأضيقهم عيشًا، حتى وإن حصَّل مالًا، لكن لا يمكن أن يكون سعيدًا.

هل أحدٌ منكم رأى قاطعًا لرحمه سعيدًا في حياته؟

أبدًا، ما تجد، مستحيل، لا يمكن أن تجد قاطعًا لرحمه سعيدًا في حياته؛ لأن الله تكفَّل بأن يقطعه من كل خيرٍ وبِرٍّ وتوفيقٍ وتيسيرٍ، بينما الواصل لرحمه تكفَّل الله بأن يصله بكل خيرٍ وبِرٍّ وتوفيقٍ وتيسيرٍ.

قال: فاقرؤوا إن شئتم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ۝ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22- 23]، يعني: الذين قطعوا أرحامهم لعنهم الله فأصمَّهم وأعمى أبصارهم.

ولو لم يرد في فضل صلة الرحم إلا هذا الحديث لكفى، ولو لم يرد في ذمِّ قطيعة الرحم إلا هذا الحديث لكفى.

يعني: كون الرحم تقوم وتقول: يا ربِّ، هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فيقول الله: أما ترضين أن أصل مَن وصلكِ؟ وأقطع مَن قطعكِ؟ وتقول: بلى، فيقول: فذلك لكِ، لو لم يرد في فضل صلة الرحم إلا هذا الحديث، وفي ذمِّ قطيعة الرحم إلا هذا الحديث لكفى.

حديثٌ عظيمٌ ينبغي أن يجعله المسلم نُصْبَ عينيه.

معنى قوله: إن الرحم شِجْنَةٌ من الرحمن

وفي الحديث الآخر يقول : إنَّ الرَّحم شِجْنَةٌ من الرحمن، فقال الله: مَن وصلكِ وصلتُه، ومَن قطعكِ قطعتُه.

وفي حديث عائشة: الرحم شِجْنَةٌ، فمَن وصلها وصلتُه، ومَن قطعها قطعتُه.

الشِّجْنَة هي واحدة الشجون، والشجون هي طرق الأودية، كما يُقال: حديثٌ ذو شجونٍ، يعني: يدخل بعضه في بعضٍ، إذا تداخل الحديث ودخل بعضه في بعضٍ.

فمعنى شِجْنَةٌ من الرحمن يعني: أُخذ اسمها من اسم الرحمن.

ويُفسِّر هذا الرواية الأخرى للحديث: أن الله يقول: أنا الرحمن، خلقتُ الرحم، وشققتُ لها اسمًا من اسمي [5]، فهذه الرواية تُفسِّر قوله: شِجْنَةٌ من الرحمن، والروايات يُفسر بعضها بعضًا.

فيكون معنى شِجْنَةٌ من الرحمن هو ما ورد في الرواية الأخرى: أنا الرحمن، خلقتُ الرحم، وشققتُ لها اسمًا من اسمي.

إذن فمعنى شِجْنَةٌ من الرحمن يعني: أُخِذَ اسمها من اسم الرحمن، "رَحِمٌ" من الرحمن، فلا بد أن يُفهم هذا الحديث على الوجه الصحيح بأن المقصود: أن اسم الرَّحم أُخِذَ من اسم الرحمن فقط.

ثم قال: فمَن وصلها وصلتُه، ومَن قطعها قطعتُه، وهو بمعنى الحديث السابق: مَن وصلني وصله الله، ومَن قطعني قطعه الله.

نعم.

باب: تُبَلُّ الرَّحم بِبَلَالِهَا

القارئ: قال رحمه الله:

بابٌ: يَبُلُّ الرَّحم بِبَلَالِهَا.
حدثنا عمرو بن عباسٍ قال: حدثنا محمد بن جعفرٍ قال: حدثنا شعبة، عن إسماعيل بن أبي خالدٍ، عن قيس بن أبي حازمٍ: أن عمرو بن العاص قال: سمعتُ النبيَّ جِهَارًا غير سِرٍّ يقول: إن آل أبي -قال عمرٌو: في كتاب محمد بن جعفرٍ بياضٌ- ليسوا بأوليائي، إنما وَلِيِّيَ الله وصالح المؤمنين.
زاد عَنْبَسَة بن عبدالواحد، عن بَيَانٍ، عن قيسٍ، عن عمرو بن العاص قال: سمعتُ النبيَّ : ولكن لهم رحمٌ أَبُلُّهَا بِبَلَالِها يعني: أَصِلُها بِصِلَتِها.

الشيخ: نعم، قال: "يَبُلُّ الرَّحم بِبَلَالِهَا" أخذ البخاري هذه الترجمة من الحديث: أن عمرو بن العاص قال: سمعتُ النبيَّ جِهَارًا غير سِرٍّ.

قوله: "جِهَارًا" يعني: سمعتُه علانيةً وجَهْرًا؛ لدفع توهُّم أنه أخفى ذلك.

لماذا قال عمرو بن العاص هذا الكلام؟

لأنه سمَّى فيه أناسًا: إن آل أبي فلان، قال: إن آل أبي يعني: فلانًا، ليسوا بأوليائي، وسمَّاهم النبي ، فأراد عمرٌو أن يُبيِّن أن النبي سمَّاهم بأسمائهم، فكأن عَمْرًا يقول: سمعتُ النبي يقول ذلك جَهْرًا، وليس سِرًّا.

قال: يقول: إن آل أبي يعني: فلانًا، وهنا الصحابي أسقط الاسم؛ لما قد يترتب على ذكر الاسم من المفسدة؛ لأن أبناء آل أبي فلانٍ قد يتأذون؛ فلذلك أسقط الراوي الاسم، وإن كان بعض الشُّرَّاح قد ذكروا أسماء، لكن لا فائدة من ذكرها، ينبغي أن نلتزم منهج الصحابة: ألَّا نذكر الاسم، وهذا هو منهج الصحابة ؛ ولذلك تجد بعضهم -يعني- لمَّا ذكروا ماعزًا قالوا: قال رجلٌ.

فإن أمكن أن تُجْمِل ذكر الأسماء ولا تذكر أسماء فهو الأَوْلَى، كما كان يفعل الصحابة في رواياتهم.

"قال عمرو" يعني: الراوي، وليس المقصود: عمرو بن العاص.

لاحظ: هنا البخاري قال: "حدثنا عمرو بن عباسٍ"، فقوله: "قال عمرو" يعني: عمرو بن عباسٍ، "في كتاب محمد بن جعفرٍ بياضٌ"، وهذا يدل على الأمانة في النَّقل، يعني: بياضًا، ولا يدري: هل سقطتْ منه كلمةٌ أم أن الكلام متصلٌ؟

فهذا يدل على أمانة الرواة في النَّقل إلى هذه الدرجة، مع أنه في رواياتٍ أخرى عند مسلمٍ وغيره الحديث: إن آل أبي فلانٍ ليسوا لي بأولياء [6]، لكن لاحظ دقة عمرو بن عباس في النَّقل، قال: "في كتاب محمد بن جعفرٍ بياضٌ" يعني: يريد أن يُبيِّن لمَن يقرأ الرواية بعده أن فيها بياضًا.

وهذا يدل على أنه روى هذا الحديث من الكتاب، وليس مُشافهةً، وفيه دليلٌ على جواز الرواية من الكتاب، فالحديث صريحٌ في أنه مرويٌّ من الكتاب، والكتاب إذا كان محفوظًا عن كاتبه مُعْتَنًى به فقد تكون الرواية منه أولى من الرواية باللفظ.

قال: إن آل أبي فلانٍ ليسوا بأوليائي المراد بالولاية هنا: ولاية القُرْب والاختصاص، وهؤلاء لم يكونوا مسلمين؛ ولهذا قال : إنهم ليسوا بأوليائي، تبرأ منهم لكونهم غير مسلمين.

إنما وليي الله وصالح المؤمنين يعني: وليي مَن كان صالحًا من المؤمنين وإن بَعُدَ نسبه، وليس مَن كان غير صالحٍ وإن قَرُبَ نسبه، فهذا هو معنى الحديث.

وزاد عَنْبَسَة قال: عن عمرو بن العاص قال: سمعتُ النبي قال: ولكن لهم رحمٌ أَبُلُّهَا بِبَلَالِها.

وقوله: بِبَلَالِهَا بفتح الباء، وقيل: بِبِلَالها بكسر الباء، ولكن الفتح عليه أكثر العلماء.

ومعنى بِبَلَالِهَا من البَلَل، وهو النَّداوة، وأطلق ذلك على صلة الرحم كما أطلق اليَبَس على القطيعة؛ لأن النَّداوة من شأنها تجميع ما يحصل فيها وتأليفه، فأطلق ذلك على صلة الرحم.

وعلى هذا فيكون معنى قوله: أَبُلُّهَا بِبَلَالِها يعني: أَصِل صلة الرحم بالمعروف اللائق بها، هذا هو معنى الحديث، فـأَبُلُّهَا بِبَلَالِها يعني: أصل هذه الرحم بِصِلَتِها، وهذا يُؤكد ما ذكرناه سابقًا من أن الرحم لا تسقط صلتهم حتى لو كانوا غير مسلمين.

نعم.

باب: ليس الواصل بالمُكافئ

القارئ: قال رحمه الله:

باب: ليس الواصل بالمُكافئ.
حدثنا محمد بن كثيرٍ قال: أخبرنا سفيان، عن الأعمش والحسن بن عمرٍو وفِطْرٍ، عن مجاهدٍ، عن عبدالله بن عمرٍو -قال سفيان: لم يرفعه الأعمش إلى النبي ، ورفعه حسنٌ وفِطْرٌ- عن النبي قال: ليس الواصل بالمُكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قُطعتْ رَحِمُه وَصَلَها.

الشيخ: نعم، قال: "باب: ليس الواصل بالمُكافئ" أخذ البخاري هذا من الحديث، أخذ هذه الترجمة من الحديث.

ليس الواصل بالمُكافئ يعني: ليس الواصل الصلة الكاملة، وإلا فإن الصلة على سبيل المُكافأة هي نوعٌ من صلة الرحم.

فلو أن رَحِمًا لك أهدى لك هديةً، فأهديتَه هديةً بمثل هديته، فهذه وإن كانت مُكافأةً إلا أنها داخلةٌ في صلة الرحم، ولكن المقصود في الحديث: ليس الواصل يعني: الصلة الكاملة.

وهذا له نظائر من كلام النبي ؛ كقوله: ليس الشديد بالصُّرَعَة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب [7]، وكقوله: ليس الغِنَى عن كثرة العَرَض، ولكن الغِنَى غِنَى النفس [8]، وكقوله: ليس المسكين الذي تردُّه التمرة والتمرتان، ولا اللُّقْمَة واللُّقْمَتان [9]، فهذا إذن أسلوبٌ كان النبي يتبعه.

فعلى هذا معنى الحديث: ليس الواصل يعني: الصلة الكاملة بالمُكافئ، ولكن الصلة الكاملة تكون من الذي إذا قُطعتْ رحمه وصلها، فهذا هو الواصل حقيقةً، فالذي إذا قُطعتْ رحمه وصلها هذا هو الواصل الصلة الكاملة، والواصل الصلة الحقيقية.

ولهذا جاء في "صحيح مسلم": أن رجلًا أتى النبي فقال: يا رسول الله، إن لي قرابةً أصلهم ويقطعوني، وأُحْسِن إليهم ويُسِيؤون إليَّ، وأحلم عنهم ويجهلون عليَّ. فقال له النبي : لئن كنتَ كما قلتَ فكأنما تُسِفُّهم المَلَّ يعني: الرماد الحار، ولا يزال معك من الله ظهيرٌ عليهم ما دُمْتَ على ذلك [10].

فعلى هذا إذا كان لك رحمٌ وقطعك هذا الرحم فينبغي لك أن تصله، فإن هذه هي حقيقة الصلة، هذه هي الصلة الكاملة، ولا تقطع رحمك إذا قطعك، وإنما تصله تبتغي الأجر والثواب من الله .

نعم.

باب: مَن وصل رحمه في الشرك ثم أسلم

القارئ: قال رحمه الله:

باب: مَن وصل رحمه في الشِّرك ثم أسلم.
حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيبٌ، عن الزهري قال: أخبرني عروة بن الزبير: أنَّ حكيم بن حزامٍ أخبره: أنه قال: يا رسول الله، أرأيتَ أمورًا كنتُ أَتَحَنَّثُ بها في الجاهلية من صلةٍ وعَتَاقَةٍ وصدقةٍ، هل لي فيها من أجرٍ؟ قال حكيمٌ: قال رسول الله : أسلمتَ على ما سلف من خيرٍ.
ويُقال أيضًا: عن أبي اليمان: أَتَحَنَّتُ.
وقال معمرٌ وصالحٌ وابن المُسافر: أَتَحَنَّثُ.
وقال ابن إسحاق: التَّحَنُّث: التَّبَرُّر.

الشيخ: "مَن وصل رحمه في الشرك ثم أسلم" يعني: هل يكون له ثواب صلة الرحم؟

يعني: إذا قام بصلة الرحم وهو غير مسلمٍ، ثم أسلم، فهل يُؤجر على صلته لرحمه؟

هذا هو مُراد المُصنِّف من هذه الترجمة.

"عن حكيم بن حزامٍ" حكيم بن حزام عاش ستين سنةً في الجاهلية، وستين سنةً في الإسلام، ويُقال: إنه وُلِدَ في الكعبة.

هذا موجودٌ في ترجمته: أن أُمه دخلتْ جوف الكعبة لتنظر فيها، فأتاها المخاض وولدتْ حكيم بن حزامٍ، فالله تعالى أعلم.

وسأل النبيَّ فقال: يا رسول الله، أرأيت أمورًا كنتُ أَتَحَنَّثُ بها في الجاهلية.

ومعنى "أَتَحَنَّث" فسَّر ذلك البخاري فيما نقله عن ابن إسحاق قال: "التَّحَنُّث: التَّبَرُّر" يعني: أتعبَّد، أمورٌ أتعبَّد بها لله في الجاهلية "من صلةٍ" يعني: صلة رحمٍ، "وعتاقةٍ" يعني: عتق رقبةٍ، "وصدقةٍ، هل لي فيها من أجرٍ؟" فقال له النبي : أسلمتَ على ما سلف من خيرٍ يعني: أنك تُؤْجَر على ذلك.

وهذا يدل على أن الكافر إذا أسلم يُؤْجَر على أعماله الصالحة التي عملها حال كفره، بشرط: ألا تكون تلك الأعمال مما يفتقر إلى نيةٍ، أما إذا كانت مما يفتقر لنيةٍ فلا يُؤْجَر.

فلو صلَّى حال كفره لم تصح صلاته، ولا يُؤْجَر عليها، ولو صام حال كفره لم يصح صيامه، ولا يُؤْجَر عليه، وهكذا بقية الأمور التي تفتقر لنيةٍ، لكن الأمور التي لا تفتقر إلى نيةٍ: كصلة الرحم، وعتق الرقبة، والصدقة؛ هذه إذا أسلم فإنه يُؤْجَر على ما كان يفعله قبل إسلامه.

طيب، وإذا لم يُسلم هل يُثاب على هذه الأمور التي فعلها؟

نقول: أما ما يفتقر لنيةٍ فلا يُثاب عليه: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23].

فنقول: صلاتك غير صحيحةٍ، ولا تُثاب عليها، وصيامك غير صحيحٍ، ولا تُثاب عليه، وهكذا بقية الأمور.

أما التي لا تفتقر إلى نيةٍ مثل: صلة الرحم، والصدقة، وعتق الرقبة، ونحو ذلك، فهذه يُجْزَى عليها الكافر في الدنيا؛ لقول النبي : إن الله لا يظلم مؤمنًا حسنةً؛ يُعْطَى بها في الدنيا، ويُجْزَى بها في الآخرة، وأما الكافر فيُطْعَم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا [11] يعني: مما لا يفتقر لنيةٍ.

ولذلك تجد أن بعض الكفار يعرفون هذا، ويقولون: إذا أردتَ أن تزيد ثروتك فأنفق في وجوه البرِّ تزدد ثروتك.

هذا أمرٌ معروفٌ عندهم، ولهم فيه مؤلفاتٌ.

ولعل هذا المعنى هو الذي ذكره النبي ؛ لأن الإنفاق في وجوه البرِّ يُثاب عليه في الدنيا، فتزيد ثروته بهذا.

وهذا من رحمة الله : أن الكافر إذا أسلم يُؤْجَر على الأمور التي كان يعملها قبل إسلامه مما لا يفتقر لنيةٍ، ويدل على فضل الله تعالى وعظيم إحسانه.

يعني: الكافر إذا أسلم يُغْفَر له ما قد سلف، بل ويُؤْجَر على ما لا يفتقر لنيةٍ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38]، وهذا فيه ترغيبٌ لغير المسلمين في الدخول في الإسلام.

وهكذا أيضًا المُرتد، فالمُرتد لو عمل أعمالًا صالحةً، ثم ارتدَّ، ثم عاد للإسلام، فهل يحبط عمله؟

يعني: إنسانًا حجَّ حجة الإسلام، ثم ارتدَّ، ثم رجع للإسلام، هل يُطالب بإعادة الحجِّ مرةً أخرى؟

لا؛ لأن حبوط العمل لا يكون إلا بالموت؛ لقول الله : وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ [البقرة:217]، فاشترط الله تعالى لحبوط العمل: أن يموت على الردة.

نعم.

باب: مَن ترك صَبِيَّة غيره حتى تلعب به، أو قبَّلها، أو مازحها

القارئ: قال رحمه الله:

باب: مَن ترك صَبِيَّةَ غيره حتى تلعب به، أو قبَّلها، أو مازحها.
حدثنا حبان قال: أخبرنا عبدالله، عن خالد بن سعيدٍ، عن أبيه، عن أم خالدٍ بنت خالد بن سعيدٍ قالت: أتيتُ رسول الله مع أبي وعليَّ قميصٌ أصفر، قال رسول الله : سَنَهْ، سَنَهْ.
قال عبدالله: وهي بالحبشية: حسنةٌ.
قالت: فذهبتُ ألعب بخاتم النبوة فَزَبَرَنِي أبي، قال رسولُ الله : دَعْهَا، ثم قال رسولُ الله : أَبْلِي وأَخْلِقِي، ثم أَبْلِي وأَخْلِقِي، ثم أَبْلِي وأَخْلِقِي.
قال عبدالله: فبَقِيَتْ حتى ذَكَرَ -يعني- من بقائها.

الشيخ: قال: "باب: مَن ترك صَبِيَّة غيره حتى تلعب به، أو قبَّلها، أو مازحها» يعني: من الأطفال، مَن ترك الطفلة تلعب مع غيره، أو أنه يُمازحها أحدٌ من الناس، أو يُقبِّلها، فإن هذا من الأمور الجائزة، فإن الطفل الذي هو دون سنِّ التَّمييز لا عورة له.

وساق البخاري بسنده قصة أم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص، وهي أم خالد بن الزبير بن العوام، تزوجها الزبير بن العوام، فأنجبتْ له خالدًا وعمرًا ابنَي الزبير.

"قالت" يعني: قالت أم خالد: "أتيتُ رسول الله مع أبي" سعيد بن العاص، وكانت طفلةً، "وعليَّ قميصٌ أصفر"، وكانوا قد قدموا من الحبشة، وكانت هذه الطفلة وُلِدَتْ في الحبشة، وكانت نشأتها وطفولتها في الحبشة.

فقال رسول الله مُمازحًا لها: سَنَهْ، سَنَهْ، وفي لفظٍ: سَنَا، سَنَا، هذا سَنَا، يا أم خالد، هذا سَنَا [12].

و"سَنَه" كلمةٌ حبشيةٌ، ليست عربيةً؛ ولهذا قال عبدالله: وهي بالحبشية: حسنة.

"سَنَه" يعني: حسنةً، أو "سَنَا" يعني: حسنًا.

يعني: هذا شيءٌ طيبٌ، حسنٌ؛ كونها لبستْ لباسًا أصفر وتلعب، فأراد النبي أن يُلاطفها، وأن يُمازحها، فأتى بلغة أهل الحبشة؛ لأنها أصلًا نشأتْ في الحبشة، وُلِدَتْ في الحبشة، وتعرف مُصطلحات أهل الحبشة، فالنبي كان يعرف هذا المصطلح: "سَنَه" أو "سَنَا" يعني: حسنًا.

"قالت" يعني: أم خالد "فذهبتُ ألعب بخاتم النبوة".

في روايةٍ أخرى عند البخاري قال: يا أم خالد، هذا سَنَا، وهي طفلةٌ، ومع ذلك كنَّاها النبي ، واستمرت كُنيتها معها، لما تزوجتْ سمَّتْ ولدها: خالدًا؛ خالد بن الزبير.

"فذهبتُ ألعب بخاتم النبوة" يعني: النبي كان عليه رداء، وهي أتتْ تلعب على النبي ، فوجدتْ في ظهره خاتم النبوة.

وخاتم النبوة: شيءٌ أسود بين كتفي النبي فيه شعرات، كالخاتم الذي يُطبع على الورق، وهذا من علامته في الكتب السابقة، كان بين كتفيه مثل الخاتم، عليه شعرات، أسود، فكان يُسمَّى: خاتم النبوة.

فذهبتْ هذه الطفلة تلعب بهذا الخاتم، قالت: "فَزَبَرَنِي أبي" يعني: زجرني، فقال النبي : دَعْهَا هذه طفلةٌ.

ثم قال : أَبْلِي وأَخْلِقِي، ثم أَبْلِي وأَخْلِقِي، ثم أَبْلِي وأَخْلِقِي، ما معنى هذا الكلام؟

يعني: أَبْلِي وأَخْلِقِي هذا كلامٌ تُطلقه العرب وتريد به الدعاء بأن تطول حياتها حتى يَبْلَى الثوب الذي عليها، فكأنه يقول: يعني: أطال الله حياتك حتى يَبْلَى هذا الثوب الأصفر الذي عليكِ، وحتى يَخْلَق ويُصبح خَلِقًا، فهذا هو معنى: أَبْلِي وأَخْلِقِي.

ونظير ذلك قول بعض العامة عندما يرى مَن لبس لباسًا جديدًا يقول: تلبسه -مثلًا- وتُقطِّعه بالعافية.

هذا نظير قول العرب: أَبْلِي وأَخْلِقِي، يعني: هذا مَثَلٌ عامِّيٌّ نظير المَثَل الفصيح، فـ"أَبْلِي وأَخْلِقِي" العرب يقصدون يعني: أن هذا الثوب يبقى عليكِ ولا يَبْلَى إلا بعد عمرٍ طويلٍ، وهكذا أيضًا هذه المقولة أو هذا المثل عند العامة.

العجيب أنه قال عبدالله: فبَقِيَتْ حتى ذَكَرَ من بقائها. يعني: في بعض الألفاظ عند البخاري في رواية الكُشْمَيْهَنِي. يعني: أنها عُمِّرَتْ، ولعلَّ هذا ببركة دعاء النبي ، عُمِّرَتْ أم خالد.

وهذه القصة فيها فوائد:

أولًا: أن من حُسن الخُلُق مُلاطفة الأطفال ومُمازحتهم.

فكان النبي يُلاطف الأطفال ويُمازحهم ويُكنِّيهم، لكن كان عند المزاح لا يكذب، ولا يقول إلا حقًّا.

فهذه الطفلة مازحها النبي :

أولًا: كنَّاها بكُنْيَةٍ، طفلةٌ قال لها: يا أم خالد.

وثانيًا: أتى بكلمةٍ حبشيةٍ: يا أم خالد، هذا سَنَا يعني: حسنًا، وهذا فيه أيضًا معنًى من المُلاطفة.

ثم قال لها: أَبْلِي وأَخْلِقِي ثلاث مراتٍ: أَبْلِي وأَخْلِقِي، ثم أَبْلِي وأَخْلِقِي، ثم أَبْلِي وأَخْلِقِي؛ ولذلك أم خالد لم تَنْسَ هذه القصة مع أنها وقعتْ في طفولتها.

فلاحظ هنا: أن الحديث رواه البخاري عمَّن؟

عن أم خالد نفسها، فلم تَنْسَ هذه القصة مع أنها وقعتْ في طفولتها؛ لعظيم تأثيرها عليها.

فهذا يدل على أنه ينبغي مُلاطفة الأطفال ومُداعبتهم والمزاح معهم، لكن بدون كذبٍ.

وأيضًا دلَّ هذا على استحباب تكنية الأطفال، فالنبي كنَّى هذه الطفلة بأم خالد، وقال: يا أبا عُمَير، ما فعل النُّغَير؟ [13]، كنَّى طفلًا أيضًا أو صبيًّا بأبي عُمَير، فلا بأس بتكنية الطفل.

وهذا -يعني: المزاح والمُؤانسة- يكون مع الصغار والكبار؛ لأن الإنسان إذا بقي صامتًا لا يتكلم، الناس تستوحش منه، فبعض الناس ربما يُسيء به الظنّ، يعني: لماذا هذا ساكتٌ ما يتكلم؟! وتنفر منه، وتستوحش منه، لكن إذا تكلَّم وقام بمُؤانستهم بالكلام المُباح فإنهم يأنسون به؛ ولذلك النبي يقول: مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو لِيَصْمُتْ [14]، يعني: إذا لم تقل خيرًا اصمتْ، لكن إذا كنتَ ستقول خيرًا فالكلام أفضل من الصَّمت.

وبعض الناس يفهم هذا الحديث فهمًا خاطئًا، يظن أن الصمت أفضل، وهذا غير صحيحٍ، فقوله الخير أفضل من الصمت، لكن إذا كنت لن تقول خيرًا، إذن اصمتْ.

فهذا يدل على أنه يُستحب للإنسان أن يُلاطف الحضور ومَن كان معه في المجلس، وأن يُباسطهم، وأن يُؤانسهم، لكن بشرط: ألا يقع في الكلام المُحرم؛ لأن هذا يدخل في حُسن الخُلُق.

المُؤانسة والمُباسطة مع الصغار والكبار تدخل في حُسن الخلق، وكذلك التَّكنية أيضًا، فالتَّكنية فيها نوع تكريمٍ مع الكبار، ومع الصغار أيضًا، فلا تُنَادِ الإنسان باسمه، وإنما بكُنيته: يا أبا فلان.

وكذلك المزاح، فالمزاح أيضًا يدخل في المُؤانسة والمُباسطة، بشرط: ألا يكون كذبًا.

كان النبي يُمازح، لكن لا يقول إلا حقًّا.

وأيضًا ينبغي ألا يكثُر المزاح من الإنسان بحيث لا يُعرف إلا بذلك؛ لأن هذا يقلب حياة هذا الإنسان من حياة الجدِّ إلى حياة الهزل، لكن إذا كان أحيانًا على غير الغالب فإن هذا يدخل في حُسن الخُلُق؛ ولذلك تجد أن الناس تُحب الذي يُؤانسها ويُباسطها ويُمازحها، يُحبون ذلك أكثر من غيره، أكثر من المُنْقَبِض الصامت الذي ما يتكلم.

وهنا أيضًا قبَّلها النبي ، قبَّل هذه الطفلة؛ ولهذا قال: "تلعب به، أو قبَّلها، أو مازحها"، وتكلَّمنا عن المزاح، وعن اللعب.

تقبيل الأطفال لا حرج فيه، بل هو من الرحمة كما سيأتي؛ ولذلك -كما سيأتينا بعد قليلٍ- الرجل الذي قال: إن لي عشرةً من الولد ما قبَّلتُ منهم أحدًا. فقال النبي : أَوَأَمْلِكُ أنْ نَزَعَ اللهُ الرحمةَ من قلبِك؟! مَن لا يَرْحَم لا يُرْحَم.

نعم.

باب: رحمة الولد وتقبيله ومُعانقته

القارئ: قال رحمه الله:

باب: رحمة الولد وتقبيله ومُعانقته.
وقال ثابتٌ: عن أنسٍ: أخذ النبي إبراهيم فقبَّله وشَمَّه.
حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا مهدي قال: حدثنا ابن أبي يعقوب، عن ابن أبي نُعْمٍ قال: كنتُ شاهدًا لابن عمر وسأله رجلٌ عن دم البعوض، فقال: ممن أنت؟ فقال: من أهل العراق. قال: انظروا إلى هذا يسألني عن دم البعوض وقد قتلوا ابن النبي ! وسمعتُ النبي يقول: هما رَيْحَانَتَايَ من الدنيا.

الشيخ: نعم، هذه القصة وقعتْ لهذا الصحابي الجليل ابن عمر، سأله رجلٌ عن دم البعوض، يعني: هل يجوز قتل البعوض؟ قال: "ممن أنت؟" قال: من أهل العراق. قال: "انظروا إلى هذا يسألني عن دم البعوض وقد قتلوا ابن النبي "، فيقتلون الحسين ويسألون عن دم البعوض!

وسمعتُ النبي يقول: هما رَيْحَانَتَايَ من الدنيا.

قبل هذا قال ثابتٌ: عن أنسٍ: أخذ النبي إبراهيم فقبَّله وشمَّه.

وهنا أورد البخاري هذه الرواية بصيغة التعليق المجزوم به، ولم يذكرها موصولةً، لكن ورد وصلها في رواياتٍ أخرى.

إبراهيم ابن النبي هو أصغر أبنائه، وأمه مارية القبطية، فأخذه النبي وهو صغيرٌ وقبَّله وشَمَّه، ولكنه مات صغيرًا، وكان من قدر الله أن مات إبراهيم في اليوم الذي كُسِفَتْ فيه الشمس، وكان عند الناس اعتقادٌ في الجاهلية: أن الشمس لا تنكسف إلا لموت عظيمٍ أو ولادة عظيمٍ، فقالوا: إذن كُسِفَت الشمس لأجل موت إبراهيم ابن النبي . فقال : إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته [15]، ولكنَّ الله تعالى يُخوِّف بها عباده [16].

ثم إن النبي لما مات ابنه إبراهيم دمعتْ عيناه، فقال له بعض الصحابة: "وأنت يا رسول الله؟!" تدمع عيناك، أين الصبر؟ أين الرضا؟ فقال : إنها رحمةٌ، ثم قال: إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يَرْضَى ربُّنا، وإنَّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون [17].

فدلَّ هذا على أن دمع العين وحزن القلب عند موت العزيز على الإنسان لا يُنافي الصبر، ولا يُنافي الرضا، بل هي رحمةٌ من الله ، وليس جزعًا ولا تَسَخُّطًا، وإنما هذا مُقتضى الجِبِلَّة البشرية، فالإنسان له مشاعر، وإذا مات عزيزٌ عليه لا بأس أن تدمع عيناه، وأن يحزن قلبه، لكن الممنوع هو النِّياحة، أو ضرب الخدود وشقّ الجيوب، ونحو ذلك.

ولمَّا ذكر ابن تيمية رحمه الله موقف النبي ودمع عينيه عندما مات ابنه إبراهيم، وذكر موقف الفُضيل بن عياضٍ: أنه لما مات ابنه جعل في المقبرة يضحك، فقالوا: كيف تضحك وقد مات ابنك؟! قال: إن الله قضى قضاءً، فأحببتُ أن أُظْهِر الرضا بقضاء الله وقدره.

قال ابن تيمية مُعلقًا على ذلك: إن موقف النبي أفضل من موقف الفُضيل بن عياض، لماذا؟

لأن النبي جمع بين الرحمة والرضا، بينما الفُضيل بن عياض لم يستطع الجمع بينهما، فغلَّب جانب الرضا على الرحمة، فموقف النبي أفضل؛ جمع بين الرحمة -فدمعتْ عيناه- والرضا، بينما الفُضيل ما استطاع أن يجمع، فغلَّب جانب الرضا على جانب الرحمة.

وهذه القصة التي حصلتْ لابن عمر رضي الله عنهما، يعني: عن هؤلاء الذين يسألون ابن عمر: هل يقتلون البعوض أم لا يقتلونه؟ وهم قد قتلوا الحسين، فتعجب ابن عمر: كيف تسألون هذا السؤال؟! واعجبًا! تقتلون الحسين وتسألون عن دم البعوض!

وهذا يُقال توبيخًا لمَن سأل عن الشيء الصغير وقد ارتكب الشيء الكبير، يعني: هؤلاء يقتلون الحسين ثم يسألون: هل يجوز أن نقتل البعوض أو ما نقتل البعوض؟ أنتم قتلتم الحسين، فكيف تسألون عن قتل البعوض؟!

قال: وقد سمعتُ النبي يقول: هما رَيْحَانَتَاي من الدنيا، رَيْحَانَتَاي تثنية ريحانة، يعني: الحسن والحسين من جملة الرياحين الذين هم لي في الدنيا؛ لأن الأولاد يُشَمُّون ويُقَبَّلون، فكأنه يقول: هما نصيبي من الريحان الدنيوي.

ومن فوائد هذا الحديث: الإنكار على مَن يقع في الكبيرة ويسأل عن الصغيرة، فهذا عنده عدم توازنٍ، فَيُنْكَر عليه، كما حصل لهؤلاء الذين قتلوا الحسين ويسألون عن قتل البعوض.

وكما حصل لبني إسرائيل الذين كانوا مع موسى؛ عبدوا العجل، ووقعوا في الشرك بالله، ولما لَحِقَ بهم فرعون أخذوا حُلِيًّا معهم وقالوا: إنا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا [طه:87] يعني: هذا الحُلي أخذناه من آل فرعون، ما حكمه؟

طيب، أنتم فعلتُم ما هو أعظم: عبدتم العجل، وتسألون عن حُلِيٍّ أخذتُموه؟!

يعني: هم فعلوا الشيء الكبير، ويسألون عن الشيء الصغير.

فلذلك أنكر ابن عمر على هؤلاء الذين سألوا عن دم البعوض وقد قتلوا الحسين.

نعم.

القارئ:

حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شُعيبٌ، عن الزُّهري قال: حدثني عبدالله بن أبي بكرٍ: أنَّ عروة بن الزبير أخبره: أنَّ عائشة -زوج النبي - حدَّثته قالت: جاءتني امرأةٌ معها ابنتان تسألني، فلم تجد عندي غير تمرةٍ واحدةٍ، فأعطيتُها، فَقَسَمَتْها بين ابنتيها، ثم قامتْ فخرجتْ، فدخل النبيُّ فحدَّثتُه، فقال: مَن يَلِي من هذه البنات شيئًا، فأحسن إليهنَّ، كُنَّ له سترًا من النار.

الشيخ: نعم، هذه القصة وردتْ بروايةٍ أخرى، ومنها رواية مسلمٍ: أن هذه المرأة مسكينةٌ، ومعها ابنتان، فأعطتها عائشةُ ثلاث تمراتٍ، فأعطتْ كل واحدةٍ من ابنتيها تمرةً، ورفعت التمرة الثالثة تريد أن تأكلها، فاستطعمَتْها ابنتاها، فأخذتْها وشقَّتها شقّين، وأعطتْ كل واحدةٍ من ابنتيها نصف تمرةٍ، ولم تأكل شيئًا، قالت عائشة: فأعجبني شأنها. فذكرتْ ذلك للنبي ، فقال: إن الله قد أوجب لها بها الجنة [18]، وفي هذه الرواية قال: مَن يَلِي من هذه البنات شيئًا، فأحسن إليهنَّ، كُنَّ له سترًا من النار.

وهذا يدل على فضل الإحسان للفقراء والمساكين، وأن أجره عند الله عظيمٌ جدًّا، فهذه المرأة أخذتْ تمرةً وقسمتها بين ابنتيها، فأوجب الله لها بها الجنة، فهذا يدل على فضل الإحسان للفقراء وللمساكين وللأرامل وللأيتام الفقراء ونحوهم، وأن الله تعالى قد يرفع الإنسان بسبب ذلك درجات علية، بل قد يُوجب الله تعالى له بسبب ذلك الجنة إذا وقع هذا الإحسان موقعه.

وأيضًا دلَّ هذا الحديث على أن الإنسان قد يعمل العمل الصالح، ويبلغ عند الله تعالى مبلغًا عظيمًا، وهو لا يشعر.

قد يعمل عملًا صالحًا يستهين به، ما يظن أنه يبلغ عند الله هذه المنزلة، لكنه يبلغ عند الله تعالى مبلغًا عظيمًا.

هل هذه المرأة كان يخطر ببالها أن تمرةً تشقّها بين ابنتيها نصفين أن الله يُوجب لها بسبب ذلك الجنة؟

ما خطر ببالها.

ومن ذلك قول النبي : إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، ما يظن أن تبلغ ما بلغتْ، فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه [19]، كلمةٌ ما ألقى لها بالًا.

قال بعض الشُّراح: إنها الكلمة التي يَذُبُّ بها عن عِرْض مسلمٍ في مجلس سلطانٍ.

مسلمٌ انتُهِكَ عِرْضُه تُدافع عنه، خاصةً إذا كان في مجلس سلطانٍ أو مجلسٍ كبيرٍ، فتُدافع عنه لله ، فربما تكون هذه هي الكلمة التي يكتب الله تعالى للعبد بها رضوانه إلى يوم يلقاه.

والصحيح أن هذا مثالٌ، وليس حصرًا، لكن بعض الشُّراح ذكروا هذا.

يعني: لعل المقصود بهذه الكلمة هو هذا: الدفاع والذَّب عن عِرْض المسلم عندما يُنْتَهك عِرْضُه، ولكن أيضًا في المقابل قد يفعل الإنسان المعصية يستهين بها فيكتب الله تعالى بها سخطه إلى يوم يلقاه: وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله، ما يظن أن تبلغ ما بلغتْ، فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه [20].

وأيضًا قال رجلٌ: والله لا يغفر الله لفلانٍ. قال الله: مَن ذا الذي يتألَّى عليَّ ألا أغفر لفلانٍ؟! فإني قد غفرتُ لفلانٍ، وأحبطتُ عملك [21].

هل كان هذا الرجل يخطر بباله أن هذه الكلمة سببٌ لحبوط العمل؟

أحيانًا يستهين الإنسان بالمعصية، لكن يكون إثمه عند الله تعالى عظيمًا؛ ولهذا فعلى المسلم أن يحذر المعاصي كلها، وألا يستهين بشيءٍ من المعاصي، وأيضًا يحرص على الطاعات، فلا يدري ربما أن عملًا صالحًا يستقلّه ولا يراه كثيرًا يكون عند الله تعالى عظيمًا.

لا تدري أين محالّ محابِّ الله تعالى ومرضاته.

رُبَّ مساعدةٍ يسيرةٍ لأرملةٍ أو مسكينٍ أو يتيمٍ يكتب الله تعالى لك بسببها أجرًا عظيمًا.

رُبَّ كلمةٍ تُدافع بها عن مسلمٍ يكتب الله تعالى لك بها رضوانه إلى أن تلقاه، فلا تحتقر أي عملٍ صالحٍ.

وفي هذه الرواية قال : مَن يَلِي من هذه البنات شيئًا، فأحسن إليهنَّ، كُنَّ له سترًا من النار، وهذا فيه إشارةٌ إلى أن المرأة لها ولايةٌ على ابنتيها؛ لقوله: مَن يَلِي من هذه البنات، والمقصود هي تلك المرأة.

وفيه دلالةٌ على أن الإحسان للبنات من أسباب النَّجاة من النار، وإنما قال النبي ذلك؛ لأنهم كانوا في الجاهلية يحتقرون البنات، ويحتقرون المرأة، بل يدفنون الفتاة وهي حيةٌ، فالإسلام أبطل ذلك، وأتى بعكس ذلك، وجعل الإحسان للبنات سترًا من النار لصاحبه يوم القيامة.

نعم.

القارئ: قال رحمه الله:

حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا الليث قال: حدثنا سعيدٌ المَقْبُرِيُّ قال: حدثنا عمرو بن سُليمٍ قال: حدثنا أبو قتادة قال: خرج علينا النبي ، وأُمامة بنت أبي العاص على عاتقه، فصلَّى، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع رفعها.

الشيخ: وهذا الحديث أيضًا رواه مسلمٌ.

وأُمامة بنت أبي العاص هي بنت زينب بنت النبي ، والنبي هو جدُّها لأُمها، وكانت طفلةً، ولما ماتت أُمها زينب جعلتْ تبكي، ودخلتْ على النبي وهو يُصلي بالناس صلاة العصر، فمن رحمته ومُلاطفته -وتعويضًا لها عن فقد أُمها- جعل يحملها في صلاته، مع أنها صلاة فريضةٍ، ولكن الموقف كان يستدعي ذلك؛ طفلةٌ فقدتْ أُمها، وتعلَّقتْ بجدِّها وهو يُصلي بالناس، فجعل يحملها في صلاته، فإذا قام حملها، وإذا سجد وضعها، وهذا من رحمته وكريم خُلُقه ومُلاطفته لهؤلاء الأطفال؛ ولذلك أورد البخاري هذا الحديث في هذا الباب.

أيضًا في هذا الحديث من الفوائد: أن الحركة في الصلاة إذا لم تكن كثيرةً ومُتواليةً لا تُؤثِّر على صحة الصلاة، فإن حمل الطفل ووضعه حركةٌ، وفي صلاة الفريضة، ومع ذلك لم تُؤثِّر على صحة الصلاة.

وما يعتقده بعض العامة من أن ثلاث حركاتٍ تُبْطِل الصلاة هذا غير صحيحٍ.

إذن ما ضابط الحركات التي تُبْطِل الصلاة؟

ضابط الحركات التي تُبْطِل الصلاة هو: الحركات الكثيرة المُتوالية عُرْفًا لغير ضرورةٍ.

فلا بد أن تكون الحركات كثيرةً، فإن كانت قليلةً لم تبطل الصلاة.

ولا بد أن تكون مُتواليةً عُرْفًا، فلو كانت -مثلًا- حركة في الركعة الأولى، ثم في الثانية، ثم في الثالثة، لم تبطل الصلاة.

ولا بد أن تكون لغير ضرورةٍ، أما لو كانت لضرورةٍ فإنها أيضًا لا تُبْطِل الصلاة.

فمثلًا: لو أن أحدًا يُصلي، ثم أتاه اتصالٌ بالهاتف الجوال، لا بأس أن يأخذ الجوال ويقفله، ولا يترك الجوال يعمل ويُزْعِج المُصلين، وهذه الحركة حركةٌ يسيرةٌ؛ لأن بعض الناس تجد أن جواله تأتيه اتصالاتٌ ولا يقفل الصوت؛ لأنه يعتقد أن ثلاث حركاتٍ تُبْطل الصلاة، فتجد أنه ما يتحرك، لكنه يقع فيما هو أسوأ؛ يُزْعِج المُصلين، فالأَوْلَى أن يقفل جواله، أو أن يضعه على الصامت حتى لو كان في الصلاة.

إذن الحركة اليسيرة لا تُبْطِل الصلاة.

ومثل ذلك أيضًا: لو أن الإمام حرَّك اللَّاقط لأجل مصلحة الصوت، مثلًا: سبَّب المُكبر إزعاجًا أو تشويشًا، فحرَّكه يمينًا أو يسارًا، أو حتى قفل المفتاح، كل هذا لا بأس به.

فهذه الحركات اليسيرة لا تضر، خاصةً إذا كانت لمصلحةٍ، أما إذا كانت لغير مصلحةٍ فإنها مكروهةٌ، ولا تصل إلى درجة التَّحريم، إنما الحركات الكثيرة المُتوالية عُرْفًا لغير ضرورةٍ فهذه هي التي تُبْطِل الصلاة؛ بحيث مَن يرى هذا المُصلي لا يدري: هل هو يُصلي أو لا يصلي؟

إذا وصل إلى هذه المرحلة: أنك ما تدري هل هذا الإنسان يصلي أو لا يصلي؟ بسبب كثرة حركته، فهذه هي الحركة التي تُبْطِل الصلاة.

القارئ:

حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شُعيبٌ، عن الزُّهري قال: حدثنا أبو سلمة بن عبدالرحمن: أن أبا هريرة قال: قَبَّلَ رسولُ الله الحسن بن عليٍّ وعنده الأقرع بن حابِسٍ التَّميمي جالسًا، فقال الأقرع: إنَّ لي عشرةً من الولد ما قَبَّلْتُ منهم أحدًا. فنظر إليه رسولُ الله ثم قال: مَن لا يَرْحَم لا يُرْحَم.
حدثنا محمد بن يوسف قال: حدثنا سفيان، عن هشامٍ، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء أعرابيٌّ إلى النبي فقال: تُقَبِّلُون الصِّبْيَان؟ فما نُقَبِّلهم. فقال النبي : أَوَأَمْلِكُ لك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟!.

الشيخ: نعم، قال: "قبَّل رسولُ الله الحسن بن عليٍّ، وعنده الأقرع بن حابسٍ التَّميمي"، وهو المقصود بقوله: "جاء أعرابيٌّ"، فاستنكر الأقرعُ وقال: "إنَّ لي عشرةً من الولد ما قَبَّلْتُ منهم أحدًا"، وفي الرواية الأخرى: "تُقَبِّلُون الصِّبْيَان؟ فما نُقَبِّلهم"، فقال : مَن لا يَرْحَم لا يُرْحَم، وقال: أَوَأَمْلِكُ لك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟!.

فدلَّ هذا على أن تقبيل الصبيان من الرحمة، وأنه لا بأس به، ويدخل في مُلاطفة الأطفال، وفي الرحمة بهم، وفي الإحسان إليهم، وهذا من حُسن خُلُق النبي .

وكما ذكرنا أن الطفل الذي هو دون سنِّ التَّمييز لا عورة له أصلًا، فتقبيل الطفل إذن مشروعٌ، وهو من حُسن المُلاطفة، ومن حُسن الخُلُق، وعدم تقبيل الأطفال يدخل في ترك الرحمة؛ ولهذا أنكر النبي على هذا الرجل وقال: مَن لا يَرْحَم لا يُرْحَم، وقال: أَوَأَمْلِكُ لك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟! يعني: هذا هو الذي في شريعة الإسلام.

وأُنَبِّه هنا إلى أنه في بعض الثقافات عند بعض بلاد الغرب: أن تقبيل الطفل يعتبرونه تحرُّشًا، ويُعاقبون عليه، ولكن هذا غير صحيحٍ في شريعة الإسلام، فهو من المُلاطفة وحُسن العِشْرة، ومن حُسن الخُلُق.

هذا طفلٌ دون سنِّ التَّمييز، لا عورة له أصلًا، ولا تخطر ببال الذي يُقبِّل طفلًا الشهوة أصلًا، لا تخطر بباله ولا نسبة 1%، لكن هم ثقافتهم تختلف عنا.

في شريعة الإسلام هذا معدودٌ من الرحمة، ومن حُسن الخُلُق، وفَعَلَه سيد البشر ، وأنكر على هذا الرجل وقال: أَوَأَمْلِكُ لك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟!، مَن لا يَرْحَم لا يُرْحَم، فما فعله النبي هو الحقُّ.

أما اعتبار هذا تحرُّشًا فهذا خلاف الفطرة، فليس هذا من التَّحرش في شيءٍ، ولا يخطر ببال مَن يُقبِّل طفلًا هذا الأمر، ولكن ينبغي أن تضع هذا في ذهنك، يعني: أنه في تلك البلدان مع اختلاف الثقافات هم ليس عندهم هذا الأمر، ويعتبرونه تحرُّشًا، بل يُعاقبون عليه.

نعم.

القارئ: قال رحمه الله:

حدثنا ابن أبي مريم قال: حدثنا أبو غسَّان قال: حدثني زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب : قَدِمَ على النبي سَبْيٌ، فإذا امرأةٌ من السَّبْي قد تَحْلُبُ ثَدْيَها تَسْقِي، إذا وجدتْ صبيًّا في السَّبْي أخذتْه فَأَلْصَقَتْهُ ببطنها وأرضعتْه، فقال لنا النبي : أَتُرَوْن هذه طارحةً ولدها في النار؟ قلنا: لا، وهي تقدر على ألا تطرحه. فقال: لَله أرحم بعباده من هذه بولدها.

الشيخ: في هذه القصة يذكر عمر : أن النبي قَدِمَ عليه سَبْيٌ، فإذا امرأةٌ من السَّبي تَحْلُب ثَدْيَها وتَسْقِي؛ لأن اللبن قد تَحَجَّر في ثديها؛ لأن المرأة المُرْضِع إذا لم تُرْضِع فإن اللبن يتحجر في ثديها فَيُؤْلمها.

ثم إنها وهي تبحث عن طفلها وجدتْ صبيها وطفلها، فمن شدة الفرح بطفلها ألصقَتْه بصدرها ثم أرضعَتْه.

انظر إلى هذه الرحمة العظيمة من هذه الأم بطفلها، أُمٌّ تبحث عن طفلها، وكلما وجدتْ طفلًا أرضعته، حتى وجدتْ طفلها؛ ففرحتْ بذلك فرحًا عظيمًا، وألصقَتْ هذا الطفل بصدرها وأرضعته.

فقال النبي : أَتُرَوْن هذه طارحةً ولدها في النار؟ قالوا: لا، وهي تقدر على ألا تطرحه. قال: لَله أرحم بعباده من هذه بولدها.

سبحان الله!

انظروا إلى عظيم رحمة الله؛ هذه المرأة التي رحمتْ ولدها تبحث عنه، أضاعتْ ولدها حتى وجدته، فألصقته بصدرها، ثم أرضعته.

انظروا إلى رحمة هذه الأم العظيمة، ورحمة الله تعالى بعباده أعظم من رحمة هذه الأم بولدها، وهذا يدل على عظيم رحمة الله بعباده؛ ولهذا من أسمائه: الرحمن، والرحيم.

والرحمن على صيغة "فعلان"، وهذه الصيغة تدل على عظيم الرحمة، وعلى سعة رحمة الله تعالى بعباده، فهي رحمةٌ لجميع العباد.

والرحيم يعني: الرحمة الخاصة بالمؤمنين.

فانظروا إلى عظيم رحمة الله ، والله رحمنٌ، رحيمٌ، يرحم عباده، ويُحب من عباده أن يتوبوا إليه.

يصف النبي فرح الله بتوبة عبده في حديثٍ عجيبٍ، يقول: ‌لله ‌أشدُّ ‌فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاةٍ، فانفلتتْ منه، وعليها طعامه وشرابه.

إنسانٌ في البَرِّ -في صحراء- وعنده ناقته عليها طعامه وشرابه، ثم فقدها، وبحث عنها حتى أَيِسَ منها، فجلس تحت ظلِّ شجرةٍ ينتظر الموت، فبينما هو كذلك نام، فلما استيقظ إذا براحلته عنده عليها طعامه وشرابه؛ ففرح فرحًا عظيمًا، وقال: اللهم أنت عبدي، وأنا ربُّك! أخطأ من شدة الفرح [22].

يقول النبي يعني: فرحة هذا الرجل براحلته هي فرحة إنسانٍ رأى الموت، ثم رأى الحياة، كيف تُعبِّر عن وصف هذا الفرح؟

فرحٌ عظيمٌ جدًّا، وفرح الله بتوبة عبده أعظم من فرح هذا الرجل.

فانظروا إلى عظيم فضل الله ، وعظيم إحسانه لعباده، وعظيم كرمه وجوده ورحمته، مع أنه غنيٌّ عنهم الغنى المُطلق، غنيٌّ عن عباده، لكنه يُحب الجود، ويُحب الكرم، ويُحب أن يرحم عباده، وأن يُحْسِن إليهم.

فانظروا إلى عظيم رحمة الله، وعظيم جوده ومحبته لتوبة عباده.

وصفة الرحمة نُثْبِتها كما أثبتها أهل السُّنة والجماعة، صفةً حقيقيةً لله ، لا تُؤوَّل.

وبعض الطوائف أوَّلتْ صفة الرحمة، بعض الطوائف المُنحرفة أنكرتها، وبعضهم أوَّلوها وقالوا: إن المراد إرادة الإحسان. ولكن هذا قولٌ باطلٌ، والصواب: أنها رحمةٌ حقيقيةٌ على الوجه اللائق بالله ، وليست كرحمة المخلوقين.

نعم.

باب: جعل الله الرحمة مئة جزءٍ

القارئ: قال رحمه الله:

باب: جعل الله الرحمة مئة جزءٍ.
حدثنا الحكم بن نافعٍ قال: أخبرنا شعيبٌ، عن الزُّهري قال: أخبرنا سعيد بن المسيب: أن أبا هريرة قال: سمعتُ رسول الله يقول: جعل الله الرحمة مئة جزءٍ، فأمسك عنده تسعةً وتسعين جزءًا، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء يتراحم الخَلْقُ، حتى ترفع الفرسُ حافرها عن ولدها خشية أن تُصيبه.

الشيخ: قال: جعل الله الرحمة مئة جزءٍ، وفي روايةٍ: خلق الله الرحمة مئة رحمةٍ [23].

لا بد أن نفهم هذا الحديث على وجهه الصحيح، فنقول: الرحمة تنقسم إلى قسمين:

  • القسم الأول: الرحمة التي هي صفةٌ لله غير مخلوقةٍ، مُطلقة، غير مُقيدةٍ، لا تعتريها تجزئةٌ ولا تقسيمٌ، وهي صفةٌ من صفات الله ، فلا يُقال عنها: إنها مئة جزءٍ، أو أنها أكثر أو أقلّ، بل هي من صفات الله كسائر صفاته: كسمعه، وبصره، وسائر صفاته، وصفات الله تعالى غير مخلوقةٍ.
  • والقسم الثاني: الرحمة التي هي مخلوقةٌ، وهذه هي المقصودة في هذا الحديث، وهذه الرحمة مخلوقةٌ، خلقها الله تعالى لعباده ومخلوقاته، وأرسل فيهم جزءًا من مئة جزءٍ، فبها يتراحمون، بها يتراحم الخلق، حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تُصيبه.

وإنما ذكر النبي الفرس دون سائر الحيوانات؛ لأنها أشدُّ الحيوان المألوف الذي يراه الناس حركةً، ومع ذلك هي ترفع حافرها عن ولدها؛ لرحمتها به، فهذه من الرحمة التي جعلها الله تعالى بين الخلائق، وادَّخر تسعةً وتسعين رحمةً إلى يوم القيامة، فهذه رحمةٌ مخلوقةٌ غير الرحمة التي هي صفةٌ من صفات الله .

وهذا يدل على أنه يوم القيامة تتنزل الرحمات، وأن الله تعالى يرحم خلقًا كثيرًا من عباده، ولكن مع ذلك وعد الله بِمِلْء الجنة، وتوعَّد بِمِلْء النار، قال: ولكليكما عليَّ مِلْؤُها، فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله قدمه عليها فتقول: قَطْ، قَطْ [24]، يعني: حسبي، حسبي، مع أن النار عظيمةٌ جدًّا، وفي الموقف يُؤْتَى بجهنم يوم القيامة لها سبعون ألف زمامٍ، مع كل زمامٍ سبعون ألفًا من الملائكة يجرُّونها.

تصور: سبعين ألفًا في سبعين ألفٍ، ومع ذلك لا تمتلئ حتى يضع الربُّ قدمه عليها، فينزوي بعضها إلى بعضٍ، فتقول: قَطْ، قَطْ، قَطْ يعني: حسبي، حسبي.

وأما الجنة فلا تمتلئ أيضًا، فيُنْشِئ الله خلقًا حتى تمتلئ.

فهذا يدل على عظيم رحمة الله بعباده، وأن هذه الرحمة تَعْظُم يوم القيامة، لكن هناك رحمةٌ هي صفةٌ من صفات الله تعالى الذاتية، وهناك رحمةٌ هي رحمةٌ مخلوقةٌ، وهي هذه المئة جزءٍ، والتي أُنْزِل جزءٌ منها للخلق، فهم يتراحمون بها على الأرض.

باب: قتل الولد خشية أن يأكل معه

القارئ: قال رحمه الله:

باب: قتل الولد خشية أن يأكل معه.
حدثنا محمد بن كثيرٍ قال: أخبرنا سفيان، عن منصورٍ، عن أبي وائلٍ، عن عمرو بن شُرَحْبِيلَ، عن عبدالله قال: قلتُ: يا رسول الله، أيُّ الذَّنْب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نِدًّا وهو خلقك، قلتُ: ثم أيُّ؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك، قلتُ: ثم أيُّ؟ قال: أن تُزَانِيَ حليلة جارك، وأنزل اللهُ تصديق قول النبي : وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [الفرقان:68].

الشيخ: نعم، ابن مسعودٍ كانت له أسئلةٌ عظيمةٌ، ومرَّ معنا في الدرس الأول أنه سأل النبي : أيُّ العمل أحبُّ إلى الله؟ وهنا سأله سؤالًا آخر قال: أيُّ الذنب أعظم؟ هذا أيضًا سؤالٌ عظيمٌ لا يقلّ عظمةً عن سؤاله الأول، وهذا يدل على فقه ابن مسعودٍ.

قال: أن تجعل لله نِدًّا وهو خَلَقَك يعني: الشرك بالله، فالشرك بالله هو أعظم الذنوب: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا [النساء:116]، إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ [المائدة:72].

قال: ثم أيّ؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك، وهذا هو موضع الشاهد: قتل الولد، يعني: خشية الفقر، وكما قال سبحانه: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ [الإسراء:31].

وكان هذا موجودًا عند بعض العرب، فكان بعضهم يقتل أولاده خشية الفقر، وبعضهم يقتل أولاده خشية العار: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ۝ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير:8- 9]، فكانت هذه عادات جاهلية أبطلها الإسلام، لكن كان هذا موجودًا، فكان هذا من الذنب العظيم: أن يقتل الإنسان ولده خشية الفقر، مع أن الله تعالى قد تكفَّل برزقه.

قلتُ: ثم أيّ؟ قال: أن تُزَانِيَ حليلة جارك يعني: أن تزني بزوجة جارك.

والزنا من الكبائر، لكنه يكون عظيمًا إذا كان بزوجة الجار، فإنه يكون من أعظم الذنوب؛ لأنه انتهك حقّ الجوار، فيكون قد خان جاره بزناه بامرأته.

وأعظم من ذلك: الزنا بامرأة رجلٍ من المُجاهدين في سبيل الله، يقول في الحديث الذي رواه مسلمٌ: حُرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحُرمة أُمَّهاتهم، وما من رجلٍ من القاعدين يَخْلُف رجلًا من المجاهدين في أهله فَيَخُونُه فيهم إلَّا وُقِفَ له يوم القيامة، فيأخذ من عمله ما شاء، يقول : فما ظنُّكم؟ [25] هل سيُبْقِي له حسنةً؟ لن يُبْقِي له أيّ حسنةٍ، سيأخذ حسناته كلها.

فهذا يدل على أن الزنا وإن كان كبيرةً إلا أنه يَقْبُح ويَعْظُم إثمه إذا كان بامرأة الجار، أو كان بامرأة رجلٍ قد جاهد في سبيل الله .

وأنزل الله تصديق ذلك في سورة الفرقان: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا [الفرقان:68].

ونكتفي بهذا القدر، ونُكمل -إن شاء الله- الشرح بعد درس المغرب، إن شاء الله تعالى.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

^1 رواه البخاري: 5109، ومسلم: 1408.
^2 رواه أحمد: 20481.
^3 رواه ابن ماجه: 3925، وأحمد: 1403.
^4 رواه أحمد: 25259.
^5 رواه ابن حبان في "صحيحه": 748.
^6 رواه مسلم: 215، وأحمد: 17804.
^7 رواه البخاري: 6114، ومسلم: 2609.
^8 رواه البخاري: 6446، ومسلم: 1051.
^9 رواه البخاري: 4539، ومسلم: 1039.
^10 رواه مسلم: 2558.
^11 رواه مسلم: 2808.
^12 رواه البخاري: 5845.
^13 رواه البخاري: 6129، ومسلم: 2150.
^14 رواه البخاري: 6018، ومسلم: 47.
^15 رواه البخاري: 1043، ومسلم: 915.
^16 رواه البخاري: 1048، ومسلم: 915.
^17 رواه البخاري: 1303، ومسلم: 2315.
^18 رواه مسلم: 2630.
^19, ^20 رواه الترمذي: 2319 وقال: حسنٌ صحيحٌ، وابن ماجه: 3969.
^21 رواه مسلم: 2621.
^22 رواه مسلم: 2747.
^23 رواه الطبراني في "المعجم الأوسط": 4711.
^24 رواه مسلم: 2847.
^25 رواه مسلم: 1897.
zh