logo
الرئيسية/دروس علمية/التعليق على كتاب السلسبيل في شرح الدليل/(94) باب طريق الحكم وصفته- من قوله: "إذا حضر إلى الحاكم خصمان.."

(94) باب طريق الحكم وصفته- من قوله: "إذا حضر إلى الحاكم خصمان.."

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علما نافعًا ينفعنا، ربنا آتنا من لدنك رحمةً وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.

وصلنا في التعليق على "السلسبيل في شرح الدليل" إلى "باب طريق الحكم وصفته" في "كتاب القضاء".

طريق الحكم وصفته

قال المصنف رحمه الله:

طريق الحكم

الطريق: هو الذي يُتوصل به إلى الشيء.

والحكم: هو فصل الخصومات.

والمراد: طريقة عمل القاضي وحكم القاضي وكيف يقضي القاضي بين الخصوم.

قال المصنف رحمه الله:

إذا حضر إلى الحاكم خصمان؛ فله أن يسكت حتى يبتدئا، وله أن يقول: أيكما المدعي؟

يعني يقول المصنف: إن الخصمين إذا حضرا عند القاضي؛ فالقاضي مخيرٌ بين أمرين: إما أن يسكت حتى يبتدئ الخصمان بالكلام، أو أنه يقول: أيكما المدعي؟

وقوله: أيكما المدعي؟ ليس تخصيصًا لأحدهما بالكلام؛ لأن السؤال موجَّهٌ لهما جميعًا، والأحسن أن يقول: أيكما المدعي؟

وفي الوقت الحاضر أصبح المدعي هو الذي يتقدم بالدعوى مكتوبةً، ويتضح المدعي من المدعى عليه من الكتابة، ومن المعاملة، ومن الترافع.

لكن الذي يذكره القاضي لمَّا كان الناس قديمًا يذهبون للقاضي ويفصل بينهم شفهيًّا؛ فيحتاج إلى مثل هذا الكلام الذي يذكره المؤلف، أما في الوقت الحاضر فلا نحتاج إلى هذا؛ لأنه أصبح هناك محاكم، وأصبح الترافع يكون مكتوبًا، فالمدعي من المدعى عليه واضحٌ من البداية.

ثم قال المصنف:

فإذا ادعى أحدهما؛ اشتُرط كون الدعوى معلومةً.

هذا هو الشرط الأول لصحة الدعوى ولقبول الدعوى: أن تكون الدعوى معلومةً، ويعبر بعضهم: أن تكون الدعوى محررةً؛ وذلك بأن تكون الدعوى بشيءٍ معلومٍ محددٍ تحديدًا دقيقًا؛ ليتمكن الحاكم من أن يُلزم به إذا ثبت، فلو كانت الدعوى على أمرٍ مجهولٍ؛ فلا تُقبل، أو كانت على أمرٍ غير واضحٍ؛ لا تقبل؛ لأنه عند الحكم: الحاكم سيُلزم به، فلا بد أن يكون ما يُلزم به واضحًا ومحررًا؛ لأن بعض الناس يأخذه الطمع، ويدعي أحيانًا أشياء غير واضحةٍ، فإذا قيل له: حرِّر ما تقول؛ عَجَز، فهذا لا تُقبل دعواه، فالذي له حقٌّ لا بد أن يحدد حقه ويحرره، فهذا هو الشرط الأول: أن تكون الدعوى محررةً.

والشرط الثاني قال:

وكونها منفكةً عما يكذبها.

إذا اقترن بالدعوى ما يكذبها؛ فإنها لا تقبل ولا تصح؛ لو ادعى على إنسانٌ أنه قد قَتَل أو سرق من عشرين سنةً، وعمره مثلًا خمس عشرة سنةً أو ست عشرة سنةً؛ لا تُقبل دعواه، إذا ادعى مثلًا رجلٌ دعوى أنه أبٌ لولدٍ لا يمكن أن يكون منه؛ كأن يكون عُمْر الرجل مثلًا خمسةً وعشرين، وعمر الولد عشرين مثلًا؛ فهنا لا تقبل دعواه، أيُّ دعوى لا تنفك عما يكذبها فإنها غير مقبولةٍ؛ ولذلك فالشهادة برؤية الهلال إذا كان الشاهد يشهد بأمرٍ غير مقبولٍ قطعًا؛ كأن يشهد مثلًا بأن القمر غرب قبل الشمس في اليوم السادس والعشرين من الشهر الهجري القمري، أو اليوم السابع والعشرين؛ لا تُقبل دعواه، حتى لو كان ثقةً؛ لأنه قد يكون وهْمًا.

فإذا خالفت شهادة الشاهد الأمور القطعية؛ فلا تقبل الشهادة.

قال:

ثم إن كانت بدَينٍ؛ اشترط كونه حالًّا.

حتى تتعلق الدعوى بشيءٍ حالٍ؛ قالوا: لأنه لا يملك الطلب بالدين قبل أجله، وهذا هو المذهب عند الحنابلة.

وبعض الفقهاء يقول: تُسمع الدعوى بدينٍ مؤجلٍ لإثبات أصل الحق، ويكون الإلزام به في المستقبل، وهذا هو القول الراجح، يعني: الإنسان مثلًا له على آخر دَينٌ، ويريد أن يثبته، فيرفع دعوى لإثباته، فلا بأس أن تُسمع الدعوى ويثبت أصل الدين، ويقال: ليس لك المطالبة به إلا بعد حلول أجله.

قال:

وإن كانت بعينٍ؛ اشترط حضورها لمجلس الحكم؛ لِتُعَيَّن بالإشارة.

يعني: إذا كانت الدعوى متعلقةً بعينٍ؛ فتُحضَر لمجلس الحكم؛ لأجل أن ينتفي اللَّبس، إلا إذا كانت واضحةً، أو مثلًا يمكن تصويرها في الوقت الحاضر؛ فلا يلزم إحضارها لمجلس الحكم؛ لأن مجلس الحكم الآن في المحكمة، وإحضار مثل هذه الأعيان قد يكون فيه صعوبةٌ، مثلًا: سيارةٌ أو عينٌ كبيرةٌ يصعب إحضارها، لكن يمكن أن تُصوَّر أو يأتي بمواصفاتها، مثلًا يأتي بمواصفاتها ويكفي هذا.

قال:

فإن كانت غائبةً عن البلد؛ وَصَفَها كصفات السَّلَم.

يعني: إن كانت العين المدعى بها غائبةً عن البلد، أو تالفةً، أو في الذمة؛ وصفها المدعي وصفًا دقيقًا كالوصف الذي يُشترط في السلم.

فإذا أتم المدعي دعواه؛ فإن أقر خصمه بما ادعاه.

يعني: الآن المدعي ادعى دعوى محررةً؛ إن أقر المُدَّعَى عليه بما ادعاه المدعي؛ لزمه، وهذا معنى قوله: "فإن أقر خصمه بما ادعاه"، يعني لزمه، لماذا؟ لأن الإنسان مُؤاخَذٌ بإقراره، وكما يقال: الإقرار سيد الأدلة.

أو اعترف بسبب الحق ثم ادعى البراءة؛ لم يُلتفت لقوله، بل يُحلِّف المدعي على نفي ما ادعاه، ويُلزمه بالحق، إلا أن يُقيم بينةً ببراءته.

يعني: إن اعترف المُدَّعَى عليه بسبب الحق، لكنه ادعى البراءة منه بإبراءٍ أو بأداءٍ أو نحو ذلك؛ فلا يُقبل ولا يلتفت لقوله؛ كأن يقول المدعي: أقرضت فلانًا خمسة آلاف ريالٍ ولم يسددها لي، وقال المدعى عليه: صحيحٌ، هو أقرضني خمسة آلاف ريالٍ، لكنه أبرأني منها، أو سددتها؛ فلا يُلتفت لقول المدعى عليه هنا، لا يلتفت؛ يقال: أنت أقررت الآن بأنك أخذت هذا المبلغ قرضًا، فلا يلتفت لكلام المدعى عليه، لكن يُحلف المدعي على نفي ما ادعاه خصمه.

قول المصنف: "بل يُحلِّف"، يعني: القاضي يُحلِّف المدعي على نفي ما ادعاه، يعني على نفي ما ادعاه خصمه، ويُلزمه بالحق، إلا أن يقيم المدعى عليه بينةً على براءته؛ لأن المدعى عليه اعترف بثبوت أصل الحق، وادعى البراءة منه؛ فلا تسمع دعواه إلا ببينةٍ؛ لأن الأصل في هذه الحال مع المدعي، وهو بقاء ما كان على ما كان، فالأصل أنه لم يسدد هذا الدين، والأصل عدم إبراء المدعى عليه.

لكن لو أن المدعى عليه اعترف وقال: هو أقرَضَني خمسة آلاف ريالٍ، لكني سددته، وهذه البينة -معه إيصالٌ، معه شهودٌ- فتقبل دعوى المدعى عليه.

ولاحِظ هنا: أن الإنكار في هذه المسألة إنكارٌ جزئيٌّ ببقاء الحق بعد الاعتراف؛ بسبب ثبوته، هذا هو الإنكار الجزئي.

ثم انتقل المؤلف للكلام عن الإنكار الكلي:

قال:

وإن أنكر الخصم ابتداءً، بأن قال لمُدَّعٍ قرضًا أو ثمنًا: ما أقرضني، أو ما باعني، أو لا يستحق عليَّ شيئًا مما ادعاه، أو لا حق له عليَّ؛ صح الجواب.

أي: أن المدعى عليه إذا أنكر الحق أصلًا وقال لمن ادعى عليه: إنه أقرضه، قال: أصلًا لم يقرضني، وادعى أنه باعه قال: لم يبعني، يعني أنكر أصل المسألة؛ فهنا يكون المدعى عليه قد نفى، فلا يُطالب بشيءٍ، يصح جوابه ولا يطالبه القاضي بشيءٍ حتى يَرُد الكلام إلى المدعي مرةً أخرى، فإذا رد القاضي الكلام إلى المدعي؛ قال المصنف:

فيقول الحاكم للمدعي: هل لك بينةٌ؟

الآن، هذا المدعي ادَّعى على آخر مبلغًا، والمدعى عليه أنكر، فالقاضي يَرُد الكلام للمدعي يقول: هل لك بينةٌ على ما تقول؟ فيطالب القاضي المدعي بالبينة؛ ويدل لذلك ما جاء في "صحيح مسلمٍ" من حديث وائل بن حُجرٍ : أن رجلًا حضرميًّا وكِنْديًّا أتَيَا إلى النبي فقال الحضرمي: يا رسول الله، إن هذا قد ظلمني على أرضٍ لي كانت لي من أبي، فقال الكندي: هي أرضي في يدي أزرعها، وليس له فيها حقٌّ، فقال النبي للحضرمي: ألك بينةٌ؟ قال: لا، قال: فلك يمينه، قال: يا رسول الله، إنه رجلٌ فاجرٌ، لا يبالي على ما حلف عليه، فقال النبي : ليس لك إلا ذلك، فانطلق الكندي ليحلف، فقال النبي لما أدبر: أمَا لئن حلف على ماله ليأكله ظلمًا؛ ليَلقَين الله وهو عنه معرضٌ [1].

سبحان الله! هذا يحصل حتى في عهد النبوة! في هذا العهد الطاهر! ومع ذلك يحصل مثل هذا الشيء؛ لأنهم يَبقَون بشرًا، هذا الآن الحضرمي يقول: "إن الكندي ظلمني"، يعني قد يقع الظلم حتى في عهد النبوة، يقع من بعض الناس على بعضٍ، لكن الحاكم -وهو في هذا المقام هو النبي عليه الصلاة والسلام- إنما يتعامل بالبينات، فلا يمكن انتفاء الظلم، لا يمكن، مهما كان عليه الحاكم من العدل؛ هل هناك أحدٌ من البشر أكثر عدلًا من النبي عليه الصلاة والسلام؟! ومع ذلك وقع الظلم في وقته، قال الحضرمي عن الكندي: "إن هذا قد ظلمني"! والحاكم ليس له إلا الظاهر، وليس له إلا البينات، وأيضًا وجود مثل هذا الرجل الكندي الذي قال الحضرمي: إنه يحلف وهو فاجرٌ، يحلف كاذبًا يعني، هذا حتى وقع في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا يدل على أن البشر يَبقَون بشرًا، والبشر يقع منهم الظلم، ويقع منهم ما يقع من المعاصي، والمُوفَّق من وفقه الله .

قال:

فإن قال: نعم؛ قال له: إن شئتَ فأَحضِرها.

أي إن قال المدعي: نعم لي بينةٌ، فيقول القاضي: إن شئت أحضرها، وهذا أولًا: فيه تلطفٌ بالعبارة مع الخصوم، ثانيًا: لا يقول: أحضر بينتك؛ حتى لا يكون في هذا إلزامٌ للمدعي، يقول: إن شئت أحضرها، يعني: وإن شئت لا تحضرها وتسحب الدعوى.

فإذا أحضرها وشَهِدَتْ؛ سمعها وحَرُم ترديدها.

يعني: إذا أحضر المدعي البينة، مثلًا أتى بشهود؛ سمع القاضي شهادة الشهود، وقَبِل هذه البينة، ولا يجوز له أن يردد البينة، يعني يطلب مثلًا إعادة الشهادة مرةً ثانيةً وثالثةً ورابعةً؛ لأن في هذا إضرارًا بالشهود، والله تعالى يقول: وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ [البقرة:282].

عدالة البينة

ثم انتقل المؤلف بعد ذلك للكلام عما يشترط في الشهود، وحُكم الحاكم بعلمه:

قال:

فصلٌ
ويعتبر في البينة: العدالة ظاهرًا وباطنًا.

"ويعتبر في البينة" -يعني في الشهود- "العدالة ظاهرًا وباطنًا"؛ لقول الله تعالى: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق:2].

وهذه المسألة محل خلافٍ بين الفقهاء:

  • القول الأول: هو ما قرره المصنف رحمه الله من أنه تشترط العدالة في الشهود ظاهرًا وباطنًا، وهو أيضًا مذهب الشافعية.
  • القول الثاني: تكفي العدالة الظاهرة، ولا يشترط العدالة الباطنة، وهذا مذهب الحنفية والمالكية، وروايةٌ عند الحنابلة، واختارها الخِرَقي؛ واستدلوا بقول عمر : "المسلمون عدول بعضهم على بعضٍ"، وظاهر كلام عمر : أن المقصود بذلك: العدالة الظاهرة، قالوا: والعدالة أمرٌ خفيٌّ، سببُه الخوف من الله ، ودليلها الإسلام، فإذا وُجد؛ اكتُفي به، ما لم يقم دليلٌ على خلافه، وهذا هو القول الراجح، وهو الذي لا يسع الناس -خاصةً في وقتنا الحاضر- غيرُه، أنه يُكتفى بالعدالة الظاهرة؛ لصعوبة التحقق من العدالة الباطنة، خاصةً مع كثرة الناس وضعف الارتباط بينهم؛ يصعب التحقق من العدالة الباطنة.
    وهذا يقودنا لمسألةٍ أخرى:
    هل الأصل في المسلم العدالة أو الأصل في المسلم عدم العدالة؟ قولان لأهل العلم:
    • القول الأول: أن الأصل في المسلم العدالة؛ واحتجوا بحديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: جاء أعرابي إلى النبي فقال: أشهد أني رأيت الهلال، فقال له النبي : أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؟، قال: نعم، قال: يا بلال، قم فأذن بالناس فليصوموا غدًا [2]، وهذا الحديث أخرجه ابن خزيمة وغيره.
      ووجه الدلالة: أن النبي قَبِل شهادة هذا الأعرابي بمجرد أنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؛ وهذا يدل على أن الأصل في المسلمين العدالة، لكن هذا الحديث من جهة الصناعة الحديثية ضعيفٌ، هذا الحديث ضعيفٌ،
      وأيضًا استدلوا بقول عمر السابق: "المسلمون عدولٌ بعضهم على بعضٍ"، قالوا: وهذا يدل على أن الأصل في المسلم العدالة.
    • والقول الثاني: أن الأصل في المسلم عدم العدالة، وهذا هو القول الراجح، وقد اختاره الإمام ابن تيمية وابن القيم، رحمهما الله تعالى؛ لأن الله تعالى وصف الإنسان بالظلم والجهل، قال: وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72]، وبمجرد التكلم بالشهادتين لا يوجب انتقاله عن الظلم والجهل إلى العدل؛ ولهذا قال ابن القيم: "إن الغالب في الناس عدم العدالة، وقول من قال: الأصل في الناس العدالة، كلام مُستدرَكٌ، بل العدالة طارئةٌ متجددةٌ، الأصل عدمها، فإن خلاف العدالة مستنده جهل الإنسان وظلمه، والإنسان خلق ظلومًا جهولًا".
      وإذا نظرنا للواقع العملي للمسلمين على مر العصور؛ نجد أنهم يعملون بهذا القول الثاني: وهو أن الأصل في المسلم عدم العدالة؛ ولهذا نجد أن المحدِّثين لا يقبلون رواية المجهول الذي لا يُعلم حاله، ولو كان الأصل في المسلم العدالة؛ لَقُبلت روايته بناءً على هذا الأصل، ويطلب القضاةُ عادةً ممن يأتي بالشهود أن يأتي بمزكِّين لهؤلاء الشهود، ولو كان الأصل في المسلمين العدالة؛ لما احتيج إلى طلب تزكية الشهود.

وعلى هذا فالقول الراجح: أن الأصل في المسلم عدم العدالة، فمجهول الحال لا يُعدَّل ولا يزكى حتى تثبت عدالته؛ لأن الأصل في الإنسان الظلم والجهل: وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72]، وهذا المعنى عبر عنه أبو الطيب المتنبي فقال:

والظلم من شِيَم النفوس فإن تَجد ذا عفةٍ فلعلةٍ لم يَظلمِ

فالأصل في الإنسان: الظلم والجهل والبغي، إلا أن هذه الأمور تُروَّض بالتدين والخوف من الله ونحو ذلك، وإلا فالأصل في الإنسان أنه يظلم ويجهل؛ ولذلك كما نرى في الواقع المعاصر الآن في الاعتداءات والحروب ونحوها، هذه كلها نابعةٌ من أن الأصل في الإنسان الظلم والجهل.

فإذنْ قول من قال: "إن الأصل في المسلم العدالة"، هذا قولٌ مرجوحٌ؛ الأصل عدم العدالة حتى تثبت عدالته، هذا هو الذي -كما ذكرتُ- عليه عمل المسلمين من قديم الزمان، بل يشبه أن يكون إجماعًا عمليًّا من قضاة المسلمين على هذا، إذا أُتي بشاهدٍ مجهول الحال؛ يطلب من يزكي هذا الشاهد.

الأحوال التي يقضي فيها القاضي بعلمه

قال:

وللحاكم أن يعمل بعلمه فيما أقر به في مجلس حكمه، وفي عدالة البينة وفسقها.

الأصل أن القاضي لا يحكم بعلمه، هذا هو الأصل؛ لأن تجويز حكم القاضي بعلمه يترتب عليه مفاسد عظيمةٌ؛ يترتب عليه أنه قد يحكم بما يشتهي فيقول: حكمت على فلانٍ بكذا بعلمي أن الحق له، وكما قال ابن القيم: "لو فتح هذا الباب؛ لوَجَد كل قاضٍ له عدوٌّ السبيلَ إلى قتل عدوه ورجمه وتفسيقه، والتفريق بينه وبين امرأته، لاسيما إذا كانت العداوة خفيةً لا يُمكِن عدوَّه إثباتُها".

فالأصل أن القاضي لا يعمل بعلمه، وإنما يعمل بالبينات، لكن ذكر المصنف حالتين يجوز للقاضي أن يعمل فيهما بعلمه:

  • الحالة الأولى: إذا أقر في مجلس القضاء بأمرٍ، فللقاضي أن يعمل بعلمه، يقول: ألست قلت كذا وكذا في مجلس الحكم؟ فيعمل بعلمه فيما أقر به في مجلس الحكم، وقد ذكر الموفق بن قدامة أن هذا لا خلاف فيه بين العلماء.
  • الحالة الثانية التي يجوز للقاضي أن يعمل فيها بعلمه: عدالة الشهود وفسقهم، فإذا كان القاضي يعرف الشهود بالصلاح والتقوى والعدالة؛ فلا يحتاج إلى أن يطلب من يزكيهم، أو إذا كان يعرفهم بالفسق؛ فله أن يرد شهادتهم، مثلًا: قضية من القضايا أُتي فيها بشاهدٍ معروفٍ أنه من كبار أهل العلم والفضل والصلاح والتقوى، لا يحتاج إلى أن يقول القاضي: "ائت بمن يُزكِّيك"؛ يكفي أن يعتمد القاضي على علمه في تزكية هذا الشاهد، أو إنسانٍ معروفٍ عند القاضي أنه من أرباب المخدرات والجرائم والسوابق؛ فهنا لا يحتاج القاضي إلى أن يطلب تعديله؛ لأنه ثبت عنده فسقه.

فإذنْ يجوز للقاضي أن يعمل بعلمه في عدالة الشهود وفي تفسيقهم.

تزكية الشهود

فإن ارتاب منها؛ فلا بد من المزكِّين لها.

يعني: لو شك القاضي في شهادة الشهود؛ فلا بد من مزكين للشهود، أو كان القاضي يجهل حال هؤلاء الشهود -وهذا هو الغالب- فيطلب تزكيتهم.

فإن طلب المدعي من الحاكم أن يحبس غريمه حتى يأتي بمن يزكي بينته؛ أجابه لما سأله، وانتظره ثلاثة أيامٍ.

يعني لو خشي المدعي هروب المدعى عليه، فطلب من القاضي أن يحبسه حتى يأتي بمن يزكي الشهود، يقول: فيجيبه ويحبسه، ويحدد له مدة الانتظار ثلاثة أيامٍ، ولكن هذا محل نظرٍ؛ لأن الأصل براءة الذمة، فكيف يحبس هذا الإنسان لمجرد دعوى مدعٍ لم تثبت، لكن لو كان بينهما معاملاتٌ ماليةٌ، وخشي المدعي هروب المدعى عليه من البلد؛ يمكن للقاضي أن يطلب منع سفر المدعى عليه، أما أن يحبسه؛ فهذا فيه تعدٍّ على هذا الإنسان، والأصل براءة الذمة، ولا تزال الدعوى دعوى لم تثبت بعدُ؛ يعني ما ذكره المؤلف هنا محل نظرٍ.

فإن أتى بالمُزكِّين؛ اعتبر معرفتهم لمن يزكونه بالصحبة والمعاملة.

يعني إذا أتي بالمزكين لتزكية الشهود، فيشترط في المزكي أن يعرف الشاهد عن قربٍ بطول صحبةٍ أو معاملةٍ.

وهناك قصةٌ مشهورةٌ أخرجها البيهقي في "السنن": أن رجلًا شهد عند عمر بن الخطاب  بشهادةٍ، فقال عمر لهذا الشاهد: لست أعرفك، ولا يضرك أني لا أعرفك، ائت بمن يعرفك -يعني بمن يزكيك- قال رجلٌ من القوم: أنا أعرفه يا أمير المؤمنين، قال: بأي شيءٍ تعرفه؟ قال: أعرفه بالعدالة والفضل، فقال عمر: أهو جارك الأدنى الذي تعرف ليله ونهاره، ومدخله ومخرجه؟ قال: لا، قال: هل تعاملت معه بالدينار والدرهم اللذين يُستدل بهما على الورع؟ قال: لا، قال: هل رافقته في السفر الذي يُستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا، قال: لست تعرفه، ثم قال للرجل: ائت بمن يعرفك [3].

فذكر عمر ثلاثة أمورٍ يمكن أن يعرف بها حقيقة الإنسان:

  • الأمر الأول: السفر، خاصةً السفر قديمًا، كان الناس يسافرون على الإبل، ومدة السفر طويلةٌ؛ فيعرف معدن الإنسان، وتعرف أخلاقه في السفر، أما في الوقت الحاضر فلا يمكن ذلك، إلا إذا صحب السفرَ مشقةٌ، أو طالت مدته، أما إذا كان الإنسان في سفرٍ وهو مرفهٌ، إنسانٌ في درجةٍ أولى، وفي فندقٍ خمسة نجومٍ، ومعه صاحبه، ربما لا يعرف أخلاقه عن قربٍ، لكن عندما يصحب ذلك السفرَ مشقةٌ، أو يكون السفر طويلًا؛ فربما يعرفه.
  • الأمر الثاني: الجوار، خاصةً في الزمن السابق، فالجار يعرف جاره تمامًا بكونه يعرف مدخله ومخرجه، أما الآن فقد لا يعرف الجار حقيقة جاره، بل بعضهم لا يعرف حتى اسم جاره؛ لضعف التواصل والترابط بين الجيران.
  • الأمر الثالث: وهذا الأمر في الحقيقة هو المحك، والصالح لكل زمانٍ، وهو أن يتعامل معه معاملاتٍ ماليةً، فإذا رآه صادقًا في تعاملاته؛ فهذا دليلٌ على صدقه وزكاته وعفته؛ لأن الإنسان ربما يتظاهر بالخير والصلاح، لكن عندما يتعامل معه بالدرهم والدينار؛ يكون شخصًا آخر؛ يبخس الناس حقوقهم، ويتعدى على الآخرين، أو يماطل في أداء الحق، أو نحو ذلك، فتبقى هذه الخصلة -وهي التعامل بالدرهم والدينار- هي المحك، وهي صالحةٌ لكل زمانٍ، فلا تحكم على إنسانٍ أو تزكيه حتى تتعامل معه معاملاتٍ ماليةً.

قال:

فإن ادعى الغريم فسق المزكين، أو فسق البينة المزكاة، وأقام بذلك بينةً؛ سمعت، وبطلت الشهادة.

يعني: لو أن الخصم جرح الشاهد، أو جرح المُزكِّي، وأقام لذلك بينةً؛ قُبل جرحه، وبطلت الشهادة أو التزكية؛ لأنه إذا تعارض الجرح والتعديل في الشاهد؛ قُدم الجرح على التعديل، لماذا؟ لأن الجارح معه زيادة علمٍ بأمرٍ باطنٍ خفي على المُعدِّل، ولأن الجارح مثبتٌ، والمعدل نافٍ، والمثبِت مقدَّمٌ على النافي.

قال:

ولا يُقبل من النساء تعديلٌ ولا تجريحٌ.

لأن ذلك شهادةٌ بما ليس بمالٍ، وليس المقصود منه المال، فأشبه الحدود.

الحكم باليمين عند عدم الشهود أو بطلان شهادتهم

وحيث ظهر فسق بينة المدعي، أو قال ابتداءً: ليس لي بينةٌ؛ قال له الحاكم: ليس لك على غريمك إلا اليمين.

يعني: لو ادعى دعوى، وسأله القاضي: هل لك بينةٌ؟ قال: ليس لي بينةٌ، أو أتى ببينةٍ ثم تبين فسق الشهود، واستطاع المدعى عليه أن يُثبت ذلك بالبينة؛ فيقول القاضي للمدعي: ليس لك على الخصم إلا اليمين؛ لقصة الكِندي مع الحضرمي، فإن النبي قال للحضرمي: ألك بينةٌ؟، قال: لا، قال: فلك يمينه، فلما حلف الكندي؛ قال النبي  للحضرمي: ليس لك إلا ذلك [4].

قال:

فيَحلف الغريم على صفة جوابه في الدعوى، ويُخلِّي سبيله.

يعني: إذا لم يكن للمدعي بينةٌ؛ فالمدعى عليه يَحلف ويُخلَّى سبيله، وصفة تحليفه: أن تكون على صفة جوابه في الدعوى؛ فمثلًا: ادعى المدعي بأنه يطلب المدعى عليه عشرة آلافٍ، وأنكر المدعى عليه؛ يحلف ويقول: والله ليس له عندي عشرة آلافٍ، فتكون صفة الحلف على صفة جوابه في الدعوى، ثم يُخلى سبيله، وتنتهي الخصومة، وتُرفع الدعوى.

قال:

ويحرم تحليفه بعد ذلك.

يعني: يحرم تحليف المدعى عليه بعد حلفه عند القاضي، لا يحلف مرة ثانيةً وثالثةً؛ يكفي تحليفه مرةً واحدةً.

وإن كان للمدعي بينةٌ؛ فله أن يقيمها بعد ذلك.

لو أن المدعي لم يجد بينةً وقت إقامة الدعوى، ثم حلف المدعى عليه وخلي سبيله، ثم إن المدعي وجد بينةً بعد ذلك، وجد شهودًا؛ فله أن يقيم دعوى جديدةً؛ لأن الحق ثابتٌ لا يبطله شيءٌ.

هنا: "فله أن يُقيم (دعوة)"، والصواب: (دعوى).

الحكم بنكول المدعى عليه عن اليمين

قال:

وإن لم يحلف الغريم؛ قال له الحاكم: إن لم تحلف وإلا حكمت عليك بالنُّكول.

يعني: لو أن المدعي لم يأتِ بالبينة، أو ثبت فسق الشهود، ثم توجهت اليمين للمدعى عليه، قيل للمدعى عليه: احلف، رفض، قال: لن أحلف؛ فيُحكم عليه بالنكول، لكن لا بد أن يخبره القاضي بذلك، يقول: إن لم تحلف؛ حكمت عليك بالنكول؛ لأن النبي قضى بالنكول [5]، ثم إن امتناعه عن الحلف قرينةٌ على كذبه، لولا أنه كاذبٌ؛ لحلف؛ لأن الصادق لا يضره حلفه؛ لأنه يحلف على بِرٍّ.

وهذا هو الذي عليه العمل: أنه يُقضى بالنكول، وإن كان المدعى عليه قد يمتنع عن الحلف تورعًا، لكن القاضي ليس له إلا الظاهر، يقول للمدعى عليه: إما تحلف، وإما قضيت عليك بالنكول؛ كما جاء في قصة عبدالله بن عمر رضي الله عنهما لما باع غلامًا له لزيد بن ثابتٍ بثمانمئة درهمٍ، وباعه بشرط البراءة، فقال زيد بن ثابتٍ لعبدالله بن عمر: إني وجدت بهذا الغلام داءً، فاختصما إلى عثمان، فقال عثمان لابن عمر: أتحلف بأنك بعته ولا تعلم أن به داءً؟ فأبى ابن عمر أن يحلف، فقضى عثمان برد العبد على ابن عمر، فباعه ابن عمر بعد ذلك بألفٍ وخمسمئة درهمٍ.

سبحان الله! ربح فيه، مع أنه لما كان باعه لزيد بن ثابتٍ بثمانمئة درهمٍ؛ رده زيدٌ بالعيب، ثم باعه ابن عمر بألفٍ وخمسمئةٍ، والذي يظهر -والله أعلم- أن ابن عمر امتنع عن الحلف تورعًا، ابن عمر معروفٌ ورعه الشديد العظيم؛ كيف تريده أن يحلف على لُعَاعةٍ من الدنيا حتى ولو كان صادقًا. فالذي يظهر: أنه امتنع عن الحلف تورعًا، لكن عثمان الذي كان هو القاضي ليس له إلا الظاهر، حكم على ابن عمر، ولعل الله تعالى عوض ابن عمر وربح في هذا العبد، يعني لما رده زيدٌ وكان قيمته ثمانمئةٍ، وباعه بألفٍ وخمسمئةٍ.

قال:

ويسن تكراره ثلاثًا.

يعني يكرر القاضي على المدعى عليه، يقول: إن لم تحلف وإلا حكمت عليك بالنكول، يكرر ذلك ثلاث مراتٍ.

لكن القول بأنه "يسن" يحتاج إلى دليلٍ، لو أن المؤلف قال: "الأولى"؛ لكان هذا أحسن وأدق في العبارة؛ لأن الغرض هو التفهيم: أن يفهم المدعى عليه بذلك، وهذا لا يقال بأنه سُنةٌ، وإنما يقال: إن هذا هو الأولى؛ لأن الأصل أنه يكفي أن يكون ذلك مرةً واحدةً.

قال:

فإن لم يحلف؛ حَكَم عليه بالنكول، ولزمه الحق.

وهذا هو الذي عليه العمل في المحاكم: القضاء والحكم بالنكول؛ لورود ذلك في السُّنة.

حكم الحاكم يرفع الخلاف، ولا يزيل الشيء عن صفته باطنًا

ثم قال المصنف رحمه الله:

فصلٌ
وحكم الحاكم يرفع الخلاف.

والمقصود بالحاكم هنا: القاضي، أي أن القاضي إذا حكم في المسائل الخلافية؛ فحكمه يرفع الخلاف إذا كانت المسألة اجتهاديةً، لكن بشرط: ألا يخالف حكمُ القاضي نصًّا أو إجماعًا، أما إذا خالف النص أو الإجماع؛ فلا يرتفع الخلاف، ويُنقض حكمه، هذا هو الذي عليه العمل في المحاكم: أن هناك محكمةً ابتدائيةً، ثم محكمة استئنافٍ، ثم المحكمة العليا، فمحكمة الاستئناف تَنظر لحكم القاضي عند الطلب ممن حُكم عليه، وتنظر في حكم القاضي، إن خالف نصًّا أو إجماعًا؛ فتُعيد الأمر إلى القاضي لكي ينظر، فإن تمسك برأيه؛ فإن محكمة الاستئناف لها أن تنقض الحكم.

لكن لو كانت المسألة اجتهاديةً؛ فليس لقاضي الاستئناف أن ينقض حكم القاضي في المحكمة الابتدائية؛ لأن المسألة اجتهاديةٌ، ليس اجتهاد قاضي الاستئناف بأولى من اجتهاد قاضي المحكمة الابتدائية، ففي المسائل الاجتهادية: حكم الحاكم يرفع الخلاف.

قال:

لكن لا يزيل الشيء عن صفته باطنًا.

يعني: إذا حكم القاضي في مسألةٍ؛ فهذا لا يغير الشيء عن حقيقته، لا يجعل الحلال حرامًا ولا الحرام حلالًا؛ لأن الإنسان قد يعجز عن إقامة البينة فيُحكم عليه، هذا لا يبيح لخصمه أن يأخذ هذا الشيء بناءً على حكم القاضي؛ حكم القاضي لا يحلل حرامًا ولا يحرم حلالًا؛ كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: إنما أنا بشرٌ، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون أَلْحَنَ بحجته من بعضٍ، فأقضي على نحو ما أسمع، فمَن قضيت له بشيءٍ من حق أخيه؛ فإنما أقتطع له قطعةً من نارٍ، فليأخذها أو ليدعها [6].

قال:

فمتى حَكَم له ببينةِ زورٍ بزوجيةِ امرأةٍ، ووطئ مع العلم؛ فكالزنا.

لو ادعى رجلٌ على امرأةٍ أنه هو زوجها، وأتى بشاهدَي زورٍ، وحَكَم القاضي بأنه هو زوجها، ووطئها بناءً على ذلك؛ فحكمه حكم الزنا؛ لأن حكم القاضي له لا يحلل له هذه المرأة؛ وذلك لأنه أتى ببينة زورٍ.

حكم الحاكم المخالف في المذهب

مثالٌ آخر، قال:

وإن باع حنبليٌّ متروكَ التسمية، فحَكَم بصحته شافعيٌّ؛ نفذ.

هذا مثالٌ لكون حكم الحاكم يرفع الخلاف، الشافعية يجوِّزون أكل متروك التسمية عمدًا، الحنابلة يشترطون التسمية، فيقول المصنف: متروك التسمية عمدًا لو باعه حنبليٌّ، باع ذبيحةً أو صيدًا متروك التسمية عمدًا، وحَكَم بصحة البيع شافعيٌّ؛ فإنه ينفذ حكمه؛ لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف.

حكم التقليد في المختلف فيه

قال:

ومن قلَّد في صحة نكاحٍ؛ صح، ولم يفارِق بتغير اجتهاده؛ كالحكم بذلك.

يعني: مَن قلد عالمًا مجتهدًا في حكمٍ مختلفٍ فيه؛ صح، ولم يفارق زوجته بتغير اجتهاد المجتهد الذي قلَّده في صحته؛ كما لو حكم له حاكمٌ مجتهدٌ بصحة النكاح، فتغير اجتهاده؛ فإنه لا يلزمه أن يفارق زوجته؛ مثلًا: هذا رجلٌ طلق زوجته، وأفتاه مفتٍ بأن الطلاق لم يقع، وقلده؛ لا يفارق، مع أن المسألة خلافيةٌ، لا يفارق زوجته، وتبقى هذه الزوجة في ذمته، بل حتى لو أن نفس هذا الذي قد أفتى تغيَّر اجتهاده؛ لم يلزمه أن يفارق زوجته لتغير اجتهاده، ما دام أن المسألة خلافيةٌ.

وعلى هذا: لو اجتهد القاضي في حكم مسألةٍ ما، ثم تغير اجتهاده بعد ذلك؛ لا يُنقض حكمه الأول، وهذا قد رُوي عن عمر ، أنه بعدما قضى في مسألةٍ ثم تغير اجتهاده بعد ذلك؛ قيل: إنك قضيتَ بغير ما قضيتَ به سابقًا، قال: تلك على ما قضينا، وهذه على ما نقضي.

ومن فروع ذلك في العبادات: لو اجتهد المسافر في تحديد القبلة وصلى، ثم لما أتى وقت الصلاة الأخرى؛ تغير اجتهاده، لا يلزمه أن يعيد الصلاة الأولى.

ما تصح فيه الدعوى على الغائب ونحوه

قال المصنف رحمه الله:

فصلٌ
وتصح الدعوى بحقوق الآدميين على الميت، وعلى غير المكلف.

يعني كما تصح إقامة الدعوى على الحي؛ فإنها تصح على الميت؛ كأن يدعي مدعٍ على ورثة الميت فيقول: إني أطلب مورثكم مبلغًا قدره كذا.

وأيضًا تصح على غير مكلفٍ؛ كيتيم، كأن يدعي ولي اليتيم بأنه أنفق على فلانٍ اليتيم مبلغًا قدره كذا، وكذلك أيضًا تصح:

على الغائب مسافة قصرٍ، وكذا دونها إذا كان مستترًا، بشرط البينة في الكل.

وتصح الدعوى على الغائب إذا كان في مسافة قصرٍ، وهي أربعة بُردٍ، وهي ما تعادل (80 كيلومترًا)، وكذا لو كان مختفيًا فيما دون مسافة القصر عند آخر البلد لكنه كان غائبًا؛ فيصح الحكم عليه غيابيًّا، لكن بشرط البينة في الكل.

وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يجوز الحكم على الغائب، إلا إذا تعذرت إقامة الدعوى عليه حضوريًّا؛ كالمستتر والممتنع، وقد قال النبي لعليٍّ: إذا تقدم إليك خصمان؛ فلا تسمع كلام الأول حتى تسمع كلام الآخر؛ فسوف ترى كيف تقضي، قال عليٌّ: فما زلت بعد ذلك قاضيًا [7]، أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي.

وعلى هذا: فالأقرب أنه لا يجوز الحكم على الغائب، إلا إذا تعذر إقامة الدعوى عليه في حضوره أو حضور وكيله، أما إذا كان لا يتعذر؛ فلا يجوز إقامة الدعوى عليه في غيابه؛ وعلى ذلك مثلًا: إنسانٌ ادعى على آخر دعوى، لا بد أن يُبلَّغ المدعى عليه، لا بد من تبليغه، ويقال: إن عليك دعوى، وإنه يلزمك أن تحضر في الوقت الفلاني في مكان كذا، فلا بد أن يبلغه، أما أنه لا يُبلَّغ، ويسمع القاضي من المدعي، ويحكم على المدعى عليه غيابيًّا؛ فهذا لا يجوز.

كتاب القاضي إلى قاضٍ آخر

قال:

ويصح أن يكتب القاضي الذي ثبت عنده الحق إلى قاضٍ آخر معيَّنٍ.

هذا يسميه الفقهاء قديمًا: "كتاب القاضي للقاضي"، ويسمى حاليًّا: "الاستخلاف"، والمراد به: الأوراق الثبوتية التي يبعث بها قاضٍ ببلدٍ إلى قاضٍ آخر، وهو يتضمن إثبات حجةٍ قامت عند القاضي المُرسِل في دعوى منظورةٍ أمام قاضٍ آخر.

وهكذا أيضًا لو ادعى مدعٍ بأن له شهودًا في بلدٍ آخر، وأنه يصعب حضورهم أو يشق عليهم، يعني مثلًا: إنسانٌ أقام دعوى في الرياض، والشهود في مكة مثلًا، ويصعب حضورهم؛ فيستخلف القاضي الذي في بلد الشهود؛ لكي يستمع إلى شهادتهم، مع أنه في الوقت الحاضر أصبح يمكن سماع شهادة الشهود عبر الاتصال المرئي، إذا أمكن ضبط ذلك وعدم وجود التزوير؛ فيمكن أن يستفاد من وسائل التقنية الحديثة في هذا المجال.

هذا في الآونة الأخيرة أصبح معمولًا به في القضاء، أصبح القاضي يستمع إلى الخصمين عبر الاتصال المرئي، وكذلك شهادة الشهود، ونحو ذلك؛ فهذا سائغٌ، ولا فرق بين أن يكون القضاء عبر الاتصال المرئي أو أن يكون حضوريًّا، وهذا لا يؤثر في تحقيق العدالة، بل إن هذا وجهٌ من وجوه الانتفاع بوسائل التقنية الحديثة في التيسير على الناس.

وقد أجمعت الأُمة على قبول كتاب القاضي إلى القاضي؛ لقول الله تعالى عن بلقيس: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ۝ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [النمل: 29-30]، فاحتجت به، وذكر الله تعالى هذا على وجه الإقرار، والنبي كان يكتب لملوك ورؤساء العالم يدعوهم إلى الإسلام، وكاتب عُمَّاله وولاته.

قال:

أو غير معينٍ.

كأن يكتب: إلى من يصله كتابي هذا من قضاة محكمة كذا ببلد كذا"، من غير تعيين قاضٍ معينٍ، أو يكتب لرئيس المحكمة مثلًا.

بصورة الدعوى الواقعة على الغائب، بشرط: أن يقرأ ذلك على عدلين ثم يدفعه لهما.

يعني: يكتب القاضي بصورة الدعوى الواقعة على ذلك الغائب، ويقرأ ذلك على رجلين عدلين حتى يشهدا بما في الكتاب ثم يدفعه لهما، وهذا طبعًا بناءً على زمن المؤلف؛ التنقل سابقًا بين البلدان كان على الإبل والدواب وكان صعبًا.

وإذا كتب القاضي إلى قاضٍ آخر؛ لا بد أن يقرأ القاضي الكتاب على شاهدين عدلين ثم يدفعه لهما، أما في الوقت الحاضر فلا يحتاج لهذا كله، تكون المراسلات عبر وسائل التقنية الحديثة، وكتاب القاضي يكون مختومًا وعليه شعار المحكمة؛ فلا يحتاج لهذا كله.

ويقول فيه: وإن ذلك قد ثبت عندي، وإنك تأخذ الحق للمستحق؛ فيلزم القاضي الواصل إليه ذلك العمل به.

يعني المزيد من التحوط والتثبت، والأقرب -والله أعلم- أنه لا يحتاج لذلك كله، وأنه إذا تحقق من كتابة القاضي وعَرَف خطَّه؛ يكتفي بذلك، وفي وقتنا الحاضر أصبحت الكتابة تُوثَّق بالأختام، وعبر الحاسب الآلي، وبأمورٍ يمكن التحقق بها من غير وقوعٍ في اللبس والتزوير.

فهذه القضايا -قضايا المسائل الدقيقة- التي ذكرها المصنف بناءً على ما هو في زمنه.

باب القسمة

قال المصنف رحمه الله:

باب القسمة

تعريف القسمة وأنواعها

"القسمة": من قولهم: قسمت الشيء، إذا جعلته أقسامًا، والقسمة: النصيب، وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ [النساء:8]، وقال الله تعالى: وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ [القمر:28]، وفي الحديث: الشفعة فيما لم يُقسم [8].

تعريف "القسمة" اصطلاحًا: تمييز بعض الأنصباء عن بعضٍ وإفرازها عنها.

ويقسم الفقهاء القسمة إلى قسمين:

  1. قسمة إجبارٍ.
  2. وقسمة تراضٍ.

أحكام قسمة التراضي

قال المصنف:

وهي نوعان: قسمة تراضٍ، وقسمة إجبارٍ.
فلا قسمة في مُشترَكٍ إلا برضا الشركاء كلهم، حيث كان في القسمة ضررٌ ينقص القيمة.

القسمة كما ذكرنا تنقسم إلى: قسمة تراضٍ، وقسمة إجبارٍ.

ضابط قسمة التراضي: أنها هي التي تكون في الأملاك التي لا تُقسم إلا بضررٍ أو رد عوضٍ؛ فهذه لا بد فيها من رضا الشركاء كلهم.

مثال ذلك: مثَّل المؤلف بأربعة أمثلةٍ:

قال:

كحَمَّامٍ، ودُورٍ صغارٍ، وشجرٍ مُفرَدٍ، وحيوانٍ.

يعني: حمَّامٍ صغيرٍ لا يمكن قسمته، أو دارٍ صغيرةٍ أيضًا، أو شجرةٍ واحدةٍ، أو نخلةٍ، أو حيوانٍ؛ جملٍ أو شاةٍ.

ومن أمثلة ذلك في الوقت الحاضر: سيارةٌ مثلًا، فلو اشترك اثنان مثلًا في محلٍّ صغيرٍ، وأرادا أن يقتسماه هنا؛ لا بد من التراضي، لماذا؟ لأنهما لو اقتسما هذا المحل الصغير؛ لأصبح نصيب كل واحدٍ منهما أصغر، ولم يستفد كل واحدٍ منهما من هذا المحل؛ فلا بد من التراضي.

لكن لو تراضيا؛ قال المصنف:

وحيث تراضيا؛ صحت.

لو تراضى الشريكان على قسمة ما فيه ضررٌ؛ فيصح ذلك بأية طريقةٍ؛ كأن يقول مثلًا: "أعوضك عن نصيبك ويكون هذا المحل كله لي"، أو بأية طريقةٍ من الطرق التي يتراضون بها.

وكانت بيعًا يثبت فيها ما يثبت فيه من الأحكام.

قسمة التراضي عند الفقهاء بيعٌ، يشترط فيها شروط صحة البيع.

ثم انتقل المؤلف للكلام عن قسمة الإجبار، قال:

وإن لم يتراضيا فدعا أحدهما شريكه.

طيب، قبل قسمة الإجبار:

إذا لم يحصل التراضي في قسمة التراضي؛ قال:

وإن لم يتراضيا فدعا أحدهما شريكه إلى البيع في ذلك، أو إلى بيع عبدٍ أو بهيمةٍ أو سيفٍ ونحوه مما هو شركةٌ بينهما؛ أُجبر إن امتنع، فإن أبى؛ بِيع عليهما، وقُسم الثمن.

يعني في قسمة التراضي: إذا لم يتراضَ الشريكان على القسمة، ودعا أحدهما الآخر للبيع فأبى؛ فيجبر على البيع، فإن أبى؛ فإن القاضي يبيع ويقسم الثمن عليهما على قدر الحصص.

ولا إجبار في قسمة المنافع.

لأنها معاوضةٌ لا يجبر عليها الممتنع؛ كالبيع.

فإن اقتسماها.

يعني: اقتسما المنفعة.

فإن اقتسماها بالزمن؛ كهذا شهرًا والآخر مثله، أو بالمكان؛ كهذا في بيتٍ والآخر في بيتٍ؛ صح جائزًا.

يعني: هذان مثالان ذكرهما المصنف لقسمة المنافع: إما بالزمان، وإما بالمكان.

بالزمان: طلب أحد الشريكين أن تكون السيارة عنده شهرًا وعند صاحبه شهرًا، وتراضيا على ذلك؛ لا بأس، أما إن لم يتراضيا؛ فلا يُجبر الممتنع؛ لأن القسمة بالزمان فيها أن أحدهما ينتفع بالشيء قبل الآخر، فيترتب عليه تأخير حق أحدهما؛ فلا بد أن يكون ذلك بالتراضي.

مثال للمكان: لو كان هناك بيتان مشترَكان تراضيا أن يسكن أحدهما في بيتٍ والآخر في البيت الآخر؛ صح ذلك.

وقول المصنف: "جائزًا"، يعني غير لازمٍ؛ ولهذا قال:

ولكلٍّ الرجوع.

يعني: لو رجع أحدهما بعد استيفاء نوبته؛ صح رجوعه، لكن يغرم بما انفرد به من النوبة عن الآخر.

واختار ابن تيمية رحمه الله أنه ليس لأحدهما أن يفسخ حتى ينقضي الدور ويستوفي كل واحدٍ منهما حقه من الآخر، وهذا هو الأقرب والله أعلم.

أحكام قسمة الإجبار

ثم انتقل المؤلف بعد ذلك للكلام عن قسمة الإجبار، قال:

والنوع الثاني: قسمة إجبارٍ، وهي ما لا ضرر فيها ولا ردَّ عوضٍ، وتتأتى في كل مَكِيلٍ أو موزونٍ، وفي دارٍ كبيرةٍ أو أرضٍ واسعةٍ، ويدخل الشجر تبعًا.

يعني: قسمة الإجبار هي التي تكون فيما لا ضرر ولا رد عوضٍ في قسمته، سميت بذلك؛ لإجبار الحاكمِ الممتنعَ منهما إذا كملت الشروط؛ كأن يشتركا مثلًا في منزلٍ كبيرٍ وعقارٍ واسعٍ، أو في مزرعةٍ، أو في أرضٍ، وأحدهما يريد القسمة والآخر يأبى، فلا يُقَر هذا الذي يأبى؛ لأن بعض الناس قد يكون غير سويٍّ، أو قد يكون عنيدًا، أو قد يكون لا يرغب أن يبيع، وصاحبه يريد البيع، أو أحدهما يكون قد وضع يده على هذا المِلك، ويريد أن يحرم بقية الورثة مثلًا، فللورثة أو لبعضهم أن يطالبوا ببيع هذا الشيء المشترَك، يُجبَر على القسمة؛ أولًا لأن الإنسان حرٌّ في ممتلكاته، فإذا أراد أن ينفصل عن شريكه؛ لا يجبر على البقاء معه.

والضابط في المانع من قسمة الإجبار: هو نقص القيمة بالقسمة، فنقص القيمة يعتبر ضررًا.

وقسمة الإجبار قال المصنف: لا تعتبر بيعًا.

ليس بيعًا.

لأنها تخالف البيع في أحكامٍ كثيرةٍ؛ إنما هي إفرازٌ لحق الشريكين من الآخَر؛ وعلى هذا: فقسمة التراضي لا بد أن تكون فيما فيه ضررٌ أو رد عوضٍ، أما الإجبار فتكون فيما ليس فيه ضررٌ ولا رد عوضٍ.

والفرق الثاني: أن قسمة التراضي بيعٌ، وقسمة الإجبار إفرازٌ.

قال:

فيُجبِر الحاكم أحد الشريكين إذا امتنع.

يعني: إذا امتنع أحد الشريكين من القسمة أجبره القاضي.

شروط حكم القاضي بالإجبار على القسمة

ولكن يشترط لحكم القاضي بالإجبار على القسمة ثلاثة شروطٍ:

  • الأول: أن يثبت عند الحاكم مِلك الشركاء.
  • الثاني: أن يثبت عنده أنه لا ضرر فيها.
  • الثالث: أن يثبت عنده إمكان تعديل السهام في العين المقسومة من غير شيءٍ يجعل فيها، وإلا لم يجبر الممتنع.

ويصح أن يتقاسما بأنفسهما، وأن ينصبا قاسمًا بينهما؛ يعني إذا تراضيا على القسمة بأية طريقةٍ؛ صح ذلك.

شروط القاسم

لكن القاسم قال المصنف:

ويشترط: إسلامه، وعدالته، وتكليفه، ومعرفته بالقسمة.

هذه شروطٌ مشترطةٌ في القاسم لا بد من تحققها: الإسلام، والعدالة، وأن يكون مكلفًا، وأن يكون عنده خبرةٌ ومعرفةٌ بالقسمة.

أجرة القاسم

طيب، القاسم هذا ربما يحتاج إلى أجرةٍ؛ قال المصنف:

وأجرته بينهما على قدر أملاكهما.

فلو كان مثلًا أحدهما يملك النصف والآخر النصف؛ فعلى كلٍّ منهما نصف أجرة القاسم.

حكم التقاسم بالقرعة

وإن تقاسما بالقرعة؛ جاز، ولزمت القسمة بمجرد خروج القرعة، ولو فيما فيه ردٌّ أو ضررٌ.

إذا اتفقا على القسمة بالقرعة؛ يجوز ذلك؛ لأن القرعة يُلجأ إليها عند الترجيح في الأمور التي ليس فيها ترجيحٌ، وقد وردت القرعة في القرآن في موضعين: في قصة يونس في قول الله تعالى: فَسَاهَمَ -يعني: فاقترع- فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ [الصافات:141]، وفي قصة مريم عليها السلام: إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ [آل عمران:44]، وأيضًا ورد في السُّنة أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد سفرًا؛ أقرع بين نسائه [9]، فالقرعة طريقةٌ شرعيةٌ، تُستعمل عند التساوي في الحقوق والمشاحة فيها وعدم وجود المرجح.

فإذنْ إذا تقاسما بالقرعة؛ لزمت القسمة بذلك.

التخيير في القسمة بلا قرعة

قال:

وإن خَيَّر أحدُهما الآخر بلا قرعةٍ وتراضيا؛ لزمت بالتفرق.

إن خَيَّر أحد الشريكين الآخر فيما تقاسماه بأنفسهما، يعني اقتسما المِلك (أ) و(ب)، فقال: اختر ما تريد، فاختار أحدُهما قسمًا، والآخر القسم الآخر؛ فتلزم هذه القسمة بالتفرق بالأبدان؛ كتفرق المتبايعين.

ما الحكم إن خرج في نصيب أحدهما عيبٌ جهله؟

وإن خرج في نصيب أحدهما عيبٌ جهله؛ خُيِّر بين فسخٍ أو إمساكٍ، ويأخذ الأَرْش.

يعني: لو أنه بعد القسمة أحدُهما وَجد في نصيبه عيبًا، بعدما تقاسما بالتراضي أو بالقرعة وجد عيبًا؛ فيُخير؛ إما أن يفسخ هذه القسمة، أو أن يمسك نصيبه ويأخذ الأرش ويُعوَّض عن هذا النقص.

الغبن في القسمة

لكن قال:

وإن غُبِن غبنًا فاحشًا؛ بطلت.

يعني: تقاسما، ثم أحدهما ادعى الغبن، قال: والله أنا فهمت الموضوع فهمًا خاطئًا، وأنا مغبونٌ، هذه القسمة قسمةٌ ضِيزَى؛ فيُقبل قوله إذا كان الغبن فاحشًا، وتُفسخ أو تبطل هذه القسمة، كما أن الغبن مقبولٌ في البيع؛ فكذلك في القسمة أيضًا مقبولٌ بشرط: أن يكون الغبن غبنًا فاحشًا.

إن ادعى كلٌّ أن هذا من سهمه؛ تحالفا ونُقضت

وإن ادعى كلٌّ أن هذا من سهمه؛ تحالفا ونُقضت.

يعني: اختلفا، لم تكن القسمة واضحةً، فادعى كلٌّ منهما أن هذا من سهمه، وأنكره الآخر، ولا بينة؛ تحالفا، ونُقضت هذه القسمة.

إن حصلت الطريق في حصة أحدهما ولا منفذ للآخر؛ بطلت

وإن حصلت الطريق في حصة أحدهما ولا منفذ للآخر؛ بطلت.

وأيضًا تقاسما ولم ينتبها للطريق، فصار الطريق إلى البيت من نصيب أحد الشريكين بعد القسمة، والثاني لا يستطيع أن يصل إلى مِلكه إلا بهذا الطريق؛ فتبطل القسمة في هذه الحالة، هذا مذهب الحنابلة والشافعية؛ لعدم تمكن الداخل من الانتفاع بما حصل له في القسمة؛ فتبطل القسمة دفعًا للضرر.

القول الثاني: أنه إذا كان عالمًا راضيًا أنه لا طريق له؛ جاز ذلك، وهذا هو القول الراجح؛ لأن الأصل صحة هذه القسمة، ولا شيء يُبطل القسمة طالما أنه تصرف راضيًا عالمًا راشدًا وهو يعلم بذلك؛ فلا تبطل القسمة، وهذا هو الأقرب -والله أعلم- في هذه المسألة.

ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.

^1 رواه مسلم: 139.
^2 رواه أبو داود: 2340، والترمذي: 691، والنسائي: 2113، وابن ماجه: 1652، وابن خزيمة: 1923، 1924.
^3 رواه البيهقي: 761480.
^4 سبق تخريجه.
^5 رواه البخاري: 7192، ومسلم: 1669.
^6 رواه البخاري: 2680، ومسلم: 1713.
^7 رواه أبو داود: 3582، والترمذي: 1331، وأحمد: 690، وقال الترمذي: هذا حديث حسن.
^8 رواه البخاري: 2213.
^9 رواه البخاري: 2593، ومسلم: 2445.
zh