logo
الرئيسية/دروس علمية/التعليق على كتاب السلسبيل في شرح الدليل/(93) كتاب القضاء- من قوله: "وهو فرض كفاية.."

(93) كتاب القضاء- من قوله: "وهو فرض كفاية.."

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علما نافعًا ينفعنا، ربنا آتنا من لدنك رحمةً وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.

نواصل -أيها الإخوة- التعليق على "السلسبيل في شرح الدليل"، ونحن في المجلد الأخير، وكنا قد وصلنا في "السلسبيل في شرح الدليل" إلى:

كتاب القضاء

كتاب القضاء

تعريف القضاء

و"القضاء" معناه في اللغة: القضاء مصدر قَضَى يَقضِي قضاءً فهو قاضٍ إذا حكم.

ويطلق في اللغة على معانٍ؛ منها: إمضاء الحُكم، وهذا هو المقصود هنا، ومنه قول الله : وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ [الإسراء:4]، ويُطلق أيضًا على إحكام الشيء والفراغ منه: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ [فصلت:12].

وتعريفه عند الفقهاء: "تبيين الحكم الشرعي، والإلزام به، وفصل الخصومات".

"تبيين الحكم الشرعي": عندما نقول: تبيين الحكم الشرعي، هذا عامٌّ يدخل فيه القضاء، ويدخل فيه الإفتاء والتوجيه والإرشاد، هذه كلها فيها تبيينٌ للحكم الشرعي.

"والإلزام به": هذا قيدٌ خرج به الفتوى؛ لأن الفتوى ليس فيها إلزامٌ، الفتوى غير ملزمةٍ، بخلاف القضاء فإنه ملزمٌ.

وقولنا في التعريف: "وفصل الخصومات"، يبين الغرض من القضاء، وهو فصل الخصومات وقطع النزاع.

الفرق بين القضاء والإفتاء

والفرق بين القضاء والإفتاء من جهة الإلزام: فالفتوى غير ملزمةٍ والقضاء ملزمٌ، فهذا هو الفرق، لكن الإلزام في القضاء هذا من أبرز مميزاته؛ ولذلك قال عمر في كتابه الذي كتبه لأبي موسى الأشعري : "فإنه لا ينفع تكلُّمٌ بحقٍّ لا نفاذ له".

فإذا كان القاضي سيحكم ولكن لن يُنفَّذ حكمه؛ فما الفائدة كما قال عمر ؟! هذا لا ينفع، لا بد من الإلزام بحكم القاضي، وولي الأمر هو الذي يُلزم، وقد أصبحت هناك محاكم خاصةٌ بالتنفيذ والإلزام، متخصصةٌ في هذا.

لكن أيهما أخطر: القضاء أم الفتوى؟

الفتوى أخطر؛ من جهة أن الفتوى لا تقتصر على المستفتي، بل يَعمل بها غيره، وتُصبح حينئذٍ منهجًا يُؤخَذ به، بخلاف القضاء الذي يقتصر حكمه على المَقْضيِّ عليه ولا يسري على غيره، لكن القضاء من جهةٍ أخرى أخطر؛ من جهة أنه مُلزِمٌ وقد يكون غير صوابٍ، بينما الفتوى ليس بها إلزامٌ، فإذا لم يطمئن المستفتي للفتوى؛ فله أن يستفتي غيره، له أن يستفتي غير مَن أفتاه.

فإذنْ الفتوى أخطر من جهةٍ، والقضاء أخطر من جهةٍ أخرى، وكلاهما فيه مسؤوليةٌ عظيمةٌ؛ ولذلك فعلى المفتي وعلى القاضي أن يستشعرا عظم هذه المسؤولية.

مشروعية القضاء

والأصل في مشروعية القضاء: الكتاب، والسنة، والإجماع.

أما من الكتاب: فقول الله : يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ [ص:26]، وقوله سبحانه لنبيِّه محمدٍ : فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا [المائدة:42].

وربما في الطبعة: وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ، من غير إضافة بقية الآية، لعلها تضاف في النسخة المعدلة: وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا.

أما السُّنة: فمن السنة مِن دلالة القول: حديث عبدالله بن عمروٍ رضي الله عنهما أن النبي قال: إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب؛ فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ؛ فله أجرٌ واحدٌ [1]، متفقٌ عليه.

وقد كان النبي هو الذي يقضي بين الناس، ومِن ذلك: قضاؤه في اختصام عليٍّ وجعفرٍ وزيدٍ في كفالة بنت حمزة [2]، وقضاؤه بين الزبير وجاره [3]، وأقضيةٌ كثيرةٌ، وأيضًا ولَّى القضاة؛ بعث عليًّا إلى اليمن وغيره، بعث عليًّا قاضيًا [4] وغيره، وهكذا الخلفاء الراشدون مِن بعده تولوا منصب القضاء.

منصب القضاء منصبٌ شريفٌ، وفيه فضلٌ عظيمٌ لمن قوي عليه، وقد قام به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فكانوا يحكمون لأممهم، وكذلك الخلفاء الراشدون وبعض كبار الصحابة ، وبعض كبار التابعين، وفيه نصرةٌ للمظلوم وردع للظالم، وأمرٌ بالمعروف ونهيٌ عن المنكر، ودعوةٌ وإرشادٌ وتوجيهٌ؛ ولذلك قال النبي : لا حسد -يعني: لا غبطة- إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا فسلَّطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمةً فهو يقضي بها ويعلمها [5]، متفقٌ عليه.

قوله: فهو يقضي بها ويعلمها، هذا ثناءٌ لمن أعطاه العلم فقضى وعلَّم، ثم إن القاضي إذا تحرَّى العدل والقسط في أحكامه؛ فإنه يُرجى أن يكون من المقسطين، والمقسطون يحبهم الله ؛ كما قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [المائدة:42]، والمقسطون على منابر من نورٍ [6]، كما أخبر بذلك النبي .

فيكفي أن القاضي -إذا كان يتحرى القسط والعدل ما استطاع- أن ينال هذا الشرف العظيم: أن يكون من المقسطين الذين يحبهم الله .

ولأجل علو مرتبة ومنصب القضاء؛ جُعل فيه أجرٌ مع الخطأ، فإذا اجتهد القاضي وبذل وسعه؛ إن أصاب له أجران، وإن أخطأ له أجرٌ واحدٌ [7].

ولبعض أهل العلم كلامٌ في التحذير من القضاء؛ واستدلوا ببعض الأحاديث المروية في ذلك؛ ومنها: حديث بريدة : القضاة ثلاثةٌ: واحدٌ في الجنة، واثنان في النار؛ فأما الذي في الجنة: فرجلٌ عرف الحق فقضى به، ورجلٌ عرف الحق فجار في الحكم، فهو في النار، ورجلٌ قضى للناس على جهلٍ فهو في النار [8]، هذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه، واستدلوا كذلك بحديث أبي هريرة : من ولي القضاء؛ فقد ذُبِح بغير سكينٍ [9]، أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد.

وامتنع بعض السلف من القضاء؛ كابن عمر رضي الله عنهما، وكذلك من الأئمة: الإمام أبو حنيفة، والإمام الشافعي، وجماعةٌ من أهل العلم في شتى الأمصار، لكن هذا محمولٌ على تورُّعهم، وما ورد من الأحاديث في التحذير من القضاء؛ كحديث: القضاة ثلاثةٌ، ومن ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين، فهذا محمولٌ على مَن لا يُحسن القضاء، أو عنده هوًى؛ إما أنه يجهل ولا يحسن القضاء، أو أن عنده هوًى، أما من عنده قدرةٌ على أن يحكم بالحق والقسط؛ فلا يدخل في ذلك؛ لأن القضاء مَنصِبٌ شريفٌ، ويكفي أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد وَلُوا هذا المنصب، والناس لا بد لهم من قضاةٍ يحكمون ويفصلون في الخصومات، ولو أن أهل الفضل تركوا هذا المنصب؛ لتولاه أناسٌ من غير أهل الفضل؛ فيحدث من الشر ما الله به عليمٌ؛ ولذلك فينبغي لأهل الفضل والعلم أن يَلُوا هذا المنصب، فإن من قام بهذا المنصب بحقه؛ فله أجرٌ عظيمٌ عند الله ، ويكفي أنه يكون مقتديًا ومتأسيًا بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

حكم القضاء

قال المصنف رحمه الله:

وهو فرض كفايةٍ.

يعني تَوَلِّي القضاء فرض كفايةٍ على الأمة، إذا قام به بعض من يكفي؛ سقط الإثم عن الباقين؛ لأن أمر الناس لا يستقيم بدونه؛ فكان واجبًا، وطباع البشر مجبولةٌ على التظالم ومنع الحق، وقلَّ من يُنصف من نفسه، والأصل في الإنسان الظلم والجهل، وليس الأصل فيه العدالة؛ كما قال الله تعالى: وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72]، وكما قال المتنبي في بيته المشهور:

والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفةٍ فلِعِلَّةٍ لم يَظلمِ

فالبشر لو لم يجد تقاضيًا وإلزامًا وفصلًا في الخصومات؛ ربما أن بعض الناس يعتدي على بعضٍ، وبعض الناس يسلب حق بعضٍ، ويظلم بعضهم بعضًا؛ فلا بد من القضاء الذي يفصل في الخصومات ويردع الظالم ويُنصف المظلوم.

وجوب تنصيب القضاة على الإمام

قال:

فيجب على الإمام أن يُنصِّب بكل إقليمٍ قاضيًا.

أي: أن اختيار القضاة من مهام الإمام، والإمام هو الرئيس الأعلى في الدولة، الذي يكون المَلِك أو السُّلطان أو الأمير أو الرئيس، فيجب عليه أن يُعيِّن في كل منطقةٍ أو بلدةٍ قاضيًا حسبما تدعو إليه الحاجة.

ويَختار لذلك أفضل من يجد علمًا وورعًا.

يعني: على الإمام أن يختار للقضاء أفضل من يجده في العلم والورع؛ لأنه نائبٌ عن المسلمين، فيجب عليه أن يختار ما هو الأصلح، فلا بد من العلم ولا بد من الورع.

والمؤلف جَمَع بين العلم والورع؛ لأن العلم فيه القوة والقدرة على عمل القضاء، والورع فيه الأمانة، والقوة والأمانة هما ركنا أي عملٍ، وجميع نظريات الإدارة قديمًا وحديثًا ترجع إلى هذين الأمرين: القوة والأمانة، إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ [القصص:26]، قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ [النمل:39].

فأشار المصنف للقوة بقوله: "علمًا"، وأشار للأمانة بقوله: "ورعًا".

فالعلم معناه: أن يكون عنده قدرةٌ على عمل القضاء وعلمٌ بالمقضيِّ به وكيف يقضي بين الناس، ويكون عنده من العلوم الشرعية ما يؤهله للفصل والقضاء في الخصومات، وكذلك الورع، يكون عنده ورعٌ وديانةٌ.

والفرق بين الورع والزهد: أن الورع ترك ما يضر في الآخرة، وأما الزهد فترك ما لا ينفع في الآخرة؛ وبذلك يُعلم أن الزهد أعلى مرتبةً من الورع؛ الورع: ترك ما يضر، فيجتنب المحظورات والمشتبهات، وأما الزهد: فهو ترك ما لا ينفع في الآخرة، ليس فقط يترك المحظورات والمشتبهات، بل يَدَع بعض المباحات التي لا تنفعه في الآخرة؛ من أجل أن يرتقي إلى الكمالات.

قال:

ويأمره بالتقوى وتحري العدل.

أي: وليُّ الأمر عندما يُنصِّب قاضيًا؛ فينبغي أن يأمره بتقوى الله وتحري العدل؛ لأن هذا هو العدل، والفصل بين الخصومات هو الغاية من القضاء.

وتصح ولاية القضاء والإمارة منجَّزةً ومعلَّقةً.

يعني: يصح تولية القضاء معلَّقًا ومنجَّزًا، وهكذا الإمارة، يصح تولية الأمير إمارةً معلقةً ومنجزةً؛ مثلًا: تولية القضاء، يقول: وليتك القضاء الآن، والإمارة: ولَّيتك الإمارة الآن، المعلقة: إن مات القاضي فلانٌ؛ فقد وليتك القضاء، إن مات أمير الجيشٍ؛ ففلانٌ بدله، ونحو ذلك

وشرط لصحة التولية: كونها من إمامٍ أو نائبه فيها.

يعني يُشترط لصحة تولية القضاء: أن تكون من الإمام أو نائبه؛ لأن ولاية القضاء من المصالح العامة؛ فلا تجوز إلا من جهة الإمام أو نائب الإمام.

والعادة الآن أن نائب الإمام هو الذي يقوم بذلك، يعني مثلًا عندنا في المملكة العربية السعودية: المجلس الأعلى للقضاء هو الذي يتولى هذه الأمور، فهم ينوبون عن الإمام في هذه المهام.

وأن يُعيِّن له ما يُولِّيه فيه الحكمَ مِن عملٍ وبلدٍ.

يعني يُشترط لصحة تولي القضاء: أن يحدد الإمام للقاضي موضع قضائه من عملٍ أو بلدٍ.

المراد بالعمل: ما يَجمع مدنًا وقرًى متفرقةً، وهو ما يُسمى في وقتنا الحاضر بالمنطقة.

والبلد يعني المدينة أو القرية؛ مثل أن يقول مثلًا: عيَّنتك في منطقة الرياض في بلدة مثلًا الدِّلَم، أو بلدة الخَرْج، أو الحريملاء، أو أي بلدةٍ من البلدان، أو عينتك في منطقة مكة المكرمة في محافظة جدة مثلًا.

ألفاظ تولية القضاء

ثم ذكر المؤلف صيغة تولية القضاء، قال:

وألفاظ التولية الصريحة سبعةٌ: ولَّيتك الحكم، أو قلدتك، وفوضت، أو رددت أو جعلت إليك الحكم، واستخلفتك، أو استنبتك في الحكم.

ظاهر كلام المؤلف أن صيغ تولي القضاء تنحصر في هذه الصيغ التي ذكرها المصنف، ذكر سبعة ألفاظٍ، فإذا وُجدت؛ فيحصل بها تولية القاضي.

والأقرب -والله أعلم- أنها لا تنحصر في هذه الألفاظ التي ذكرها المصنف، وإنما يكون ذلك بأية عبارةٍ تفيد تولية القضاء؛ كأن يقول: نصَّبتك قاضيًا، أو اقضِ بين الناس، أو يَصدر أمرٌ سلطانيٌّ أو أمرٌ ملكيٌّ مثلًا بتعيينه قاضيًا، هذا بحد ذاته كافٍ، وهذا هو الذي عليه عمل المسلمين من قديم الزمان، فلا ينحصر تولية القاضي بألفاظٍ معينةٍ.

قال المصنف رحمه الله:

والكناية -نحو: اعتمدت، أو عوَّلت عليك، أو وكَّلت، أو استندت إليك- لا تنعقد بها إلا بقرينةٍ؛ نحو: فاحكم، أو فتَوَلَّ ما عوَّلتُ عليك فيه.

قال: "والكناية"، يعني: كناية تولية القضاء.

المؤلف يرى أن تولية القضاء لها ألفاظٌ صريحةٌ، الألفاظ السبعة التي ذكرها، وأيضًا ألفاظ كنايةٍ، ولم يحصرها في ألفاظٍ معينةٍ، وإنما ضرب هذه الأمثلة التي ذكرها.

وسبق أن ذكرنا أن تولية القضاء لا تنحصر في ألفاظٍ معينةٍ، لا صريحةٍ ولا كنايةٍ، بل تكون بكل ما دل عليها، لكن ربما أن المؤلف يتكلم عما هو موجودٌ في زمنه، ربما كانت فيما سبق تولية القاضي تكون شفهيًّا، يعني لا يصدر بذلك شيءٌ مكتوبٌ، وتكون شفهيةً؛ يقول الإمام لأحد العلماء: وليتك القضاء، فيذكرون هذه الألفاظ.

أما في الوقت الحاضر: أصبح ذلك الآن يكون بأوامر سلطانيةٍ، ويكون بأشياء مكتوبةٍ ومرتبةٍ، اختلفت الأمور كثيرًا.

فإذنْ تولية القضاء تكون بكل ما دل عليها، بكل صيغةٍ تدل عليها.

مهام القاضي

انتقل المؤلف بعد ذلك في هذا الفصل إلى بيان مهام القاضي وما يدخل في اختصاصه، قال:

وتفيد ولايةُ الحكمِ العامةُ: فصلَ الخصومات.

"ولاية الحكم العامة": يعني التي أطلقها الإمام ولم يخصها بأمرٍ معينٍ، وقوله: "العامة"، احترازًا من الولاية الخاصة؛ فإنها تتخصص بما خُصصت به.

قال: "فصل الخصومات"، هذا الأمر الأول مما تفيده الولاية العامة للقضاء، يعني: الفصل بين المتخاصمين.

وأخْذَ الحق ودفعه للمستحق.

هذا هو الأمر الثاني: أن يأخذ الحق ممن هو عليه وأن يدفعه لمن يستحقه، فالقاضي يُجبر المحكومَ عليه بتنفيذ الحكم، وفي الوقت الحاضر أصبح هناك محاكم متخصصةٌ في هذا تسمى: "محاكم التنفيذ".

والنظرَ في مال اليتيم والمجنون والسفيه والغائب.

هذا أيضًا من مهام القاضي: أن ينظر في مال اليتيم الذي ليس له وليٌّ ولا وصيٌّ، وأن ينظر في مال السفيه كذلك الذي ليس له وليٌّ ولا وصيٌّ، وأن ينظر في مال الغائب الذي ليس له وكيلٌ.

والحَجْرَ لسفهٍ وفَلَسٍ.

هذا الأمر الرابع من مهام القاضي: أن يحجر على السفيه وعلى المفلس، والحجر نوعان:

  1. حجرٌ على الإنسان لحظ نفسه.
  2. وحجرٌ على الإنسان لحظ غيره.

ومن أنواع الحجر على الإنسان لحظ نفسه: الحجر على السفيه.

ومن أنواع الحجر على الإنسان لحظ غيره: الحجر على المفلس.

فالسفيه يُحجر عليه، السفيه الذي يُبذِّر ماله ويُذهبه ويصرفه في غير مواضعه الصحيحة، فهذا يحجر عليه، وهكذا أيضًا المفلس الذي دَيْنه أكثر من ماله، إذا طالب الغرماء بالحجر عليه؛ فإن القاضي يحجر عليه.

والنظرَ في الأوقاف لتجري على شرطها.

هذا هو الأمر الخامس من مهام القاضي، وهو أن ينظر في الأوقاف التي في نطاق عمله، وينظر لكون هذه الأوقاف تجري على شروطها أم لا.

وهذه المهام تقوم بها المحاكم، وفي وقتنا الحاضر أصبح هناك بعض الجهات تقوم بهذه الأعمال، ومنها "هيئة الأوقاف"، فهي تنظر في مدى قيام الناظر بنِظَارته ومدى تنفيذه لشروط الواقف، ونحو ذلك.

وتزويجَ من لا ولي له.

هذا الأمر السادس من مهام القاضي: وهو أن يزوج المرأة التي ليس لها وليٌّ، أو لها وليٌّ لكنه ليس أهلًا للولاية، وقد ورد في ذلك حديث: السلطان ولي من لا ولي له [10].

فهذه أمورٌ تفيدها ولاية القاضي، وأيضًا ولاية القاضي تفيد غير ذلك؛ كتنفيذ الوصايا، وإقامة الحدود، وبعض الفقهاء أيضًا جعل من مهام القاضي: إمامة الجمعة والعيد، إذا لم يكن هناك إمامٌ في البلد، وجباية خراجٍ وزكاةٍ، ما لم يُخَصَّا بعاملٍ، طبعًا هذا الكلام في السابق، أما الآن فقد اختلف الوضع.

هذه الأمور التي ذكرها المصنف وغيرها، هذه ليست منصوصًا عليها، لكن جرى العرف أن القاضي يتولى هذه الأمور، فإذا تغيرت الأحوال؛ فيكون تولي القاضي المهام بحسب العرف.

قال:

ولا يفيد الاحتسابَ على الباعة، ولا إلزامهم في الشرع.

أي: لا يستفيد القاضي من تولية القضاء ولاية الحسبة على التجار الذين يبيعون في الأسواق وإلزامهم بالشرع؛ لأن العادة لم تَجْرِ بتولي القاضي ذلك.

والقول الثاني في المسألة: أن ما يستفيده القاضي بالولاية لا حد له شرعًا، بل يُتلقى من اللفظ والأحوال والعرف، وهذا هو القول الراجح في المسألة.

حكم المحكَّم بين خصمين

قال:

ولا يَنفذ حكمه في غير محل عمله.

يعني القاضي إذا ولَّاه ولايةً في محلٍّ خاصٍّ؛ فينفذ حكمه فيمن يقيم في هذا المحل ولو جاء إليه بصفةٍ عارضةٍ، لكن لا ينفذ حكمه في غير مكان عمله؛ لأنه لم يدخل على ولايته، فلو أن قاضيًا مثلًا نُصب في مدينة الرياض؛ لم يُنفذ حكمه للمتخاصِمِين في مكة؛ لأن مكة خارج ولايته.

شروط القاضي

ثم انتقل المؤلف للكلام عن شروط القاضي، قال:

التكليف والذكورة والحرية والعدالة

ويُشترط في القاضي عشر خصالٍ: كونه بالغًا عاقلًا.

وهذا بالإجماع؛ لأن الصبي والمجنون لا ينفذ قوله في حق نفسه؛ ففي حق غيره من باب أولى.

ذكرًا.

هذا الشرط الثالث: أن يكون من يتولى القضاء ذكرًا.

فلا تتولى المرأة القضاء عند جماهير الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة؛ لقول النبي : لن يفلح قومٌ ولَّوا أمرهم امرأةً [11]، ولأن المرأة ليست أهلًا لحضور محافل الرجال والاختلاط بالرجال، والأصل في المرأة أنها تَقَرُّ في البيت؛ كما قال الله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33].

وذهب الحنفية إلى صحة تولية المرأة القضاء في غير الحدود والقصاص؛ قالوا: لأن شهادتها في ذلك مقبولةٌ، فصار قضاؤها فيه صحيحًا؛ قياسًا على الشهادة؛ لأن لكل منهما ولايةً، وهذا قولٌ ضعيفٌ.

والصواب: ما ذهب إليه الجمهور، وهو الذي عليه العمل في بلاد المسلمين، ولا يصح قياس القضاء على الشهادة؛ لأنه قياسٌ مع الفارق؛ وذلك لأن ولاية القضاء ولايةٌ عامةٌ، بخلاف الشهادة؛ فإنها ولايةٌ خاصةٌ، والقضاء ملزِمٌ، والشهادة غير ملزمةٍ.

ويُشترط في القضاء: الاجتهاد، ولا يشترط هذا في الشهادة، والقضاء ولايةٌ تستدعي من القاضي أن يتصدى لسماع البينات والفصل بين الخصوم على الدوام، بخلاف الشهادة، مجرد الإدلاء بها عند القاضي، في الشهادة ورد النص بصحة شهادة المرأة، بينما القضاء فما ورد يفيد عدم الجواز: لن يُفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأةً [12]؛ ولذلك لم يرد في العصور الثلاثة المفضلة أن امرأةً تولت القضاء، وهكذا أيضًا في أعصار المسلمين السابقة، وهذا يشبه أن يكون إجماعًا عمليًّا على ذلك.

الشرط الرابع:

حرًّا.

أي أن يكون القاضي حرًّا، فلا يصح أن يتولاه العبد؛ لأن العبد مشغولٌ بخدمة سيده، فهو ليس مؤهلًا للقضاء.

مسلمًا.

هذا هو الشرط الخامس: الإسلام، وهذا محل إجماعٍ؛ فلا يجوز أن يُولَّى الكافر القضاء؛ لقول الله تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141].

عدلًا.

فلا بد أن يكون القاضي عدلًا، يعني: ظاهرَ العدالة، عفيفًا عن المحارم، متقيًا للمآثم، فلا يصح أن يولى الفاسق القضاء؛ لأن الفاسق لا يجوز أن يكون شاهدًا؛ فلا يصح أن يكون قاضيًا من باب أولى، ولأن الفاسق لا يُؤمَن أن يحيف في الحكم وأن يَجُور فيه.

السمع والبصر والكلام

سميعًا.

وهذا هو الشرط السابع؛ لأن القاضي يحتاج إلى أن يسمع كلام الخصوم، والأصم لا يسمع؛ فلا يكون مؤهلًا للقضاء.

بصيرًا.

"بصيرًا": هذا الشرط محل خلافٍ، يعني يشترط أن يكون القاضي بصيرًا، فلا يصح أن يكون القاضي أعمى، وهذا هو مذهب الجماهير، يعني الذي عليه المذاهب الأربعة: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة؛ لأن الأعمى لا يعرف المُدَّعِي من المدعى عليه، ولا الشاهد من المشهود عليه، وربما اشتبهت عليه الأصوات، وربما حَكَم لمن ليس له الحق.

وذهب بعض الفقهاء إلى أن هذا الشرط لا يشترط، وأنه يصح تولية الأعمى القضاء، وهذا القول روايةٌ عند الحنابلة؛ لأن الأعمى يُدرك بحسه السمعي ما يدركه البصير، ويعرف الأصوات ويميزها، وربما يكون بعض العميان أذكى من كثيرٍ من المبصرين -كما نراه في الواقع- وأكثر فطنةً ونباهةً، وهذا هو القول الراجح: أنه يصح أن يكون القاضي أعمى، وهو الذي عليه العمل.

وقد ثبت في الواقع أن بعض القضاة العميان قاموا بمهام القضاء بكل كفاءةٍ واقتدارٍ، فمِن ذلك: شيخ المشايخ الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله، والشيخ عبدالله بن حميدٍ رحمه الله، والشيخ عبدالعزيز بن بازٍ رحمه الله، هؤلاء كلهم أثبتوا كفاءتهم في القضاء، بل تميزوا تميزًا كبيرًا في سرعة الفصل بين الخصوم وحسن القضاء، فهذا مما يرجح هذا القول، وهو عدم اشتراط البصر في القاضي، وأنه يصح أن يكون القاضي أعمى.

متكلمًا.

هذا هو الشرط التاسع: أن يكون القاضي متكلمًا، فلا يصح أن يكون القاضي أخرس؛ لأن الأخرس يقولون: لا يمكنه النطق بالحكم، ولا يفهم الناس إشارته، ففي توليته القضاء نوعٌ من النقص، ربما يشير بإشارةٍ لا يفهمها بعض الخصوم، وربما يحكم أيضًا في أمورٍ كبيرةٍ؛ في الدماء وفي الأعراض ونحو ذلك، فكونه لا يتكلم هذا يعتبر نقصًا؛ فلا يولى القضاء إذا كان أخرس.

شرط الاجتهاد في القاضي

مجتهدًا.

هذا هو الشرط العاشر: أن يكون القاضي مجتهدًا، والمجتهد هو العالم بأحكام الكتاب والسنة والإجماع والخلاف وطرق الاجتهاد، ويدل لهذا الشرط قول الله : إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ [النساء:105]، بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ، وأيضًا الحديث السابق، حديث بريدة : القضاة ثلاثةٌ..، فهو يدل على أنه لا بد من أن يكون القاضي عالمًا بما يحكم؛ ولهذا ذكر من القضاة الذين في النار: رجلٌ قضى للناس على جهلٍ، فهو في النار، وهذا يدل على اشتراط العلم في القاضي، ونقل أبو محمد بن حزمٍ الاتفاق على اشتراط هذا الشرط، وإن كانت المسألة خلافيةً، فذهب بعض العلماء إلى أنه يجوز أن يتولى القضاء المقلِّد في المذهب إذا كان لا يستطيع أخذ الحكم من كتب إمامه.

والراجح: قول الجمهور، وهو أنه يُشترط الاجتهاد في القاضي، لكن الاجتهاد على نوعين:

  • اجتهادٌ مطلقٌ: وهو الاجتهاد في أقوال العلماء كلهم؛ بحيث يُطبِّق هذه الأقوال على النصوص، ويختار ما يراه صوابًا.
  • والثاني: الاجتهاد المُقيَّد، أو الاجتهاد داخل المذهب، لا يخرج عن المذهب، ولا يطالع أقوالًا سوى المذهب، لكنه يجتهد داخل المذهب، ويقارن بين الأقوال في المذهب، ويعرضها على الكتاب والسنة، ويَعرف الراجح من المرجوح، وهذا النوع الثاني أشار إليه المصنف بقوله:
ولو في مذهب إمامه؛ للضرورة.

يعني أن الاجتهاد المقيد في المذهب يصح أن يكون هذا المجتهد قاضيًا؛ للضرورة إذا لم يوجد غيره؛ لئلا يتعطل القضاء بين الناس.

هذه الشروط العشرة ينبغي مراعاتها ما أمكن، ولكن في بعض الأمصار والأعصار ربما يتعذر اجتماع هذه الشروط؛ لغلبة الجهل، ورقة الديانة، وضعف العدالة؛ وعلى هذا: إذا فقد مَن تتوفر فيه جميع هذه الشروط؛ فيُراعى تولية القضاء الأمثلَ فالأمثل، ولا يترك منصب القضاء.

نفوذ حكم المحكم

ثم انتقل المؤلف بعد ذلك للكلام عن التحكيم:

قال:

فلو حكَّم اثنان فأكثر بينهما شخصًا صالحًا للقضاء؛ نَفَذ حكمه في كل ما يَنفُذ فيه حكمُ مَن ولاه الإمام أو نائبه.

هذا يُسمى "التحكيم"، وصفته: أن يُحكِّم خصمان فأكثر بينهما رجلًا أو أكثر ممن يصلح للقضاء، فإذا حكم بينهما؛ نَفَذ حكمه ولزمهم العمل به.

وقد أصبح التحكيم الآن معمولًا به في جميع دول العالم، وعندنا هنا في المملكة العربية السعودية أصبح معمولًا به وله نظامٌ وإجراءات.

والتحكيم يكون في الأمور المالية؛ ولهذا قال الوزير ابن هُبَيرة: أما في اللِّعان والقصاص والنكاح والحدود والقذف؛ فلا يجوز ذلك إجماعًا، يعني إجماع المذاهب الأربعة كما هو مصطلح الوزير.

ويدل لذلك حديث أبي شريحٍ، وفيه أنه قال: يا رسول الله، إن قومي إذا اختلفوا في شيءٍ رَضُوا بي حكمًا فأحكم بينهم، فقال رسول الله : إن ذلك لحسنٌ [13]، أخرجه أبو داود والنسائي، وتحاكم عمر وأُبي بن كعبٍ إلى زيد بن ثابتٍ، وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعمٍ ، ولم يكن أحدٌ منهم قاضيًا.

وبعض الناس وبعض الجهات يُفضِّلون التحكيم على القضاء؛ لكونه أسهل وأسرع في الإجراءات، لكن إذا حكم المحكمون؛ فلا يكون حكمهم نافذًا إلا بتصديقٍ من المحكمة، فإذا صدقت ذلك الحكمَ المحكمةُ أصبح ملزمًا.

قال:

ويرفع الخلاف، فلا يحل لأحدٍ نقضه حيث أصاب الحق.

يعني أن حكم المُحكَّم في مسألةٍ.. أن حكمه يرفع الخلاف بين الخصوم، ولا يجوز لغيره نقض ما حكم به، ما دام حكمه موافقًا للحق؛ وذلك لأن حكمه نافذٌ وملزمٌ كالقاضي، ولكن إذا أصاب الحق، ويُفهم من ذلك: أن المحكم يُنقض حكمه إذا تبين خطؤه، وإذا كان حكم القاضي المُولَّى من الإمام يُنقض إذا تبين خطؤه؛ فكيف بالمحكم؟! من باب أولى.

آداب القاضي

ثم انتقل المؤلف بعد ذلك للكلام عن آداب القاضي:

ما يسن من الصفات في القاضي

قال:

فصلٌ

ويسن كون الحاكم.

إذا قال الفقهاء: "الحاكم"، يقصدون به: القاضي، وإذا قالوا: "الإمام"، يقصدون به: من له السلطة العليا في الدولة؛ كالملك والسلطان والأمير ونحو ذلك، لكن مصطلح "الحاكم" يراد به "القاضي".

ويسن كون الحاكم قويًّا بلا عنفٍ.

يعني يُستحب أن يكون القاضي قوي الشخصية؛ حتى لا يطمع فيه الظَّلَمة ويلعب عليه أهل الباطل؛ لأن القوي يُهاب، والضعيف يُطمع فيه؛ ولهذا قال النبي لأبي ذرٍّ : إني لأراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمَّرَنَّ على اثنين، ولا تَوَلَّيَنَّ مال يتيمٍ [14]، وأبو ذرٍّ معروفٌ بصرامته؛ إذا ذهب لرأي؛ يتمسك به، فكيف قال له النبي : إني أراك ضعيفًا؟ قالوا: إن الصلابة في الرأي وعدم التنازل عنه يعتبر ضعفًا، لا يعتبر قوةً، القوة في المرونة، أن تأخذ وتعطي، ويمكن أن تتراجع عن رأيك إذا تبين لك الصواب، هذه هي القوة، أما التمسك بالرأي فهذا قد يكون صفة لبعض الناس، فهذا لا يعتبر قوةً، وإنما ضعفًا؛ ولهذا قال النبي لأبي ذرٍ : إني لأراك ضعيفًا؛ لا تأمَّرَنَّ على اثنين، ولا تولين مال يتيمٍ، رضي الله عنه وأرضاه.

قال: "بلا عنف"، يعني: يكون قويًّا لكن بلا عنفٍ؛ لأنه إذا كان عنيفًا؛ هابه صاحب الحق، وإذا كان ضعيفًا ضاعت الحقوق؛ ولهذا قال المصنف بعدها:

ليِّنًا بلا ضعفٍ.

يعني: "يكون قويًّا بلا عنفٍ، ليِّنًا بلا ضعفٍ"، يعني: لطيفًا لكن من غير ضعفٍ بالشخصية؛ لئلا يهابه صاحب الحق ويعجز عن إظهار حجته.

فإذنْ ينبغي أن يكون القاضي قويًّا بلا عنفٍ لينًا بلا ضعفٍ.

حليمًا.

"حليمًا": هذه الصفة ينبغي أن يتصف بها الجميع، جميع الناس، هذه أبرز الأخلاق الكريمة، بل الحلم هو سيد الأخلاق، وهذه تتأكد في حق القاضي؛ لئلا يغضب من كلام المتخاصمين؛ فيؤثر ذلك على حكمه، وقد قال النبي للرجل الذي طلب منه وصيةً: لا تغضب [15].

قال الإمام ابن القيم: "الحلم زينة العلم وبهاؤه وجماله، وضده -يعني ضد الحلم- الطيش والعجلة والحدة والتسرع وعدم الثبات؛ فالحليم لا يستفزه" -هنا خطأٌ طباعيٌّ، كُتب: "لا يستحقه"، لعله من يتابع معنا الدرس يعدلها: "لا يستفزه"، إن شاء الله تُعدل في الطبعة القادمة- "فالحليم لا يستفزه الذين لا يعلمون، ولا يقلقه أهل الطيش والخفة والجهل، بل هو وقورٌ ثابتٌ".

متأنيًا.

يعني يكون القاضي ذا أناةٍ، والأناة: هي عدم التسرع والتؤدة، فلا يكون عجولًا؛ لأنه إذا استعجل ربما أخطأ في الحكم، وكما تقول العرب: الخطأ زادُ العَجول، فالمطلوب من القاضي ألا يتعجل، بل يدرس القضية من جميع الجوانب، ويتأنى حتى يتصورها تصورًا تامًّا، ويستشير غيره من القضاة ومن غيرهم من أهل العلم.

والحلم والأناة من الأخلاق التي يحبها الله ورسوله، كما قال عليه الصلاة والسلام لأشج بن عبد القيس : إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة [16].

ولكن المقصود بالأناة: يعني التثبت وعدم العجلة، وليس المقصود بها التفريط والإضاعة؛ فالقاضي الذي يتأخر كثيرًا في الفصل بين الخصوم من غير مبررٍ، وكثير التأجيل ومترددٌ، هذا لا يعتبر متأنيًا، بل هو مفرِّطٌ، فخلق الأناة خلقٌ كريمٌ بين العجلة والطيش وبين التفريط والإضاعة.

متفطنًا.

يعني ينبغي أن يكون القاضي ذا فطنةٍ ونباهةٍ وفراسةٍ؛ لئلا يخدعه بعض الخصوم؛ فإن بعض الخصوم عندهم ذكاءٌ وعندهم دهاءٌ، فلا بد أن يكون القاضي ذا فطنةٍ، وأن يَعرف دهاء وحيل بعض الخصوم؛ ولهذا قال إياس بن معاوية، وكان مشهورًا بالذكاء: لست بالخِب ولا الخب يخدعني، وروي هذا أيضًا عن عمر .

وينبغي للقاضي أن يعرف واقع الناس وأحوالهم وطرقهم في الحيل والخداع؛ ولهذا قال ابن القيم: "معرفة الناس أصلٌ عظيمٌ يحتاج إليه المفتي والحاكم"، معرفة ألفاظ الناس ومقاصد الناس وواقع الناس أيضًا في تعاملاتهم هذا أمرٌ مهمٌّ للمفتي وللقاضي.

عفيفًا.

العفيف: هو الذي يكف نفسه عن الحرام، فينبغي للقاضي أن يتصف بالعفة والنزاهة؛ لأنه إذا لم يكن كذلك؛ ربما طمع فيه بعض الخصوم في استمالته بالمال ونحو ذلك.

بصيرًا بأحكام الحكام قبله.

يعني ينبغي أن يكون القاضي عارفًا بأحكام القضاة قبله، وما الذي جرى عليه العمل القضائي؛ حتى يجمع بين العلم والخبرة، ويستشير أيضًا زملاءه من القضاة ومَن كان أكثر خبرةً منه وأكبر سنًّا، يستشيرهم؛ ولهذا قال عمر بن عبدالعزيز: القاضي لا ينبغي أن يكون قاضيًا حتى يكون فيه خمس خصالٍ: عفيفًا، حليمًا، عالمًا بمن كان قبله، يستشير ذوي الألباب، لا يبالي بمَلامة الناس.

ما يجب على القاضي من التسوية بين الخصمين

هذه ذكرها آدابًا، ثم قال: "يجب"، يعني هذا من الأمور التي تجب.

ويجب عليه العدل بين الخصمين في لحظه ولفظه ومجلسه والدخول عليه.

على القاضي أن يُسوِّي بين خصميه في كل شيءٍ، حتى في نظراته وألفاظه ومجلسه والدخول عليه، لا يركز في النظر على أحدٍ، ولا ينظر للخصم الآخر، يعدل بينهما في الكلام؛ لا ينادي أحدًا بكنيته والثاني يُناديه باسمه المجرد مثلًا، يعدل بينهما في المجلس، لا يكون هذا على كرسيٍّ وهذا على كرسيٍّ أقل منه مثلًا أو على الأقل، لا يقدم هذا في الدخول والآخر يؤخره، فلا يفضل أحد الخصمين على الآخر؛ لأن تفضيل أحد الخصمين على الآخر يكسر قلب الخصم الآخر، وربما يضعف عن القيام بحجته.

وقد جاء في حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي : من ابتُلي بالقضاء بين المسلمين؛ فليعدل بينهم في لحظه وإشارته ومقعده [17]، أخرجه الدارقطني والبيهقي، لكنه حديثٌ ضعيفٌ من جهة الإسناد، ويُغني عنه ما جاء في كتاب عمر لأبي موسى رضي الله عنهما: "آسِ بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك؛ حتى لا يطمع شريفٌ في حيفك، ولا ييأس ضعيفٌ من عدلك".

قال:

إلا المسلم مع الكافر، فيُقدم دخولًا ويُرفَع جلوسًا.

يعني إذا ترافع إلى القاضي مسلمٌ وكافرٌ؛ فيُقدم المسلم في الدخول على الكافر، ويُجعل مجلس المسلم أعلى وأرفع من مجلس الكافر، فهذه المسألة يقولون: إنها مستثناةٌ من التسوية بين الخصمين في كل شيءٍ، هذا هو المذهب عند الحنابلة والشافعية؛ قالوا: لأن المسلم أعلى مكانة، والإسلام يعلو ولا يُعلى عليه، والله تعالى يقول: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ [السجدة:18].

وذهب بعض الفقهاء إلى أنه لا فرق في مجلس القاضي بين مسلمٍ وكافرٍ، بل تجب المساواة بينهما في كل شيءٍ، هذا مذهب الحنفية والمالكية؛ قالوا: لأن المطلوب من القاضي أن يحقق العدالة بين الخصوم، وفي تفضيل المسلم على الكافر ورفعه عليه في مجلس القضاء تركٌ للعدل، وفيه كسرٌ لقلب الكافر، وربما لا يستطيع أن يُدلي بحجته، وهذا هو القول الراجح، وهو مقتضى تحقيق العدالة حتى وإن كان كافرًا؛ فإن الله يقول: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8].

أما ما استدل به أصحاب القول الأول من الآية فليس فيها دلالةٌ لهذه المسألة؛ لأن المراد في قول الله تعالى: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ [السجدة:18]؛ يعني لا يستوون عند الله في الدار الآخرة، ولا يشمل ذلك مجلس القضاء.

ما يحرم على القاضي من الرشوة والحكم عند الغضب ونحوه

ويحرم عليه أخذ الرشوة.

الرشوة يقولون: مُثَلَّثة؛ الرُّشوة والرَّشوة والرِّشوة، كلها صحيحةٌ، وأشهرها الكسر، وهي ما يُعطى لإنسانٍ من مالٍ لإبطال حقٍّ أو إحقاق باطلٍ، هذه هي الرشوة.

فيحرم على القاضي أن يأخذ الرشوة، وورد في ذلك اللعن: "لعن رسول الله الراشي والمرتشي" [18].

ولا يجوز للقاضي كذلك أن يقبل الهدية من شخصٍ له خصومةٌ، حتى لو كان يُهدي له قبل القضاء؛ لأنه مهما كان؛ فالهدية لها وقعٌ في النفس، وأثرٌ في استمالة القلب، وقد جاء في حديث أبي حميدٍ : هدايا العمال غُلُول [19].

أما الهدية ممن ليس له خصومةٌ؛ فإن لم تَجر عادةُ المُهدي بالإهداء للقاضي قبل ولايته القضاء؛ لم يجز له أن يقبل هديته، وأما إن كان من عادته أن يُهدي له قبل القضاء؛ فلا بأس، إلا إذا كان له قضيةٌ منظورةٌ؛ فلا يجوز أن يقبل هذه الهدية حتى لو كان من عادته أن يُهدي إليه قبل ولايته القضاء؛ للتهمة في ذلك.

وقد جاء في حديث أبي حميدٍ  أن النبي استعمل رجلًا على الصدقة فأتى وقال: هذا لكم وهذا أهدي إليَّ، فعظَّم النبي شأن هذه المسألة وخطب الناس وقال: أيها الناس، ما بال الرجل نستعمله فيقول: هذا لكم وهذا أُهدي إليَّ؟! أفلا قَعَد في بيت أبيه وأمه فينظر أيُهدى إليه شيءٌ أم لا؟! والذي نفس محمدٍ بيده، لا يَغُلُّ أحدكم منها شيئًا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه [20].

فإذنْ لا يجوز للقاضي أن يقبل هدايا من الناس، إلا من رجلٍ كان بينه وبينه عادةٌ في التهادي قبل ولاية القضاء، ولم يكن له قضيةٌ منظورةٌ، هذه الحال الوحيدة التي يجوز للقاضي فيها أن يقبل الهدية.

قال:

وأن يُسَارَّ أحدَ الخصمين أو يُضيِّفه أو يقوم له دون الآخر.

يعني: إذا ميَّز أحد الخصمين بأن قام وأسرَّ له بسرٍّ أو خاطبه سرًّا، أو يخصه بضيافةٍ يُضيِّفه، أو يقوم له من مجلسه ويعظمه؛ فهذا كله مخالفٌ لمقتضى العدالة المطلوبة من القاضي، وفيه إعانةٌ لأحد الخصمين وكسرٌ لخاطر وقلب الآخر، وأيضًا القاضي يجب عليه العدل بين الخصوم في كل شيءٍ.

ويحرم عليه الحكم وهو غضبان كثيرًا، أو حاقنٌ، أو في شدة جوعٍ أو عطشٍ أو همٍّ أو مللٍ أو كسلٍ أو نعاسٍ أو بردٍ مؤلمٍ أو حرٍّ مزعجٍ.

يعني: لا يجوز للقاضي أن ينطق بالحكم بين الخصوم مع وجود ما يُخل بفكره ويشوش ذهنه، ومن ذلك ما ذكره المؤلف من هذه الأمثلة؛ كالغضب الشديد، وما ذكر معه من الاحتقان ببولٍ، أو شدة جوعٍ، أو شدة العطش، أو وجود همٍّ يقلقه، أو كسلٍ شديدٍ أو نعاسٍ، أو بردٍ مؤلمٍ أو حرٍّ مزعجٍ، والأصل في ذلك قول النبي : لا يحكم أحدٌ بين اثنين وهو غضبان [21]، أخرجه البخاري ومسلمٌ؛ لأن القاضي إذا غضب؛ لا يَتصور الأمور على الوجه الصحيح، ويتشوش ذهنه؛ فلا يتوصل إلى إصابة الحق في الغالب، وربما حمله الغضب على الجور في الحكم، والإنسان عند الغضب تختل الموازين عنده.

وهكذا عند الحقد أيضًا، عند الحقد أيضًا تختل الموازين عنده، وربما يضخم الشيء اليسير، ويهون الشيء الكبير؛ ولذلك إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام بمجرد أن قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا [يوسف:8]، فقط؛ ضخَّموا هذه المسألة كثيرًا: اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا [يوسف:9]، يعني: ضخموا هذه المسألة، وفي المقابل هوَّنوا من شأن القتل؛ يعني هذا بسبب الحقد، الحقد يجعل الإنسان يضخم الأشياء اليسيرة، ويهون من الأشياء الكبيرة.

وهكذا أيضًا الغضب، أيضًا كذلك، وأيضًا ذكر المؤلف أمورًا تشوش الذهن، وربما تؤثر على حكم القاضي؛ مِن حبس البول، وشدة الجوع والعطش والهم والملل والنعاس والحر والبرد؛ بجامع إشغال القلب، وأن القاضي لن يكون صافي الذهن أثناء النطق بالحكم.

فإن خالف وحكم؛ صح إن أصاب الحق.

يعني: حَكَم القاضي في الأحوال السابقة، حَكَم مثلًا وهو غضبان؛ فيصح حكمه إن أصاب الحق؛ لأن النبي حكم في حال غضبه في قصة مخاصمة الأنصاري والزبير في شِرَاج الحَرَّة [22] التي يَسْقون بها النخل؛ حيث إن الأنصاري لما أمر النبيُّ عليه الصلاة والسلام الزبير بأن يسقي إلى الجَدْر؛ قال: أنْ كان ابن عمتك يا رسول الله! فغضب النبي عليه الصلاة والسلام فاستوفى للزبير الحق كله [23]؛ فدل ذلك على صحة حكم القاضي في هذه الحال.

حكم القضاء بالجهل

ويحرم عليه أن يحكم بالجهل.

لا يجوز للقاضي أن يحكم بالجهل بالشرع، أو بالجهل بالواقعة، وكما جاء في حديث بريدة : القضاة ثلاثةٌ؛ واحدٌ في الجنة، واثنان في النار..، وذكر أن من اللذين في النار: رجلٌ قضى للناس على جهلٍ فهو في النار [24].

أو وهو مترددٌ.

يعني إذا كان القاضي مترددًا في حكم الواقع؛ فلا يجوز له أن يحكم؛ لأن التردد مباينٌ للعلم به، وهو ناشئٌ عن عدم اهتدائه للصواب؛ فلا يَحكم القاضي إلا إذا جزم بأن هذا هو الأقرب لحكم الله ورسوله: فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ [ص:26]، وإذا تردد؛ فعليه أن يستشير أهل العلم، يستشير غيره من القضاة ونحو ذلك، فإن استمر معه التردد، ولم يجزم في القضية بشيءٍ معينٍ؛ فإنه يعتذر عنها ويطلب إحالتها إلى قاضٍ آخر.

فإن خالف وحكم؛ لم يصح ولو أصاب الحق.

يعني إن خالف القاضي ما ذُكر، وهو حرمة الحكم في حال الجهل والتردد، فحكم وهو جاهلٌ أو مترددٌ؛ لم يصح حكمه حتى لو أصاب.

ويُوصِي الوكلاءَ والأعوانَ ببابه بالرفق بالخصوم وقلة الطمع.

يعني: على القاضي أن يوصي مَن لديه في مكتب القضاء من الوكلاء والأعوان والحُجَّاب؛ بالرفق بالخصوم الذين يدخلون عليه، وعدم الطمع بما في أيديهم، وأن يكون قدوةً لهم في ذلك.

وألا يضيقوا على الناس.

لأنه أحيانًا الذين في مجلس القاضي من الكُتَّاب والأعوان ربما يُضيِّقون على الخصوم، وينهرونهم أو يؤذونهم، أو حتى ربما يأخذون الرشوة منهم؛ ولذلك على القاضي المسؤولية في أن يوصي هؤلاء الأعوان بالرفق بالخصوم وقلة الطمع.

ويجتهد في أن يكونوا شيوخًا أو كهولًا من أهل الدين والعفة والصيانة.

يعني يجتهد القاضي في أن يكون وكلاؤه وأعوانه من كبار السن أو كهولًا، يعني فوق سن الشباب؛ لأن هؤلاء أكثر تجربةً في الحياة، وأرجح عقلًا؛ ولهذا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يُبعثون وعمرهم أربعون، وأن يكونوا من أهل الصلاح والعفة والديانة والاستقامة، بخلاف ما لو كان الأعوان الذين عنده من الشباب الصغار؛ فربما هؤلاء عندما تأتي امرأةٌ أو كذا، ربما تحصل الفتنة، وربما يتصرفون تصرفاتٍ غير مناسبةٍ.

الكهل: هو من تجاوز سن الشباب ولم يصل إلى سن الشيخوخة.

اتخاذ القاضي كاتبًا يكتب الوقائع

ويباح له أن يتخذ كاتبًا يكتب الوقائع.

"يباح": بعض فقهاء الحنابلة قالوا: يستحب، فصاحب "المبدع" قال: "والأشهر أنه يُسنُّ"؛ وهذا هو الأقرب؛ لأن القاضي يحتاج إلى من يساعده في الكتابة وتدوين المحاضر ونحو ذلك، والنبي استكتب زيد بن ثابتٍ ومعاوية رضي الله عنهما [25]، والحاكم يَكثر اشتغاله ونظره في أمر الناس؛ فيشق عليه أن يتولى الكتابة بنفسه، وفي وقتنا الحاضر ينبغي أن يكون من الأعوان -أعوان القاضي- من يجيد الحاسب الآلي الآن والكتابة عليه، ونحو ذلك.

شروط الكاتب

ويشترط كونه مسلمًا مكلفًا عدلًا.

يعني: يُشترط في الكاتب أن يكون مسلمًا مكلفًا عدلًا، فلا يكون هذا الذي هو من أعوان القاضي غير مسلمٍ، والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا [آل عمران:118]، وقد رُوي عن أبي موسى أنه وفد إلى عمر ومعه كاتبٌ نصرانيٌّ فانتهره عمر وقال: لا تكرموهم إذ أهانهم الله، ولا تُدنوهم إذ أقصاهم الله، ولا تأتمنوهم إذ خونهم الله" [26]، أخرجه البيهقي.

وكذلك يكون مكلفًا؛ لأن الصبي والمجنون ليسا من أهل الولاية، ويكون عدلًا أيضًا؛ لأن الكتابة أمانةٌ فيُشترط لها العدالة.

ويسن كونه حافظًا عالمًا.

يعني: كاتب القاضي ينبغي -إن تيسر- أن يكون طالب علمٍ، ويكون من أهل العلم والحفظ؛ فهذا أفضل؛ ولأن هذا يُعِينه على أمر الكتابة والتحرير والضبط والإتقان.

ويقولون: إنه ينبغي أن يكون حسن الخط، لكن في الوقت الحاضر الآن أصبحت الكتابة على أجهزة الحاسب الآلي؛ ولذلك نقول: ينبغي أن يكون عنده مهارة الكتابة على الحاسب الآلي، وإتقان مهارات الحاسب والمهارات التقنية؛ هذا مما ينبغي أن يكون في أعوان القاضي.

بعد ذلك انتقل المؤلف للكلام عن طريق الحكم وصفته وما يتعلق بذلك من مسائل وأحكامٍ، هذه -إن شاء الله تعالى- نفتتح بها درسنا القادم.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

^1, ^7 رواه البخاري: 7352، ومسلم: 1716.
^2 رواه البخاري: 2699.
^3 رواه البخاري: 2359-2360، ومسلم: 2357.
^4 رواه أبو داود: 3582، والنسائي في السنن الكبرى: 8363، 8366.
^5 رواه البخاري: 73، ومسلم: 816.
^6 رواه مسلم: 1827.
^8 رواه أبو داود: 3573، والترمذي: 1322، وابن ماجه: 2315.
^9 رواه أبو داود: 3571، والترمذي: 1325، وابن ماجه: 2308، أحمد: 7145، وقال الترمذي: حديث حسن غريب.
^10 رواه أحمد: 24205، وأبو داود: 2083، والترمذي: 1102.
^11, ^12 رواه البخاري: 4425.
^13 رواه أبو داود: 4955، والنسائي: 5387.
^14 رواه مسلم: 1826.
^15 رواه البخاري: 6116.
^16 رواه مسلم: 17.
^17 رواه الدارقطني: 4466، والبيهقي: 3257.
^18 رواه أبو داود: 3580، والترمذي: 1337، وابن ماجه: 2313، وقال الترمذي: حسن صحيح.
^19 رواه أحمد: 23601، والبزار: 3723.
^20 رواه البخاري: 2597، ومسلم: 1832.
^21 رواه البخاري: 7158، ومسلم: 1717.
^22 الحرة: كل أرض ذات حجارة سود بين جبلين، وإنما يكون ذلك من شدة الحر، والشراج: جمع شَرْجة، وهي مسايل الماء منها إلى السهل. ينظر مشارق الأنوار للقاضي عياض: 1/ 389، 2/ 544.
^23, ^24 سبق تخريجه.
^25 رواه الطبراني: 4748، والبيهقي: 20405.
^26 رواه البيهقي: 20409.
zh