logo
الرئيسية/دروس علمية/التعليق على كتاب السلسبيل في شرح الدليل/(85) كتاب الحدود- من قوله: “لا حد إلا على مكلف ملتزم..”

(85) كتاب الحدود- من قوله: “لا حد إلا على مكلف ملتزم..”

مشاهدة من الموقع

عناصر المادة

ننتقل بعد ذلك إلى “شرح الدليل”، “السلسبيل في شرح الدليل”، ووصلنا إلى كتاب الحدود.

كتاب الحدود

قال المصنف رحمه الله:

كتاب الحدود

تعريف الحدود لغةً واصطلاحًا

“الحدود”: جمع “حدٍّ”، وهذه المادة بمعنى: المنع في اللغة.

واصطلاحًا: “عقوبةٌ مقدَّرةٌ شرعًا في معصيةٍ؛ لتمنع الوقوع في مثلها”، هكذا عرفه بعض أهل العلم، بأنه: “عقوبةٌ مقدرةٌ شرعًا؛ لتمنع الوقوع في مثلها”.

لكن هذا التعريف غير مانعٍ، لماذا؟ لأنه ينطبق على القصاص؛ فإن القصاص عقوبةٌ مقدرةٌ شرعًا في معصيةٍ؛ لتمنع من الوقوع في مثلها.

فهو غير مانعٍ، ولهذا؛ فأحسن ما قيل في تعريف الحد: أنه “عقوبةٌ مُقدَّرةٌ شُرعت لصيانة الأنساب والأعراض والعقول والأموال وتأمين السبل”؛ فتشمل جميع الحدود.

فقولنا: “عقوبةٌ مقدرةٌ”، خرج به التعزير؛ لأن التعزير عقوبةٌ غير مقدَّرةٍ من الشارع.

حكمة مشروعية الحدود

“شُرعت لصيانة الأنساب”: المقصود بذلك حد الزنا؛ لأن حد الزنا شُرع لصيانة الأنساب والأعراض؛ لصيانة النسب على وجه الخصوص؛ حتى لا تختلط الأنساب.

“الأعراض”، سيأتي في مسألة الأعراض، لكن “صيانة الأنساب” المقصود به: حد الزنا، و”الأعراض” المقصود به حد القذف، و”العقول” المقصود به حد شرب المسكر على قول الجمهور بأنه حدٌّ، وسيأتينا -إن شاء الله- في درسٍ قادمٍ الخلاف بين العلماء: هل هو حدٌّ أو تعزيرٌ؟ لأن القول بأنه حدٌّ يَرِد عليه إشكالاتٌ، لو كان حدًّا؛ ما غيَّر عمرُ من أربعين إلى ثمانين [1]؛ لأن الحدود لا تغير، لو كان حدًّا أيضًا؛ ما أمر النبي الصحابة أن يضربوا بأطراف الجريد والثياب والنعال [2]، فالحد لا بد أن يكون مضبوطًا في العدد، ولَمَا قال الصحابي: “نحوًا من أربعين” [3]، “نحوًا”.

فهذه -على كل حالٍ- ستأتينا هذه المسألة بتفاصيلها، لكن بناءً على قول الجمهور بأنه حدٌّ، ذُكِر هذا في التعريف والعقول، و”الأموال” المقصود بذلك حد السرقة.

و”تأمين السُّبُل”: المقصود بذلك حد الحِرابة، هذا التعريف شمل جميع الحدود الخمسة، فهو تعريفٌ جامعٌ مانعٌ.

الفرق بين الحد والتعزير

لكن هنا تنبيهٌ؛ للتفريق بين لفظ “الحد” بلغة الشارع، وفي اصطلاح الفقهاء، بينهما فرقٌ، فإطلاق الحد في اصطلاح الفقهاء كما ذكرنا في التعريف، لكن في الشرع معناه أعم؛ فقد يراد به ما ذكرنا في اصطلاح الفقهاء، وقد يراد به الجناية نفسها؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: لا يُجلَد فوق عشرة أسواطٍ إلا في حدٍّ من حدود الله [4].

وقد يراد به أيضًا الفصل بين الحلال والحرام، فيطلق على أول الحرام: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا [البقرة:187]، ويطلق على آخر الحلال: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا [البقرة:229]؛ ولهذا بعض الفقهاء الذين فهموا الحد في لغة الشرع بأنه الحد في اصطلاح الفقهاء، قالوا: إنه لا يجوز أن يزاد في التعزير على عشَرة أسواطٍ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: لا يُجلد فوق عشرة أسواطٍ إلا في حدٍّ من حدود الله [5]، ولكن هذا قولٌ مرجوحٌ.

والقول الراجح الذي عليه المحققون: أنه يجوز أن يُزاد في التعزير، وأن معنى الحديث ليس “الحد” بالمعنى الاصطلاحي، وإنما “الحد” بالمعنى الشرعي، فقوله: إلا في حدٍّ من حدود الله، يعني: إلا في معصيةٍ من معاصي الله، فكأن الحديث معناه: أنه لا يجوز أن يزاد على عشرة أسواطٍ في غير معصية الله؛ مثل التأديب، تأديب مثلًا الناشزٍ، تأديب الصبي إذا بلغ عشرًا ولم يُصَل، ونحو ذلك، فهذا لا يجوز أن يزاد فيه على عشرة أسواطٍ.

الفرق بين الحد والقصاص

أيضًا الحد يختلف عن القصاص؛ فالقصاص حقٌّ لآدميٍّ ينتقل لورثة المستحِق، بخلاف الحدود، فليس للإرث مدخلٌ فيها.

والقصاص يجوز المعاوضة عليه، بخلاف الحدود، ما عدا حد القذف؛ فإن حد القذف تجوز المعاوضة عليه؛ لأنه حق آدميٍّ عند الجمهور.

وأيضًا يُشرع العفو في القصاص، ولا يُشرع في الحدود إذا بلغت السلطان.

والشفاعة: يُشرع الشفاعة في القصاص، ولا تُشرع الشفاعة في الحدود إذا بلغت السلطان.

فهذه من أبرز الفروق بينهما.

شروط وجوب إقامة الحدود

ثم قال المصنف رحمه الله:

لا حد إلا على مكلفٍ.

ذكر المؤلف شروط وجوب إقامة الحدود:

الشرط الأول: أن يكون من يقام عليه الحد مكلفًا؛ أي: بالغًا عاقلًا، وهذا باتفاق العلماء؛ لأن العبادة تسقط عن غير المكلف، حتى الصلاة تسقط عن غير المكلف ولا تجب، فما بالك بالحدود؟!

الشرط الثاني:

ملتزِمٍ.

يعني: أن يكون من يقام عليه الحد ملتزمًا بأحكام الإسلام، وهذا يشمل المسلم والذمي -يعني غير المسلم المقيم في بلاد المسلمين ملتزمًا أحكام الملة- بخلاف الحربيِّ مثلًا إذا أُعطي الأمان؛ كالمستأمَن، فهذا لا تقام عليه الحدود، لكن لا يقام الحد على الذمي أو المعاهد إلا فيما يعتقد تحريمه؛ كالزنا، أما ما لا يعتقد تحريمه؛ مثل: عند بعض غير المسلمين لا يعتقدون تحريم شرب الخمر، فهنا لا يقام الحد عليه، لكن يُمنع من المجاهرة به.

قوله:

عالمٍ بالتحريم.

هذا هو الشرط الثالث: أن يكون من يقام عليه الحد عالمًا بتحريم معصية الله، بتحريم المعصية التي ارتكبها عمومًا، فإن كان جاهلًا، ومِثلُه يُعذر بالجهل؛ لا يقام عليه الحد.

وهناك شرطٌ رابعٌ، المؤلف ذكره فيما بعد، وهو أن يقيم الحدَّ الإمامُ أو نائبه.

الشفاعة في الحدود

ثم تكلم المصنف رحمه الله عن الشفاعة في الحدود، قال:

وتَحرم الشفاعة وقبولُها في حدٍّ لله تعالى بعد أن يَبلغ الإمامَ.

إذا بلغت الحدود الإمام تَحرم الشفاعة فيها، ويحرم قبولها؛ ويدل لذلك القصة المشهورة: لمَّا سَرقت امرأةٌ مخزوميةٌ، فأمر النبي بقطع يدها، وكانت من أشراف قريشٍ، فقالوا: من يكلم رسول الله ؟ يعني: يشفع لها في ألا يقام عليها حد القطع، قالوا: أسامة بن زيدٍ حِبُّه، فكلم النبيَّ ، فغضب عليه الصلاة والسلام وقال لأسامة: أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟!، ثم قام وخطب في الناس فقال: إنما أهلَكَ من كان قبلكم: أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف؛ تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف؛ أقاموا عليه الحد، وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمدٍ سرقت؛ لقطعت يدها [6]؛ وهذا دليلٌ على تحريم الشفاعة في الحدود إذا بلغت السلطان؛ لهذا غضب النبي عليه الصلاة والسلام، وعظَّم شأن هذه المسألة، وأخبر أنها من أسباب الهلاك.

وصفوان بن أمية لمَّا كان نائمًا في المسجد متوسدًا رداءه؛ أتى رجلٌ وأخذ رداءه، فلَحِق به صفوان وأتى به للنبي عليه الصلاة والسلام، فأمر بقطع يده، قال صفوان: أتقطعون يده مِن أجل رداءٍ؟! هو عليه صدقةٌ يا رسول الله، قال عليه الصلاة والسلام: هلَّا كان قبل أن تأتيني به [7]؛ فهذا يدل على أن العفو والشفاعة قبل بلوغ السلطان تَجُوز، أما إذا بلغت السلطان؛ فلا تجوز؛ ولهذا جاء في حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: من حالت شفاعتُه دون حدٍّ من حدود الله؛ فقد ضادَّ اللهَ في أمره [8].

وجاء من حديث عروة: أن الزبير لقي رجلًا قد أخذ سارقًا وهو يريد أن يذهب به للسلطان، فشفع له الزبير، فقال: لا، حتى يبلغ السلطان، قال الزبير: “إذا بلغ السلطانَ لَعَن الله الشافع والمشفع”.

فإذن، الشفاعة والعفو لا يجوز بعد بلوغ الحدود للسلطان، وظاهر هذا أنه من الكبائر؛ لأنه ورد فيه اللعن، وغَضِب النبي عليه الصلاة والسلام وخَطَب في تعظيم شأن المسألة.

وأما قبل بلوغ السلطان فلا بأس، لا بأس بالشفاعة، ولا بأس بالعفو، لكن إذا كان في ذلك مصلحةٌ؛ بأن يكون مثلًا مِن إنسانٍ لم يُعرف بكثرة الجرأة على محارم الله، ولم يتكرر منه ذلك، وإنما وقعتْ منه زَلَّةٌ أو هفوةٌ؛ فهنا لا بأس بالشفاعة في ذلك ولا بأس بالعفو أيضًا قبل بلوغها السلطان؛ إذا كان في ذلك مصلحةٌ ورأى مثلًا الإنسانُ السترَ على هذا الإنسان، وعدمَ رفع أمره للسلطان مثلًا، أو شفع له، فقبل بلوغها السلطان لا بأس؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في حديث صفوان: هلَّا كان قبل أن تأتيني به [9]، لكن في وقتنا الحاضر، المراد بالسلطانِ.. السلطان: هو الإمام الأعظم الذي هو رئيس الدولة، لكن ينوب عنه القاضي، فإذا وصل الحد إلى القاضي؛ لا تجوز الشفاعة ولا يجوز العفو، أما ما قبله مِثْل مثلًا هيئة الأمر بالمعروف أو النيابة أو نحو ذلك، فهذه تُعتبر لم تبلغ السلطان بعد؛ لأنها ما زالت تهمةً، وإنما تَثبت بعد حكم القاضي بثبوت الإدانة؛ ولذلك ربما مثلًا يُرفَع أمرٌ للقاضي ويرى القاضي أن هذا بريءٌ ويَصرف النظر عنه، فهي قبل بلوغها للقاضي لا تزال تهمةً، وهذه الحكمة فيه: أنه قبل بلوغها السلطان تجوز الشفاعة والعفو.

وقوله: “في حدٍّ لله تعالى”، وفي روايةٍ: “في حدٍّ من حدود الله”، يدل على أنه إذا لم يكن في حدٍّ لله جازت الشفاعة والعفو؛ كحد القذف؛ فمثلًا: إنسانٌ قَذَف آخر ورفع فيه شكايةً، وحُكم بجلد القاذف، ثم إن المقذوف عفا عنه فلا بأس، أو أتى ناسٌ وأصلحوا بينهما مثلًا، وشفعوا، فلا بأس، وتجوز الشفاعة والعفو؛ لأن حد القذف حقٌّ لآدميٍّ.

تجب إقامة الحد ولو كان من يقيمه شريكًا في المعصية

قال:

وتجب إقامة الحد ولو كان من يقيمه شريكًا في المعصية.

يعني: حتى لو كان من يقيم الحد شريكًا أو عونًا في المعصية؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يسقط بذلك، بل عليه أن يأمر وينهى وأن يقيم الحد ولو كان واقعًا في المعصية؛ حتى لا يجمع بين المعصية التي وقع فيها ومعصيةِ تَرْك إنكار المنكر.

وقد قرر أهل العلم أنه ليس من شرط الناهي عن المنكر أن يكون سليمًا عن المعصية، بل ينبغي أن ينهى العصاةُ بعضهم بعضًا؛ لقول الله تعالى: كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ -ها! أكمل الآية- فَعَلُوهُ [المائدة:79]، فعلوه كلهم، ومع ذلك لحقهم الذنب مع أنهم فعلوه.

ولا يُشترط في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون مجتنبًا لذلك المنكر؛ ولهذا قال بعض السلف: لو كان لا يأمر بالمعروف إلا من يأتيه، ولا ينهى عن المنكر إلا من يجتنبه؛ لَعُطِّل الأمر المعروف والنهي عن المنكر؛ فكل بني آدم خطاءٌ، ما فيه أحدٌ معصومًا.

من يتولى إقامة الحدود

قال:

ولا يُقيمه إلا الإمام أو نائبه.

الحدود يقيمها الإمام أو من ينيبه الإمام؛ لأن الحدود تفتقر للاجتهاد، ولا يؤمَن مِن الحيف في استيفائها؛ ولذلك لو كان الإنسان في بلدٍ لا تقام فيه الحدود؛ فلا يُشرع لأفراد الناس أن يقيموا الحدود بأنفسهم عند عامة أهل العلم؛ لأن هذا يؤدي إلى الفوضى؛ ولأن هذا يؤدي إلى مفاسد، والاضطراب، ويترتب على هذا مفاسد عظيمةٌ؛ ولذلك هذه -يعني إقامة الحدود- من مسؤولية الإمام.

قال:

والسيد على رقيقه.

أي: يجوز للسيد أن يقيم الحد على رقيقه إذا كان الحد جلدًا فقط، أما إذا كان قتلًا أو قطعًا؛ فليس له ذلك، وإنما للإمام، ويدل لذلك ما جاء في “الصحيحين” عن أبي هريرة  أن النبي قال: إذا زنت أمَة أحدكم فتبيَّن زناها؛ فليجلدها الحد ولا يُثرِّبْ عليها، ثم إن زنت؛ فليجلدها الحد ولا يُثرِّبْ عليها، ثم إن زنت الثالثة فتبيَّن زناها؛ فليبعها ولو بحبلٍ من شعرٍ [10].

فقوله: فليجلدها الحد، هذا، أناط النبي عليه الصلاة والسلام إقامة الحد للسيد، لكن هذا -كما قلنا- في الجلد فقط.

حكم إقامة الحد في المسجد

قال:

وتَحرُم إقامته في المسجد.

لحديث حكيم بن حزامٍ أن النبي نهى أن يُستقاد في المسجد [11]، وإن كان في سنده مقالٌ، إلا أن العمل عليه عند كثيرٍ من أهل العلم.

وإقامة الحدود في المسجد يترتب عليه تلويث المسجد بما يخرج ممن يقام عليه الحد؛ يعني من الدم ونحوه، فالمساجد تصان عن إقامة الحدود.

أشد الجَلْد جلد الزنا فالقذف فالشرب فالتعزير

قال:

وأشده: جَلْد الزنا، فالقذف، فالشرب، فالتعزير.

هذه صفة الجَلْد، أنه.. يقول المؤلف: إنه عندما يكون الحد حد زنًا، يزاد في الضرب أكثر، ثم القذف مرتبته الثانية، ثم شرب المسكر مرتبته الثالثة، ثم التعزير مرتبته الرابعة.

الزنا، ثم القذف، ثم الشرب، ثم التعزير، هذا هو المذهب عند الحنابلة، واستدلوا لذلك بقول الله : وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2]، قالوا: فخص الله الزنا بمزيدٍ من التشديد والتأكيد، ولا يكون ذلك في العَدَد، معروفٌ أن العدد مئة جلدةٍ، فيكون إذنْ في الصفة، قالوا: ولأن ما دون الزنا أخف منه في الجلد؛ فلا يجوز أن يزيد عليه في الإيلام.

والقول الثاني: أن التعزير أشد ما يكون في الجلد، ثم الزنا، ثم شرب المسكر، ثم القذف، يعني: ترتيبٌ آخر، وهذا مذهب الحنفية.

القول الثالث: أن صفة الجَلْد في جميع الحدود واحدةٌ وهذا مذهب المالكية، وهو القول الراجح: أن صفة الجَلْد واحدةٌ، وهو الذي عليه العمل، عمل المسلمين في سائر الأعصار والأمصار على هذا؛ لأن الله تعالى أمر بجلد الزاني والقاذف أمرًا واحدًا، والمقصود هو واحدٌ، وهو الزجر؛ فينبغي التساوي في الصفة.

وقول من قال بالتفريق بين الحدود لا دليل عليه، أما الآية الكريمة: وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2]، ليس المقصود: الزيادة في صفة الجلد، وإنما المقصود: أنه ينبغي ألا يتعاطف مع الزاني والزانية تعاطفًا يؤدي إلى تعطيل إقامة الحد، هذا هو المقصود، وهذا وإن ورد في الزنا؛ إلا أنه يشمل جميع الحدود، أن الحدود يجب إقامتها: وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2]، والغالب على النفوس أنها تتعاطف، خاصةً إذا كان الحد رجمًا؛ يكون فيه تعاطفٌ؛ فنهى الله تعالى عن ذلك قال: وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2].

فإذنْ هذه الآية ليس فيها دليلٌ على ما ذكروا، وهو أن حد الزنا يزاد في الجلد أكثر، ليس في هذه الآية دلالةٌ.

فالقول الراجح هو القول الثالث، وهو: أن صفة الجلد واحدةٌ.

صفة جلد الزاني غير المحصن

ويُضرب الرجل قائمًا بالسوط.

يضرب الرجل قائمًا بالسوط

أي: أن الرجل يُجلد قائمًا؛ حفظًا لكرامته؛ ولهذا قال ابن مسعودٍ : “ليس في ديننا مَدٌّ ولا قَيْدٌ ولا تجريدٌ”، يعني: لا يجوز أن يضع فيه القيد، ولا يُمَد أيضًا على الأرض، وإنما يكون قائمًا.

وقد يكون هناك أخطاءٌ أحيانًا عند تنفيذ بعض الحدود؛ بأن يُقيَّد مثلًا، أو أن يُمَد على الأرض، فهذا خلاف الشرع، ينبغي أن تُحفَظ كرامته، هذا إنسانٌ وقع في خطأٍ فيؤدب، لكن مع ذلك تُحفظ كرامته.

قال: “بالسَّوط”، أي: الضرب يكون بالسوط أو ما يقوم مقامه؛ كالعصا والخَيْزُران ونحوهما؛ ولهذا ذكر الفقهاء صفة هذا السوط، قالوا: لا يكون جديدًا ولا باليًا؛ لأن الجديد قد يجرحه، والبالي قد لا يؤلمه، وإنما يكون وسطًا بينهم.

لا يضرب الوجه والرأس والفرج والمقتل

قال:

ويجب اتقاء الوجه والرأس والفرج والمقتل.

لا يجوز ضرب الوجه والرأس؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن ذلك قال: إذا ضرب أحدكم؛ فليجتنب الوجه [12]، وحتى الصفع على الوجه لا يجوز؛ لأن الحديث عامٌّ في الحدود وفي غيرها: إذا ضرب أحدكم أخاه؛ فليجتنب الوجه، وفي الحديث الآخر: لا يُقبِّح الوجه [13]، لا يقول: “قبَّح الله وجهك”؛ هذا لا يجوز.

وكذلك أيضًا “الفرج والرأس”؛ لأن الضرب عليهما يؤدي للضرر غالبًا.

“والمقتل”، ما معنى المقتل؟ كل إنسانٍ فيه مَقَاتل، وإذا أصابت الضربةُ المقتل؛ مات مباشرةً، وقد تكون الضربة ليست قويةً ويموت مباشرةً، سبحان الله! وهذا معروفٌ: أن الإنسان فيه مَقاتل، يعني: على ما ذُكر، هذه المنطقة التي هي قريبةٌ من الحاجب تُعتبر مقتلًا، فالإنسان فيه مقاتل، فتُجتنب هذه المَقاتل؛ ولهذا الفقهاء ذكروا ما..، ربما مر معنا في أبواب الجنايات: لو أن أحدًا ضرب آخر في مقتلٍ؛ فإنه يقاد منه.

فإذنْ، عند الحدود يُجتنَب الضرب على المقتل، وينبغي أن يكون أيضًا مُوزَّعًا على البدن، ولا يكون متواليًا على عضوٍ واحدٍ.

وبعض الفقهاء قال: يَكثُر في مواضع اللحم؛ كالأليتين والفخذين؛ لأن المقصود أنه رسالةٌ، ليس المقصود الانتقام، وليس المقصود التعذيب، هو رسالةٌ لهذا أنه قد وقع في خطأٍ، ويؤدب ويكون ردعًا لغيره.

صفة جلد المرأة

قال:

وتُضرَب المرأة جالسةً، وتُشَدُّ عليها ثيابها، وتُمسَك يداها.

هذا إذا كانت بحضرة رجالٍ أجانب، أو يراها رجالٌ أجانب، لكن لو كانت في سجن نساءٍ؛ يعني كما هو عليه العمل الآن، ومَن يضربها امرأةٌ أو أمام نساءٍ، فتكون كالرجل فتُضرب قائمةً.

يَحرم بعد الحد حبسٌ

قال:

ويَحرم بعد الحد حبسٌ.

يعني: الحدود محددةٌ عقوباتها، لا تجوز الزيادة عليها، فلا يزاد عليها بحبسٍ أو غيره، إنما يقام الحد كما شرعه الله .

فمثلًا: شُرْب المسكر عند الجمهور ثمانون جلدةً، لكن لا يُحبس بعد ذلك؛ ولهذا نص الإمام أحمد على أنه لا يُحبس إلا إذا كان هناك جريمةٌ أخرى غير الحد الذي ارتكبه.

وكذلك أيضًا لا يزاد في العقوبة، بعض الأمور التي تُلحِق الضرر به وبأسرته؛ مِثل مثلًا الفصل من الوظيفة؛ لأن هذه عقوبةٌ زائدةٌ، ولأنها في الحقيقة عقوبةٌ لأسرته وليست عقوبةً له فقط، وإنما عقوبةٌ لأسرته، ويبقى عالةً على المجتمع؛ ولذلك فالخير في اتباع ما شرع الله ، يُلتزم بالعقوبة المحددة شرعًا ولا يزاد عليها، هذا معنى كلام الفقهاء.

لا يجوز الإيذاء بالكلام

قال:

وإيذاءٌ بالكلام.

يعني: حتى الذي يقام عليه الحد لا يجوز أن يؤذى بالكلام، وأن يُسَب وأن يُسخَر منه؛ قد يكون هذا إنسانًا صالحًا، لكن ابتُلي بهذه المعصية، ابتلي بها؛ ولهذا جاء في “صحيح البخاري”: أن رجلًا كان على هَدْي النبي اسمه عبدالله، وكان يُلقَّب بالحمار -يعني مِن كثرة شربه- وكان يُضحِك النبي عليه الصلاة والسلام، صاحِب طُرَفٍ ودعابةٍ، وكان قد شرب، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بجلده، ثم أُتي به مرةً ثانيةً، شرب مرةً ثانيةً، فأمر بجلده، فقال رجلٌ من الناس: اللهم الْعَنْه، ما أكثَرَ ما يُؤتَى به! قال النبي عليه الصلاة والسلام: لا تلعنوه؛ فوالله إنه يحب الله ورسوله [14]، فأقام عليه الحد أولًا، ونهى عن سبه، هذا إنسانٌ وقع في خطأٍ، وقع في زلةٍ، ينبغي أن يُبحَث عن أمورٍ إيجابيةٍ فيه، لا أن يُسَب؛ لأنه إذا سُب كما جاء في بعض الروايات: لا تكونوا عونًا للشيطان عليه [15]؛ لأنه إذا رأى الناسَ يسبونه وكذا؛ يصاب بإحباطٍ ويأسٍ وقُنُوطٍ، والشيطان يَزيد ذلك، لكن ينبغي أن يُبحث عن بعض الأمور الإيجابية فيه؛ ولهذا فالنبي عليه الصلاة والسلام قال عن هذا الرجل: إنه يحب الله ورسوله، ذكر فيه أمرًا إيجابيًّا، هذا وإن كان قد شرب وجُلد؛ إلا أن فيه خصلةً، وهي أنه يحب الله ورسوله، فلا تسبوه.

الحدود كفاراتٌ لأصحابها في الدنيا

قال:

والحد كفارةٌ لذلك الذنب.

الحدود كفاراتٌ لأصحابها في الدنيا؛ فمعنى ذلك: أنهم لا يُعذَّبون عليها في الآخرة، ويدل لذلك حديث عبادة بن الصامت  أن النبي قال: بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا، إلى قوله: ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب في الدنيا؛ فهو كفارةٌ له، ومن أصاب من ذلك شيئًا ثم ستره الله؛ فهو إلى الله؛ إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه [16]، هذا في “الصحيحين”، وهذا صريحٌ -كما قال ابن رجبٍ- في أن الحدود كفاراتٌ لأصحابها، يعني: أقيم على إنسانٍ مثلًا حد الزنا؛ لا يعاقب عليه في الآخرة، أيُّ حدٍّ يقام؛ لا يعاقب عليه في الآخرة؛ فهي كفاراتٌ لأصحابها.

مداخلة:

الشيخ: من غير التوبة، التوبة سيأتي الكلام عنها.

من أتى حدًّا ستر نفسه

قال:

ومن أتى حدًّا؛ سَتَر نفسه، ولم يُسَنَّ أن يُقِرَّ به عند الحاكم.

هذه مسألةٌ مهمةٌ: مَن ارتكب ما يوجب الحد، فهل الأفضل أن يستر على نفسه ويتوب فيما بينه وبين الله، أو الأفضل أن يذهب ويُسلِّم نفسه حتى يقام عليه الحد؟

يقول المؤلف: إن الأفضل أن يستر نفسه ويتوب فيما بينه وبين الله؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: اجتنِبوا هذه القاذورة [17] -وفي روايةٍ: القاذوراتالتي نهى الله عنها، فمن ألمَّ؛ فليستتر بستر الله وليتب إلى الله؛ فإنه من يُبْدِ لنا صفحتَه؛ نُقِمْ عليه كتاب الله [18].

وأيضًا، لمَّا وقع ماعزٌ ، في القصة المشهورة، لما وقع في الزنا؛ أتى أولًا إلى أبي بكرٍ الصديق  يستشيره، فأشار عليه بأن يستتر بستر الله ويتوب فيما بينه وبين الله، ذهب إلى عمر فاستشاره، فأشار عليه كذلك، لكن حرارة الإيمان أبَتْ عليه إلا أن يذهب للنبي عليه الصلاة والسلام ويطلب منه إقامة الحد [19].

فالأفضل: أن الإنسان يستر على نفسه ويتوب فيما بينه وبين الله ​​​​​​​، لكن من كان عنده قوة إيمانٍ مثل ماعزٍ، أو مثل المرأة الجُهَنية والغامدية ، وأصر على أن يقام عليه الحد، هذه مرتبةٌ عاليةٌ، هذه مرتبةٌ عاليةٌ من قوة الإيمان؛ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام عن تلك المرأة: لقد تابت توبةً لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله ​​​​​​​ [20].

فإذنْ نَخلص من هذا إلى أن الأفضل: أن الإنسان يستتر بستر الله ويتوب فيما بينه وبين الله .

طيب، إذا تاب فيما بينه وبين الله ​​​​​​​ هل يعاقب في الآخرة؟ نرجو معتقد أهل السنة والجماعة في مرتكب الكبيرة، ما هو؟

الطالب:

الشيخ: نعم، معتقد أهل السنة في مرتكب الكبيرة: أنه في الدنيا مؤمنٌ بإيمانه، فاسقٌ بكبيرته، وفي الآخرة تحت مشيئة الله: إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه، لكنه لا يخلد في النار، احفظوا هذا، هذا معتقد أهل السنة والجماعة في مرتكب الكبيرة، خلافًا للخوارج الذين قالوا: يخلد في النار، والمعتزلة كذلك قالوا: يخلد في النار.

وفي الدنيا: قال الخوارج: إنه كافرٌ، والمعتزلة قالوا: إنه في منزلة بين منزلتين، والمرجئة قالوا: لا يضر مع الإيمان ذنبٌ.

أما أهل السنة فهم وسطٌ بين هذه الفرق، قالوا: هو في الدنيا مؤمنٌ بإيمانه فاسقٌ بكبيرته، وفي الآخرة تحت المشيئة، لكنه إن دخل النار؛ لا يخلد فيها؛ هكذا أيضًا نقول: إنه إذا استتر بستر الله وتاب بينه وبين الله؛ فهو تحت مشيئة الله .

مداخلة:

ما دام أقيم عليه الحد؛ فلا يعاقب في الآخرة، لا يعاقب، نال عقوبته في الدنيا.

حكم من اجتمعت عليه الحدود

قال:

وإن اجتمعت حدود الله تعالى مِن جنسٍ؛ تداخلت، ومن أجناسٍ؛ فلا.

يعني: لو زنى، ثم زنى، ثم زنى؛ يقام عليه حدٌّ واحدٌ، لو سرق، ثم سرق؛ يقام عليه حدٌّ واحدٌ.

فالفقهاء يقولون: إن الحدود تتداخل إذا كانت من جنسٍ واحدٍ، أما إذا كانت من أجناسٍ؛ فلا تتداخل؛ كأن يكون مثلًا زنى وسرق؛ يقام عليه حد الزنا، ويقام عليه حد السرقة.

ونظير ذلك من بعض الوجوه الأيمان: “والله لا أفعل كذا”، “والله لا أفعل كذا”؛ تتداخل إذا كانت من جنسٍ واحدٍ، أما إذا كانت من أجناسٍ مختلفةٍ فلا تتداخل، إذا كان المحلوف عليه شيئًا واحدًا ولم يُكفَّر؛ تكفيه كفارةٌ واحدةٌ، لكن إذا كان المحلوف عليه أكثر من جنسٍ؛ فلكلِّ واحدٍ كفارةٌ.

حد الزنا

ثم قال المصنف رحمه الله:

باب حد الزنا

“الزنا”، كيف تُكتب؟ لاحِظ هنا في الكتاب، المؤلف ضبطها بالمد هكذا، لكن في المصحف بالقصر، فهما لغتان:

  1. لغة قريشٍ ولغة أهل الحجاز: أنها بالقصر “الزنى”.
  2. ولغة نجدٍ، وقيل: إنها لغة تميمٍ: بالمد “الزنا”.

كلاهما لغتان صحيحتان، لو كُتبت هكذا أو هكذا؛ فكلاهما لغتان صحيحتان، فلا يُخطَّأ من كتب بهذا ولا من كتب بهذا؛ لهذا فالمؤلف كتبها بلغة تميمٍ أو لغة نجدٍ، بينما في المصحف بلغة قريشٍ.

تعريف الزنا

عرَّف المؤلف الزنا، وهذا التعريف مهمٌّ؛ لأن له ثمرةً في بعض الأحكام، قال:

الزنا: هو فِعل الفاحشة في قُبُلٍ أو دُبُرٍ.

معنى ذلك -على رأي المؤلف- اللِّواط يأخذ حكم الزنا أو لا؟ يأخذ حكم الزنا، إن كان محصنًا؛ فالرجم، وإن كان غير محصنٍ؛ فجلد مئةٍ وتغريب عامٍ بناءً على هذا التعريف.

فانتبه لهذا التعريف، فالمؤلف عرَّفه بهذا التعريف.

واختلف العلماء في التعريف بناءً على اختلافهم في دخول اللواط في الزنا، فالقول الأول: أن الزنا شاملٌ للوطء في القُبُل والدُّبُر، يعني للزنا واللِّواط، وهذا قول الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة.

القول الثاني: أن الزنا يختص بالوطء في القُبُل فقط، وأما الوطء في الدبر فلا يسمى زنًا، هذا هو مذهب الحنفية، وهذا القول هو القول الراجح؛ لأن الوطء في الدبر لا يسمى زنًا، لا لغةً ولا شرعًا ولا عرفًا، وحُكمه مغايرٌ لحكم الزنا؛ فحكم اللواط -كما سيأتي- هو القتل، وقد أجمع الصحابة على ذلك بكل حالٍ، أما الزنا: فإن كان محصنًا؛ فالرجم، وإن كان غير محصنٍ؛ فجلد مئةٍ وتغريب عامٍ؛ ولذلك يكون التعريف الصحيح -بناءً على ذلك- هو التعريف مع عدم دخول اللواط في الزنا، فيكون: وطءٌ في قُبُلٍ خالٍ عن مِلكٍ أو شبهةٍ، يكون هذا هو التعريف الصحيح للزنا: وطءٌ في قُبُلٍ خالٍ عن مِلكٍ أو شبهةٍ.

فقولنا في التعريف: “وطء”، خَرَج به ما دون الوطء؛ كالمباشرة والقبلة ونحو ذلك؛ هذه لا تأخذ حكم الزنا بالمعنى الشرعي الاصطلاحي.

وقولهم “في قُبُلٍ”، خرج به الدبر -اللواط- فلا يُعتبر زنًا كما بينَّا.

وقولهم “خالٍ عن مِلكٍ”، الملك: المراد به هنا: النكاح وملك اليمين، ووجه تسمية النكاح ملكًا: أن الزوج يملك به حق الاستمتاع بالمرأة، وأما مِلك اليمين: فهو أن يشتري أمَةً ويتسرَّى بها: إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [المؤمنون:6].

وقولهم “أو شبهةٍ”، يعني شبهة النكاح؛ لو وطئ امرأةً على أنها زوجته، ثم تبيَّن مثلًا أنها أخته من الرضاع؛ لا يعتبر زنًا، وإنما يعتبر وطئًا بشبهةٍ.

والزنا من الكبائر؛ لأن كل ما ورد فيه حدٌّ؛ فهو كبيرةٌ، وسبق أن عرَّفنا الكبيرة، قلنا: الكبيرة: هي كل ما ورد فيه حدٌّ في الدنيا، أو وعيدٌ في الآخرة؛ من لعنةٍ أو غضبٍ أو سخطٍ أو نفي إيمانٍ.

فإذنْ كلُّ ما ورد فيه حدٌّ: كبيرةٌ؛ معنى ذلك: أن الزنا من الكبائر، شرب الخمر من الكبائر، القذف من الكبائر، الحرابة من الكبائر، السرقة من الكبائر، هذه كلها حدودٌ، وقد سدَّت الشريعة جميع الذرائع الموصلة إليها؛ فحرمت النظر المحرَّم؛ نظر الرجل للمرأة والمرأة للرجل، وأيضًا سفر المرأة بدون محرمٍ، والخلوة، وكل ما يكون ذريعةً لذلك.

مفاسد الزنا وقبحه

والزنا له مفاسد عظيمةٌ، وهو يؤدي إلى اختلاط الأنساب، وهذه مِن أعظم المفاسد، من أعظم المفاسد اختلاط الأنساب، ومما يدل على قبح هذه المعصية: العقوبة الشديدة التي رتبتها الشريعة؛ يعني: إن كان محصنًا؛ الرجم، القتل على صورةٍ فظيعةٍ؛ يُرجَم بالحجارة حتى يموت، وإن كان غير محصنٍ؛ جلد مئةٍ وتغريب عامٍ.

هذا يدل على شدة قبح هذه المعصية.

وقد ذكر ابن القيم: أن الزنا يَجمع خلال الشر كلها؛ من قلة الدين، وذهاب الورع، وفساد المروءة.. إلى آخره، وأيضًا يُسلب عن المسلم اسم العفة إذا وقع في الزنا، ووَصْف العفة شرفٌ، ويسلب أيضًا اسم المؤمن: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمنٌ [21]، المقصود به: الإيمان المطلق، وإن لم يُسلَب عنه مطلق الإيمان كما ذكرنا، وأيضًا ورد في ذلك حديث سَمُرة  قال: فأتينا على تَنُّورٍ فيه لَغَطٌ وأصواتٌ، وإذا فيه رجالٌ ونساءٌ عراةٌ، ويأتيهم لهبٌ من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب؛ ضَوْضَوْا، فقلت: من هؤلاء؟ قال: الزناة والزواني [22]، وأيضًا ما ذكروا من أنه له آثارٌ في ضيقة الصدر، وحَرَجِ الصدر، ونحو ذلك، ونزع نور الإيمان، وكثرة اللُّقَطاء، وربما انتشار بعض الأمراض، إلى غير ذلك من أضرار الزنا، ومِن أحسن مَن تكلم عنها: الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى.

عقوبة الزاني المحصن

قال:

فإذا زنى المُحصَن؛ وجب رجمه حتى يموت.

هذه عقوبة الزاني المحصن: الرجم حتى يموت، ومن هو المحصن؟ عرَّفه المؤلف:

والمحصن:

قال:

هو من وطئ زوجته في قبلها بنكاحٍ صحيحٍ.

هذا هو ضابط المحصن، حتى لو كان مرةً واحدةً، لو تزوج امرأةً ووطئ مرةً واحدةً، وطلقها أو ماتت؛ يكون محصنًا.

قال:

وهما حُرَّان مُكلَّفان.

أي: الزوجان حران مكلفان، فلو زنى غير مكلفٍ؛ لا يحد حد الزنا، وإنما يُعزَّر.

الأدلة على عقوبة الرجم

وعقوبة الرجم أجمع عليها العلماء، والنبي عليه الصلاة والسلام رَجَم، ورجم الصحابة  مِن بعده، وقال: واغْدُ -يا أُنَيس- إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها [23]، ورجم ماعزًا [24]، ورجم الغامدية [25]، ورجم اليهوديَّين [26]، وعمر لما خطب الناس قال: “كان مما أنزل الله: آية الرجم، قرأناها وعقلناها ووعيناها، ورجم رسول الله ورجمنا بعده، فأخشى -إن طال بالناس زمانٌ- أن يقول قائلٌ: ما نجد آية الرجم في كتاب الله” [27]، وهذا في “الصحيحين”، وعمر يشير إلى أن في القرآن آيةَ الرجم، لكنها نسخت.

آية الرجم

فما هي آية الرجم؟

بعض العلماء استدلوا بحديثٍ عند البيهقي ومالكٍ: {والشيخُ والشيخةُ إذا زَنَيَا فارجموهما البتة، نكالًا من الله، والله عزيزٌ حكيمٌ} [28]، لكن هذا الحديث ضعيفٌ، فهو منكرٌ سندًا ومتنًا؛ أما سندًا: فكما ذكرنا، وأما متنًا: يعني لماذا يقول: “الشيخ والشيخة”؟! أيهما أقرب للزنا: الشيخ والشيخة، أو الشاب والشابة؟ الشاب والشابة، حتى متنه فيه نكارةٌ؛ لهذا فالأقرب والله أعلم: أن الآية المنسوخة ليست هذه، وإنما هي آيةٌ أخرى نُسخت وبقي حكمها، فهذا مثالٌ لنسخ اللفظ وبقاء الحكم، هذا مثالٌ لنسخ اللفظ وبقاء الحكم.

ذكر بعضُ العلماءِ حكمةً في هذا النسخ، وهذا استنباطٌ عجيبٌ، قالوا: إن من حكمة هذا النسخ: بيان فضل هذه الأمة، وأنها تعمل بحكمٍ قد نُسخ لفظه، بينما اليهود لا يعملون بما هو موجودٌ عندهم في التوراة؛ ولذلك لما زنى يهوديٌّ ويهوديةٌ؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام: ائتوا بالتوراة، فأتوا بها، قال: اقرأ، جعل يقرأ، ووضع يده على آية الرجم، قال عبدالله بن سلامٍ: يا رسول الله، قل له يرفع يده، فلما رفع يده؛ إذا آية الرجم موجودةٌ في التوراة [29]؛ فهذا يدل على فضل هذه الأمة، تعمل بحكمٍ قد نُسِخ لفظه؛ ولهذا نجد الثناء العظيم من الله على هذه الأمة وعلى الصحابة  ثناءً عجيبًا: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح:18]، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا [الفتح:29]، ثناءٌ عظيمٌ، ثناءٌ عجيبٌ!

بينما تجد الأمم الأخرى تجد الذم: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ [المائدة:73]، وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة:30]، وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا [البقرة:67]، لاحِظ الفرق، سبحان الله! انظر لأسلوب القرآنِ: الثناء العظيم على هذه الأمة، بينما الأمم السابقة: الذم على ما وقعوا فيه من معاصٍ، لكن لاحِظ دقة أيضًا القرآن، ليس كلهم: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16]، لَيْسُوا سَوَاءً [آل عمران:113]؛ هذا يدل على أن المطلوب: العدل، وأن يكون الإنسان دقيقًا أيضًا، لا تعمم في الحكم؛ كثيرٌ منهم ليسوا سواءً، لكن -في الجملة- هذه الأمة نجد الثناء العظيم عليها في كتاب الله  وعلى الصحابة : وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100]، ثناءٌ عجيبٌ! تجد الثناء العظيم على الصحابة ، بينما الذم الشديد لمن عَصَوا الرسل من الأمم السابقة؛ وهذا يدل على أن هذه الأمة هم أفضل الأمم، وعلى أن الصحابة  هم خير هذه الأمة؛ ولهذا اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه .

عقوبة الزاني غير المحصن

قال:

وإن زنى الحر غير المحصن؛ جُلد مئةَ جلدةٍ، وغُرِّب عامًا إلى مسافة قصرٍ.

“غير المحصن” مفهوم التعريف السابق يعني: الذي لم يتزوج، أو تزوَّج لكنه لم يطأ زوجته، نحن قلنا في تعريف المحصن: مَن وَطئ في نكاحٍ صحيحٍ؛ معنى ذلك: غير المحصن: مَن لم يطأ في نكاحٍ صحيحٍ، سواءٌ لم يتزوج، أو تزوج ولم يطأ، فيعتبر هذا غير محصنٍ، فهذا حُكمه منصوصٌ عليه في القرآن في سورة النور في قول الله : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]، وأما التغريب: فقد ثبتت به السنة في قول النبي عليه الصلاة والسلام: خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا ، ما المقصود بالسبيل؟ “السبيل” هو المذكور في قول الله : وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [النساء:15]، جعل الله لهن سبيلًا، وهو هذا الحكم، هذا تفسير الآية؛ قال: قد جعل الله لهن سبيلًا، ما هو؟ البكر بالبكر: جَلدُ مئةٍ ونفي سنةٍ، والثيب بالثيب: جلد مئةٍ والرجم [30]؛ ولهذا غرَّب النبي عليه الصلاة والسلام، وغرَّب أبو بكرٍ ، وغرب عمر .

هل المرأة تُغرَّب كالرجل؟

فالتغريب قد وردت به السنة، وقال به جماهير الفقهاء، خلافًا فقط للحنفية؛ لأن الحنفية عندهم: أن الزيادة على النص نسخٌ، والسنة لا تَنسخ القرآن عندهم؛ يعني أنهم لا يقولون بالتغريب، لكن الصحيح هو ما عليه الجمهور.

لكن يبقى الإشكال في تغريب المرأة: هل المرأة تُغرَّب كالرجل؟ طيب، إذا غُرِّبت المرأة؛ لا بد من أن يكون معها محرمٌ، فإن غُرِّب معها مَحْرَمُها؛ أوقعنا العقوبة بمن لا يستحقها، وإن غُرِّبت بدون محرمٍ؛ كان هذا إغراءً لها بالفجور؛ لأنها إذا وقع منها الزنا وهي في بلدها وبين أهلها؛ ففي بلدٍ بعيدٍ -بلد الغربة- من باب أولى، فهذا مُشكِلٌ؛ ولهذا الفقهاء تناولوا هذه المسألة، واختلفوا فيها على قولين:

  • القول الأول: أن المرأة كالرجل تُغرَّب، لكن يغرب معها محرمها، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة؛ واستدلوا بعموم الأدلة: البكر بالبكر: جلد مئةٍ وتغريب عامٍ [31]، قالوا: وهذه الأدلة عامةٌ، وأما المَحْرَم فقالوا: لأنه لا يخلو من نوع تفريطٍ في حفظ مولِّيَته.
  • القول الثاني: قول المالكية، وهو روايةٌ عند الحنابلة اختارها الموفق بن قدامة، وهو: أن التغريب خاصٌّ بالرجل فقط دون المرأة، وهذا هو القول الراجح؛ وذلك لأن المرأة إذا غُربت بمحرمٍ؛ فهذا فيه إيقاعٌ للعقوبة بمن لا يستحقها، وإن غُرِّبت بدون محرمٍ؛ فهذا فيه إغراءٌ لها بالفجور وتضييعٌ لها؛ قال عليه الصلاة والسلام: لا يحل لامرأةٍ تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يومٍ وليلةٍ إلا ومعها ذو محرمٍ [32]، ثم أيضًا تغريب سنةٍ يحتاج إلى أُجرةٍ، مَن الذي يتكفل بالأجرة لها ولمحرمها أيضًا؟ فإن كُلِّف المَحْرم؛ كُلِّف بأمرٍ غير واجبٍ عليه شرعًا، وإن كُلِّفت هي بالأجرة؛ كان هذا فيه زيادةٌ على عقوبتها؛ ولهذا فالأقرب والله أعلم: أن التغريب خاصٌّ بالرجل دون المرأة، وأن الأحاديث الواردة في التغريب مخصوصةٌ بحديث: لا يحل لامرأةٍ تؤمن بالله واليوم والآخر أن تسافر مسيرة يومٍ وليلةٍ إلا ومعها ذو محرمٍ، ومما يدل لهذا: أنه لم يرد عن الصحابة أنهم غرَّبوا نساءً، لم يرد لا في أثرٍ لا صحيحٍ ولا ضعيفٍ، لم يرد أن الصحابة غرَّبوا امرأةً، فلو كان مشروعًا؛ لفعله الصحابة ولَنُقل؛ كما قال الموفق بن قدامة، قال: “وعموم الخبر -يعني عموم الأحاديث- مخصوصٌ بخبر النهي عن سفر المرأة بدون محرمٍ”.

وأما قول أصحاب القول الأول: إن وليَّ المرأة لا يخلو مِن تفريطٍ، هذا غير مُسلَّمٍ؛ فقد يبذل الولي وسعه في حفظ هذه المرأة، لكنه يُبتلى بامرأةٍ تقع في الزنا، أليس بعض الأنبياء وقع مِن بعض أقاربهم الكفر، وهو أعظم وأشد؟ فهذا نوحٌ  لم يستطع أن يهدي ابنه، قال: يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ۝ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [هود:42-43]، وإبراهيم كذلك، أبوه كان كافرًا ولم يستطع أن يهديه، ابتُلي به، ومحمد عليه الصلاة والسلام، كان عمه أبو طالبٍ بمثابة أبيه، وبذل معه وسعه في سبيل هدايته حتى آخر لحظة من حياته، قال: يا عم، قل كلمةً أحاجُّ لك بها عند الله [33]، فمات على الكفر، فقد يُبتلى الإنسان مثلًا بمُولِّيَةٍ يقع منها الزنا، فالقول بأنه مفرِّطٌ أو عنده نوع تفريطٍ، هذا غير صحيحٍ، ولا يسلَّم بذلك؛ والله تعالى يقول: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164].

ولهذا فالأقرب والله أعلم: هو قول المالكية، وهو اختيار الموفق ابن قدامة، وهو أن التغريب خاصٌّ بالرجل دون المرأة؛ ولذلك فالمقولة: “مَن يزن؛ يُزن به ولو بجداره”، هذه غير صحيحةٍ، ما ذنب هذه المرأة حتى يُزنَى بها إذا كان زوجها فاجرًا مثلًا أو العكس، تَلَقَّاها بعض الناس لكنها غير صحيحةٍ؛ فقد يكون الإنسان عفيفًا ويُبتلى بقريبٍ ليس كذلك، أو العكس.

حد زنى الرقيق

قال:

وإن زنى الرقيق؛ جلد خمسين ولا يُغرَّب.

وهذا بنص الآية: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ يعني: على الإماء نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ يعني: الحرائر مِنَ الْعَذَابِ [النساء:25]، يعني: من عقوبة الزنا.

فالمقصود بالمُحصَنة هنا: الحرائر، والإحصان قد يطلق على العفة، وقد يطلق على الحرية، فهنا المقصود به: الحرائر.

فالقاعدة: أن الرقيق على النصف من الحر في العقوبات؛ فإذا زنى الرقيق؛ جُلد خمسين ولا يُغرَّب؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: إذا زنت الأمة فتبين زناها؛ فليجلدها الحد ولا يُثرِّب عليها [34]، ولم يذكر تغريبًا.

زنا غير المسلمين

قال:

وإن زنى الذمي بمسلمةٍ؛ قُتل.

يعني: الذمي ومن في حكمه كالمعاهد؛ وذلك لأن هذا من موجِبات انتقاض العهد.

قال:

وإن زنى الحربي؛ فلا شيء عليه.

يعني: إذا كان مستأمِنًا؛ لا يقام عليه حد الزنا، فقط الكلام من جهة الزنا؛ لأنه غير ملتزمٍ بأحكامنا.

زنا المحصن بغير المحصن

وإن زنى المُحصَن بغير المحصن؛ فلكلٍّ حكمه.

يعني: الرجل مثلًا مُحصَنٌ والمرأة غير محصنةٍ، فهذا له حدُّ المحصن، وهذا له حد غير المحصن؛ ولهذا في قصة امرأة العَسِيف قال عليه الصلاة والسلام للرجل: على ابنِكَ جَلْدُ مئةٍ وتغريب عامٍ؛ لأنه كان غير محصنٍ: واغدُ -يا أنيس- إلى امرأة هذا، فإن اعترفت؛ فارجمها [35]؛ لأنها كانت محصنةً.

من زنى ببهيمةٍ عُزِّر

ومن زنى ببهيمةٍ؛ عُزِّر.

يعني: مَن فعل ببهيمةٍ يُعزَّر ولا يقام عليه حد الزنا، وهذا قول الجماهير؛ لأنه لم يثبت في ذلك عقوبةٌ، ولا حرمة لفرج البهيمة، والنفوس السوية أصلًا تعاف ذلك؛ فيُعزَّر تعزيرًا بحسب اجتهاد القاضي، لكنه لا يقام عليه حد الزنا.

وهناك قولٌ: أنه إذا كان محصنًا؛ رُجِمَ، وإذا كان غير محصنٍ؛ جُلد وغرب، لكنه قولٌ ضعيفٌ، والحديث الذي استدلوا به حديثٌ ضعيفٌ: من أتى بهيمةً فاقتلوه واقتلوها معه [36]، حديثٌ ضعيفٌ.

شروط إقامة حد الزنا

قال:

وشرط وجوب الحد.

يعني: شرط وجوب حد الزنا.

ثلاثةٌ.

انتقل المؤلف للكلام عن شروط إقامة حد الزنا:

الأول:

تغييب الحَشَفَة

أحدها: تغييب الحَشَفَة أو قَدْرِها، في فرجٍ أو دبرٍ لآدميٍّ حيٍّ.

“تغييب الحشفة”: الحشفة هذه مرت معنا في الغسل، تذكرون في باب: الغسل لمَّا قلنا: إذا حَصَل تغييب الحشفة؛ وجب الغسل وإن لم يحصل إنزالٌ، ما هي الحشفة؟

“الحشفة”: هي رأس الذَّكَر، ويُعرِّفها بعضهم يقولون: ما تحت الجِلدة المقطوعة من الذكر في الختان، الذي هو رأس الذكر، هذه هي الحشفة.

فلا بد من تغييب الحشفة، وإذا لم يحصل تغييب الحشفة؛ فلا يقام الحد، ولا يجب أيضًا الغسل عند الجماع، وأيضا حتى الكفارة المغلظة في نهار رمضان، يُشترط في الجماع تغييب الحشفة، فهي تَرِد في كثيرٍ من الأحكام.

وقوله: “أو قدرها”، يعني: قدر الحشفة، هذا في المقطوع ذكره.

وقوله: “في فرجٍ أو دبرٍ لآدميٍّ حيٍّ”، سبق أن ذكرنا أن الزنا ما كان في القبل، وأنه لا يشمل اللواط.

انتفاء الشبهة

قال:

الثاني: انتفاء الشبهة.

الثاني لوجوب إقامة حد الزنا: انتفاء الشبهة، وقد ورد في ذلك حديثٌ عن النبي عليه الصلاة والسلام: ادرءوا الحدود بالشبهات [37]، وادرءوا الحدود ما استطعتم [38]، وجميع أسانيده ضعيفةٌ، الحديث ضعيفٌ من جهة الإسناد، لكن العمل عليه عند أهل العلم؛ ولهذا ذكر ابن المنذر الإجماع على ذلك؛ قال ابن المنذر: “أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الحد يُدرأ بالشبهة”، ولكن المقصود بذلك: الشبهة المعتبرة شرعًا، وليس أي شبهةٍ، فتكون الشبهة قويةً؛ لأن التوسع أيضًا في درء الحدود بالشبهات يؤدي إلى عدم إقامة الحدود، وإنما المقصود الشبهة القوية، يعني من أمثلة ذلك: مثلًا قالوا: لو سَرَق مثلًا زوجٌ من زوجته، أو زوجةٌ من زوجها، أو ابن من أبيه، لا يقام عليهم حد السرقة؛ لوجود الشبهة؛ لأن كلًّا منهم يتبسط في مال الآخر.

ثبوت حد الزنا

الثالث: ثبوته.

يعني: ثبوت حد الزنا.

ثم ذكر المؤلف طريقين لثبوته:

الأول:

إما بإقرارٍ أربعَ مراتٍ، ويستمر على إقراره، أو بشهادة أربع رجالٍ عدولٍ.

الإقرار بالزنا

الطريق الأول: الإقرار، وهو الغالب في ثبوت الحدود عمومًا، والإقرار -كما يقال- هو سيد الأدلة.

وقد يَثبت حد الزنا بشهادة أربعة شهودٍ، لكنها حالاتٌ قليلةٌ أو نادرةٌ، نادرًا ما يأتي أربعة شهودٍ ويشهدون على صريح الزنا؛ ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله: الشهادة على الزنا لا يكاد يقام بها حدٌّ، وما أعرف حدًّا أقيم بها، يعني من عهد النبي إلى زمن ابن تيمية، يقول: لا أعرف حدًّا أقيم بشهادة شهودٍ، يقصد بذلك حد الزنا يعني.

فالغالب إذنْ في الحدود: أنها تثبت بالإقرار، وسيأتي الكلام عن قبول رجوع المقر.

قال: “بإقرارٍ أربعَ مراتٍ”؛ يعني: يتكرر منه الإقرار أربع مراتٍ، فلا يكفي أن يقر مرةً واحدةً.

وهذه المسألة للفقهاء فيها قولان:

  • القول الأول: أنه لا بد من إقراره أربع مراتٍ، وهذا هو المذهب عند الحنفية والحنابلة؛ واستدلوا بقصة ماعزٍ، قالوا: فأقر عند النبي أربع مراتٍ؛ لأنه قال: يا رسول الله، إني زنيت، فتنحَّى عنه، قال: إني زنيت، فتنحى عنه، قال: إني زنيت، قال: أبك جنونٌ؟، قال: إني زنيت، قال: هل أَحْصنت؟، قال: نعم [39]، فقالوا: أقر أربع مراتٍ؛ فهذا دليلٌ على أنه يُشترط في الإقرار بالزنا أن يكون أربع مراتٍ.
  • القول الثاني: لا يشترط، بل يكفي أن يكون مرةً واحدةً، وهذا مذهب المالكية والشافعية؛ قالوا: لأن جميع الوقائع التي أقام فيها النبي حد الزنا لم يكن الإقرار فيها أربع مراتٍ، وإنما اكتفى بالإقرار فيها مرةً واحدةً؛ مثل مثلًا: قصة العَسِيف والجُهَنية والغامدية وقصة اليهوديين اللذين زنيا [40]، كلها في الإقرار مرةً واحدةً، إنما فقط قصة ماعزٍ هي التي كان فيها الإقرار أربع مراتٍ، وأيضًا قصة ماعزٍ الروايات فيها مختلفةٌ؛ في بعض الروايات: أن الإقرار مرتين، وفي بعضها ثلاثًا، وأيضًا هي واقعة عينٍ، يحتمل أن النبي عليه الصلاة والسلام أراد أن يتثبت من حاله؛ ولهذا سأل: أبك جنون؟ أشربت خمرًا؟ [41]، والذي ينبغي: النظر إلى جميع النصوص، وليس إلى نصٍّ واحدٍ؛ ولأن الإقرار مُظهِرٌ للحق المُقَرِّ به، وتكراره لا يفيد، يعني ما الفائدة من أن نقول للمُقِر أَقِرَّ مرةً ثانيةً، أقر مرةً ثالثةً، أقر مرةً رابعةً؟ ما الفائدة؟ إذا أقر مرةً واحدةً يكفي، ولأن الإقرار بالقتل يكفي فيه مرةٌ واحدةٌ، وهو أعظم من الزنا، فكيف بالزنا؟!

فالقول الراجح إذنْ: هو القول الثاني، وهو أنه يُكتفى في الإقرار بالزنا أن يكون مرةً واحدةً.

قال: “ويستمر على إقراره”، يعني: يُشترط أن يستمر على إقراره ولا يرجع، وهذه المسألة التي قلتُ: إنا سنتكلم عنها.

اختلف العلماء في قبول رجوع المقر عن إقراره على قولين:

  • القول الأول: أنه يُقبل، وهذا قول الجماهير من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة؛ قالوا: لأن الحدود تُدرأ بالشبهة، فإذا رجع المقر أَوْرَث ذلك شبهةً يُدرأ بها الحد.
  • والقول الثاني: أن المقر إذا أقر؛ لا يُقبل رجوعه، إلا إذا كان ثَم شبهةٌ، وهذه روايةٌ عن مالكٍ، وهو اختيار ابن تيمية وابن عثيمين، رحمة الله تعالى على الجميع، وهذا هو القول الراجح، إنسانٌ أقرَّ واعترف، وكل القرائن تدل على أنه وقع في هذه المعصية، فكيف نقبل رجوعه عن إقراره؟! هذا يؤدي لعدم إقامة الحدود؛ ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله: لو قُبل الرجوع؛ لَمَا قام حدٌّ بإقرارٍ، فإذا كان هذا في زمن ابن تيمية؛ فما بالك بالأزمنة مِن بعده؟!

فالأقرب والله أعلم: أنه لا يُقبل رجوع المقر، إلا إذا كان ثَم شبهةٌ.

“أو بشهادة أربع رجالٍ عدولٍ”، هذه الطريقة الثانية، ونحن قلنا: إنها طريقةٌ صعبةٌ ونادرةٌ: أن يشهد أربعة شهودٍ على الزنا، وهذا بالإجماع؛ لقول الله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ [النور:4]، لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ [النور:13].

وهناك مسألةٌ لم يذكرها صاحب “الدليل”، وذُكرت هنا في “السلسبيل”: هل يُشترط أن تكون شهادة الشهود في مجلسٍ واحدٍ؟

  • الحنابلة يرون وكذلك الحنفية: أنه لا بد من أن يكون في مجلسٍ واحدٍ؛ قالوا: لأن مجيء الشهود في أكثر من مجلسٍ تهمةٌ، ويورث الشُّبهة.
  • والقول الثاني: أنه لا يشترط أن يكون الشهود في مجلسٍ واحدٍ، وهذا مذهب الشافعية، وروايةٌ عند الحنابلة، وهو القول الراجح؛ لعموم الأدلة ومنها قول الله : لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ [النور:13]، ولم يَشترط الله ​​​​​​​ أن يكون في مجلسٍ واحدٍ.

فالقول الراجح: أنه لا يشترط أن يأتي الشهود في مجلسٍ واحدٍ، وأما القول بأنه يُورِث تهمةً أو شبهةً؛ فلا يُسلَّم؛ لأنه يُشترط عدالة الشهود، ولا فرق بين أن يأتوا في مجلسٍ واحدٍ أو أكثر من مجلسٍ، المهم أننا نشترط عدالة الشهود.

إن كان أحد الشهود غير عدلٍ؛ حُدُّوا للقذف

قال:

فإن كان أحدهم غير عدلٍ؛ حُدُّوا للقذف.

يعني: لو شهد أربعة شهودٍ على الزنا، ثم إن أحد هؤلاء الأربعة غيرُ عدلٍ؛ فيُحَدُّون حد القذف، وكذلك أيضًا لو تراجع أحد الشهود؛ كما حصل في قصة عمر  لمَّا شهد أربعةٌ على رجلٍ، ثم إن الرابع تلكَّأ في الشهادة، فأمر عمر بجلدهم جميعًا حد القذف [42].

إذا شهد أربعةٌ بِزِناه بفلانة، وشهد أربعةٌ آخرون بزنا الشهود السابقين

قال:

وإن شهد أربعةٌ بِزِناه بفلانة، فشهد أربعةٌ آخرون أن الشهود هم الزناة بها؛ صُدِّقوا وحُد الأولون فقط للقذف والزنا.

يعني: هذه مسألةٌ مفترَضةٌ، معناها: لو أن المشهود عليه الأولَ شَهِد عليه أربعةٌ بأنه زنى، وشهد أربعةٌ آخرون على هؤلاء الشهود بأنهم هم الزناة؛ فلا يُحد الأول، وإنما يحد هؤلاء الأربعة الذين شهد عليهم أربعةٌ بالزنا.

قال: “فشهد أربعةٌ آخرون أن الشهود هم الزناة بها؛ صُدقوا”، يعني: أُقيم عليهم الحدُّ، وحُد الأولون فقط للقذف والزنا؛ يعني: يُحد أولئك القذفة بالقذف وبالزنا؛ لأن هؤلاء الأربعة مثلًا اتفقوا على شخصٍ يشهدون عليه ظلمًا، ثم أتى أربعة شهودٍ وشهدوا أن هؤلاء الأربعة هم الزناة، فيقول المؤلف: إن هذا الشخص لا يقام عليه شيءٌ، وهؤلاء الأربعة يقام عليهم حد الزنا وحد القذف؛ لأنهم قَذفوا هذا الرجل ووقعوا في الزنا.

هل يَثبت حدُّ الزنا بالحمل؟

قال:

وإن حملتْ من لا زوج لها ولا سيد؛ لم يلزمها شيءٌ.

هذه مسألةٌ خلافيةٌ بين الفقهاء: هل يَثبت حد الزنا بالحمل أو لا يثبت؟ امرأةٌ حملت من غير زوجٍ، هل يثبت بذلك حد الزنا؟

  • القول الأول: أنه لا يثبت، وهذا قول الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة؛ قالوا: لأنه يحتمل أنها حملت مِن وطءِ إكراهٍ أو شبهةٍ أو نحو ذلك.
  • القول الثاني: أنها تُحد إن لم يكن ثَم شبهةٌ، هذا هو مذهب المالكية، واختيار ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى، وهو المأثور عن الصحابة ؛ ولهذا قال عمر : “الرجم في كتاب الله حقٌّ على مَن زنا إذا أحصن، إذا قامت البينة، أو كان الحَبَل أو الاعتراف” [43]، وهذا في “الصحيحين”، قوله “أو الحَبَل”، يعني: الحمل، وكان هذا بمَحْضَرٍ من الصحابة ؛ فكان كالإجماع من الصحابة على ذلك.

وأما القول بأنه يحتمل أن يكون هناك شبهةُ إكراهٍ أو غصبٍ، نحن قلنا: إذا كان ثَم شبهةٌ -يعني بأدلةٍ وقرائن- يُدرأ الحد، لكن إذا لم يكن ثَم شبهةٌ؛ فيقام الحد بالحمل، هذا هو القول الراجح.

حد اللواط

مسألة عمل قوم لوطٍ: عمل قوم لوطٍ أشد قبحًا من الزنا؛ لقول الله : وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً [الإسراء:32]، فسمى الله تعالى الزنا فَاحِشَةً، لكن بالتنكير فَاحِشَةً، بينما قال عن عمل قوم لوطٍ: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ [الأعراف:80]، مُعرَّفةً بـ”أل”، وهذا يدل على أنها أشد؛ لأن “أل” تدل على أن هذا الفعل جمع الفحش كله، هكذا ذكر بعض المفسرين، لكن اعتُرض عليهم بأن الله تعالى أيضًا وصف الزنا بالفاحشة في قوله: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ [النساء:15]، فالمقصود بها الزنا، فهذا مما اعتُرض به على هذا الاستنباط، لكن أهلك الله أمَّةً من الأمم بهذه المعصية، وهم قوم لوطٍ، وجعل عاليها سافلها؛ يعني: أتى بما يشبه الزلزال، فتهدمت البيوت والبنيان عليهم، وأما ما ورد في بعض أخبار بني إسرائيل: أنه رُفعت بهم الأرض حتى بلغوا السماء وسُمع صوت كلابهم، فهذه لا تصح؛ إنما جعل الله عاليها سافلها، يعني: أتاهم مثلُ الزلزال، وسقطت عليهم المباني، ورُمي كل واحدٍ بحجارةٍ من سجيلٍ كُتب عليها اسمه: مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ [هود:83]، هذه حجارةٌ يُضرب بها فلان بن فلانٍ، هذه فلان بن فلانٍ، هذه فلان بن فلانٍ، سبحان الله! كل واحدٍ تأتيه الحجارة التي كُتب عليها اسمه.

اختلف الفقهاء في حد اللواط على أقوالٍ:

  • القول الأول: أن عقوبته عقوبة الزنا، هذا هو المشهور عند الشافعية والحنابلة؛ لأنهم -كما ذكرنا- اعتبروا اللواط زنًا، وأدخلوا ذلك في تعريف الزنا.
  • والقول الثاني: أن عقوبته القتل بكل حالٍ، فاعلًا كان أو مفعولًا به، محصنًا أو غير محصنٍ، ونُقل إجماع الصحابة على ذلك، وهو قولٌ لبعض الحنفية، وقولٌ عند المالكية، وعند الشافعية، وأيضًا روايةٌ عن الإمام أحمد، وهذا هو المأثور عن الصحابة ؛ ولهذا كما ذكر ابن تيمية وابن القيم: أن الصحابة أجمعوا على قتل اللوطي وإن اختلفوا في صفة القتل؛ قال بعضهم: يُرمى مِن أعلى بناءٍ في القرية، وقال بعضهم: يُرمى من الجبل، وقال بعضهم: يُرجَم، وقال بعضهم: يُهدم عليه الجدار، ثم أجمعوا على وجوب قتله وإن اختلفوا في صفة القتل؛ قال عليه الصلاة والسلام: من وجدتموه يعمل عمل قوم لوطٍ؛ فاقتلوا الفاعل والمفعول به [44].
  • وهناك قولٌ للحنفية: أنه يُعزَّر.

والراجح: هو القول الثاني، وهو أن عقوبته القتل؛ لأن هذا إجماع الصحابة؛ وللحديث أيضًا: من وجدتموه يعمل عمل قوم لوطٍ؛ فاقتلوا الفاعل والمفعول به.

ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

طيب، نجيب عما تيسر من الأسئلة:

مداخلة:…

الشيخ: لهذا لا بد منه، شرطٌ لا بد منه، ذكروا في تفاصيل هذه الشروط نعم، لكن هذه الشروط بشكلٍ مُجمَلٍ.

الأسئلة

السؤال: من كان ينظف سلاحه فأطلق على شخصٍ بغير قصدٍ، هل يكون عمدًا أو شبه عمدٍ؟

الجواب: هذه المسألة مرت معنا في كتاب الجنايات، وقلنا: إن القصد لا يُنظَر إليه، إنما يُنظر للآلة، ما دام أن الآلة تقتل غالبًا؛ يعتبر عمدًا؛ لأنه لو فُتح هذا الباب فكل قاتلٍ سيدَّعِي أنه لم يَقصِد القتل، فيُنظر للآلة، وإن كان قد يكون صادقًا، لكن أمام القضاء يُنظر للآلة، حتى لو كان ينظف سلاحه، حتى لو كان يمزح معه، ما دام أن الآلة تقتل غالبًا؛ فيعتبر قتل عمدٍ موجبًا للقصاص.

السؤال: الدم الذي يكون في اللحم؛ مثل الرقبة أو الفخذ، هل هو دمٌ مسفوحٌ؟

الجواب: أما دم الرقبة فهو دمٌ مسفوحٌ، الدم الذي يخرج وقت الذبح يعتبر دمًا مسفوحًا، وأما الذي يكون في العروق فمعفوٌّ عنه؛ كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها، الذي يكون في العروق، ولا يكون في الرقبة، ولا وقت الذبح، فهو طاهرٌ ومعفوٌّ عنه.

السؤال: تكلم خالي عن والدي بسوءٍ أمامي ولم أرد عليه؟

الجواب: يعني ينبغي هنا الحكمة في التعامل مع مثل هذه المواقف؛ لأنه أيضًا كونك ربما تقع في قطيعة خالك هذه مفسدةٌ أشد، لكن يمكن أن تأتي بعبارةٍ فيها لطفٌ؛ مثلًا تقول: اتركونا من هذا الموضوع وتكلموا في كذا، أو نحو ذلك، فتأتي بعبارةٍ يكون فيها لطفٌ وتُغيِّر مجرى الحديث، فهذا أحسن من المواجهة المباشرة؛ لأن هذا قد يوقع شيئًا في النفوس، وربما يؤدي لقطيعة الرحم؛ فينبغي أن يكون الإنسان حكيمًا في تعامله مع مثل هذه المواقف، خاصةً مع مَن تجب عليه صلتهم.

السؤال: إذا قيل: إن المراد بـ{الشيخ والشيخة}: المُحصَن؛ كما في الحديث الآخر: شيخٌ زانٍ، هل تنتفي النَّكارة؟

الجواب: لا، شيخٌ زانٍ [45] المقصود به: أن دواعي الزنا ليست موجودةً عنده ومع ذلك زنى؛ وهذا يدل على تأصُّل الإجرام عنده؛ فلذلك كان عذابه شديدًا، هذا ليس له علاقةٌ بمسألتنا؛ لأن الذي ذُكر {والشيخ والشيخة إذا زنيا} عمومًا {فاجلدوهما البتة}.

لكن قول: شيخٌ زانٍ، المقصود: أن الإنسان الكبير في السن تضعف عنده الشهوة، فإذا وقع في الزنا؛ فهذا يدل على تأصُّل هذه المعصية والإجرام عنده؛ ولذلك كان عذابه شديدًا؛ ولذلك قال: الفقير المختال [46]، فقيرٌ مختالٌ يعني: يفترض أن الفقير لا يكون متكبرًا، ما فيه شيءٌ يدعو للكبر أصلًا، فإذا كان فقيرًا ومتكبرًا؛ فهذا يدل على أيضًا تأصُّل الإجرام عنده.

السؤال: نصيحتكم لمن ابتُلي بالنظر الحرام؟

الجواب: عليه أن يجاهد نفسه؛ مجاهدة النفس عن المعاصي عمومًا، ومنها النظر المحرم وغيره، النفس تحتاج لمجاهدةٍ؛ لهذا الله تعالى يقول: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ۝ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41]، فالنفس تحتاج إلى نَهْيٍ، وإذا وقع الإنسان في المعصية؛ يقوم مباشرةً ويتوضأ ويصلي ركعتين ويستغفر الله فيغفر الله له، ينبغي أن يجعل المسلم هذا مبدأً له في حياته: إذا وقعتَ في أي معصيةٍ، أية معصيةٍ، قم وتوضأ وصل ركعتين واستغفر الله، وقد وَعَد النبي عليه الصلاة والسلام من فعل ذلك بأن يغفر الله له؛ ولهذا فالله تعالى يقول في الحديث القدسي: أذنب عبدي ذنبًا فعلم أن له ربًّا يأخذ بالذنب ويغفر الذنب، فاستغفرَ فغفرت له، ثم أذنب ذنبًا فاستغفر فغفرت له، ثم أذنب ذنبًا فاستغفر فغفرت له، ولا يزال عبدي يذنب ذنبًا فيستغفر فأغفر له[47]، وهذا في “الصحيحين”، وهذا محمولٌ عند العلماء على من يفعل الذنب ثم يستغفر الله ويتوب إليه، ثم تأتي لحظة ضعفٍ ويعود للذنب مرةً ثانيةً، لا يُمنع من أن يستغفر ويتوب مرةً أخرى.

مداخلة:…

الشيخ: إي نعم، كذلك يفعل الأسباب المعينة على غض البصر؛ ومنها: ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام: يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغضُّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وِجَاءٌ [48].

السؤال: من يحضر للصلاة مع الإقامة، هل يُعتبر ناقص الإيمان؛ لأنه لم يُجِب المؤذن عند النداء؟

الجواب: لا، لا يعتبر ناقص الإيمان؛ لأن التبكير مستحبٌّ وليس واجبًا؛ يعني: قد فاتته فضيلةٌ وسنةٌ، لكن لم يقع في معصيةٍ أصلًا حتى يقال: إنه ناقص الإيمان.

السؤال: ما حكم تعليق الصور المرسومة بالجدار بالبيت؟

الجواب: الصور المحرمة هي التي تكون على شكل تماثيل، أو تكون مرسومةً لذوات أرواحٍ، تماثيل ذوات الأرواح هي أشدها، والمرسومة ذوات الأرواح كذلك، هي الواردة في حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: سترت سَهْوةً بقِرَامٍ -يعني بسِتْرٍ، وكان عليه رسوماتٌ لخيلٍ، كما جاء في “صحيح مسلمٍ”، خيلٍ لها أجنحةٌ- فالنبي عليه الصلاة والسلام غضب وتغير وجهه، قال: يا عائشة، أشد الناس عذابًا عند الله يوم القيامة: المصورون، وقال في روايةٍ: الذين يضاهئون بخلق الله [49].

فإذنْ الصور المحرمة: هي التماثيل والرسومات لذوات الأرواح، أما الصور الفوتوغرافية: فالذي يظهر أنها لا تَدخل في معنى الصور المحرمة؛ لأنها ليس فيها علة المضاهاة لخلق الله؛ ولذلك كانت قديمًا عندنا في المملكة، وأنا أذكر لمَّا كنا صغارًا نسميها “عكس وعكوس”، ما كنا نسميها صورًا، وهذا هو الاسم الصحيح لها: أنها عكسٌ وليست صورةً.

مداخلة:…

الشيخ: الرسومات: لا يجوز، أو التماثيل، أما بالنسبة للفوتوغرافية: فالأمر فيها أسهل، لكن تعليقه ينبغي ألا يُفعَل؛ لأنه ربما يكون ذريعةً لتعظيمها من دون الله كما حصل لقوم نوحٍ .

السؤال: هلَّا كان قبل أن تأتيني به، هل أقام النبي الحدَّ على السارق؟

الجواب: نعم، أقام الحد عليه وقُطعت يده [50].

السؤال: هل وطء المرأة من دبرها يَدخل في الزنا؟

الجواب: لا يدخل في الزنا، وإن كان العلماء يسمونها “اللوطية الصغرى”، لكنه لا يدخل في الزنا بناء على القول الراجح: أن عمل قوم لوطٍ  لا يعتبر زنا.

وحتى وطء الرجل لزوجته في دبرها لا يجوز، وهذه اللوطية الصغرى، أما وطء امرأةٍ أجنبيةٍ في دبرها: فهذا على الخلاف؛ باعتباره زنًا أو لواطًا.

مداخلة:…

الشيخ: إذا أُقيم عليه الحد، القاتل.. يتعلق بالقتل ثلاثة حقوق: حق الله، وحق المقتول، وحق أولياء الدم؛ حق الله يسقط بالتوبة، وحق أولياء الدم إما بالقصاص، أو بالعفو إلى الدية، أو بالعفو مجانًا، وحق المقتول يبقى لصاحبه يوم القيامة حتى لو قُصَّ من القاتل، لكن بعض العلماء؛ مثل ابن القيم، وقلنا: إذا صَدَق في توبته؛ يُرجى أن الله تعالى يُعوِّض المقتول خيرًا مما يأخذه من القاتل؛ كما دل لذلك قصة القاتل مئة نفسٍ [51]، وإلا فالأصل أن حق المقتول باقٍ لصاحبه يوم القيامة.

نعم، حق أولياء الدم، يُخيَّرون بين ثلاثٍ: إما أن يقتصوا، وإما أن يقبلوا الدية، وإما العفو مجانًا، هذه الثلاثة لأولياء الدم وليست للمقتول.

مداخلة:…

الشيخ: نعم، مَن وطئ في نكاحٍ صحيحٍ، يعني حتى لو أنه وطئ ثم طلَّق أو ماتت؛ مثلًا: تزوج امرأةً وماتت، وقد وطئ مرةً واحدةً، يعتبر محصنًا، المهم أنه وطئ مرةً واحدةً، بغض النظر عن كون الزوجة: ماتت، طُلِّقت، باقيةً في ذمته، المهم أنه وطئ ولو مرةً واحدةً، يعتبر محصنًا، وهكذا أيضًا بالنسبة للمرأة.

مداخلة:…

الشيخ: حتى لو كان أعزب، المهم أنه سبق أن تزوج ووطئ في نكاحٍ صحيحٍ.

مداخلة:…

الجواب: هذه مسألة خلافيةٌ بين الفقهاء، والذي يظهر أن بينهما فرقًا، هناك فرقٌ، وأنه.. التغريب يختلف عن الحبس؛ التغريب: معنى ذلك تغيير البيئة، تغيير بيئة هذا الإنسان.

وهذا أيضًا من حِكَم التشريع: أن هذا الذي وقع في هذه المعصية؛ معنى ذلك: أن هناك بيئةً تُشجِّعه وكذا، لا بد من أن يغير البيئة حتى يتوب، وأيضًا فيه حكمةٌ أخرى، وهي: حتى لا يُعيَّر، وينسى الناس، فلا يُعيَّر بهذه المعصية إذا رآه الناس وكذا، فيبقى سنةً كاملةً، ينسى الناس فِعلته، وقيل: لغير ذلك من الحِكم، لكنه يختلف، بينهما فَرْقٌ.

ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1, ^3 رواه مسلم: 1706.
^2 رواه البخاري: 6776، ومسلم: 1706.
^4 رواه البخاري: 6850، ومسلم: 1708.
^5, ^9, ^31, ^34, ^35, ^40, ^50 سبق تخريجه.
^6 رواه البخاري: 3475، ومسلم: 1688.
^7 رواه أحمد: 15303.
^8 رواه أحمد: 5385، وأبو داود: 3597.
^10 رواه البخاري: 2234، ومسلم: 1703.
^11 رواه أبو داود: 4490.
^12 رواه البخاري: 2559، ومسلم: 2612.
^13 رواه أبو داود: 2143.
^14 رواه البخاري: 6780.
^15 رواه أحمد: 4168.
^16 رواه البخاري: 18، ومسلم: 1709.
^17 رواه عبدالرزاق: 13336، والحاكم: 7615.
^18 رواه مالك: 12.
^19 رواه مالك: 3036.
^20 رواه مسلم: 1696.
^21 رواه البخاري: 2475، ومسلم: 57.
^22 رواه البخاري: 7047.
^23 رواه البخاري: 2315، ومسلم: 1698.
^24, ^25 رواه مسلم: 1695.
^26, ^29 رواه البخاري: 3635، ومسلم: 1699.
^27, ^43 رواه البخاري: 6829، ومسلم: 1691.
^28 رواه ابن ماجه: 2553، ومالك: 693، وأحمد: 21596.
^30 رواه مسلم: 1690.
^32 رواه مسلم: 1338.
^33 رواه البخاري: 3884.
^36 رواه أحمد: 2420، وأبو داود: 4464، والترمذي: 1455.
^37 رواه أبو حنيفة في مسنده: 4.
^38 رواه الترمذي: 1424، وأبو يعلى: 6618.
^39 رواه البخاري: 6815، ومسلم: 1691.
^41 رواه النسائي في السنن الكبرى: 7125.
^42 رواه عبدالرزاق: 13566، والطبراني: 7227، والحاكم: 5892.
^44 رواه أحمد: 2732، وأبو داود: 4462، والترمذي: 1523، وابن ماجه: 2561.
^45 رواه مسلم: 107.
^46 رواه الترمذي: 2568، والنسائي: 2570، وأحمد: 21355، وقال الترمذي: هذا حديث صحيح.
^47 رواه البخاري: 7507، ومسلم: 2758.
^48 رواه البخاري: 1905، ومسلم: 1400.
^49 رواه البخاري: 5954، ومسلم: 2107.
^51 رواه مسلم: 2766.
zh