logo
الرئيسية/دروس علمية/التعليق على كتاب السلسبيل في شرح الدليل/(87) كتاب التعزير- من قوله: "التأديب في كل معصيةٍ لا حدَّ فيها .."

(87) كتاب التعزير- من قوله: "التأديب في كل معصيةٍ لا حدَّ فيها .."

مشاهدة من الموقع

جدول المحتويات

هذا الدرس يُعتبر مجلس علمٍ، والنبي يقول: مَن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة [1]، فالذي يُتابع مثل هذه الدروس ويحتسب الأجر عند الله هو في عبادةٍ.

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه واتَّبع سُنته إلى يوم الدين.

اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.

اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.

رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا [الكهف:10].

باب التَّعزير

نواصل التعليق على "السلسبيل في شرح الدليل"، وكنا قد وصلنا إلى "كتاب التعزير"، وهذا من الأبواب الفقهية المهمة؛ لأنه الآن معظم العقوبات تعزيرية، أصبحت -يعني- معظم العقوبات تعزيرية أكثر من العقوبات على الحدود؛ فلذلك فَهْم وضبط هذا الباب مهمٌّ جدًّا.

تعريف التَّعزير

التَّعزير: هذه المادة معناها في اللغة العربية، هي مصدر: عَزَّرَ، يُعَزِّرُ، تَعزيرًا.

وهذه المادة في اللغة العربية تدور حول معنى المنع.

وأيضًا لها معانٍ أخرى تدور حول معنى المنع الذي هو بمعنى: النُّصْرَة، ومنه قول الله : لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ [الفتح:9] يعني: تنصروه؛ لأن النُّصْرَة تعني: مَنْعَ عدوه من أذيته.

وأيضًا هذه المادة في اللغة العربية تعني: التَّأديب.

تعني: النُّصْرَة، وتعني: التَّأديب.

فلذلك يُقال: هي من أسماء الأضداد، عَزَّرَه: أَدَّبَه، وعَزَّرَه: نَصَرَه.

وهذا في اللغة العربية له نظائر، مثل: القُرْء يُطْلَق على الطُّهْر، وعلى الحَيْض.

وكلمات في اللغة العربية تُطْلَق على الشيء وعلى ضدِّه، يُقال لها: أسماء الأضداد.

وسُميت العقوبة: تعزيرًا؛ لأنها تمنع الجاني من الوقوع في مثلها، أو العودة لمثلها.

أما تعريف التَّعزير اصطلاحًا، فَعُرِّف بعدة تعريفاتٍ، من أجودها ما ذُكِرَ هنا في "السلسبيل":

التَّأديب في كل معصيةٍ لا حَدَّ فيها ولا كفَّارة.

هذا التعريف جامعٌ، مانعٌ، وهو تعريف المجد ابن تيمية رحمه الله، وأيضًا اختاره ابن القيم.

وقولنا: "التَّأديب" يُفيد أن التَّعزير لا ينحصر في عقوبةٍ معينةٍ، بل يشمل أي عقوبةٍ يحصل بها التَّأديب؛ فتشمل السجن، وتشمل الجلد، وتشمل الإلزام بأعمالٍ تطوعيةٍ، وتشمل أخذ التَّعهد، وتشمل أي شيءٍ فيه تأديبٌ.

ويمكن أيضًا أن يُستفاد من هذا: أن التَّعزير يمكن أن يكون بأعمالٍ تطوعيةٍ تنفع المجتمع: كتنظيف المساجد -مثلًا- أو حفر القبور، أو نحو ذلك.

فالغرض من التَّعزير -إذن- ليس الانتقام، وإنما التَّأديب وإصلاح هذا المُعَزَّر.

وبهذا يُعْلَم أن السجن ليس العقوبة الوحيدة للتَّعزير، وإنما من عقوبات التَّعزير: السجن، لكن ليس هو العقوبة الوحيدة، فلا ينحصر التَّعزير في السجن، بل في عهد النبي عليه الصلاة والسلام وعهد أبي بكر الصديق لم يكن هناك سجنٌ أصلًا، وإنما لما اتسعتْ رقعة الدولة الإسلامية في عهد عمر احتيج إلى السجن، وإن كان موجودًا لدى الأمم السابقة؛ فيوسف عليه الصلاة والسلام قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يوسف:33]، وفرعون يقول لموسى: لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء:29]، هذا يدل على أنه كان معروفًا قديمًا، لكن الكلام في عهد النبي عليه الصلاة والسلام وفي عهد أبي بكرٍ لم يكن معروفًا، وإنما كان في عهد عمر مع اتِّساع رقعة الدولة الإسلامية.

التَّعزير في كل معصيةٍ لا حدَّ فيها ولا كفَّارة

قال المُصنِّف رحمه الله:

يجب -يعني: التَّعزير- في كل معصيةٍ لا حَدَّ فيها ولا كفَّارة.

يعني: هذا تتمةٌ للتعريف السابق: التَّأديب في كل معصيةٍ لا حَدَّ فيها ولا كفَّارة.

ما كان فيه حَدٌّ لا يُسمَّى: تعزيرًا، يعني مثلًا: قطع السارق لا يُسمَّى: تعزيرًا، وعقوبة الزاني لا تُسمَّى: تعزيرًا، وحدُّ القاذف لا يُسمَّى: تعزيرًا، هذه حدودٌ.

"ولا كفَّارة" أيضًا خرج ما كانت فيه كفارةٌ، فلا يُسمَّى: تعزيرًا، مثل: كفارة القتل، وكفارة الظِّهار، هذا لا يُسمَّى: تعزيرًا.

إذن التعزير معناه: التَّأديب في كل معصيةٍ لا حَدَّ فيها ولا كفَّارة.

التَّعزير حقٌّ من حقوق الله تعالى لا يحتاج في إقامته إلى مُطالبةٍ

قال المُصنِّف رحمه الله:

وهو من حقوق الله تعالى، لا يحتاج في إقامته إلى مُطالبةٍ.

التَّعزير من حقوق الله ، وليس من حقوق الآدميين، ويترتب على هذا: أن إقامة التَّعزير لا تحتاج إلى المُطالبة ممن ارتُكبت المعصية في حقِّه، ويتفرع عن ذلك ما يُسمَّى الآن بالاصطلاح المعاصر: الحق العام، فالحق العام لا يحتاج إلى مُطالبةٍ، إنما يُقيمه ولي الأمر.

لا يُعزَّر الوالد بحقوق ولده

إلا إذا شتم الولد والده فلا يُعزَّر إلا بمُطالبة والده، ولا يُعزَّر الوالد بحقوق ولده.

استثنى الحنابلة هذه الصورة، قالوا: إن الولد إذا شتم الوالد، فإن الولد لا يُعزَّر إلا بمُطالبة أبيه أو أُمه.

في هذه الصورة حقَّان: حقٌّ لله، وحقٌّ للوالد.

"ولا يُعزَّر الوالد بحقوق ولده" كأن يشتم الوالد ولده، فإنه لا يُعزَّر؛ لأنه لا يُقاد الوالد بولده، فالعلاقة بين الوالد والولد علاقةٌ خاصةٌ، فلو قَتَلَ الوالدُ الولدَ لم يُقَدْ به.

وللوالد من أبٍ أو أُمٍّ أن يأخذ من مال ولده ما شاء، بشرط: ألا يضرّه، وألا يُعطيه ولدًا آخر، كما قال عليه الصلاة والسلام: أنت ومالُكَ لأبيك [2]، إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم [3]، لكن هناك حالاتٌ خاصةٌ قد يكون فيها ظلمٌ كبيرٌ وإجرامٌ وتَعَدٍّ من هذا الوالد، فالقول الراجح: أنه يُعزَّر إذا وُجِدَ هذا الظلم وهذا الإجرام؛ لأنه وُجِدَ من بعض الناس مَن يُعذِّب أطفاله، ومَن يرتكب جرائم معهم، فهذا لا يُقال: إنه لا يُعزَّر، بحجة أنه أبٌ لهذا الطفل، إنما يُؤخذ على يديه، لكن الأشياء اليسيرة التي ليس فيها ظلمٌ كبيرٌ، وليس فيها إجرامٌ، فهذه لا يُعزَّر الوالد بحقوق ولده.

حكم الزيادة  في جلد التَّعزير على عشرة أسواطٍ

قال:

ولا يُزاد في جلد التَّعزير على عشرة أسواطٍ.

أي: إذا كان التعزير بالجلد فإنه لا يُزاد فيه على عشرة أسواطٍ؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: لا يُجْلَد أحدٌ فوق عشرة أسواطٍ إلا في حَدٍّ من حدود الله [4]، وهذا الحديث متفقٌ عليه، وهذا هو المذهب عند الحنابلة.

القول الثاني: أنه يجوز أن يُزاد في التعزير على عشر جلدات في كل معصيةٍ من معاصي الله .

وهذا قول الجمهور، على خلافٍ بينهم في مقدار الزيادة، واختاره ابن تيمية وابن القيم، بل ذهب ابن تيمية إلى أن التَّعزير يجوز أن يصل إلى حدِّ القتل، وهذا هو الأظهر -والله أعلم- وهو الذي عليه العمل؛ لأن المقصود من التَّعزير التَّأديب، وهذا لا حدَّ له.

يدل على ذلك عدة أدلةٍ، منها -مثلًا-: الأمر بقتل الجاسوس، ومنها قول النبي عليه الصلاة والسلام: مَن أتاكم وأمركم جميعٌ على رجلٍ واحدٍ يريد أن يشقَّ عصاكم أو أن يُفرِّق جماعتكم؛ فاقتلوه [5].

ومنها أيضًا ما ورد عن عمر لما ضرب صَبِيغَ بن عِسْلٍ؛ لأنه كان يُشكِّك الناس في القرآن، إلى غير ذلك من الآثار، فهذا يدل على أن الزيادة في التَّعزير يجوز أن تزيد على عشرة أسواطٍ.

يبقى: ما معنى إذا قلنا: إن الزيادة في التَّعزير تجوز على عشرة أسواطٍ، يبقى السؤال: ما معنى الحديث؟

ما معنى قول النبي : لا يُجْلَد أحدٌ فوق عشرة أسواطٍ إلا في حَدٍّ من حدود الله؟

الحديث -كما ذكرنا- رواه البخاري ومسلمٌ.

الجواب: إن المقصود بقول النبي عليه الصلاة والسلام: إلا في حَدٍّ من حدود الله أي: إلا في معصيةٍ من معاصي الله، كما فسَّر ذلك ابن تيمية وابن القيم وجمعٌ من المُحققين من أهل العلم.

وليس المقصود به الحدّ بمعناه الاصطلاحي عند الفقهاء، فإن الحدَّ قد يُطْلَق على المعنى الاصطلاحي عند الفقهاء، وقد يُطْلَق على المعاصي؛ ولذلك الاختلاف في فهم المراد هو سبب الخلاف في هذه المسألة، فالمشهور عند مذهب الحنابلة الذين قالوا: إنه لا يُزاد على عشرة أسواطٍ، فهموا أن المقصود بالحدِّ: الحدّ بالاصطلاح الفقهي.

ولكن أصحاب القول الثاني قالوا: لا، المقصود بقول النبي عليه الصلاة والسلام: إلا في حدٍّ من حدود الله ليس هو الحدّ بالاصطلاح الفقهي، وإنما المقصود: إلا في معصيةٍ من معاصي الله.

ومعنى ذلك: أنه لا يجوز الزيادة في التَّأديب على عشرة أسواطٍ في غير معصية الله، مثل: تأديب الأب أو الأم للولد لا يجوز أن يزيد ذلك على عشرة أسواطٍ، ومثل: النَّاشز، ومثل: المعلم، وغير ذلك، هذا يُحْمَل عليه هذا الحديث.

لكن مع ذلك القول الأول يدل على عدم المُبالغة، يعني: نستفيد من القول الأول: أنه لا يُزاد في التَّعزير على عشرة أسواطٍ: عدم المُبالغة في الجَلْد.

ولذلك الجَلْد بهذه الأرقام الكبيرة -بالمئات أو حتى بالألوف- هذه لا أصل لها، هذه مما استُحْدِثَ، ولا أصل له، ولا يُعْلَم، يعني: استُحْدِثَ في العصور المُتأخرة، لكن لا يُعْلَم له أصلٌ في الكتاب، ولا في السُّنَّة، ولا حتى من عمل السلف، أو في القرون المُتقدمة.

كذلك التَّعزير بالقتل: التعزير بالقتل أجازه ابن تيمية ومَن معه من أهل العلم، بشرط: ألا يندفع شرُّ المجرم إلا بالقتل، يعني: في هذه الصورة فقط، بشرط: ألا يندفع شرُّه إلا بالقتل.

أما إذا كان يندفع شرُّه بعقوبةٍ غير القتل فلا يجوز أن يُقْتَل تعزيرًا؛ لأن الأصل هو قول النبي عليه الصلاة والسلام: لا يحل دم امرئٍ مسلمٍ يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاثٍ: الثَّيب الزاني، والنفس بالنفس، والتَّارك لدينه المُفارق للجماعة [6].

الحنابلة لمَّا ذكروا: أنه لا يُزاد في التَّعزير على عشرة أسواطٍ، أُورِدَتْ عليهم مسائل، فاضطروا إلى استثنائها، فذكر المؤلف مسائل مُستثناة، قال:

حكم الرجل إذا وطئ أَمَةً له فيها شِرْكٌ

إلا إذا وَطِئَ أَمَةً له فيها شِرْكٌ، فيُعَزَّر بمئة سوطٍ إلا سوطًا.

إذا وطئ الرجل أَمَةً مُشتركةً بينه وبين غيره، وهذه الأَمَة مُشتركةٌ لا يجوز له أن يطأها؛ لأنها ليست خالصةً له، لكن لو فعل فيُعزَّر بتسعةٍ وتسعين سوطًا، لماذا لم تكن مئةً؟

حتى يكون أقلّ من الزنا، يعني: هذا تعزيرٌ، والتَّعزير لا يُزاد على ما كان في جنسه حدٌّ؛ ولذلك يُعزَّر بتسعةٍ وتسعين سوطًا؛ لأثرٍ رُوِيَ عن عمر: أنه رُفِعَ إليه رجلٌ وقع على جاريةٍ له فيها شِرْكٌ، فأمر عمر بجلده تسعةً وتسعين سوطًا.

يعني: أنه يُعزَّر، ولا يُعتبر زنا؛ وذلك لوجود الشُّبْهَة.

حكم مَن شرب مُسْكِرًا في نهار رمضان

المسألة المُستثناة الثانية قال:

وإذا شرب مُسْكِرًا نهار رمضان فيُعزَّر بعشرين مع الحدِّ.

شَرِبَ الخمر في نهار رمضان فيُجْلَد حدَّ الخمر، وهو على المذهب ثمانون جلدةً، وعشرون جلدةً تعزيرًا، وهذا قد رُوِيَ عن عليٍّ : أن النَّجاشي الشاعر لمَّا شرب الخمر في نهار رمضان ضربه ثمانين عن شُربه الخمر، ثم أخرجه من الغد وضربه عشرين، وقال: إنما جَلَدْتُكَ هذه العشرين لجرأتك على الله وإفطارك في رمضان.

على القول الراجح لا نحتاج لهذا الاستثناء؛ لأننا قلنا: يجوز أن يُزاد في التَّعزير على عشر جلدات، فلا نحتاج إلى هذا الاستثناء، لكن هذا الاستثناء إنما يرد على القول الأول.

قال:

ولا بأس بتسويد وجه مَن يستحق التَّعزير والمُناداة عليه بذنبه.

هذا يرجع للمسألة السابقة، وهي: أن التعزير لا ينحصر في عقوبةٍ معينةٍ، فيمكن أن يُعزَّر بأي عقوبةٍ فيها تأديبٌ، ومن ذلك ما ذكره المؤلِّف من تسويد الوجه والمُناداة عليه، أو ما يُسمَّى بالتَّشهير، والتَّشهير نوعٌ من العقوبة التَّعزيرية.

حكم التَّعزير بحلق اللحية

ويَحْرُم حلق لحيته.

لأن حلق اللحية مُحَرَّمٌ، فلا يجوز التَّعزير بالمُحرَّم.

حكم التَّعزير بأخذ المال

وأخذ ماله.

يعني: يَحْرُم التَّعزير بأخذ المال، هذا هو المذهب، وهذه المسألة محل خلافٍ.

ما حكم التَّعزير بأخذ المال؟

القول الأول: أنه لا يجوز، وهذا الذي عليه المذاهب الأربعة: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، وقالوا: لأن الشرع لم يَرِد بشيءٍ من ذلك.

رُوِيَ عن أبي يوسف أنه أجاز التَّعزير بأخذ المال، لكن الحنفية اعتذروا عن أبي يوسف وقالوا: أجاز أن يُؤخذ المال ثم يُردّ إلى صاحبه بعد مدةٍ، ولم يُجِزْهُ أبو يوسف مطلقًا، لكن يُؤخذ المال مدةً، ثم يُعاد إلى صاحبه.

واستدلوا بأن الأصل حُرمة مال المسلم، فالنبي قال: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ، كحُرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا [7]، وقال: لا يحل مال امرئٍ إلا بطيب نفسٍ منه [8]، فالأصل أنه لا يُتعرَّض لمال المسلم.

هذا هو قول الجمهور.

القول الثاني: أنه يجوز التَّعزير بأخذ المال إذا دعت الحاجة لذلك، لكن يكون هذا عن طريق القضاء.

وهذه روايةٌ عن الإمام أحمد اختارها ابن تيمية رحمه الله، وهذه هي التي عليها العمل.

واستدلوا ببعض الأحاديث والآثار، منها: حديث أنسٍ، عن أبي طلحة قال: يا نبي الله، إني اشتريتُ خمرًا لأيتامٍ في حجري. قال: أَهْرِقِ الخَمْرَ، واكسِرِ الدِّنان [9]، وهذا وإن كان في سنده ضعفٌ لكن معناه صحيحٌ؛ لأن كونه يُهْرِق الخمر ويكسر الدِّنان هذا نوعٌ من التَّعزير بالمال.

أيضًا ما ورد من هدم مسجد الضِّرار هذا تعزيرٌ بالمال.

وكذلك تضعيف الغُرْم على مَن سرق من غير حِرْزٍ هذا نوعٌ من التَّعزير بالمال.

أيضًا مَن أخَّر زكاة ماله، قال عليه الصلاة والسلام: إنَّا آخذوها وشطر ماله، عَزْمَةً من عَزَمَات ربنا [10].

وأيضًا آثارٌ عن الصحابة تدل على هذا.

فهذا هو الأقرب -والله أعلم- لكن ينبغي -كما ذكرنا في التَّعزير بالجلد- عدم التَّوسع في ذلك؛ لأن الأصل في أموال الناس الحُرْمَة.

ثم انتقل المؤلف رحمه الله للكلام عن الألفاظ المُوجبة للتَّعزير فقال:

الألفاظ المُوجبة للتَّعزير

ومن الألفاظ المُوجبة للتَّعزير قوله لغيره: يا كافر، يا فاسق، يا فاجر، يا شقي، يا كلب، يا حمار، يا تيس، يا رافضي، يا خبيث، يا كذاب، يا خائن، يا قَرْنان، يا قَوَّاد، يا دَيّوث، يا عِلْق.

سبق أن تكلمنا في درسٍ سابقٍ عن الألفاظ الصريحة في القذف والألفاظ الكنائية، فإذا كان بلفظٍ صريحٍ فَيُحَدُّ حدَّ القذف، لكن إذا كان بألفاظٍ كنائيةٍ، ولم يُرد صاحبها القذف، أو كان بغير ألفاظ القذف؛ فهذا مُوجبٌ للتَّعزير.

ومثَّل المؤلف لهذا بأمثلةٍ:

فلو قال لإنسانٍ: يا كافر، أو كفَّره، أو بدَّعه قال: يا مُبتدع، أو يا فاسق، أو ناداه بحيوانٍ: يا حمار، وهذه أيضًا ذكرنا الخلاف فيها، مَن قال لآخر: يا حمار، يا كلب، يا تيس.

الجمهور يرون أن هذا مُوجِبٌ للتعزير بعقوبةٍ مناسبةٍ، والحنفية يقولون: لا يُوجب التَّعزير؛ لأن هذا لا يُلْحِق العار بالمُنادَى، بل العار يلحق المُنادِي أكثر من المُنادَى.

إذا قال: يا حمار، هل أصبح حمارًا؟

لكن الأقرب هو قول الجمهور؛ لأنه حتى لو كان لا يلحق العار بالمُنادَى إلا أنها ألفاظٌ مُؤذيةٌ تدل على التَّحقير، فيُعزَّر بعقوبةٍ مناسبةٍ.

طيب، لو قال: يا رافضي، قال لِسُنِّي: يا رافضي، هذا أيضًا لا يرضى به السُّني؛ فيُوجب التَّعزير.

لو قال: يا خبيث، هذا أيضًا يُوجب التَّعزير.

لو قال: يا كذَّاب، أيضًا وصف الإنسان بأنه كذَّابٌ يُوجب التَّعزير.

يا خائن، كذلك يُوجب التَّعزير.

يا قَرْنان. ما معنى: يا قَرْنان؟

قال ثعلبٌ -وهو من أئمة اللغة العربية-: "لم أَرَهُ في كلام العرب، ومعناه عند العامّة: الدّيوث".

يظهر أن هذا موجودٌ في بيئة المؤلف، وفي بيئتنا لا نعرف هذا المصطلح: يا قَرْنان، لا نعرفه، لكن حتى ثعلب قال: إنه غير معروفٍ أيضًا عند العرب، فيظهر أنه في بيئة المؤلف؛ ولهذا قال ثعلب: "إن معناه عند العامة: يا ديّوث".

الدّيوث: هو الذي يُقِرّ الخبث في أهله، يعني: ليست عنده غيرةٌ على أهله ومحارمه.

"يا قَوَّاد" هذا مصطلحٌ شائعٌ في وقتنا الحاضر، وقوَّاد معناه: السمسار في الزنا، يعني: الوسيط بين الزاني والمَزْنِي بها، هذا يُسمَّى: قَوَّادًا، وهذا يُوجب التَّعزير.

"يا عِلْق" العِلْق بمعنى: الدَّيوث، وهذا أيضًا يُوجب التَّعزير.

فمَن تكلَّم على غيره بكلامٍ فيه إهانةٌ له وتحقيرٌ، فرفع المُتكلَّم عليه شكايةً في هذا المُتكلِّم، فإنه يُعزَّر بعقوبةٍ مناسبةٍ؛ لأن الكلمة مسؤولٌ عنها الإنسان في الدنيا والآخرة، فليس للإنسان أن يتكلم على الآخرين ويقع في أعراضهم ويجرحهم ويسبّهم ثم لا يُعاقَب، بل لا بد من مُعاقبته، لكن بشرط: أن يُطالِب مَن سُبَّ أو شُتِمَ بمُعاقبته.

حكم أن يُقال للذمي: يا حاجّ

قال:

ويُعزَّر مَن قال لِذِمِّيٍّ: يا حاجّ.

هذه أفردها المؤلف بالذكر؛ لأنها ليست من جنس الألفاظ السابقة، والألفاظ السابقة فيها إهانةٌ للمُخاطَب، وهنا ليست فيها إهانةٌ، وإنما فيها تشبيه قاصد الكنائس بقاصد المسجد أو قاصد الأماكن المُقدسة، تشبيه قاصد الكنائس بقاصد بيت الله الحرام؛ لأنه رآه يذهب للكنيسة قال: يا حاجّ، فهذا فيه هذا التَّشبيه، وفيه تعظيمٌ لذلك؛ فيُعزَّر بعقوبةٍ مناسبةٍ.

حكم لعن الذّمي بلا مُوجبٍ

أو لعنه بغير مُوجِبٍ.

يعني: إذا لعن المسلمُ الذِّميَّ بغير سببٍ يقتضي لعنه فإنه يُعزَّر؛ لأن هذا الذِّمي بقي في بلاد المسلمين بحماية المسلمين وبإذنهم، فلا يجوز أن يُسَبّ أو يُلْعَن إلا بمُوجِبٍ؛ كأن يكون هو الذي ابتدأ -مثلًا- كأن يكون الذِّمي هو الذي ابتدأ، بل حتى لو لم يكن ذِميًّا، ولو كان مسلمًا وبدأك بالسِّباب يجوز لك أن تُقابل السِّباب بمثله، لكن لا تزيد، ويكون الإثم كله على مَن بدأ السِّباب، كما قال عليه الصلاة والسلام: المُسْتَبَّانِ ما قالا فعلى البادئ، يعني: الإثم كله على البادئ، ما لم يَعْتَدِ المظلوم [11].

لو أنه لما سبَّه سبَّه ليس عليه إثمٌ، الإثم كله على مَن بدأ السِّباب، لكن لو أنه لمَّا سبَّه سبَّه وسبَّ والديه هنا عليهما جميعًا الإثم؛ على مَن ابتدأ السِّباب، وأيضًا على الطرف الثاني؛ لأنه زاد في السِّباب، لم يَكْتَفِ بسبِّ مَن سبَّه، بل سبَّه وسبَّ والديه؛ لهذا قال عليه الصلاة والسلام: المُسْتَبَّان ما قالا فعلى البادئ يعني: الإثم كله على البادئ ما لم يَعْتَدِ المظلوم.

بهذا نكون قد انتهينا من "كتاب التعزير".

حدّ السرقة

ننتقل بعد ذلك إلى "باب: القطع في السرقة".

تعريف السرقة

السرقة معناها: أَخْذ المال على وجه الاختفاء من مالكه أو نائبه.

وقد ذُكرتْ عقوبة السارق في القرآن في سورة المائدة في قول الله : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38].

وقد شدَّدت الشريعة في عقوبة السارق صيانةً لأموال المعصومين؛ لأن ما يُؤخذ علانيةً يمكن التَّحرز منه، أو يمكن الاستعانة بغيره من الناس، أو يمكن رفعه للحاكم ومُعاقبة هذا المُعتدي، لكن السرقة لا يمكن الاحتراز منها؛ لأن المال محفوظٌ في حِرْزٍ، فيأتي هذا السارق على سبيل الخُفية ويهتك هذا الحِرْز ويأخذ هذا المال، فهذا لا بد من تشديد عقوبته؛ ليكون في ذلك ردعٌ لغيره؛ لأنه لو لم تُشدَّد العقوبة سيتجرأ بعض الناس على السرقة.

يعني: الاختلاس، الخيانة، الغَصْب، النَّهْب، هذه يمكن للإنسان أن يحترز منها، وحتى لو لم يحترز ففاعل ذلك معروفٌ، يرفع الشِّكاية فيه لولي الأمر ويُعاد له حقّه، لكن المصيبة في السرقة، السرقة: جعل ماله في حِرْزٍ، ثم يأتي السارق ويهتك هذا الحِرْز ويأخذ هذا المال، هنا لا بد من تشديد العقوبة.

وتتصور المسألة أكثر قديمًا، يعني: قبل وجود البنوك كان الناس يضعون أموالهم في بيوتهم، وبعضهم يضعها في الصناديق، فيأتي السارق خُفْيَةً ويهتك الحِرْز ويسرق المال؛ فلذلك شدَّدت الشريعة في عقوبة السارق، وجعلتْ عقوبته أن تُقْطَع يده.

بعض الزنادقة اعترضوا على قطع السارق وقالوا: كيف تُقْطَع في ربع دينارٍ، ودية اليد خمسمئة دينارٍ؟!

حتى يقول ناظمهم: "يدٌ بخمس مِئِين عَسْجَدٍ وُدِيَتْ".

"يدٌ بخمس مِئِين" يعني: بخمسمئةٍ.

"عَسْجَدٍ" يعني: دينارًا، العَسْجَد هو الذهب، يريد بذلك الدينار.

يعني: دية اليد خمسمئةٍ.

يدٌ بخمسِ مِئِينَ عَسْجَدٍ وُدِيَتْ ما بالُها قُطِعَتْ في ربعِ دينار؟!

يعني: كيف تكون دية اليد خمسمئة دينارٍ وتُقْطَع في ربع دينارٍ؟!

تَنَاقُضٌ ما لنا إلا السُّكوتُ له ونستجيرُ بمولانا من النار

هذا من الاعتراض على شرع الله تعالى، لكن هؤلاء هم الزنادقة.

أجاب بعض العلماء ونَظَمَ في ذلك بيتًا للرد على هذا الزنديق، قال:

عِزُّ الأمانةِ أَغْلَاها، وأَرْخَصَها

ذلُّ الخيانةِ، فَافْهَمْ حكمةَ الباري

سبحان الله!

يعني: بعض العلماء أعطاه الله حكمةً، ففي بيتٍ واحدٍ ردَّ على كلام هذا الزنديق.

قال: "عِزُّ الأمانةِ أَغْلَاها" يعني: إذا كانت اليد أمينةً فديتها خمسمئة دينارٍ.

"وأَرْخَصَها ذلُّ الخيانة" إذا سرقتْ أصبحتْ رخيصةً، فبمجرد ربع دينارٍ تُقْطَع يده، "فَافْهَمْ حكمة الباري".

وبعضهم -يعني- قال مُجيبًا: لما كانت أمينةً كانت ثمينةً، فلما خانتْ هانتْ. وهو بهذا المعنى.

شروط إقامة حدِّ السرقة

ثم انتقل المؤلف بعد ذلك لشروط إقامة حدِّ السرقة.

ويجب بثمانية شروطٍ.

متى تُقْطَع يد السارق؟

إذا توفرتْ ثمانية شروطٍ، ما هي؟

الشرط الأول: السرقة

أولًا: قال:

أحدها: السرقة، وهي أَخْذ مال الغير من مالكه أو نائبه على وجه الاختفاء.

يعني: لا بد أن يكون ذلك على وجه السرقة، ولا يكون على وجهٍ آخر.

ما السرقة؟

عرَّفها المؤلف بأنها: أَخْذ مال الغير من مالكه أو نائبه.

"من مالكه" واضحٌ، لكن من "نائبه" يعني مثل: الوكيل أو الولي أو نحوه.

"على وجه الاختفاء" يخرج به ما لو أخذه علانيةً -كما سيأتي- فلا تُعتبر سرقةً.

ثم ذكر المؤلف مُحترزات هذا الشرط:

لا قطع على مُنْتَهِبٍ أو مُخْتَطِفٍ أو خائنٍ في وديعةٍ

فلا قطع على مُنْتَهِبٍ.

ما معنى: مُنْتَهِب؟

المُنْتَهِب هو: الذي يأخذ المال من يد صاحبه على وجه الغلبة بمرأى من الناس، مثلما يقول العامة: نهابة، يأتي ويأخذ المال من صاحبه على وجه الغلبة، علانيةً، جهارًا، نهارًا، بمرأى من الناس، هذا يُسمى: مُنْتَهِب.

هذا لا تُقْطَع يده، لكنه يُعزَّر، ولا تُقْطَع يده.

وقد جاء في حديثٍ: ليس على المُنْتَهِب قطعٌ [12]، ولكنه ضعيفٌ، رواه أحمد وأبو داود، وهو ضعيفٌ.

قال:

ومُخْتَطِف.

بعضهم يُعبِّر بهذا المصطلح، وبعضهم يُعبِّر بمُخْتَلِسٍ، والمُخْتَلِس والمُخْتَطِف بمعنًى واحدٍ، وهو الذي يخطف الشيء ويَفِرّ به.

ما الفرق بين المُخْتَلِس والمُنْتَهِب؟

المُنْتَهِب: يأخذ المال جهرةً مُعتمدًا على قوته.

أما المُخْتَلِس: يأخذ المال خَطْفًا مُعتمدًا على سرعته وخِفة يده وهروبه.

فالمُخْتَلِس يختلسه بسرعةٍ، يخطفه؛ ولذلك بعضهم يُعبِّر عن المُخْتَلِس بالمُخْتَطِف.

المُنْتَهِب لا؛ إنسانٌ عنده قوةٌ، يعتمد على قوته وينتهب الشيء.

فالمُخْتَلِس أو المُخْتَطِف لا قطع عليه، ولكن عليه التَّعزير.

لماذا؟ لماذا المُنْتَهِب والمُخْتَلِس لا تُقْطَع أيديهما، بينما السارق تُقْطَع يده؟

لأن المُنْتَهِب والمُخْتَلِس بإمكان صاحب المال أن يستنجد بغيره ويصيح والناس تُساعده، وبإمكانه أيضًا أن يرفع فيه شكايةً ويُعاد له ماله، فهناك طرقٌ يستطيع أن يصل بها لماله، لكن المصيبة في السرقة، ففي السرقة لا يُعْرَف هذا السارق إلا بصعوبةٍ، ويأتي للحِرْز، ويهتك الحِرْز، ويأخذ المال على وجه الاختفاء، فهنا لا بد من تشديد العقوبة حتى يرتدع غيره.

وخائن في وديعةٍ.

يعني: لا قطع على الخائن في الوديعة، وهو الذي يُؤْتَمَن على وديعةٍ فيجحدها أو يُخفيها، فهذا إذا ثبت عليه ذلك هذا مُوجِب التَّعزير، لكن لا يُوجِب القطع.

حكم قطع يد جاحد العارية

ولكن يُقْطَع جاحد العارية.

قطع جاحد العارية: هذه مسألةٌ خلافيةٌ بين الفقهاء.

جاء في الصحيحين حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كانت امرأةٌ مخزوميةٌ تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي أن تُقْطَع يدها" [13].

ومن هنا قال بعض الفقهاء: إن جاحد العارية تُقْطَع يده أخذًا من هذا الحديث.

والمسألة فيها خلافٌ:

  • القول الأول: أن جاحد العارية تُقْطَع يده، وهذا هو مذهب الحنابلة، وهو من المُفْرَدات.
  • القول الثاني: أن جاحد العارية لا تُقْطَع يده، وإليه ذهب الجماهير من الحنفية والمالكية والشافعية، وهو روايةٌ عند الحنابلة.

الحنابلة استدلوا بظاهر حديث عائشة: أن هذه المرأة كانت تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي بقطع يدها، قالوا: الحديث في الصحيحين، وهو صريحٌ في قطع يد جاحد العارية.

الجمهور قالوا: جاحد العارية ليس بسارقٍ، فإنَّ جَحْدَ العارية لا يُسمَّى: سرقةً، لا لغةً، ولا شرعًا، ولا عُرْفًا، والسرقة هي: أَخْذ المال على وجه الاختفاء، فجاحد العارية لا يأخذ المال على وجه الاختفاء، جاحد العارية كجاحد الوديعة، فلا تُقْطَع يد جاحد العارية.

ما الفرق بين جاحد العارية وجاحد الوديعة؟

إذا قلنا: تُقْطَع يد جاحد العارية، فأيضًا تُقْطَع يد جاحد الوديعة، وهذا خلاف الإجماع، والله تعالى يقول: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]، جاحد العارية لا يُسمَّى: سارقًا، فكيف تُقْطَع يده؟

فأُورد عليهم قيل: ما تقولون في حديث عائشة؟

قالوا: إن المرأة المذكورة في حديث عائشة: "كانت امرأةٌ مخزوميةٌ تستعير المتاع وتجحده"، قُطِعَتْ يدها ليس لأنها تجحد العارية، وإنما قُطِعَتْ يدها لأنها سرقتْ، لكنها اشتهرتْ بجحد العارية، فأصبحتْ تُوصَف بذلك.

وقالوا: مما يدل على ذلك: أنه ورد في الحديث نفسه -حديث عائشة نفسه- قول النبي عليه الصلاة والسلام: إنما أهلك الذين قبلكم أنَّهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضَّعيف أقاموا عليه الحدَّ، وَايْمُ الله، لو أن فاطمة بنت محمدٍ سرقتْ لقطعتُ يدها [14]، فالكلام كله على السرقة.

وأيضًا جاء في روايةٍ من حديث عائشة: "أن قريشًا أهمَّهم شأن المرأة المخزومية التي سرقتْ"، وذكرت القصة.

وجاء في روايةٍ: أنها سرقتْ قطيفةً، كما جاء في حديث مسعودٍ [15].

فعلى ذلك أتتْ ألفاظٌ بأن هذه المرأة قد سرقتْ، فلم تُقْطَع يدها لأجل جحدها العارية، وإنما لأجل سرقتها، كما جاء في حديث مسعودٍ: أنها سرقتْ قطيفةً، لكن في حديث عائشة: "كانت تستعير المتاع وتجحده"، إنما وصفتها عائشة بذلك؛ لأنها عُرِفَتْ بذلك.

مثلًا: إنسانٌ سرق وعُرِفَ بشيءٍ مُعينٍ؛ عُرِفَ بأنه يجحد الوديعة، أو يجحد العارية، أو يكذب، يُقال: فلانٌ الذي كذا قُطِعَتْ يده، فلانٌ الذي يجحد الوديعة، فلانٌ الذي يجحد العارية قُطِعَتْ يده. لكن لم تُقْطَع يده لأجل ذلك الجحد، وإنما قُطِعَتْ لأمرٍ آخر وهو السرقة.

وهذا القول الأخير هو الأقرب -والله أعلم- وذلك لقوة دليله، فالحنابلة أخذوا بظاهر حديث عائشة، لكن القاعدة: أن الروايات يُفسِّر بعضها بعضًا، والنصوص لا بد من الجمع بينها، والأصل في المسلم الحُرْمَة، فلا تُقْطَع يده إلا بأمرٍ مُتيقَّنٍ، ولا فرق بين جحد العارية وجحد الوديعة، جحد الوديعة لا يُوجِب القطع بالإجماع، فكذا جحد العارية.

وأيضًا حديث عائشة ليس صريحًا، هم يقولون: صريحٌ، وهو ليس صريحًا؛ لأنه وردتْ رواياتٌ أخرى بأن هذه المرأة سرقتْ، بل في الرواية نفسها: أنَّهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه .. لو أن فاطمة بنت محمدٍ سرقتْ، ظاهر الحديث من مجموع رواياته: أن قطع هذه المرأة لأجل سرقتها، وليس لأجل جحدها العارية.

وعلى ذلك فالقول الراجح هو ما عليه أكثر أهل العلم من أن جحد العارية لا يُوجِب القطع، وإنما يُوجِب التَّعزير فقط، وقد اختار هذا القول المُوفَّق ابن قدامة -صاحب "المغني" رحمه الله- وقال عن هذا القول: "رُوِيَ عن أحمد أنه لا قطع عليه، وهو الصحيح إن شاء الله".

الشرط الثاني: كون السارق مُكلَّفًا مُختارًا

الثاني.

من شروط القطع.

كون السارق مُكلَّفًا، مُختارًا.

وهذا بالإجماع، وهذا مُعتبرٌ في جميع الحدود.

عالِمًا بأن ما سرقه يُساوي نِصَابًا.

فلو كان لا يعلم، يعتقد أنه أقلّ من نِصَابٍ؛ فلا قطع عليه.

ورُوِيَ في ذلك أثرٌ عن عمر ؛ لأن عدم علمه بذلك شبهةٌ يُدْرَأ بها الحدّ.

الشرط الثالث من شروط القطع في السرقة: كون المسروق مالًا

الثالث: كون المسروق مالًا.

فلو لم يكن مالًا فلا قطع، كما لو سرق -مثلًا- كلبًا، لا قطع في ذلك، أو خنزيرًا، لكن يُعزَّر بعقوبةٍ مناسبةٍ؛ لأن القطع شُرِعَ لصيانة الأموال، فلا يجب في غيرها، لكن استثنى المؤلف من هذا:

لا قطع بسرقة الماء.

باتِّفاق العلماء؛ لأن الأصل في الماء الإباحة، كما قال عليه الصلاة والسلام: المسلمون شُركاء في ثلاثٍ: الماء والكَلَأ والنار [16]، فسرقة الماء عند الفقهاء لا تُوجِب القطع، وحُكِيَ إجماعًا.

ولا بإناءٍ فيه خمرٌ.

لأن الخمر ليس بمالٍ أصلًا، فهو غير مُحترمٍ، والإناء الذي فيه الخمر أيضًا غير مُحترمٍ.

أو ماء.

لا تُقْطَع اليد بسرقة إناءٍ فيه ماء؛ لاتصاله بالماء الذي قلنا: لا قطع فيه.

لكن قال بعض العلماء: إن الإناء الذي فيه الماء إذا كان يبلغ نِصَابًا تُقْطَع يد السارق؛ لأنه مالٌ يبلغ نِصَابًا سُرِقَ من حِرْزٍ، فما الذي يمنع من قطع يد السارق؟ وكونه فيه ماء هذا لا يمنع من قطع يد السارق، كما لو سُرِقَ الإناء فارغًا.

ولا بسرقة مُصحفٍ.

يعني: لا تُقْطَع اليد بسرقة المصحف، هذا بناء على قول الحنابلة: أنه لا يجوز بيع المصحف.

لكن بناء على القول الراجح: أنه يجوز بيع المصحف، فالأظهر -والله أعلم- في هذه المسألة أنه تُقْطَع يده في سرقة المصحف؛ لعموم الأدلة.

ولا بما عليه من الحُلِي.

يعني: لو كان المصحف مُحلًّى بالحُلِي.

كان بعض الناس قديمًا يُحلون مصاحفهم بحُلِيٍّ من ذهبٍ، فلو سُرِقَ هذا المصحف بما عليه من حُلِيٍّ يقول المؤلف: إنها لا تُقْطَع يد السارق؛ لأن هذا الحُلِي تابعٌ لما لا يُقْطَع بسرقته، وهو المصحف.

لكن نحن رجَّحنا أن المصحف تُقْطَع يد سارقه إذا كان يبلغ نِصَابًا، فمن باب أولى أن تُقْطَع بسرقة الحُلِي الذي فوقه.

ولا بكُتب بدعٍ.

لأن كتب البدع يجب إتلافها، فليست بمالٍ، فلا تُقْطَع يد سارقها.

وتصاوير.

للأمر بطمسها؛ ولأن السارق يُحتمل أنه أراد بذلك إنكار المنكر، وهذه شبهةٌ يُدْرَأ بها الحدّ.

ولا بآلة لَهْوٍ، ولا بصليبٍ، أو صنمٍ.

لأن هذه ليست من الأموال المُحترمة، فلا تُقْطَع بها يد السارق.

الشرط الرابع: أن يبلغ المسروق النِّصاب

الرابع.

يعني: من شروط القطع.

كون المسروق نِصَابًا.

ثم فسَّر المؤلف النِّصاب قال:

وهو ثلاثة دراهم، أو ربع دينارٍ، أو ما يُساوي أحدهما.

يعني: لا بد أن يكون المسروق نِصَابًا.

النِّصاب هو: ربع دينارٍ، كما قال عليه الصلاة والسلام: لا تُقْطَع يد السارق إلا في ربع دينارٍ فصاعدًا [17] متفقٌ عليه.

وربع دينارٍ يُعادل ثلاثة دراهم؛ لأن الدينار يُعادل اثني عشر درهمًا، فربعه ثلاثة دراهم.

إذا أردنا أن نُقدِّر ذلك، يعني: نِصَاب القطع في السرقة نُقدِّره في الوقت الحاضر بالتقدير المعاصر، قلنا: إن النِّصاب هو ربع دينارٍ، والدينار يُعادل أربعة جرامات وربع، يعني: عندنا الدينار أربعة جرامات، وعندنا ربع الدينار جرام، والدينار يُعادل أربعة جرامات وربع، يعني: يكون النِّصاب جرامًا وربع الربع؛ لأن أربعة ربعها واحد جرام، ونحن قلنا: "أربعة جرامات وربع" الدينار، طيب، ربع الربع: واحد على ستة عشر.

في "السلسبيل" مكتوبٌ: "ففي هذا اليوم الجمعة 11 ربيع الأول 1441هـ يُعادل الجرام من الذهب 177 ريالًا سعوديًّا، وربع ربعه 11 ريال تقريبًا، فيبلغ ربع الدينار 187 ريالًا، أي: ما يُقارب مئتي ريالٍ".

لكن في وقت إلقاء هذا الدرس -وهو العاشر من ربيع الأول 1445 للهجرة- الجرام يُعادل 232 ريالًا، وربعه 58 ريالًا، أي: جرامًا وربعًا، فإذا أضفنا 58 إلى 232 الناتج 290 ريالًا، يعني: في حدود 300 ريالٍ، يكون النِّصاب في حدود 300 ريالٍ.

إذن هذا الرقم مختلفٌ، يزيد وينقص، يعني: مختلفًا، يزيد وينقص تبعًا لتذبذب سعر الذهب.

قال:

وتُعتبر القيمة حال الإخراج.

يعني: قيمة المسروق في بلوغ النِّصاب إنما تُعتبر وقت إخراجها من الحِرْز.

الشرط الخامس: إخراج المسروق من حِرْزٍ

الخامس.

من شروط القطع.

إخراجه من حِرْزٍ، فلو سرق من غير حِرْزٍ فلا قطع.

يعني: لا بد من إخراج المسروق من حِرْز مثله باتِّفاق العلماء، فلو سرق مالًا من غير حِرْزٍ فلا قطع عليه.

وهذا الشرط من أهم الشروط.

تعريف الحِرْز

ما معنى الحِرْز؟

يقول المؤلف:

وحِرْز كل مالٍ ما حُفِظَ فيه عادةً.

هذا هو تعريف الحِرْز.

الحِرْز: ما يُحْفَظ فيه المال عادةً، والمرجع فيه للعُرْف.

قال:

فَنَعْلٌ بِرِجْلٍ وعمامةٌ على رأسٍ حِرْزٌ.

يعني: حِرْز النَّعل إذا كانت على الرِّجْل حِرْزٌ، والعمامة إذا كانت على الرأس حِرْزٌ؛ ولذلك صفوان بن أُمية لما كان نائمًا في المسجد، فأتى رجلٌ وسرق خميصةً له كان مُتوسِّدًا لها، فلحقه صفوان فأمسك به، وأتى به إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فأمر بقطع يده، قال: أَتَقْطَعُه من أجل ثلاثين درهمًا؟! أنا أبيعه وأُنْسِؤُه ثمنها. قال عليه الصلاة والسلام: فَهَلَّا كان هذا قبل أن تأتيني به؟ [18]، هذا يدل على أن العمامة والرداء ونحو ذلك إذا أُخِذَتْ خُفْيَةً من صاحبها فقد أُخِذَتْ من حِرْزٍ.

يختلف الحِرْز بالبلدان وبالسلاطين

قال:

ويختلف الحِرْز بالبلدان وبالسلاطين.

يختلف الحِرْز باختلاف المال، وباختلاف البلدان، وباختلاف الأزمان، وباختلاف قوة السلطان.

إذن بالنسبة للأموال: حِرْز الذهب يختلف عن حِرْز الأخشاب عن حِرْز الأغنام مثلًا.

باختلاف البلدان: البلد الكبير ليس كالبلد الصغير، البلد الكبير يختفي فيه السارق أكثر من البلد الصغير، والحِرْز هنا يختلف عن الحِرْز هنا.

الأزمان: الحِرْز في وقتنا الحاضر يختلف عن الحِرْز قبل مئة سنة مثلًا.

قوة السلطان: إذا كان السلطان قويًّا فإنه يُهَاب؛ فَتَقِلّ السرقات، فلا يُحتاج إلى التَّشدد في حفظ المال، بخلاف ما إذا كان الأمن ضعيفًا، فإنه تكثُر السرقة، ويحتاج الأمر إلى التَّشدد في الحفظ.

إذن المرجع في الحِرْز هو العُرْف.

سرقة الحقوق المعنوية

مثل: سرقة كتابٍ أو بحثٍ.

يأتي إنسانٌ لبحثٍ ويسرقه وينسبه لنفسه، أو يأخذ كتابًا ويُغير اسم المؤلف وينسب هذا الكتاب لنفسه، هذه تُسمى: سرقة كتابٍ، أو سرقة بحثٍ، أو سرقة الحقوق المعنوية عمومًا.

هذه لا تُوجِب القطع؛ لأنها سرقةٌ من غير حِرْزٍ، فهو فقط أخذ هذه الكتابة -من بحثٍ أو كتابٍ أو غير ذلك- ونسبها لنفسه، فليس هناك انتهاكٌ للحِرْز يُوجِب القطع.

إذن سرقة الحقوق المعنوية نقول: هي جريمةٌ، لكنها تُوجِب التَّعزير، ولا تُوجِب القطع.

ولا أعلم أحدًا قال: إن مَن سرق حقوقًا معنويةً تُقْطَع يده، إنما القطع يكون لأموالٍ حسيةٍ، أما الحقوق المعنوية فتُوجِب التَّعزير بالعقوبة المناسبة، ولا تُقْطَع معها يد السارق.

حكم ما لو اشترك جماعةٌ في هَتْك الحِرْز وإخراج النِّصاب

قال:

ولو اشترك جماعةٌ في هَتْك الحِرْز وإخراج النِّصاب قُطِعُوا جميعًا.

يعني: اتَّفقتْ عصابةٌ على سرقةٍ، وهَتَكوا الحِرْز، وأخرجوا المال؛ يُقْطَعون جميعًا، كما لو اشتركوا في القتل.

حكم ما لو هَتَكَ الحِرْز أحدهما ودخل الآخر فأخرج المال

وإن هَتَكَ الحِرْز أحدهما، ودخل الآخر فأخرج المال؛ فلا قطع عليهما، ولو تواطآ.

يعني: سارقان اتَّفقا، أحدهما هَتَكَ الحِرْز وكسره، والثاني أخرج المال.

يقول المؤلف: إنه لا قطع عليهما، لماذا؟

لأن الأول لم يسرق، إنما هَتَكَ الحِرْز؛ ولأن الثاني سرق، لكنه لم يَهْتِك الحِرْز.

طيب، حتى لو تواطآ؟

يقول المؤلف: حتى لو تواطآ.

والقول الثاني في المسألة: أنهما إذا تواطآ على ذلك تُقْطَع أيديهما، وهذا هو الأقرب -والله أعلم- كما لو تواطآ على القتل؛ ولأن هذا -يعني: لو لم يقل بقطع أيديهما- سيكون ذريعةً لِدَرْء حدِّ القطع عن السرقة، فيتفق السارقان -أو السُّرَّاق- على أن أحدهما يَهْتِك الحِرْز، والثاني يُخرج المال، وبالتالي لا تُقْطَع أيديهما.

فالراجح -والله أعلم- أنه إذا دلَّت القرائن أو البينة على حصول التَّواطؤ تُقْطَع أيديهم.

الشرط السادس: انتفاء الشُّبهة

السادس: انتفاء الشُّبهة.

وهذا محل اتِّفاقٍ بين العلماء، وعليه المذاهب الأربعة، خلافًا للظاهرية، وحُكِيَ إجماعًا.

وقد رُوِيَ في ذلك حديثٌ، وإن كان في سنده مقالٌ إلا أن العمل عليه عند أهل العلم: ادْرَؤُوا الحدود بالشبهات، لكن المقصود بالشبهة: الشبهة القوية المُؤثِّرة، وليس الشبهة المُتوهَّمة؛ ولهذا قال المؤلف:

فلا قطع بسرقته من مال فروعه وأصوله وزوجه.

هذا مثالٌ للشُّبهة القوية: لو أن أحدًا سرق من مال ابنه، أو سرق الابن من مال أبيه، أو سرق الزوج من مال زوجته، أو الزوجة من مال زوجها، فهذا لا يُوجِب القطع؛ لأن كل واحدٍ منهم يتبسَّط في مال الآخر، لكن عند المُطالبة يُوجِب التَّعزير بالعقوبة المناسبة.

ولا بسرقته من مالٍ له فيه شِرْكٌ.

يعني: مال شركةٍ -مثلًا- وهو أحد الشُّركاء، فسرق، لا تُقْطَع يده، لماذا؟

لأن له حقًّا في هذا المال، لكنه يُعزَّر.

أو لأحدٍ ممن ذُكِرَ.

يعني: إذا سرق أحدٌ من مالٍ له فيه شِرْكٌ لأصوله أو لفروعه أو لزوجته أو لزوجه، فلا قطع عليه؛ لوجود الشُّبهة.

يعني: هذه الأمثلة تدل على أن الفقهاء أرادوا بذلك الشبهة القوية، فلا يُتوسع في الشبهة؛ لأن هذا التَّوسع يُؤدي إلى قِلة إقامة الحدود.

وإذا أُضيف إلى ذلك: قبول رجوع المُقرّ بالسرقة عن إقراره، فربما هذا يُؤدي إلى تعطيل إقامة الحدِّ؛ ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله: "لو قُبِلَ رجوع المُقرّ لَمَا قام حدٌّ بإقرارٍ".

وهذه المسألة سبق أن تكلمنا عنها في درسٍ سابقٍ.

السرقة من بيت المال

السرقة من بيت المال جريمةٌ، لكنها تُوجِب التَّعزير، ولا تُوجِب القطع، لماذا؟

يقولون: لأن لكل مسلمٍ حقًّا في بيت المال، فهذه الشبهة يُدْرَأ بها الحدُّ، لكنه يُعاقَب بعقوبةٍ تعزيريةٍ؛ لكونه سرق من بيت مال المسلمين.

الشرط السابع: ثبوت السرقة إما بشهادة عدلين أو بإقرارٍ مرتين

السابع: ثبوتها.

يعني: ثبوت السرقة، وذكر المؤلف طريقين:

إما بشهادة عدلين ويصفانها.

بشهادة عدلين يشهدان على أن هذا سرق: رأينا فلانًا سرق، ويصفان السرقة، والمال المسروق، وكيف حصل؛ حتى يغلب على الظنِّ صدقهما.

ولا تُسْمَع قبل الدَّعوى.

يعني: لا تُسمع شهادة الشاهدين قبل الدَّعوى من مالك المسروق أو مَن يقوم مقامه.

هذا بناء على الشرط الثامن الذي سيأتي، وهو: مُطالبة المسروق بماله، وسنُبيِّن في هذا الشرط أن القول الراجح: أنه لا يُشترط.

أو بإقرارٍ مرتين، ولا يرجع حتى يُقْطَع.

هذه الطريقة الثانية لثبوت السرقة: أن يُقِرَّ، لكن يقول المؤلف: إنه يُقِرُّ مرتين.

هذا المذهب عند الحنابلة، وهو من المُفردات، كما قالوا في الزنا: يُقِرُّ أربع مراتٍ، وفي السرقة مرتين.

نحن في الزنا قلنا: الراجح أنه يكفي الإقرار مرةً واحدةً.

هنا المؤلف يقول: لا بد من الإقرار بالسرقة مرتين.

واستدلوا بحديثٍ ضعيفٍ، وهو حديث أبي أُمية: أن النبي عليه الصلاة والسلام أُتِيَ بِلِصٍّ قد اعترف، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ما إِخَالُكَ سرقتَ مرتين، ثم أمر به فَقُطِعَ [19].

يعني: الحديث في مَتْنِه نكارةٌ؛ كيف يُؤْتَى به وقد اعترف ثم يُقال: ما إِخَالُكَ سرقتَ، ثم يُقْطَع؟!

يعني: فيه نكارةٌ سندًا ومَتْنًا.

القول الثاني: أنه يكفي في السرقة الإقرار مرةً واحدةً، وهذا قول الجماهير، وهو الراجح، كما قلنا في الزنا أنه يكفي الإقرار مرةً واحدةً، وأما حديث: ما إِخَالُكَ سرقتَ فضعيفٌ.

وإذا كان الإقرار بالقتل مرةً واحدةً مُوجِبًا للقِصاص، فكيف بالسرقة؟!

ولأن النبي عليه الصلاة والسلام قد وقعت السرقة في عهده عدة مراتٍ، ولم يُنْقَل عنه أنه أمر أن يُلقّن السارق أن يُقِرَّ مرتين.

فالقول بأنه لا بد من إقراره مرتين قولٌ ضعيفٌ، والأقرب -والله أعلم- أنه يكفي الإقرار بالسرقة مرةً واحدةً.

وقول المؤلف: "ولا يرجع حتى يُقْطَع" يعني: إذا أقرَّ بالسرقة لا بد من استمراره على إقراره، ولا يرجع عن هذا الإقرار، فإن رجع لم تُقْطَع يده.

واستدلوا بالحديث السابق: ما إِخَالُكَ سرقتَ، بل قالوا: إنه يُستحب تلقينه لأجل أن يرجع.

وقلنا: إن هذا الحديث مُنكرٌ سندًا ومَتْنًا.

ثم أيضًا -يعني- القول بأنه لا يرجع حتى يُقْطَع هذا يُؤدي إلى قِلة القطع في السرقة، أو ربما تعطيل حدّ السرقة؛ لأنه يَبْعُد أن تَثْبُت السرقة بطريق الشهادة، فالذي يسرق لن يسرق وأحدٌ يُشاهده ويراه.

إذن أكثر ما يثبُت به الحدّ هو طريق الإقرار، فإذا قلنا: إنه إذا أقرَّ لا يرجع حتى يُقْطَع، فلو تراجع لا تُقْطَع يده؛ فهذا يُؤدي إلى قِلة تطبيق حدِّ السرقة، أو تعطيل هذا الحدّ.

ولذلك بعض الأقوال الفقهية مُؤثِّرةٌ في تطبيق الحدود، فلاحظوا: مثل هذه الأقوال لو أُخِذَ بها فهذا يُؤثِّر في تطبيق الحدِّ.

الشرط الثامن: مُطالبة صاحب المال بماله

الثامن: مُطالبة المسروق منه بماله.

هذا أشرنا له قبل قليلٍ: عند الحنابلة أنه يُشترط أن يُطالِب المسروقُ منه السارقَ بماله، وهذا أيضًا ليس قول الحنابلة فقط، بل قول الجمهور -الحنفية والشافعية- واستدلوا بقصة صفوان لما أتى النبي بسارق ردائه، فقال: أَتَقْطَعُه من أجل ثلاثين درهمًا؟! أنا أبيعه وأُنْسِؤُه ثمنها. قال عليه الصلاة والسلام: فَهَلَّا كان هذا قبل أن تأتيني به؟ [20] قالوا: لو أن صفوان لم يأتِ بهذا السارق لم تُقْطَع يده.

والقول الثاني: أنه لا تُشترط مُطالبة المسروق منه بماله، وهذا مذهب المالكية، وروايةٌ عند الحنابلة، وهو القول الراجح، واختاره ابن تيمية وجمعٌ من المُحققين من أهل العلم؛ لعموم الأدلة: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]، ولم يُذْكَر هذا الشرط؛ ولأن قطع يد السارق إنما هو لأجل حفظ الأموال، وليس حقًّا للمسروق منه.

ولأن اللص السارق غرضه سرقة أموال الناس، وليس له غرضٌ في شخصٍ معينٍ، وحينئذٍ فلا يتجه القول باشتراط مُطالبة السارق بقطع يده، هذا هو الأظهر، والله أعلم.

بقي أن نُجيب عما استدلَّ به أصحاب القول الأول من قصة صفوان.

نقول: إن هذا الاستدلال استدلالٌ بحديثٍ في غير محل الخلاف؛ لأن محل الخلاف هو مُطالبة المسروق منه بماله بعد ثبوت السرقة، أما في قصة صفوان لم تَثْبُت السرقة أصلًا إلا بعد أن رفع صفوان الأمر إلى النبي ، فلا دليل في قصة صفوان على اشتراط هذا الشرط.

وعلى هذا نقول: القول الراجح: أنه لا يُشترط للقطع مُطالبة المسروق منه بماله، بل متى ثبت أن هذا السارق سرق تُقْطَع يده، ولو لم يُطالب المسروق منه بذلك.

حكم القطع في زمن المجاعة

قال المُصنِّف رحمه الله:

ولا قَطْعَ عامَ مجاعةِ غلاء.

يعني: إذا اجتاحت الناسَ مجاعةٌ ارتفعتْ بسببها الأسعار، فلا تُقْطَع يد السارق؛ لقول عمر: "لا قَطْعَ في عامِ سَنَةٍ" يعني: في عام مجاعة، وإن كان في سنده مقالٌ إلا أن الإمام أحمد احتجَّ به.

وأيضًا اشتُهر أنه في عام الرَّمادة دَرَأَ عمرُ الحدَّ -حدَّ القطع بالسرقة- في ذلك العام، لكن هذا إذا كانت فيه مجاعةٌ شديدةٌ، وغَلَت الأسعار بشكلٍ كبيرٍ، فهنا لا تُقْطَع يد السارق.

موضع القَطْع

فمتى توفرت الشروط قُطِعَتْ يده اليمنى من مِفْصَل كَفِّه.

وهذا بالإجماع؛ لقول الله : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]، جاء في قراءة ابن مسعودٍ: "فاقطعوا أيمانهما"؛ ولأن هذا هو المروي عن أبي بكر وعمر، ولا يُعْرَف لهما مُخالفٌ من الصحابة، فكان كالإجماع.

حكم غَمْس مكان القطع بالزيت

وغُمِسَتْ وجوبًا في زيتٍ مغليٍّ.

الفقهاء يقولون: بعد قطع يد السارق لا بد أن تُغْمَس في زيتٍ مغليٍّ، ويُسمونه: الحَسْم؛ لأجل أن تَنْسَدَّ أفواه العروق فينقطع الدم؛ لأنه لو لم يُفْعَل ذلك لاستمر النَّزف، وربما أدَّى إلى وفاة هذا الذي قُطِعَتْ يده.

وهذا الغَمْس في زيتٍ مغليٍّ ألمه شديدٌ، وربما أحيانًا يكون ألمه أشدَّ من ألم القطع، لكن لا بد منه حتى يُوقَف ذلك النَّزيف.

وفي الوقت الحاضر يُستغنى عن هذا الغَمْس في الزيت المغلي بالأدوات الطبية الحديثة، وبالأدوية التي تُوقِف النَّزيف، من غير حاجةٍ لأن تُغْمَس اليد في الزيت.

ففي الوقت الحاضر -إذن- لا حاجة لهذا الحَسْم، ولا حاجة لغمسها في الزيت، ويُكتفى بما وُجِدَ في الطبِّ الحديث من أشياء تُوقِف هذا النَّزيف.

هل يجوز استخدام البِنْج عند قطع يد السارق؟

هذا يرجع للإجابة عن سؤالٍ هو: ما المقصود من قطع يد السارق؟ هل المقصود الإيلام، أم المقصود القطع؟ ما مقصود الشارع من القطع؟

وهذا يُبين لنا أهمية عناية طالب العلم بمقاصد الشريعة، فما مقصود الشريعة من قطع يد السارق؟

طبعًا هو حفظ المال، لكن بالنسبة للسارق: هل المقصود القطع، أم المقصود الإيلام؟

نرجع للآية الكريمة: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]، إذن المقصود هو القطع، وليس الإيلام؛ ولهذا يجوز استخدام البِنْج عند قطع يد السارق، وبهذا صدر قرار هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية.

هل تجوز إعادة اليد المقطوعة في السرقة لصاحبها عن طريق عمليةٍ جراحيةٍ؟

نقول: لا تجوز، لماذا؟

لأن هذا يُنافي مقصود الشريعة من القطع، فإن المقصود أن يبقى هذا السارق مقطوعًا بلا يدٍ، يراه الناس فَيَرْتَدِعُوا عن السرقة، وإعادة اليد المقطوعة لصاحبها تُنافي هذا المعنى.

حكم تعليق يده المقطوعة في عنقه

قال:

وسُنَّ تعليقها في عنقه ثلاثة أيامٍ إن رآه الإمام.

القول بأنه سُنَّ يحتاج إلى دليلٍ.

يعني: ما الدليل على ذلك؟

وقطع السارق حصل في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يُنْقَل أنه قد عُلِّقَتْ يد السارق، لكن استحبَّه بعض الفقهاء، وعلَّقوا ذلك بما إذا رأى الإمام المصلحة في هذا، فهذه من مسائل الاجتهاد.

حكم السارق إذا عاد إلى السرقة مرةً أخرى

فإن عاد قُطِعَتْ رِجْلُه اليُسرى من مِفْصَل كَعْبِه بِتَرْكِ عَقِبِه.

السارق الذي قُطِعَتْ يده اليمنى ربما يعود للسرقة؛ لأن بعض الناس مريضٌ، فبعض الناس عنده هذا المرض، يعني: يسرق وتُقْطَع يده، ثم يعود ويسرق مرةً أخرى؛ فتُقْطَع رِجْلُه اليُسرى من مِفْصَل الكعب، ويُتْرَك عَقِبه.

وقد جاء في حديث أبي هريرة: إذا سرق السارق فاقطعوا يده، وإن عاد فاقطعوا رِجْلَه [21]، والحديث ضعيفٌ، أخرجه الدارقطني، ضعيفٌ، لكن رُوِيَ ذلك عن أبي بكر وعمر، ولا مُخالف لهما من الصحابة، فكان إجماعًا.

حكم السارق إذا عاد إلى السرقة مرةً ثالثةً

إن سرق المرة الثالثة، وهذا قد يوجد، بعض الناس مرضى؛ سرق وقُطِعَتْ يده اليمنى، وسرق مرةً ثانيةً وقُطِعَتْ رِجْلُه اليُسرى، ثم سرق المرة الثالثة، فهل نقطع يده اليُسرى أم ماذا؟

يقول المؤلف:

فإن عاد لم يُقْطَع، وحُبِسَ حتى يموت أو يتوب.

قد رُوِيَ هذا عن عليٍّ : أنه أُتِيَ برجلٍ مقطوع اليد والرِّجْل قد سرق، فقال لأصحابه: ما ترون؟ قالوا: اقطعه يا أمير المؤمنين. قال: قتلتُه إذن، وما عليه القتل، بأي شيءٍ يأكل الطعام؟! بأي شيءٍ يتوضأ للصلاة؟! بأي شيءٍ يغتسل من جنابته؟! بأي شيءٍ يقوم على حاجته؟! ثم سجنه أيامًا وأخرجه.

المسألة خلافيةٌ، والمذهب عند الحنابلة أنه يُحْبَس.

القول الثاني: أنه تُقْطَع يده اليُسرى في المرة الثالثة، إذا سرق المرة الثالثة.

وقد جاءتْ في هذا قصةٌ رواها مالكٌ في "الموطأ" بسندٍ صحيحٍ عن أبي بكر الصديق: أنه لمَّا كان زمن خلافته جاء رجلٌ من أهل اليمن أقطع اليد اليمنى والرِّجْل اليُسرى، فنزل ضيفًا على أبي بكر الصديق، وبات عنده في بيته، وأصبح يشكو إليه أن عامل اليمن ظلمه، وكان يقوم الليل، كان هذا الرجل الذي هو من أهل اليمن يقوم الليل.

ثم إنهم فقدوا عِقْدًا لزوجة أبي بكر الصديق أسماء بنت عُمَيس، فجعلوا يبحثون في البيت: أين ذهب هذا العقد؟ مَن الذي أخذه؟ وهذا الرجل يُصلي من الليل.

قالوا: يمكن فلان. قال أبو بكرٍ: ما ليل هذا بليل سارقٍ.

رجلٌ يقوم الليل كيف يسرق؟!

وكان هذا الرجل لمَّا علم أنهم يبحثون عن عقد زوجة أبي بكر يبحث معهم، ويدعو على السارق، وهو السارق!

وكان يقول: اللهم عليك بمَن بيَّت أهل هذا البيت الصالح.

ثم إنهم وجدوا الحُلِيَّ عند الصائغ، فقالوا: من أين لك هذا؟ قال: هذا الأقطع جاء به وباعني إياه.

فأُتِيَ بهذا الأقطع فاعترف أو شُهِدَ عليه به، فأمر أبو بكر الصديق بأن تُقْطَع يده اليُسرى.

وكان أبو بكرٍ يقول: والله لدعاؤه على نفسه أشدُّ عندي من سرقته.

كان يقول: اللهم عليك بهذا السارق. يدعو على السارق، وهو السارق!

فكان أبو بكرٍ يقول: والله لدعاؤه على نفسه أشدُّ عليَّ من سرقته.

المسألة اجتهاديةٌ، والأقرب -والله أعلم- أن المرجع في ذلك للقضاء، فإذا رأى القاضي قَطْع يده اليُسرى المرة الثالثة، فهذا قولٌ قال به .. يعني: فعله أبو بكر الصديق وغيره، وإن رأى الاكتفاء بحبسه فله ذلك، فالمسألة اجتهاديةٌ، يجتهد فيها القاضي بما يراه مُناسبًا.

اجتماع القطع والضمان على السارق

قال:

ويجتمع القطع والضمان، فَيَرُدّ ما أخذه لمالكه، ويُعِيد ما خَرِبَ من الحِرْز.

أي: إذا اجتمع على السارق قطع اليد وضمان المسروق، فيجب عليه أن يردَّ ما أخذه، المال المسروق يردّه لصاحبه، وإذا قُدِّر أنه فيه تلفيات أو خَرِبَ فيجب عليه أن يُصلحه؛ لأن القطع والضمان حقٌّ لصاحب المال.

فعلى هذا -يعني: القطع- تُقْطَع يده، لكن أيضًا يَرُدّ المال المسروق، ويُصلح هذا المال إن كان قد حصل فيه خرابٌ أو تلفٌ.

وعليه أجرة القاطع وثمن الزيت.

يعني: السارق يُلْزَم بأن يدفع أجرة مَن يقطع يده، وأيضًا الزيت الذي تُحْسَم يده فيه.

هذا هو المذهب عند الحنابلة.

والقول الثاني: أن ذلك من بيت المال؛ لأن هذا يدخل في المصالح العامة للمسلمين، وهذا من المصالح العامة، وهذا هو الأقرب، وهو الذي عليه عمل المسلمين من قديم الزمان.

بهذا نكون قد انتهينا من "باب: القطع بالسرقة"، ونقف عند "باب: حدّ الطريق".

والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

^1 رواه مسلم: 2699.
^2 رواه ابن ماجه: 2291، وأحمد: 6902.
^3 رواه الترمذي: 1358 وقال: حسن، وابن ماجه: 2290.
^4 رواه البخاري: 6848، ومسلم: 1708.
^5 رواه مسلم: 1852.
^6 رواه البخاري: 6878، ومسلم: 1676.
^7 رواه البخاري: 1739، ومسلم: 1679.
^8 رواه أحمد: 20695.
^9 رواه الترمذي: 1293.
^10 رواه أبو داود: 1575، وأحمد: 20041.
^11 رواه مسلم: 2587.
^12 رواه أبو داود: 4391، وأحمد: 15070.
^13 رواه البخاري: 3733، ومسلم: 1688.
^14 رواه البخاري: 3475، ومسلم: 1688.
^15 رواه أبو داود: 4374.
^16 رواه أبو داود: 3477، وأحمد: 23082.
^17 رواه البخاري: 6789، ومسلم: 1684.
^18 رواه أبو داود: 4394، والنسائي: 4883.
^19 رواه أبو داود: 4380، وابن ماجه: 2597.
^20 سبق تخريجه.
^21 رواه الدارقطني: 3392.
zh