logo
الرئيسية/دروس علمية/التعليق على كتاب السلسبيل في شرح الدليل/(88) باب: حدّ قُطَّاع الطريق- من قوله: "وهم المُكلَّفون المُلتزمون .."

(88) باب: حدّ قُطَّاع الطريق- من قوله: "وهم المُكلَّفون المُلتزمون .."

مشاهدة من الموقع

جدول المحتويات

هذا الدرس يُعتبر مجلس علمٍ، والنبي يقول: مَن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة [1]، فالذي يُتابع مثل هذه الدروس ويحتسب الأجر عند الله هو في عبادةٍ.

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه واتَّبع سُنته إلى يوم الدين.

حيَّاكم الله تعالى في هذا الدرس، وسيكون في التعليق على "السلسبيل في شرح الدليل"، وكنا قد وصلنا إلى "باب: حدّ قُطَّاع الطريق".

اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.

اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.

باب: حدّ قُطَّاع الطريق

قال المصنِّف رحمه الله:

باب: حدّ قُطَّاع الطريق.

هكذا عبَّر المُصنف رحمه الله، وبعض الفقهاء يُعبِّر عنه بحدِّ الحِرَابَة: "باب: حدّ الحِرَابَة"، وبعضهم يُعبِّر بـ"باب: المُحاربين"؛ أخذًا من قول الله : إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا .. إلى آخر الآية [المائدة:33]، وهم هؤلاء قُطَّاع الطريق أو المُحاربون.

شروط إقامة حدِّ قُطَّاع الطريق

قال:

وهم المُكلَّفون، المُلتزمون، الذين يخرجون على الناس فيأخذون أموالهم مُجاهرةً.

هذا هو تعريف قُطَّاع الطريق أو المُحاربين.

قوله: "المُكلَّفون" جمع مُكلَّفٍ، وهو البالغ العاقل.

"المُلتزمون" هذا المصطلح يذكره الفقهاء في "باب: الحدود" أو "كتاب: الحدود"، ويريدون به المسلم والذّمي والمُعاهَد، هذا هو المُلتزم.

"الذين يخرجون على الناس فيأخذون أموالهم مُجاهرةً" يخرجون على الناس يعني: بالاعتداء.

ويأخذون أموال الناس مُجاهرةً يعني: غَصْبًا، مُجاهرةً، لا خُفيةً؛ لأن ما يُؤخَذ بطريق الخُفْيَة إما أن يكون سرقةً أو اختلاسًا أو نحو ذلك.

هؤلاء هم المُحاربون وقُطَّاع الطريق.

هل هذا يختص بالصحراء أو البنيان؟

قولان للفقهاء:

منهم مَن قال: إن هذا يختص بالصحراء، وهو ظاهر مذهب الحنفية، وروايةٌ عند الحنابلة.

قالوا: لأن الإنسان في الصحراء هو الذي لا يُدركه الغَوْث، ولا يستطيع أن يستنجد بأحدٍ، بخلاف مَن كان في البنيان فإنه يُدركه الغَوْث، ويستنجد بمَن حوله.

والقول الثاني قول جمهور الفقهاء: أن الحِرَابة لا تختص بالصحراء، وإنما تشمل البنيان كذلك.

وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة، وهذا هو القول الراجح؛ وذلك لأن البنيان هو محل الطُّمأنينة، فهو أولى بأن تُقام العقوبة على المُعترضين فيه من إقامتها على المُعترضين للناس في الصحراء.

ثم كون هؤلاء يُقْدِمون على اعتراض الناس مُجاهرةً في البنيان هذا يدل على تأصُّل الإجرام عندهم؛ ولهذا قال الإمام الشافعي: "إن تعرُّضهم في البلد أعظم جرأةً وأكثر فسادًا، فكانوا أولى بالعقوبة".

مثال ذلك: أتى إليك رجلٌ ومعه مسدسٌ أو سلاحٌ ناريٌّ، وقال: أعطني ما في جيبك. فأخذ ما في جيبك بالقوة، هذا يُعتبر قاطع طريقٍ أو مُحارِبًا.

أو أتى إنسانٌ أيضًا وعَرَضَ لامرأةٍ، أو عَرَضَ لغلامٍ بالقوة وفعل فيه الفاحشة، فكذلك أيضًا.

فهم إذن يعتمدون على المُغالبة بقوتهم وسطوتهم مُجاهرةً، لا خُفْيَةً، فهؤلاء هم قُطَّاع الطريق أو المُحاربون.

الفرق بين المُنْتَهِب وقاطع الطريق:

  1. المُنْتَهِب يأخذ المال جهرةً، لكن على سبيل النُّهْبَة، أما قاطع الطريق فيتعرض للناس ويقصدهم.
  2. والمُنْتَهِب يكون شخصًا عاديًّا، ليست له شوكةٌ ولا مَنَعَةٌ، لكنه يَنْتَهِب انتهابًا بلا تهديدٍ، أما قاطع الطريق فتكون له قوةٌ، ويكون بيديه سلاحٌ -في الغالب- أو أدواتٌ حادَّةٌ، ويقوم بالتَّهديد، فبينهما فرقٌ.

ولا يُشترط أن يكون قُطَّاع الطريق جماعةً، يمكن أن يكون واحدًا.

إذن لاحظ هنا أن قُطَّاع الطريق لا بد من توفر عنصرين فيهم:

  • الأمر الأول: عنصر المُغالبة، وأنهم يُغالِبون الإنسان بالقوة، يستخدمون أسلحةً، ويستخدمون قوتهم، فعنصر المُغالبة موجودٌ.
  • والعنصر الثاني: أن هذا جَهْرَةٌ، وليس خُفْيَةً، علانية، وليس خُفْيَةً.

فعلى ذلك عند توصيف الجريمة بأنها جريمة حِرَابةٍ لا بد من توفر هذين العنصرين، فمثلًا: مُرَوِّج المُخدرات لا يُقال: إن هذا مُحاربٌ؛ لماذا؟

لأن التَّرويج يكون خُفْيَةً، ولا يكون علانيةً، وعلى هذا فتُلاحظون عند الحكم بقتل مُروِّج المُخدرات يُقال: قتله تعزيرًا، لكن لا يُقال: حِرَابَةً.

العمليات الإرهابية جريمةٌ، لكن ما توصيفها الفقهي؟

إن كانت على سبيل المُغالبة -استخدموا أسلحةً وقاوموا- هذه حِرَابَةٌ، وإن كانت على سبيل الخُفْيَة وقُبِضَ عليهم فهذه لا تكون حِرَابَةً، وإنما يُنْظَر لها من باب التَّعزير.

لا بد من ثبوت ذلك بشهادة رجلين عدلين ذكرين

ثم انتقل المؤلف بعد ذلك لطريقة إثبات هذا الحدّ فقال:

ويُعتبر ثبوته ببيِّنةٍ أو إقرارٍ مرتين.

"ببينةٍ" يعني: شاهدين فأكثر.

"أو إقرارٍ" والإقرار سيد الأدلة.

وقول المُصنِّف: "مرتين" قياسًا على السرقة، وسبق في درسٍ سابقٍ أن ذكرنا أن الحنابلة يرون أن حدَّ السرقة يَثْبُت بالإقرار مرتين، ورجَّحنا أنه يثبت بالإقرار مرةً واحدةً، وأن جميع الحدود تَثْبُت بالإقرار مرةً واحدةً.

وعلى هذا فلا حاجة لأن يُقِرَّ مرتين بالحِرَابَة، يكفي الإقرار مرةً واحدةً؛ لأن التَّكرار أشبه بالعبث، فإذا أقرَّ بكامل قواه العقلية مرةً واحدةً يكفي هذا لثبوت الحدِّ.

أن يكون المال مأخوذًا من حِرْزٍ ويبلغ النِّصاب

قال:

والحِرْز.

يعني: لا بد أن يكون المال مأخوذًا من حِرْزٍ، فلو كان مالًا سائبًا فأتى إنسانٌ وأخذه مُجاهرةً؛ هذا لا يُعتبر حِرَابَةً، وإن كان يُعزَّر.

والنِّصاب.

يعني: لا بد أن يبلغ المأخوذ قدر نِصَاب السرقة.

أحكام المُحاربين

قال:

ولهم أربعة أحكامٍ.

والأصل في هذا قول الله : إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33].

وجاء في ذلك أثرٌ عن ابن عباسٍ عمل به بعض الفقهاء، ومنهم فقهاء الحنابلة.

قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: "إذا قَتَلُوا وأخذوا المال قُتِلُوا وصُلِبُوا، وإذا قَتَلُوا ولم يأخذوا المال قُتِلُوا ولم يُصْلَبوا، وإذا أخذوا المال ولم يَقْتُلوا قُطِعَتْ أيديهم وأرجلهم من خِلَافٍ، وإذا أخافوا السَّبيل ولم يأخذوا مالًا ولم يَقْتُلوا نُفُوا من الأرض".

وعلى ذلك فرَّع المُصنِّف رحمه الله.

حكم ما لو قَتَلَ قُطَّاعُ الطريق الناسَ ولم يأخذوا المال

قال:

إن قَتَلُوا ولم يأخذوا مالًا تحتَّم قتلهم جميعًا.

إذا قَتَلَ المُحارب ولم يأخذ مالًا يُقْتَل، لكن قتله مُتحتِّمٌ، يعني: لا يُرْجَع فيه إلى رأي أولياء الدم، فحتى لو عفا أولياء الدم لا بد من قتله.

حكم ما لو قَتَلَ قُطَّاعُ الطريق الناسَ وأخذوا المال

وإن قَتَلُوا وأخذوا مالًا تحتَّم قتلهم وصلبهم حتى يشتهروا.

إذا قَتَلُوا وأخذوا مالًا فإنهم يُقْتَلون حَتْمًا ويُصْلَبون، لكن هل الصَّلب قبل القتل أم بعده؟

قولان للفقهاء:

  1. منهم مَن قال: إن الصلب يكون بعد القتل، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة.
  2. ومنهم مَن قال: إن الإمام مُخيَّرٌ في ذلك، وهو مذهب الحنفية والمالكية.

والأظهر -والله أعلم- أن الصلب إنما يكون بعد القتل.

والمدة التي يبقى فيها المصلوب قيل: ثلاثة أيامٍ، وهو مذهب الحنفية والشافعية.

وقيل: يبقى حتى يشتهر أمره، وهو مذهب الحنابلة، وهو الأقرب -والله أعلم-؛ لأن التَّحديد بثلاثة أيامٍ يحتاج إلى دليلٍ، وليس هناك دليلٌ لهذا التَّحديد.

ثم إن الغرض من صلبه إشهار أمره؛ ليكون ذلك أبلغ في الردع والزجر، فتقييد الضابط بأن يُصْلَب حتى يشتهر أمره أقرب.

هل الصلب يكون في غير حدِّ الحِرَابة؟

لم يرد ذلك، لكن مع هذا إذا رأى ولي الأمر شناعة جريمةٍ من الجرائم فأمر بصلب المُجرم بعد قتله؛ فهذا مما يسوغ فيه الاجتهاد.

حكم ما لو أخذ قُطَّاعُ الطريق المالَ ولم يَقْتُلوا

قال:

وإن أخذوا مالًا ولم يَقْتُلوا قُطِعَتْ أيديهم وأرجلهم من خِلَافٍ حَتْمًا في آنٍ واحدٍ.

إذا أخذ المُحاربون مالًا ولم يَقْتُلوا، فَتُقْطَع أيديهم وأرجلهم من خِلَافٍ؛ بأن تُقْطَع اليد اليمنى والرِّجْل اليُسرى في آنٍ واحدٍ، يعني: في وقتٍ واحدٍ، في مقامٍ واحدٍ، فلا يُفرق ذلك.

وقوله: "حَتْمًا" يعني: لازمًا، فلا يُرْجَع فيه لرأي أولياء الدم.

"في آنٍ واحدٍ" يعني: في وقتٍ واحدٍ.

حكم ما لو أخافوا الناسَ ولم يأخذوا مالًا

قال:

وإن أخافوا الناسَ ولم يأخذوا مالًا نُفُوا من الأرض، فلا يُتركون يَأْوون إلى بلدٍ حتى تظهر توبتهم.

إذا أخافوا الناسَ، وأخافوا الطريق، ولم يَقْتُلوا، ولم يأخذوا مالًا، فإنهم يُنْفَون من الأرض؛ لقول الله : أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ [المائدة:33]، وفسَّر ذلك ابن عباسٍ بأنهم: إذا أخافوا الناس، ولم يأخذوا مالًا، ولم يَقْتُلوا.

لكن ما معنى النَّفي؟

النَّفي من الأرض:

  • قيل: إن المقصود أنهم يُشَرَّدون، فلا يُتركون يَأْوون إلى بلدٍ حتى تظهر توبتهم، وهذا هو المذهب عند الحنابلة.
  • وقيل: إن المراد بالنَّفي هنا الحبس، وهو مذهب الحنفية والشافعية.
  • وقيل: إن معنى النَّفي أن يُحْبَسوا في البلد الذي يُنْفَون إليه، وهذا مذهب المالكية، أي: أنه يجتمع في ذلك أمران: النَّفي إلى بلدٍ آخر والحبس.

وهذا القول الثالث هو الأقرب؛ لأن النفي لا يكون إلا بإخراج المَنْفِيِّ من البلد الذي هو فيه، أما كونه في بلده حتى لو حُبِسَ لا يُسمى هذا: نَفْيًا، لا لغةً، ولا شرعًا، ولا عُرْفًا.

وعلى هذا نقول: إن الأقرب في معنى النَّفي: أنه يُنْقَل إلى بلدٍ آخر، يُنْفَى إلى بلدٍ آخر ويُحْبَس فيه؛ لأنه إذا نُقِلَ إلى بلدٍ آخر ولم يُحْبَس ربما يُؤذي الناس؛ لأن هذا إنسانٌ مُتأصِّلٌ فيه الإجرام، كونه يأتي ويعترض الناس جَهْرَةً ويأخذ أموالهم ويسلبهم، فلا بد من حبسه حتى يتوب، حتى ينقطع شرُّه.

وأما القول بأنهم يُشَرَّدون، فلا يُتركون يَأْوون إلى بلدٍ؛ فهذا يتعذر تطبيقه في الوقت الحاضر، فكيف يُشَرَّد هذا المُجرم؟

يعني مثلًا: وقعتْ جريمةٌ في مدينةٍ.

طيب، شَرَّدناه إلى مدينةٍ أخرى، يقولون: يُشَرَّد مرةً ثانيةً، يُلاحَق.

طيب، كيف يُلاحَق في الوقت الحاضر؟! كيف يُلاحَق؟!

قديمًا ربما كان هذا مُتأتيًا، لكن في الوقت الحاضر يَصْعُب تطبيق هذا؛ ولذلك فالأقرب -والله أعلم- هو القول الثالث، وهو: أن هذا الذي يُنْفَى من الأرض يُنْقَل إلى بلدٍ آخر ويُحْبَس فيه، يُنْفَى إلى بلدٍ آخر ويُحْبَس فيه، كما هو مذهب المالكية وروايةٌ عند الحنابلة.

حكم توبة قُطَّاع الطريق قبل القُدرة عليهم

قال:

ومَن تاب منهم قبل القُدْرَة عليه سقطتْ عنه حقوق الله، وأُخِذَ بحقوق الآدميين.

وهذا بالإجماع؛ لقول الله : إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:34]، لكن الذي يسقط ما كان حقًّا لله من نَفْيٍ وقَطْعٍ وصَلْبٍ وقَتْلٍ، أما ما كان مُتعلقًا بحقوق الآدميين من دماء وأموالٍ فَيُرْجَع في ذلك للآدميين؛ أما المال فيُسترد، وأما بالنسبة للدم فيرجع لأولياء الدم، والإتلافات تُضْمَن.

هل سقوط الحدِّ بالتوبة خاصٌّ بحدِّ الحِرَابة أم يشمل جميع الحدود؟

هنا مسألةٌ: هل سقوط الحدِّ بالتوبة هنا مخصوصٌ بحدِّ الحِرَابة أم يشمل جميع الحدود؟

قولان للفقهاء:

  • القول الأول: أنه خاصٌّ بحدِّ الحِرَابة، ولا يشمل جميع الحدود.
    وإلى هذا ذهب الجماهير من الحنفية والمالكية والشافعية، وهو روايةٌ عند الحنابلة.
    قالوا: لأن الآية -وهي قول الله : إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ- إنما نزلتْ في الحِرَابة، فلا يُقاس عليها غيرها.
  • القول الثاني: أن الحكم عامٌّ في جميع الحدود، فيشمل الزنا والسرقة، ويشمل غير ذلك من الحدود.
    وهذا هو المذهب عند الحنابلة، وهو من المُفردات، واختاره جمعٌ من المُحققين من أهل العلم: كابن تيمية وابن القيم.
    وهو القول الراجح؛ لأن الله قد ذكر في حدِّ الحِرَابة قبول توبة المُحارب مع شناعة جريمته وشدة ضرره وتعديه، فغيره من الحدود من باب أَوْلَى، فإذا كان المُحارب تُقْبَل توبته إذا تاب قبل القُدرة عليه مع عظيم جُرْمِه وشدة ضرره، فغيره ممن ارتكب حدودًا أخرى تُقْبَل توبته قبل القُدرة عليه من باب أَوْلَى.

وقد جاء في حديث أنسٍ قال: كنتُ عند النبي فجاءه رجلٌ فقال: يا رسول الله، إني أصبتُ حدًّا فَأَقِمْهُ عليَّ. وحضرت الصلاة، فصلى مع النبي ، فلما قضى النبي الصلاة قام إليه الرجل فقال: يا رسول الله، إني أصبتُ حدًّا، فَأَقِمْ فيَّ كتاب الله. قال: أليس قد صلَّيتَ معنا؟ قال: نعم. قال: فإنَّ الله قد غفر لك ذنبك [2]، فدلَّ هذا على أن مَن تاب قبل القُدرة عليه يسقط عنه الحدُّ.

وقوله: "أصبتُ حدًّا" قيل: إنه يريد الزنا. وقيل: يريد ما دون ذلك. لكن الرجل أعلن توبته قبل القُدرة عليه، فالنبي عليه الصلاة والسلام أخبره أن الله تعالى قد غفر له.

والتائب يُعامَل معاملةً خاصةً، سواء من جهة إقامة الحدِّ عليه، أو من جهة الفتوى، لكن من جهة إقامة الحدِّ عليه إذا تاب قبل القُدرة عليه، لا بد من هذا القيد: إذا تاب قبل القُدرة عليه فإنه يسقط عنه الحدُّ: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ، وهذا -كما ذكرنا- لا يختص بالحِرَابة، بل يشمل الحِرَابة وبقية الحدود.

أحكام دفع الصَّائل

ثم عقد المُصنِّف رحمه الله فصلًا في أحكام دفع الصَّائل.

قتل الصَّائل إن لم يندفع بالأسهل

قال:

ومَن أُرِيد بأذًى في نفسه أو ماله أو حريمه فله دفعه بالأسهل فالأسهل، فإن لم يندفع إلا بالقتل قتله ولا شيء عليه.

هذا هو الذي يُسميه الفقهاء: دفع الصَّائل.

لو اعتدى إنسانٌ على آخر فيدفعه بالأسهل فالأسهل، فإن لم يندفع إلا بالقتل فله أن يقتله، ودم المقتول هدرٌ أمام الله ، وأمام القضاء إذا أثبت ذلك فدمه هدرٌ، لكن بشرط الإثبات.

يجب على الرجل أن يدفع عن حريمه وحريم غيره

ويجب أن يدفع عن حريمه وحريم غيره، وكذا في غير الفتنة عن نفسه ونفس غيره وماله، لا مال نفسه.

يعني: إذا صال إنسانٌ على آخر فيجب عليه أن يُدافع عن عِرْضِه، وعن عِرْض محارمه، ولا يجوز له أن يستسلم.

أتى إنسانٌ وقال: أريد أن أفعل فيك الفاحشة، أو أفعل في محارمك. في زوجته، في أخته، في أمه، لا يجوز له أن يستسلم، بل يجب عليه أن يدفع هذا الصَّائل ولو بقتله، إذا لم يندفع إلا بالقتل دفعه، فالدفاع عن العِرْض واجبٌ.

حكم دفع الإنسان عن نفسه في الفتنة وغيرها

هكذا الدفاع عن نفسه، يجب عليه أن يُدافع عن نفسه ولا يستسلم.

قال: "في غير الفتنة" يعني: في حال الفتنة لا يجب الدفاع عن النفس، وإنما يجوز، وقد دلَّ على ذلك عدة أحاديث، منها حديث خالد بن عُرْفُطَة  قال: قال لي رسول الله : يا خالد، إنها ستكون بعدي أحداثٌ وفتنٌ واختلافٌ، فإن استطعتَ أن تكون عبدالله المقتول لا القاتل فافعل [3].

وأيضًا جاء في حديث أبي ذرٍّ  لما تكلَّم النبي عن الفتن قال: تلزم بيتك، قلتُ: فإن دُخِلَ عليَّ بيتي؟ قال: فإن خشيتَ أن يَبْهَرَك شعاع السيف فَأَلْقِ ثوبك على وجهك يَبُوء بإثمك وإثمه [4].

وأيضًا جاء في حديث أبي موسى: فَلْيَكُنْ كخير ابْنَيْ آدم [5] يعني: المقتول، وليس القاتل.

كذلك جاء في حديث خَبَّابٍ : فإن أدركتَ ذاك فَكُنْ عبدالله المقتول، ولا تكن عبدالله القاتل [6].

عثمان أيضًا لما حُوصِرَ لم يُدافع عن نفسه؛ دَرْأً للفتنة.

هذه الأحاديث وإن كان بعضها في سنده مقالٌ، لكنها بمجموعها تدل على هذا المعنى، وهو: أن الإنسان لا يجب عليه أن يُدافع عن نفسه حال الفتنة، وإنما يجوز.

حكم دفع الإنسان عن ماله ومال غيره

أما الدفاع عن المال فلا يجب بالإجماع، لكنه يجوز، ويدل على ذلك حديث أبي هريرة قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، أرأيتَ إن جاء رجلٌ يريد أَخْذ مالي؟ قال: فلا تُعْطِهِ مالك، قال: أرأيتَ إن قاتلني؟ قال: قَاتِلْهُ، قال: أرأيتَ إن قتلني؟ قال: فأنت شهيدٌ، قال: أرأيتَ إن قتلتُه؟ قال: هو في النار [7].

الدفاع عن المال جائزٌ، ليس واجبًا، فلو أتى شخصٌ وأشهر السلاح في وجهك وقال: أعطني ما في جيبك. يجوز أن تُعطيه ما في جيبك وتَسْلَم، ولا يجب عليك أن تُدافعه، بل ربما يكون هذا هو الحكمة: أنك تتقي شرَّه بإعطائه المال الذي بيدك، لكن مع ذلك لو أردتَ أن تتمسك بحقِّك شرعًا وتقول: لا، لن أُعطيك مالي. وتُدافع عن نفسك؛ فلا بأس، فإن قتلتَه فهو في النار، وإن قتلك فأنت شهيدٌ، لكن الحكمة تقتضي أنك تَدْرَأ عن نفسك بإعطائه هذا المال.

إذن نَخْلُص من هذا إلى أن الدفاع عن المال جائزٌ، وليس واجبًا، وأن الدفاع عن العِرْض واجبٌ مطلقًا، وأن الدفاع عن النفس واجبٌ إلا في حال الفتنة فجائزٌ، وليس واجبًا.

دفع الصَّائل يكون بالأسهل فالأسهل

لو صال عليك أحدٌ ومعك -مثلًا- سلاحٌ ناريٌّ فلا تستعجل وتقتله؛ لأنك لو قتلتَه مُطالَبٌ بإثبات البينة بأنه قد صال عليك، لكن ربما تُطْلِق النار على رجليه -مثلًا- وتعوق حركته حتى تتقي شرَّه، لكن إذا قتلتَه فيما بينك وبين الله ليس عليك شيءٌ، لكن قضاءً لا بد أن تُثْبِت بالبينة أن هذا المقتول قد صال عليك، وإلا فإنك تُقاد به.

وكم من مقتولٍ قُتِلَ قِصَاصًا وهو إنما قَتَلَ هذا الذي قَتله دفاعًا عن نفسه، لكنه عجز عن إقامة البينة التي تُثْبِت ذلك.

وهذه -في الحقيقة- من المسائل المُعْضِلة.

يقول بعض الناس: كيف؟! أنا أريد أن أُدافع عن نفسي، أريد أن أُدافع عن عِرْضِي، فإذا قتلتُ هذا الصَّائل أُقاد به!

نقول: إذا استطعتَ أن تُثْبِت ذلك لا تُقاد به، لكن إذا لم تستطع تُقاد به؛ لأنه لو فُتِحَ هذا الباب لادَّعى كل قاتلٍ أن المقتول قد صال عليه، وبذلك يُدْرَأ حدّ القصاص، ولا يمكن أن يُقام القصاص أبدًا؛ ولذلك لا بد من إقامة البينة على أن المقتول صال على القاتل.

لكن الإمام ابن تيمية رحمه الله ذكر قولًا له وجاهته وقوته، قال: إن دلَّت القرائن على أن المقتول كان صائلًا، وأن القاتل دافع عن نفسه، فإنه يُدْرَأ القتل عن القاتل، كأن يكون المقتول مشهورًا بالإجرام وبالسوابق، أو يكون من أصحاب المخدرات ونحو ذلك، والذي قتله معروفٌ بالصلاح والعلم والفضل، وليست له سوابق، وذكر هذا الذي قتله أن هذا المقتول قد صال عليه، ولم يجد وسيلةً لدفع هذه الصيالة إلا بقتله؛ فَيُدْرَأ ذلك، يُدْرَأ عنه القصاص.

وهذا قولٌ قويٌّ، خاصةً أنه في وقتنا الحاضر ربما يُقوِّي ذلك ما وُجِدَ من البصمات والصور و(الكاميرا) ونحو ذلك من القرائن التي يمكن أن تُقوِّي صدق هذا القاتل بأن المقتول قد صال عليه.

لا يلزم الإنسان أن يحفظ ماله عن الضياع والهلاك

قال:

ولا يلزمه حفظه عن الضياع والهلاك.

"لا يلزمه حفظه" يعني: حفظ المال، يعني: لا يلزم الإنسان أن يحفظ ماله عن الضياع والهلاك؛ لأنه لا يجب الدفاع عنه أصلًا.

وقال بعض العلماء: بل يلزمه؛ لأن عدم حفظه يدخل في إضاعة المال، والنبي نهى عن إضاعة المال.

وهذا هو القول الراجح: أنه يلزمه أن يحفظ ماله عن الهلاك والضياع، وإلا دخل ذلك في إضاعة المال المنهي عنها شرعًا.

بهذا نكون قد انتهينا من هذا الباب.

باب قتال البُغَاة

ننتقل بعد ذلك إلى:

باب قتال البُغاة.

تعريف البُغاة

البُغاة جمع بَاغٍ، من البَغْي، والبَغْي معناه: الجور والظلم والعدول عن الحقِّ.

وعرَّف المؤلف البُغاة فقال:

وهم الخارجون على الإمام بتأويلٍ سائغٍ، ولهم شوكةٌ.

فلا بد من هذه القيود التي ذكرها المُصنِّف؛ ولهذا قال:

فإن اختلَّ شرطٌ من ذلك فَقُطَّاع طريقٍ.

فلا بد -أولًا- أن يخرجوا على الإمام بتأويلٍ، فإن كان بغير تأويلٍ فهم قُطَّاع طريقٍ.

أيضًا لا بد أن يكون التأويل سائغًا، فإن كان غير سائغٍ وبعيدًا فقُطَّاع طريقٍ.

أيضًا لا بد أن تكون لهم شوكةٌ وقوةٌ ومنعةٌ، فإن لم يكونوا كذلك فهم قُطَّاع طريقٍ.

وذكر الله تعالى البُغاة في قوله: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9].

قال عليه الصلاة والسلام: مَن أتاكم وأمركم جميعٌ على رجلٍ واحدٍ يريد أن يشقَّ عصاكم أو يُفرِّق جماعتكم فاقتلوه [8]، وجاء في روايةٍ: كائنًا مَن كان [9].

حكم نَصْب الإمام والخليفة

ثم استطرد المُصنِّف رحمه الله وذكر شروط الإمام وحكم نَصْب الإمام، وهذه يذكرها بعض العلماء في كتب العقائد، لكن يذكرها بعض الفقهاء في هذا الباب.

قال:

ونَصْب الإمام فرض كفايةٍ.

لا بد أن يكون للناس إمامٌ وقائدٌ يقودهم؛ وذلك لحماية البَيْضَة، والذَّبِّ عن الأمة، وإقامة الحدود، واستيفاء الحقوق، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المُنكر، وأيضًا حتى يَسْتَتِبَّ الأمن؛ لأنهم إذا لم يكن لهم إمامٌ فالقوي يعتدي على الضعيف.

لا بد إذن من نَصْب الإمام، فَنَصْبُه من فروض الكفاية، وهذا المعنى عُنِيَتْ به الشريعة الإسلامية، حتى إن النبي أمر الثلاثة إذا خرجوا في سفرٍ أن يُؤَمِّروا أحدهم، قال: إذا خرج ثلاثةٌ في سفرٍ فَلْيُؤَمِّروا أحدهم [10].

وذكر ابن تيمية: أن هذا فيه تنبيهٌ على سائر أنواع الاجتماع، يعني: كون النبي عليه الصلاة والسلام يقول: إذا خرج ثلاثةٌ في سفرٍ فَلْيُؤَمِّروا أحدهم، وهو اجتماعٌ قليلٌ عارضٌ، فهذا فيه تنبيهٌ على فعل ذلك في غيره من الاجتماعات.

فإذا كان -مثلًا- أناسٌ يُعلِّمون ينبغي أن يُؤَمِّروا أحدهم، والمدرسة لا بد أن يكون لها مديرٌ أو قائدٌ، والدائرة الحكومية يكون لها مديرٌ، وهكذا أيضًا الدولة لا بد أن يكون لها إمامٌ، فَنَصْب الإمام من فروض الكفاية.

شروط الإمامة

ثم ذكر المُصنِّف شروط ذلك فقال:

يُعتبر كونه قرشيًّا.

يعني: من قريشٍ، وقد جاء في ذلك حديث معاوية: إن هذا الأمر في قريشٍ، لا يُعاديهم أحدٌ إلا كَبَّهُ اللهُ على وجهه ما أقاموا الدين [11]، وأيضًا لحديث: الأئمة من قريشٍ [12]، وإن كان في سنده مقالٌ.

وهذا الشرط قد تُرِكَ العمل به من زمنٍ طويلٍ، وأيضًا خرجت الخلافة من آل بيت النبي بعد وفاته مباشرةً إلى أبي بكر الصديق.

قال ابن القيم: "السر -والله أعلم- في خروج الخلافة عن أهل بيت النبي إلى أبي بكر وعمر وعثمان: أن عليًّا لو تولَّى الخلافة بعد موته لأوشك أن يقول المُبْطِلون على النبي : إنه مَلِكٌ ورَّث مُلْكَه أهل بيته. فصان الله منصب رسالته ونبوته عن هذه الشُّبْهَة".

بالغًا، عاقلًا.

لأن غير البالغ وغير العاقل يحتاج إلى مَن يَلِي أمره، فكيف يتولى أمر غيره؟!

سميعًا، بصيرًا، ناطقًا.

لأن غير السميع وغير البصير وغير الناطق ليس مُؤهلًا لأن يتولَّى هذا المنصب.

حُرًّا.

فالعبد لا يصح أن يُولَّى على المسلمين، والرقيق لسيده ولايةٌ عليه.

ذكرًا.

هذا هو الشرط السادس، فالمرأة لا تَلِي الولاية العُظْمَى؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: لن يُفْلِح قومٌ وَلَّوْا أمرهم امرأة [13].

عَدْلًا.

لأن العدالة تُشترط في ولاية القضاء، فمن باب أَوْلَى في الولاية العامة، إلا أن يَقْهَر الناسَ غيرُ عَدْلٍ، فتجب طاعته، كما سيأتي.

عالِمًا.

يعني: بالأحكام الشرعية، لكن يمكن أن يستعين بغيره من العلماء والمُستشارين فيما يجهله.

ذا بصيرةٍ.

يعني: ذا رأيٍ سديدٍ وعقلٍ وحكمةٍ.

كافيًا ابتداءً ودوامًا.

يعني: قائمًا بأمر الأُمة ومصالحها في ابتداء ذلك، وعلى سبيل الدوام.

هذه الشروط إن لم تتوفر أو بعضها أو وَلِيَ المسلمين مَن وَلِيَ قهرًا فتجب طاعته، ولا تجوز مُنازعته؛ لقول النبي : اسمعوا وأطيعوا، وإن استُعْمِلَ عليكم عبدٌ حبشيٌّ كأن رأسه زبيبةٌ [14].

فالعبرة بالمنصب الذي وَلَّاه الله تعالى إياه، هذا المنصب هو أنه أصبح إمامًا للمسلمين تجب طاعته، بِغَضِّ النظر عن لونه وشكله ونسبه؛ لأن اجتماع الناس عليه فيه مصلحةٌ عامةٌ عظيمةٌ؛ فيه دَرْءٌ للفتن، وفيه استتبابٌ للأمن، وفيه مصالح عظيمةٌ للبلاد والعباد.

والأدلة الدالة على وجوب طاعة ولي الأمر مُستفيضةٌ ومُشتهرةٌ، الأدلة من الكتاب والسُّنة.

وقد غلَّظ النبي في هذه المسألة، وأَبْدَى وأعاد وحسمها عليه الصلاة والسلام بوجوب طاعة ولي الأمر، وعدم الخروج عليه، وعدم مُنازعته: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59].

لا ينعزل الإمام بفسقه

قال:

ولا ينعزل بفسقه.

لقوله عليه الصلاة والسلام كما في حديث عُبادة: إلا أن تَرَوا كفرًا بَوَاحًا عندكم من الله فيه برهانٌ [15].

وهذا بخلاف القاضي، فإن القاضي ينعزل بفسقه.

والولاية والمُلْك يُؤتيهما الله مَن يشاء: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26].

لا تُنال الولاية بالذكاء، ولا بالعقل، ولا بالنسب، ولا بالمال، إنما هي شيءٌ يُؤتيه الله تعالى مَن يشاء من عباده: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ.

المؤلف بعد هذا الاستطراد رجع للكلام عن أحكام البَغْي.

تلزم الإمام مُراسلة البُغاة

وتلزمه.

يعني: تلزم الإمام.

مُراسَلة البُغاة، وإزالة شُبَههم وما يدَّعونه من مظالم.

فيُراسِل الإمامُ البُغاةَ، أو يُرسل لهم العلماء؛ لمناقشتهم وإزالة ما لديهم من شُبَهٍ وما يدَّعونه من مظالم؛ لأن الغالب أن البُغاة يُبَرِّرون بَغْيَهم وخروجهم بوجود الظُّلم.

وعليٌّ أرسل ابن عباسٍ إلى الخوارج وحاورهم وناقشهم وفنَّد شُبَههم، ورجع منهم أربعة آلافٍ، وأصرَّ البقية على موقفهم، فقاتلهم عليٌّ .

يلزم الإمام قتال البُغاة إن لم يرجعوا بعد مُراسلتهم

قال:

فإن رجعوا وإلا لزمه قتالهم.

يعني: إذا راسلهم أو أرسل إليهم العلماء، فإن لم يرجعوا فإنه يُقاتلهم: فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات:9].

يجب على رعية الإمام معونته

ويجب على رعيته معونته.

والأصل في هذا قول الله : وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9].

قوله: فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي هذا أمرٌ للإمام وللرعية أيضًا.

حكم قتال البُغاة إذا تركوا القتال

قال المُصنِّف رحمه الله:

وإذا ترك البُغاةُ القتالَ حَرُمَ قتلهم وقتل مُدْبِرهم وجريحهم.

يعني: هم مسلمون، فإذا تركوا القتال لا يجوز قتلهم، ولا يجوز قتل مُدْبِرهم، وكذلك قتل جريحهم، فالأصل أنهم مسلمون ودماؤهم معصومةٌ، لا يُتبع المُدْبِر منهم، ولا يُجْهَز على جريحهم، وإنما يُقاتلون للضَّرورة فقط.

قال:

ولا يُغْنَم مالهم، ولا تُسْبَى ذراريهم.

لأنهم مسلمون، فأموالهم ليست كالكفار، لا تُغْنَم، ولا تُسْبَى ذراريهم؛ لأن ذراريهم من المسلمين، وإنما قتالهم للضَّرورة؛ لأجل ردِّهم إلى الطاعة.

قال:

ويجب ردّ ذلك إليهم.

يعني: إذا فرغ الإمام من قتالهم وجب عليه أن يَرُدَّ إليهم أموالهم وذراريهم.

وهذا يدل على عظمة هذه الشريعة وحرصها على إقامة العدل والإنصاف بين جميع الطوائف، العدل حتى مع الكفار، ومع البُغاة: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8]، يعني: نجد أن النصوص كثيرةٌ في وجوب تحرِّي العدل مع الجميع: مع الكفار، مع الأعداء، مع البُغاة، مع الجميع، وعلى العدل قامت السماوات والأرض، وهذه الشريعة هي شريعة العدل.

ولا يضمن البُغاة ما أتلفوه حال الحرب.

وذلك لأنهم إنما قاتلوا بتأويلٍ سائغٍ فلا يضمنون التَّلف، والمأذون غير مضمونٍ.

قبول شهادة البُغاة

وهم في شهادتهم وإمضاء حكم حاكمهم كأهل العدل.

لأن التأويل الذي له مساغٌ في الشرع لا يُوجِب تفسيق قائله والذاهب إليه، فهم في ذلك كأهل العدل.

باب حكم المُرتد

ننتقل بعد ذلك إلى:

باب حكم المُرتد.

تعريف الردة

المُرتد معناه في اللغة: هذه المادة تدل على معنى: الرجوع، فالمُرتد: الراجع: وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ [المائدة:21] يعني: لا ترجعوا.

ومعنى المُرتد اصطلاحًا: عرَّفه المُصنِّف رحمه الله فقال: وهو مَن كَفَرَ بعد إسلامه.

يعني: كان مسلمًا فَكَفَرَ، فهذا يُسمى: مُرتدًّا.

الأمور التي يكفر بها

ويحصل الكفر بأحد أربعة أمورٍ.

الكفر أو الردة تحصل بأحد أربعة أمورٍ، وبهذا يتبين خطأ قول مَن قال: إن الكفر ينحصر في الاعتقاد والاستحلال القلبي.

وهذا قول المُرجئة، يقولون: حتى لو سجد للصنم فإنه لا يَكْفُر حتى نجزم بأنه قد استحلَّ ذلك واعتقد ذلك.

هذا قول المُرجئة، وهو قولٌ باطلٌ، والذي عليه علماء أهل السُّنة: أن الكفر يحصل بأحد أربعة أمورٍ.

الكفر بالقول

قال:

بالقول.

الأمر الأول: بالقول، ومثَّل المُصنِّف له بأمثلةٍ:

كَسَبِّ الله تعالى أو رسوله أو ملائكته، أو ادَّعى النبوة أو الشَّرِكَة له تعالى.

يعني: الردة تكون بالقول؛ كأن ينطق بكلمة الكفر، أو يَسُبّ الله، أو يَسُبّ رسول الله ، أو يَسُبّ الدين، أو يَسُبّ الملائكة، أو يدَّعي أنه نبيٌّ، أو يدَّعي أن لله شريكًا، ونحو ذلك.

أو يأتي بأي كلمةٍ كفريةٍ، فإنه يكون بذلك مُرتدًّا.

الكفر بالفعل

الأمر الثاني مما تحصل به الردة: الفعل.

قال:

وبالفعل.

ومثَّل له المُصنف:

كالسجود للصنم ونحوه، وكإلقاء المصحف في قاذورةٍ.

يعني: إذا سجد للصنم أو سجد لغير الله عمومًا فقد كفر.

أو أهان المصحف بأن ألقاه في قاذورةٍ، أو وضع عليه قَذَرًا، أو بال عليه فإنه يكفر، كما يفعل ذلك بعض أهل الشعوذة والسَّحرة، فحتى تخدمهم الشياطين تريد منهم أن يُهِينوا المصحف، فيضع على المصحف القذر، أو يرميه في المرحاض، أو يُهينه بأية صورةٍ حتى تخدمه الشياطين؛ لأن الشياطين تريد منه أن يقع في الكفر أولًا ثم تخدمه بعد ذلك.

الكفر بالاعتقاد

وبالاعتقاد.

يعني: هذا الأمر الثالث الذي تحصل به الردة: بالاعتقاد.

كاعتقاد الشَّريك له تعالى، أو أن الزنا أو الخمر حلالٌ، أو أن الخبز حرامٌ.

الاعتقاد المُستقر هذا تحصل به الردة؛ كأن يعتقد أن لله شريكًا، ويستقر ذلك ويَسْتَمْرِؤه، فإنه يكفر.

أو استحلَّ أمرًا من المعلوم تحريمه من الدين بالضرورة؛ كأن يستحلّ الزنا أو الخمر، قال: الزنا حلالٌ، أو قال: الخمر حلالٌ، أو قال: الربا حلالٌ؛ فإنه يَكْفُر.

أو حرَّم أمرًا من المعلوم تحليله بالضرورة؛ كأن يقول: الخبز حرامٌ، أو شرب الماء حرامٌ؛ فإنه يَكْفُر بذلك.

قال:

ونحو ذلك مما أُجْمِعَ عليه إجماعًا قطعيًّا.

يعني: لو أنكر أمرًا أُجْمِعَ عليه إجماعًا قطعيًّا فإنه يكفر؛ كأن يقول: الصلاة غير واجبةٍ، أو صيام رمضان غير واجبٍ، أو حجّ البيت غير واجبٍ، أو الزكاة غير واجبةٍ -مثلًا- فإنه يَكْفُر.

الكفر بالشك

وبالشك في شيءٍ من ذلك.

هذا هو الأمر الرابع مما يحصل به الردة والكفر: الشك.

المقصود بالشك: الشك المُستقر في القلب الذي يعتقده صاحبه؛ كأن يشك في وجود الله، أو أن يشكَّ في وحدانيته، ولا يدفع ذلك، ويرتضيه ويستقر لديه، فإن هذا كفرٌ، وتحصل به الردة.

أما العوارض التي تَعْرِض للإنسان في هذا الباب، لكنها لا تستقر، بل يدفعها الإنسان، فهذه لا تضره؛ لقول النبي : إن الله تجاوز لأُمتي ما حدَّثتْ به أَنْفُسَها ما لم تَعْمَل أو تَتكلَّم [16]، بل إن هذه ربما تكون دليلًا على قوة الإيمان؛ فقد جاء نفرٌ من الصحابة إلى النبي فقالوا: يا رسول الله، إنَّا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به. قال: وقد وجَدْتُموه؟ قالوا: نعم. قال: ذاك صريح الإيمان [17] رواه مسلمٌ، أي: أن مُدافعة ذلك دليلٌ على قوة الإيمان.

ولكن إذا أتتْ هذه الوساوس للمسلم فعليه أن يدفعها، وأن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم وليَنْتَهِ، كما جاء في بعض الروايات: وليَنْتَهِ [18]، يعني: لا يُفكر فيها، يقطع التَّفكير فيها ويتجاهلها.

وجاء في روايةٍ أنه يقول: آمنتُ بالله وبرسله [19] كما جاء عند ابن حبان.

وجاء في روايةٍ أنه يقرأ سورة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص] [20].

إذن إذا أتتْ هذه الوساوس للمسلم عليه أن يدفعها، وأن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وأن ينتهي ويُعْرِض عنها، وإذا قال: آمنتُ بالله ورسله، أو قرأ سورة الإخلاص؛ كان حسنًا.

علم بعض اليهود أن بعض الصحابة يأتيهم ذلك، فأتوا ابن عباسٍ وقالوا: لا نجد نحن هذا الشيء، فنحن أفضل منكم. قال ابن عباسٍ: "وماذا يفعل الشيطان بالبيت الخَرِب؟!" يعني: الشيطان لا يأتي بهذه الوساوس إلا للبيت العامر بذكر الله وبطاعة الله .

مسألة التَّكفير من المسائل الكبيرة والمهمة، وينبغي عدم التَّسرع فيها، ولا يُكفِّر إلا العلماء، وبعد إقامة الحُجة على ذلك الشخص الذي وقع في الكفر، ولا يعلم ذلك إلا العلماء؛ لأن المسألة إذا كانت اجتهاديةً أو خلافيةً فإن مَن أنكرها لا يكفر، وأيضًا إذا لم تقُم عليه الحُجة فإنه لا يكفر.

وهناك شروطٌ ثقيلةٌ للحكم بالردة والحكم بالكفر، فينبغي عدم التَّعجل في ذلك، وأن يُوكل هذا الأمر إلى العلماء.

حكم استتابة المُرتد

قال:

فمَن ارتدَّ وهو مُكلَّفٌ مُختارٌ استُتِيب ثلاثة أيامٍ وجوبًا، فإن تاب فلا شيء عليه.

يعني: إذا وقع في الردة بأمرٍ من الأمور الأربعة السابقة، وهو مُكلَّفٌ مُختارٌ، يعني: غير مُكْرَهٍ، عاقلٌ، بالغٌ، فإنه يُستدعى وتُعْرَض عليه التوبة ثلاثة أيامٍ، فإن تاب فإنه يُترك ويُخلَّى سبيله.

وقد رُوِيَ أن رجلًا في عهد عمر ارتدَّ فَضُرِبَتْ عنقه، كما جاء في "موطأ" الإمام مالك، فقال عمر: "أفلا حبستُموه ثلاثًا وأطعمتُموه كل يومٍ رغيفًا واستَتَبْتُموه؟ لعله أن يتوب"، ثم قال عمر: "اللهم إني لم أحضر، ولم آمُرْ، ولم أَرْضَ إذ بلغني".

بقاء عمل المُرتد قبل الردة إذا تاب

قال:

ولا يحبط عمله.

لأن حُبُوط العمل بالردة إنما يكون بالموت؛ لقول الله : وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ [البقرة:217].

إذن لا يحبط العمل بالردة إلا إذا مات مُرتدًّا، أما إذا تاب قبل أن يموت فإن عمله لا يحبط.

فمثلًا: لو كان قد حجَّ، ثم ارتدَّ، ثم تاب من الردة، لا يلزمه أن يحجَّ مرةً أخرى؛ لأن عمله السابق لم يحبط، فالعمل لا يحبط إلا بالموت، العمل لا يحبط بالردة إلا بالموت: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ.

قَتْل المُرتد إن لم يَتُبْ وذلك للإمام وليس لغيره

قال:

وإن أَصَرَّ قُتِلَ بالسيف.

يعني: إذا استُتِيبَ المُرتد ثلاثة أيامٍ فَأَصَرَّ على ردَّته فإنه يُقْتَل بالسيف؛ لقول النبي : مَن بدَّل دينه فاقتلوه [21].

والغالب أنه يتوب، لا يمكن لإنسانٍ عاقلٍ يُقال له: إما أن تتوب وإلا ضربنا عنقك بالسيف، أن يُصرَّ على ردَّته ثلاثة أيامٍ حتى يُضرب عنقه بالسيف، لم يوجد هذا في التاريخ الإسلامي، لم يوجد ذلك فيما نعلم.

ما دام أن هذا الإنسان عاقلٌ فسيتوب على الأقل ولو في الظاهر؛ لكي يتخلص من القتل.

ولا يقتله إلا الإمام أو نائبه.

لأن الإمام هو الذي يُقيم الحدود؛ ولأن القتل حقٌّ لله، ويحتاج إلى مزيدٍ من التَّثبت والاستتابة، فلا يُترك لعامة الناس، إنما هو خاصٌّ بالإمام أو مَن يُنِيبه الإمام.

فإن قتله غيرهما بلا إذنٍ أساء وعُزِّر، ولا ضمان، ولو كان قبل استتابته.

لو أن أحدًا وقع في الردة، فغضب أحد الناس واستعجل وقتله، فهذا التَّصرف افتِئَاتٌ على الإمام، فيُعزَّر بعقوبةٍ مناسبةٍ، لكن ليس عليه قصاصٌ ولا ديةٌ؛ لأنه لمَّا أظهر هذا المُرتد رِدَّته وجب قتله، فهو مُستحقٌّ للقتل، لكن هذا الذي افتَأَتَ على الإمام يُعزَّر بالعقوبة المناسبة؛ لافتِئَاته على الإمام.

صحة إسلام المُميِّز

قال:

ويصح إسلام المُميِّز.

يعني: المُميِّز القلم مرفوعٌ عنه، لكن مع ذلك يصح إسلامه، وقد أسلم عددٌ من الصحابة وهم صغارٌ: كعليِّ بن أبي طالبٍ، أول مَن أسلم من الصبيان.

وردّته.

يعني: كما يكون الإسلام من الصبي، فكذلك الردة تكون من الصبي.

لكن لا يُقْتَل حتى يُستتاب بعد بلوغه ثلاثة أيامٍ.

يعني: لو ارتدَّ الصبي المُميِّز فإنه لا يُقْتَل حتى يبلغ، وبعد بلوغه يُستتاب ثلاثة أيامٍ، فإن تاب وإلا قُتِلَ.

كيفية توبة المُرتد

ثم عقد المُصنِّف فصلًا في بيان كيفية توبة المُرتد.

قال:

وتوبةُ المُرتد وكل كافرٍ إتيانُه بالشهادتين مع رجوعه عما كَفَرَ به.

يعني: توبة المُرتد والكافر تكون بأمرين:

الأمر الأول: إتيانه بالشهادتين.

فَيُلَقَّن الشهادتين إن كان كافرًا أصليًّا: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.

وكذلك المُرتد إذا رجع وتاب لا بد أن يعلن رجوعه عمَّا ارتدَّ لأجله.

والكافر الأصلي لا بد أن يتبرأ من الكفر وأهله، أما إذا أعلن إسلامه ولم يتبرأ من الكفر فلا يكون مسلمًا، فبعض الناس قد يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، ولكن لا يتبرأ من الكفر، يستمر في دينه السابق، هذا لا يُعتبر مسلمًا.

وأبو طالبٍ كان يقول:

ولقد عَلِمْتُ بأنَّ دينَ مُحمدٍ من خير أديان البرية دينَا
لولا المَلَامَةُ أو حِذَارُ مَسَبَّةٍ لوجدتني سَمْحًا بذاك مُبِينَا

فكان يعتقد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأن الله الخالق، الرازق، المُدبِّر، ويقول ذلك:

ولقد علمتُ بأنَّ دين مُحمدٍ من خير أديان البرية دينَا

 هل أسلم بذلك؟

لا، لماذا؟

لأنه لم يتبرأ من الكفر، لم يتبرأ من عبادة الأصنام، فلا يصح الإسلام إلا بالكفر بالطاغوت، لا بد من الكفر بالطاغوت، فهذا الذي أسلم لا بد أن يتبرأ من دينه السابق، وإلا فإنه لا يكون مسلمًا: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [البقرة:256].

يوجد في بعض الطوائف -يعني: من غير المسلمين- مَن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، لكنه مستمرٌّ على دينه، لم يتبرأ من دينه، وهذا لا يصلح أن يكون مسلمًا ونصرانيًّا، لا يمكن هذا، أو مسلمًا وهندوسيًّا في الوقت نفسه، لا بد أن يتبرأ من دينه السابق حتى يكون مسلمًا.

لا تُغْنِي الشهادة بالرسالة عن كلمة التوحيد

ولا يُغني قوله: "محمدٌ رسول الله" عن كلمة التوحيد.

يعني: النُّطق بشهادة "أن محمدًا رسول الله" لا يُغني عن قول: أشهد أن لا إله إلا الله.

وقوله: "أنا مسلمٌ" توبةٌ.

يعني: إذا قال الكافر أو المُرتد: "أنا مسلمٌ" يُعتبر هذا توبةً ودخولًا في الإسلام؛ لأن هذا يتضمن الشهادتين.

وجاء في حديث المقداد قال: يا رسول الله، أرأيتَ إن لقيتُ رجلًا من الكفار فاقتتلنا، فضرب إحدى يديَّ بالسيف فقطعها، ثم لَاذَ مني بشجرةٍ فقال: أسلمتُ لله، أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ قال: لا تقتله، فإن قتلتَه فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال [22] متفقٌ عليه.

مع أنه قال: أسلمتُ لله، ولم يقل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.

هذا يدل على أن كلمة: "أسلمتُ لله" كافيةٌ في الدخول في الإسلام.

وجاء في حديث عمران بن حُصينٍ قال: أصاب المسلمون رجلًا من بني عُقَيلٍ، فأتوا به النبيَّ ، فقال: إني مُسلمٌ. فقال رسول الله : لو قُلتَها وأنت تملك أمرك أفلحتَ كل الفلاح [23].

وعلَّق على هذا المُوفَّق فقال: "يحتمل أن هذا في الكافر الأصلي أو مَن جحد الوحدانية، أما مَن كفر بجحد نبيٍّ أو كتابٍ أو فريضةٍ فلا يصير مسلمًا بذلك؛ لأنه ربما اعتقد أن الإسلام ما هو عليه، فإن أهل البدع كلهم يعتقدون أنهم هم المسلمون، ومنهم مَن هو كافرٌ بذلك".

يعني: أن كلمة "أنا مسلمٌ" لا بد أن يرجع عمَّا كفر به، يرجع عمَّا كان سببًا لردته وكفره.

هل يُسلم الكافر بكتابته الشهادتين؟

وإن كتب كافرٌ الشهادتين صار مُسلمًا.

إذا كتب: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله" يكون مُسلمًا؛ لأن الكتابة كاللفظ.

وإن قال: أسلمتُ، أو: أنا مسلمٌ، أو: أنا مؤمنٌ؛ صار مسلمًا.

وإن لم يتلفظ بالشهادتين.

حكم توبة الزنديق في الدنيا والساحر والمُبتدع الدَّاعي إلى بدعته

ولا يُقْبَل في الدنيا بحسب الظاهر توبة زنديقٍ، وهو المُنافق الذي يُظْهِر الإسلام، ويُخْفِي الكفر.

الزنديق: هو المنافق الذي يُظهر الإسلام ويُبْطِن الكفر، ويكون له عداءٌ شديدٌ للإسلام والمسلمين.

يقول المُصنِّف: إنه في الظاهر -يعني: أمام القضاء- لا تُقْبَل توبته، لا تُقْبَل توبة الزنديق؛ لأن الظاهر من حاله أنه إنما أظهر التوبة لِيَسْتَدْفِعَ بها القتل.

هذا هو المذهب عند الحنابلة والحنفية.

القول الثاني: أن توبته تُقْبَل، وهذا مذهب الشافعية والمالكية، وهو القول الراجح؛ لقول الله عن المنافقين: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145]، ثم قال: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا .. [النساء:146]، والمنافق هو الزنديق، وهذا كالنص في المسألة.

ولأن النبي كفَّ عمَّن أظهر الإسلام من المنافقين.

ولقصة ابن مسعودٍ أنه جاء رجلٌ إلى ابن مسعودٍ فقال: إني مررتُ بمسجدٍ من مساجد بني حنيفة، فسمعتُهم يقرؤون شيئًا لم يُنزله الله: "والطاحنات طحنًا، والعاجنات عجنًا، والخابزات خبزًا، واللاقمات لقمًا"، الذي هو كلام مسيلمة الكذاب، فقال: فَقَدَّمَ ابنُ مسعودٍ ابنَ النَّواحة -إمامهم- فقتله؛ لأنه زنديقٌ، واستكثر البقية واستتابهم؛ لأنهم أتباعٌ.

فالقول الراجح إذن هو: قبول توبة الزنديق؛ لأن هذا هو مُقتضى الأصول والأدلة، أنه لا أحد يَحُول بين الإنسان وبين التوبة.

ولا مَن تكررت ردّته.

وهذا فيه الخلاف السابق، والراجح أن توبته تُقْبَل، ومَخْشِي بن حُمَيِّر الأشجعي كان من المنافقين وتاب وقُبِلَتْ توبته.

يعني: مَن ذهب لعدم قبول توبة الزنديق استدلَّ بقول الله : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا [النساء:137]، لكن الآية ليس فيها دليلٌ على ذلك؛ لأن قوله: ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا يدل على أنها نزلتْ فيمَن على الكفر ولم يرجع إلى الإسلام، وكلامنا فيمَن أظهر الإسلام وأظهر التوبة.

حكم مَن سبَّ الله تعالى أو رسوله

قال:

أو سبَّ الله تعالى.

يعني: لا تُقْبَل توبة مَن سبَّ الله في الظاهر، أما فيما بينه وبين الله فإنها تُقْبَل.

والقول الثاني: أنها تُقْبَل توبة مَن سبَّ الله ، وهذا هو القول الراجح، وهو مذهب الحنفية والشافعية؛ لأدلةٍ كثيرةٍ منها: قول الله : قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38]، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ۝ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [التوبة:65- 66].

فقوله: إِنْ نَعْفُ العفو لا يكون إلا بالتوبة، مع أنهم سَبُّوا الله تعالى واستهزؤوا بالله: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، هذا هو السّب لله ، فالاستهزاء بالله نوعٌ من السّب، ومع ذلك قال: إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ، والعفو لا يكون إلا بتوبةٍ، فدلَّ ذلك على قبول توبة مَن سبَّ الله .

فالقول الراجح إذن: أن مَن سبَّ الله تعالى وتاب فإنها تُقْبَل توبته ظاهرًا وباطنًا.

أو رسوله.

يعني: مَن سبَّ الرسول لا تُقبل توبته؛ لما في ذلك من الاستخفاف به.

والقول الثاني: أنها تُقبل، وهذا هو القول الراجح؛ لأنه إذا قُبِلَتْ توبة مَن سبَّ الله فقبول توبة مَن سبَّ رسوله من باب أَوْلَى.

بعض العلماء -كابن تيمية- قال: إنها تُقْبَل توبة مَن سبَّ الله، ولا تُقْبَل توبة مَن سبَّ رسوله؛ لأن الله أخبرنا بسقوط حقِّه لمَن تاب وأناب إليه، ولا ندري عن النبي أنه عفا أم لا؛ ولأن هذا حقّ آدمي، والعقوبة الواجبة لآدمي لا تسقط بالتوبة.

لكن هذا محل نظرٍ، فإذا قُبِلَت توبة مَن سبَّ الله -وهي أعظم جُرْمًا وذنبًا- فقبول توبة مَن سبَّ نبيّه من باب أَوْلَى؛ ولأن في عهد النبي عليه الصلاة والسلام وُجِدَ أناسٌ سَبُّوا النبي ، فلما تابوا قَبِلَ النبي منهم ذلك.

إذن أصول وقواعد الشريعة تدل على قبول توبة التائب أيًّا كان، والله تعالى لمَّا ذكر مَن وقع في الشرك، الذين قالوا: إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ [المائدة:73] وزعموا الولد لله، قال بعد ذلك: أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ [المائدة:74].

فالقول بأن الزنديق أو مَن سبَّ الله أو مَن سبَّ رسوله أو نحو ذلك أنها لا تُقْبَل توبته ليس عليه دليلٌ.

إنسانٌ أظهر التوبة، مَن تاب تاب الله عليه مهما فعل: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ، وهم قالوا كلامًا عظيمًا، افتروا افتراءً عظيمًا، قالوا: إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وزعموا الولد لله، ومع ذلك قال الله عنهم: أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ.

فالأظهر -والله أعلم- أن مَن تاب مهما عظم ذنبه وجُرْمه، مَن تاب تاب الله عليه، وتُقْبَل توبته ظاهرًا وباطنًا.

حكم مَن سَبَّ مَلَكًا أو قذف نبيًّا أو أُمَّه

قال:

أو مَلَكًا له، وكذا مَن قذف نبيًّا أو أُمَّه، ويُقْتَل حتى ولو كان كافرًا فأسلم.

يعني: مَن سبَّ مَلَكًا لله، أو تَنَقَّصه، أو قذف نبيًّا من الأنبياء، أو قذف أُمَّه، فإنها لا تُقْبَل توبته؛ لما في ذلك من القدح في النبوة المُوجِب للكفر، حتى ولو كان كافرًا أصليًّا ثم أسلم، فلا تُقْبَل توبته؛ لأن قتله حدٌّ، فلا يسقط بالتوبة.

ولكن يجري في هذا الخلاف السابق، والراجح قبول توبته، مَن فعل ذلك تُقْبل توبته، حتى ولو فعل ما ذكره المؤلف: سَبَّ مَلَكًا، أو قذف نبيًّا، مَن تاب تاب الله عليه في جميع الصور والمسائل، هذا هو القول الراجح.

وقول المُصنف: "حتى ولو كان كافرًا فأسلم"؛ لأن المؤلف يرى أن حدَّ القذف لا يسقط بالتوبة، والقول الراجح قبول توبة مَن تاب مهما كان جُرْمه، ومهما كان ذنبه.

لكن مع ذلك لو كان في بيئةٍ من البيئات، أو زمنٍ من الأزمنة، انتشر السبُّ لله أو للرسول عليه الصلاة والسلام ونحو ذلك، ورأى القُضاة الأخذ بالرأي الثاني في المسألة، وهو عدم قبول التوبة؛ فهذا مما يسوغ فيه الاجتهاد.

هنا يوجد تنبيهٌ في آخر "السلسبيل"، يعني: تنبيهٌ -في الحقيقة- مهمٌّ، وهو: أن بعض مَن يقع في سَبِّ الله وسَبِّ رسوله أو يدَّعي النبوة أو يأتي بضلالاتٍ، هؤلاء عندهم أمراضٌ نفسيةٌ؛ ولذلك ينبغي التَّثبت من ذلك، وأن يُتأكد من سلامة هذا الشخص من الناحية النفسية، ويُعْرَض على الأطباء المُتخصصين، هل عنده مشاكل نفسية؟

فإن كانت عنده مشاكل نفسيةٌ فإنه يُسْعَى في علاجه ومُداواته، ويُحكم عليه بالردة، فمن أعراض بعض الأمراض النَّفسية: وجود الضَّلالات، خاصةً الضَّلالات المُتعلقة بالذات الإلهية أو بالنبي عليه الصلاة والسلام، ونحو ذلك.

ولذلك تجد بعض الناس يُخرج مقطعًا يتكلم فيه بكلامٍ سيئٍ، ربما يكون فيه سَبٌّ لله أو لرسوله أو للإسلام أو نحو ذلك، لكن إذا سَبَرْتَ حاله وجدتَه مريضًا نفسيًّا، لكن لا تُقْبَل دعوى أنه مريضٌ نفسيٌّ من أي أحدٍ، وإنما لا بد أن يُثْبِت ذلك الأطباء المُتخصصون، فيُرجع في ذلك للطبيب النفسي المُختص: هل هذا مريضٌ نفسيٌّ أم سَوِيٌّ؟

فإن كان سَوِيًّا فإنه يُؤاخذ، أما إن كان مريضًا نفسيًّا فهذا يُسْعَى لعلاجه ومُداواته.

كثيرٌ ممن يدَّعون النبوة من المرضى النَّفسيين، كذلك كثيرٌ ممن يَسُبّ الله أو يَسُبّ رسوله أو ينتقص الإسلام أو نحو ذلك عنده ضلالات بسبب وضعهم النَّفسي وأمراضهم النَّفسية، فهؤلاء يُسْعَى لعلاجهم، لكن لا تُقْبَل دعوى ذلك إلا إذا أثبت الأطباء المتخصصون أن هؤلاء بالفعل من المرضى النَّفسيين.

بهذا نكون قد انتهينا من أحكام المُرتد، ونقف عند "كتاب الأطعمة".

والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

^1 رواه مسلم: 2699.
^2 رواه البخاري: 6823، ومسلم: 2764.
^3 رواه أحمد: 22499، والحاكم: 8791.
^4 رواه أبو داود: 4261، وابن ماجه: 3958.
^5 رواه أبو داود: 4259، وابن ماجه: 3961.
^6 رواه أحمد: 21064.
^7 رواه مسلم: 140.
^8, ^9 رواه مسلم: 1852.
^10 رواه أبو داود: 2608.
^11 رواه البخاري: 3500.
^12 رواه أحمد: 12307.
^13 رواه البخاري: 4425.
^14 رواه البخاري: 7142.
^15 رواه البخاري: 7056، ومسلم: 1709.
^16 رواه البخاري: 5269، ومسلم: 127.
^17 رواه مسلم: 132.
^18 رواه البخاري: 3276، ومسلم: 134.
^19 رواه ابن حبان: 1561.
^20 رواه أبو داود: 4722.
^21 رواه البخاري: 3017.
^22 رواه البخاري: 4019، ومسلم: 95.
^23 رواه مسلم: 1641.
zh