عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا هو المجلس الثاني في هذه الدورة، هذا اليوم العلمي في شرح حديث جابرٍ [1]، وكنا قد وصلنا إلى قول جابرٍ :
مشروعية العمرة في أشهر الحج
قال جابرٌ : لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة.
وقوله: “لسنا نعرف العمرة”، كيف الصحابة لا يعرفون العمرة؟!
مقصود جابرٍ “لسنا نعرف”: مشروعية العمرة في أشهر الحج، وإلا فالصحابة يعرفون العمرة ويعتمرون؛ وذلك لأن الناس في الجاهلية كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، فلم يكن العرب في الجاهلية يعرفون العمرة في أشهر الحج، ولهذا جاء في “صحيح مسلمٍ” عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: “كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور” [2].
انتبه لهذه الفائدة، هذه تَحُل لك إشكالاتٍ كثيرةً عندما تقرأ بعض الأحاديث الواردة في نوعي نسك الصحابة ومراجعتهم للنبي عليه الصلاة والسلام، فكانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، ويجعلون المُحَرَّم صفرًا، وهذا هو النَّسِيءُ الوارد في قول الله تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا [التوبة:37]، فكانوا -حتى لا تطول عليهم الأشهر الحرم- يجعلون صفرًا مكان محرَّمٍ، ومحرَّمًا مكان صفرٍ، ويقولون: “إذا برأ الدَّبَر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر؛ حلت العمرة لمن اعتمر” [3].
“إذا برأ الدَّبَر”: يقصدون الإبل التي يُحمل عليها، يكون فيها جروحٌ من أثر الحمل عليها وما يوضع عليها، فتحتاج إلى وقتٍ حتى تبرأ هذه الجروح.
“وعفا الأثر”: يعني عفا أثر هذه الجروح ولم يكن موجودًا.
“وانسلخ صفر”: الذي هو محرمٌ، يجعلونه صفرًا؛ “حلت العمرة لمن اعتمر”.
كان هذا اعتقاد الناس في الجاهلية، فأمرهم النبي بالعمرة في أشهر الحج، فتعاظموا ذلك، وقالوا: يا رسول الله، أي الحِلِّ؟ قال: الحِلُّ كله [4]، فكان عليه الصلاة والسلام أولًا في البداية خيَّرهم بين الأنساك الثلاثة: التمتع، والإفراد، والقِران، وحثهم على التمتع، ثم لما دنا من مكة؛ أكد عليهم -أكد على القارنين والمفردين- بأن يتمتعوا ويجعلوها عمرةً، إلا من ساق الهدي، فعَظُم ذلك عليهم، ثم بعدما سعوا بين الصفا والمروة؛ أمرهم أمر إلزامٍ: كل من كان مفردًا أو قارنًا ولم يسق الهدي أن يقلب نسكه إلى تمتعٍ، فقالوا: يا رسول الله، أي الحِلِّ؟ قال: الحِلُّ كله، قالوا: يا رسول الله، أنذهب إلى منًى ومذاكيرنا تقطر منيًّا؟! يقصدون بذلك يعني: أننا إذا كنا متمتعين وأتينا بعمرةٍ؛ حل لنا كل شيءٍ حتى وطء الزوجة، وكيف يكون هذا ونحن نذهب إلى منًى وهذا يحصل منا؟! فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: افعلوا ما آمركم به، قالوا: أي الحل؟ يعني ربما يكون هناك شيءٌ غير هذا الأمر، قال: الحِلُّ كله، وقالوا: يا رسول الله، أَلِعامِنا هذا، أم لأبد الأبد؟ قال: بل لأبد الأبد [5].
ولذلك فالقول الراجح المختار عند كثيرٍ من المحققين من أهل العلم: أن التمتع كان واجبًا في حق الصحابة ، خاصةً في حق من لم يَسُقِ الهدي، لكنه ليس بواجبٍ على غيرهم من الأمة؛ ولهذا قال أبو ذرٍ : “كانت المتعة لنا خاصةً”، كما في “صحيح مسلمٍ” [6]، وهذا القول اختاره الإمام ابن تيمية وجمعٌ من المحققين من أهل العلم، وبه تجتمع النصوص.
لو قرأت في “زاد المعاد”؛ تجد الأحاديث والروايات مختلفةً كثيرةً، لكن القول المرجح هو هذا: أن التمتع كان واجبًا على الصحابة فقط دون سائر الأمة، إلا من ساق الهدي يكون قارنًا.
وأراد النبي أن يطيِّب خواطرهم فقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت؛ لَمَا سُقت الهدي، ولجعلتها عمرةً [7]، يعني لو استقبلت من أمري ما استدبرت؛ لم أكن قارنًا، وإنما كنت متمتعًا.
وقوله عليه الصلاة والسلام: لو استقبلت من أمري ما استدبرت، هل هذا تمنٍّ من النبي عليه الصلاة والسلام، أو أنه خبرٌ من النبي عن ذلك؟
الأقرب -والله أعلم- أنه خبرٌ، وأنه عليه الصلاة والسلام كان يعرف التمتع والإفراد والقِران، وأن القران في حق من ساق الهدي، وأن سوق الهدي مع القران أفضل من التمتع في حق من لم يسق الهدي، لكنه قال ذلك جبرًا لخواطر صحابته.
ولاحِظوا -أيها الإخوة- هذه المراجعات بين النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة ، أولًا في المدينة، ثم في الطريق، ثم بعد الفراغ من السعي، كل ذلك يريد النبي عليه الصلاة والسلام أن يبطل هذا المعتقد، وهو أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، وهذا يدل على صعوبة تغيير معتقدات الناس، حتى الأنبياء والرسل واجهوا صعوباتٍ في هذا، لاحِظ هذه مسألةٌ في النسك، ومع ذلك النبي عليه الصلاة والسلام بذل جهدًا كبيرًا حتى يغير قناعة الصحابة فيها، وراجعوه وقالوا: يا رسول الله، أي الحِلِّ؟ قال: الحِلُّ كله، قالوا: لعامنا هذا أم لأبد الأبد؟ قال: لأبد الأبد [8]، كيف نفعل هذا ونذهب لمنًى؟! قال: افعلوا ما آمركم به.
فتغيير معتقدات الناس فيه صعوبةٌ، إذا كان هذا حصل للنبي عليه الصلاة والسلام، المؤيد بالوحي، وهم الصحابة؛ فما بالك بغيرهم؟! ولهذا تلطّف النبي عليه الصلاة والسلام معهم غاية التلطف، وقال: لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت؛ لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرةً [9]، يعني فعلت مثل فعلكم، لكنهم ما كانوا يفعلون هذا لأجل أن يعصوه، وإنما من باب التأكد؛ لأن هذا المعتقد كان راسخًا في أذهانهم؛ ولهذا في صلح الحديبية لما أمرهم النبي عليه الصلاة والسلام بحلق رءوسهم والرجوع -لأن قريشًا صدتهم عن البيت- ما قام منهم واحدٌ، فدخل النبي عليه الصلاة والسلام على أم سلمة رضي الله عنها مغضبًا، قالت: ما الذي أغضبك؟ قال: مالي آمر أمرًا فلا يُتَّبع؟! وأم سلمة رضي الله عنها فهمت مراد الصحابة ، ليس مقصودهم معصية النبي عليه الصلاة والسلام، وحاشاهم، مقصودهم: أنهم يرجون النسخ، فانظر إلى ذكاء أم سلمة وحكمتها رضي الله عنها، قالت: يا رسول الله، احلق رأسك، فإذا حلقت رأسك؛ سيحلقون رءوسهم، فأخذ النبي عليه الصلاة والسلام بمشورتها فحلق رأسه، لما حلق رأسه؛ حلق الصحابة رءوسهم، يكاد يقتل بعضهم بعضًا من الغمِّ والحزن والأسى، كيف يقبلون بهذا الصلح؟! حتى قال عمر : “والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذٍ، يا رسول الله، ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: بلى، قال: فلم نُعطِي الدنيَّة في ديننا؟! [10].
فعامة الصحابة حصل لهم شيءٌ من القلق في هذه المسألة، إلا صحابيًّا واحدًا لم يحصل له شيءٌ من هذا أبدًا، من هو؟ أبو بكرٍ الصديق ، قال: “يا عمر، إنه رسول الله، فاستمسك بغرزه”.
العجيب! لما رجع الصحابة من الحديبية في الطريق؛ نزل قول الله تعالى: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1]، قالوا: يا رسول الله، أوَفتحٌ هو؟ قال: نعم [11]، ليس نصرًا، فتحٌ، لماذا فتحٌ؟ لأنه بهذا الصلح أصبح هناك حريةٌ للدعوة، وأَمِن الناس، ولذلك الذين كانوا مع النبي عليه الصلاة والسلام في الحديبية ألفٌ وأربعمئةٍ، بعد سنتين فقط في فتح مكة كان معه عشرة آلافٍ، وبعد سنتين في حجة الوداع مئة ألفٍ، فسماه الله فَتَحْنَا، وهذا يدل على أن بعض الأمور تكون في ظاهرها فيها شرٌّ، لكن في عاقبتها خيرٌ عظيمٌ، بل فتحٌ عظيمٌ.
فهذه قصة مراجعة الصحابة للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم كان لديهم هذا المعتقد، فالنبي عليه الصلاة والسلام بحكمته أبطل هذا المعتقد، وأمرهم بأن يأتوا بعمرةٍ، يعني يكونون متمتعين، ففعلوا ، وبذلك بطل هذا الاعتقاد الذي كان موجودًا في الجاهلية بأن العمرة في أشهُر الحج من أفجر الفجور، وهذا معنى قول جابرٍ : “لسنا نعرف العمرة”، يعني لسنا نعرف العمرة في أشهر الحج.
استلام الحجر الأسود
قال: حتى إذا أتينا البيت معه؛ استلم الركن.
يعني: البيت الحرام، «استلم الركن» المقصود بالركن هنا: الحجر الأسود، وسُمي ركنًا؛ لأنه يكون في الركن، فبدأ النبي عليه الصلاة والسلام باستلامه، قال: «استلم الركن»، والاستلام معناه: أن يمسحه بيده اليمنى، وليس المعنى: أن يضع يده عليه، الاستلام معناه: أن يمسح هكذا، وليس المعنى: أن يضع يده مثلما يفعل بعض الناس، يضع يده هكذا، هذا ليس استلامًا، بل لا بد من المسح؛ لأن الوضع ليس فيه استلامٌ، مجرد أن تضع يدك هذا لا يسمى استلامًا، لا لغةً ولا عرفًا ولا شرعًا، هذا وضعٌ، فالاستلام يكون بالمسح، والمسح يكون باليد اليمنى فقط وليس باليدين جميعًا.
والسنة: أن يقبله، وورد في بعض الروايات: أنه يسجد عليه، على الحجر الأسود [12]، وقد ورد في بعض الروايات: أن الحجر الأسود يأتي يوم القيامة ويشهد لكل من استلمه أو قبله بحقٍّ، يكون له عينان، ويشهد لكل من استلمه وقبله بحقٍّ [13].
فإن لم يتيسر الاستلام والتقبيل؛ استلمه بيده أو بعصًا ونحوها، وهذا الآن غير واردٍ بالعصا، قد يكون باليد ويقبل يده.
فإن لم يتيسر -وهذا هو حال معظم الناس اليوم، لا يتيسر لهم استلام الحجر أو تقبيله- أشار بيده.
ففيه ثلاث سننٍ:
- السُّنة الأولى: الاستلام والتقبيل.
- السنة الثانية: أن يستلمه بيده ويقبل يده.
- السنة الثالثة: الإشارة، والإشارة تكون باليد اليمنى فقط كالمسح، ولا تكون باليدين، بعض الناس ترونهم إذا أتوا الحجر الأسود؛ قاموا يشيرون هكذا، هذا خلاف السُّنة، السنة بيدٍ واحدةٍ فقط، تستقبل الحجر الأسود بيدك هكذا وتقول: الله أكبر.
فإذن: الاستلام يكون باليد اليمنى فقط، وليس باليدين، الإشارة إذنْ تكون باليد اليمنى فقط وليس باليدين.
ما الذي يقوله؟ يقول: الله أكبر، ولهذا في بعض الروايات: استَلَمه وكبَّر [14].
وأما قول: بسم الله، فهذه وردت عن ابن عمر، لكنها لا تصح عن النبي .
والأفضل الاقتصار على قول: الله أكبر، من غير زيادة: بسم الله.
فإذا مررت بالحجر الأسود؛ تشير بيدك اليمنى وتستقبله، وتشير بيدك اليمنى هكذا قائلًا: الله أكبر، من غير زيادة: بسم الله.
أما الركن اليماني: ففيه سنةٌ واحدةٌ فقط، وهي الاستلام بلا تقبيلٍ ولا إشارةٍ عند التعذر، إن تيسر أن تستلمه، طيب ما تيسر، تمشي لا تشير إليه ولا تكبر؛ لأن هذا لم يرد.
كم يستلم الحجر أو يقبله أو يشير إليه من مرةٍ؟
في هذا قولان للعلماء:
- القول الأول: أنه يفعل ذلك في كل شوطٍ.
وأشواط الطواف كم؟ سبعةٌ؛ فعلى ذلك يفعل هذا سبع مراتٍ، يعني في بداية كل شوطٍ.
- القول الثاني: أنه كلما حاذى الحجر كبَّر، وهذا هو القول الراجح؛ لأنه قد جاء في حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما: كلما حاذى الحجر كبر، فمعنى ذلك: أنه كلما حاذى الحجر كبر، وسيحاذيه في أول الشوط الأول، ثم في آخره، ثم آخر الشوط السابع، فيكون يفعل ذلك ثمانيَ مراتٍ، الأظهر -والله أعلم- أنه يفعل هذا ثمانيَ مراتٍ، فليس مرتبطًا بالأشواط، وإنما هو مرتبطٌ بالمحاذاة، كلما حاذى الحجر كبر؛ وعلى ذلك: فيكون في نهاية الشوط السابع إشارةٌ وتكبيرٌ، هذا هو الأظهر في هذه المسألة.
الرَّمَل والاضطباع في طواف القدوم
قال: استلم الركن فرَمَل ثلاثًا، ومشى أربعًا.
الرَّمَل معناه: الإسراع في المشي مع مقاربة الخُطَى، وهذا إنما يكون في الأشواط الثلاثة فقط من طواف القدوم أو طواف العمرة، ولا يكون في أي طوافٍ، وهذا إذا تيسر، ففي الوقت الحاضر في كثيرٍ من الأحيان لا يتيسر؛ بسبب الزحام، بعض الناس بسبب الزحام لا يستطيع أن يأتي بالرمل، فيقوم يهز كتفيه، وهذا لا أصل له، إذا لم يتيسر الرمل؛ الحمد لله سُنة، لم تستطع أن تأتي بها؛ فما الداعي لهذا الإحماء وهز الكتفين؟! هذا لا أصل له، هذا يلاحظ من بعض الحجاج والمعتمرين.
قال: “فرمل ثلاثًا، ومشى أربعًا”، هناك سُنةٌ أيضًا تكون في هذا الطواف: وهي الاضطباع، وهذا للرجال خاصةً.
والاضطباع معناه: أن يجعل وسط ردائه تحت عاتقه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر في جميع الأشواط.
يعني يكشف عاتقه اليمنى، أن يجعل وسط ردائه تحت عاتقه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر.
وهذا إنما يكون في طواف القدوم وطواف العمرة فقط، وأيضًا لا يكون إلا وقت الطواف، بعض الحجاج تجد أنه مضطبعٌ طوال الوقت، وهذا لا أصل له، الاضطباع يكون وقت الطواف؛ ولهذا إذا فرغ المحرم من الطواف؛ فينبغي أن يغطي كتفه؛ لأجل أن يصلي وهو مغطٍّ كتفيه، عندما يأتي بركعتي الإحرام؛ يصلي وهو مغطٍّ كتفيه، والنبي يقول: لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيءٌ [15]، تجد بعض الناس حتى في صلاة الفريضة يصلي وقد كشف كتفه اليمنى، وهذا خلاف السنة،
فينبغي التنبيه والتنبه لهذه المسألة.
صلاة ركعتين بعد الطواف
قال: ثم نفذ إلى مقام إبراهيم.
قوله: “ثم نفذ”، هذا يشير إلى أنه كان هناك زحامٌ، وكان النبي عليه الصلاة والسلام وجد فرصةً ونفذ مباشرةً إلى مقام إبراهيم.
قال: “إلى مقام إبراهيم”، مقام إبراهيم: هو الحَجَر الذي كان يَرقَى عليه إبراهيم لما ارتفع بناء الكعبة، فاتخذ هذا المقام، وكان ابنه إسماعيل يناوله الحجارة وهو يبني، وهما يقولان: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127]، وبقيت آثار قدمه على هذا المقام ولا تزال إلى الآن، لكن ربما أنها الآن اختفت بعض معالم القدم، فهو آيةٌ من آيات الله تعالى: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:97]، وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125].
قال: فقرأ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125].
لما أراد أن يصلي خلف المقام؛ قرأ الآية، وهذه من السُّنن التي يغفُل عنها كثيرٌ من الناس، قراءة الآية بعد الفراغ من الطواف وقبل أن يصلي ركعتي الطواف، يقرأ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، هذه سُنةٌ يغفل عنها كثيرٌ من الناس.
فقرأ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]، فجعل المقام بينه وبين البيت.
هل المقام كان ملتصقًا بالكعبة، ثم أُخِّر في عهد عمر؟ أو أنه كان هكذا في عهد النبي ؟ فيه خلافٌ كثيرٌ بين المؤرخين، لكن قول جابرٍ : “فجعل المقام بينه وبين البيت”، يشير إلى أن المقام لم يكن ملتصقًا بالكعبة في عهد النبي ؛ لأنه لو كان ملتصقًا؛ ما كان هناك حاجةٌ إلى أن يقول جابرٌ : “فجعل المقام بينه وبين البيت”، وإنما يقول: استقبل البيت، أو استقبل الكعبة من جهة المقام.
فقوله: “فجعل المقام بينه وبين البيت”، فيه إشارةٌ إلى أن المقام ليس ملتصقًا بالكعبة، وهذا أحد الأقوال في المسألة، وهي مسألةٌ اختلف فيها المؤرخون، وليس لهذا الخلاف كبير فائدةٍ، لكن يذكر هذا في كتب التاريخ: هل كان المقام ملتصقًا بالكعبة في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، أو أنه لم يكن ملتصقًا؟ الأقرب -والله أعلم، والذي يشير له حديث جابرٍ- أنه لم يكن ملتصقًا، وأنه على وضعه هكذا من عهد النبي عليه الصلاة والسلام إلى وقتنا الحاضر.
قال: فجعل المقام بينه وبين البيت، قال: فكان أبي -يعني الراوي- يقول: ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي ، كان يقرأ في الركعتين: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، وقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، يعني: في ركعتي الطواف السنة: أن يقرأ بعد الفاتحة بهاتين السورتين: سورة قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وسورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، والسُّنة تخفيفهما؛ وذلك لأجل إفساح المجال للطائفين الذين يريدون الصلاة في هذا المكان، واختيار هاتين السورتين لأنهما قد تضمنتا الإخلاص لله والتوحيد، ولذلك سورة الإخلاص فيها التوحيد الخبري، وسورة الكافرون فيها التوحيد العملي الطلبي، فهما سورتا الإخلاص.
وأيضًا تُقرأ هاتان السورتان في موضعٍ آخر، ما هو؟ في ركعتي الفجر [16]، وأما في ركعتي المغرب فلم يثبت [17]، يعني بعض الناس يقول: تُقرأ في ركعتي المغرب، لم يثبت هذا، إنما فقط في ركعتي الفجر، وفي ركعتي الطواف.
وأيضًا في صلاة الوتر، مع سورة سَبِّحِ ٱسۡمَ رَبِّكَ ٱلۡأَعۡلَى [الأعلى:1]، في الثلاث الركعات الأخيرة.
والسنة: أن يخفف هاتين الركعتين -ركعتي الطواف- ولا يطيلهما.
ركعتا الطواف سنةٌ في كل طوافٍ، سواءٌ كان طواف حجٍّ، أو طواف عمرةٍ، أو طواف تطوعٍ، أي طائفٍ يطوف بالبيت يسن له بعد الطواف أن يصلي ركعتين، إن تيسر خلف المقام؛ فهذا هو الأفضل، إن لم يتيسر؛ ففي أي مكانٍ من الحرم.
استلام الحجر الأسود بعد ركعتي الطواف
قال: ثم رجع إلى الركن فاستلمه.
يعني: بعدما صلى ركعتي الطواف رجع إلى الركن -يعني الحجر الأسود- فاستلمه، وهذه سُنةٌ لكن هي سنةٌ واحدةٌ فقط، سنة الاستلام، فإن تيسر الاستلام دون التقبيل، ودون الإشارة؛ فحسنٌ، وإن لم يتيسر، كما هو حال عامة الناس اليوم، لا يتيسر لهم هذا؛ فلا حاجة للإشارة، وإنما يذهب مباشرةً للسعي.
يعني: بعدما يصلي ركعتي الطواف، لو افترضنا أنه تيسر له أن يذهب ويستلم الحجر الأسود؛ فهذه هي السُّنة، لم يتيسر لا يشير ولا يُكبِّر.
السعي بين الصفا والمروة
قال: ثم خرج من الباب إلى الصفا.
قوله: “ثم خرج من الباب إلى الصفا”، يعني: من باب المسجد الحرام إلى الصفا، كان بين المسجد الحرام والمسعى مسافةٌ، بل كان هناك بيوتٌ، وكان من يريد أن يذهب للمسعى؛ يخرج من الحرم، ويذهب حتى يصل إلى جبل الصفا، وكان أيضًا على جانبي المسعى -هذا طبعًا بعد عهد الصحابة – كان يوجد أسواقٌ ومحلاتٌ ودكاكين، بل يقولون: أحسن أسواق مكة: على المسعى عن اليمين والشمال، ويختلط المتسوقون بالساعين، إلى أن أتت الدولة السعودية الثالثة، وهذه من محاسن هذه الدولة، وأدخلت هذه الأماكن -البيوت ونحوها التي ما بين الحرم والمسعى- فأصبحت جزءًا من المسجد الحرام، والمسعى رُتِّب وجُعل بهذه الطريقة التي نراها الآن، فلم يعد فيه محلاتٌ للبيع ولا للشراء، واتسع ذلك لمن يسعى، فهذا من حسنات هذه الدولة المباركة، أن رُتِّب الأمر على هذا، فأصبح المسعى متصلًا بالمسجد الحرام، وإلا كان قديمًا بين المسجد الحرام والمسعى مسافةٌ، وكان فيها دكاكين وفيها بيوتٌ، فكان الفقهاء يقولون: يخرج إلى باب الصفا، لكن الآن أصبح المسعى متصلًا بالمسجد الحرام، ودخلت تلك البيوت التي بين المسعى وبين المسجد الحرام في التوسعة.
قال: فلما دنا من الصفا قرأ: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158].
“فلما دنا من الصفا” يعني: اقترب من الصفا، قرأ: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158]، وهذه سُنةٌ، فالسُّنة أنه عند القرب من الصفا تقرأ: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158]، عند القرب وليس عند الوصول، فلما دنا يعني: قرب، من الصفا يعني: قبل أن تصل للصفا تقرأ: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158].
هل يكمل الآية أو يكتفي بقراءة: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158]؟
الذي ورد في حديث جابرٍ : قال: “قرأ: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158]”، ويحتمل أن المقصود: قرأ الآية كاملةً، لكن جابرًا ذكر أولها فقط، ولكن بعض العلماء يقول: إنه إنما قرأ فقط: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158]، وهذا هو الأقرب والله أعلم، وقد اختاره شيخنا عبدالعزيز بن بازٍ رحمه الله: أنه يكتفي بقراءة: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158]، ولا يكمل الآية؛ لأن هذا هو ظاهر الحديث: قرأ: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158].
والحكمة من قراءتها في هذا الموضع: إشعار نفسه بأنه إنما اتجه إلى المسعى؛ امتثالًا لما أرشد الله إليه في قوله: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158].
وقوله: مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ، الشعائر: جمع شعيرةٍ، والشعيرة: هي العبادة المتميزة عن غيرها بتعظيم الله .
أبدأ بما بدأ الله به .
لاحِظ قول جابرٍ : “فلما دنا من الصفا قرأ: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158]، أبدأ بما بدأ الله به .
وجاء في روايةٍ أخرى: نبدأ بما بدأ الله به، بالنون [18].
وجاء في روايةٍ ثالثةٍ: ابدءوا بما بدأ الله به [19].
والأرجح هو: أبدأ بما بدأ الله به، كما جاء في حديث جابرٍ ؛ وذلك:
- أولًا: لأنها جاءت في “صحيح مسلمٍ”.
- وثانيًا: لأنها جاءت من حديث جابرٍ ، ونحن ذكرنا أنه عند اختلاف الروايات يرجِّح كثيرٌ من المحققين ما جاء في حديث جابرٍ .
فالأرجح: أن يقول: أبدأ بما بدأ الله به.
فإذن السنة: أنه عندما تدنو من الصفا؛ تقرأ: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158]، فقط، ولا تكمل الآية، ثم تقول: أبدأ بما بدأ الله به.
قال: فبدأ بالصفا فرقى عليه.
وهذا يشير إلى أنه جبلٌ، وهو لا يزال جبلًا إلى الآن، لكن ربما في الأدوار العليا تختفي معالم الجبل، لكن في الدور الأرضي تجد معالم الجبل ظاهرةً.
قال: “فرقى على الصفا”، وهذا يدل على أن السُّنة: أن يرقى على الصفا، يعني: يصعد على الصفا، والرُّقي على الصفا ليس واجبًا، بل هو سُنةٌ، وإلا لو وقف على حد الصفا من أسفل؛ حصل المقصود.
قال: حتى رأى البيت.
يعني: حتى رأى الكعبة.
فوحَّد الله وكبَّره.
“وحَّد الله” يعني: بقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، “وكبَّره” يعني قال: الله أكبر، لما وصل إلى جبل الصفا ورقى عليه.
السُّنة ماذا يقول؟ السُّنة أن يرفع يديه مستقبلًا القبلة هكذا، يقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قديرٌ، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.
إذنْ السنة: أن يقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قديرٌ، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، يعني: أنجز وعده بما وعد الله به نبيه محمدًا من النصر، ونصر عبده، يعني: محمدًا ، وهزم الأحزاب وحده: الذين تحزبوا عام الخندق، والله تعالى وعد نبيه بقوله: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تخافون [الفتح:27].
وبعض العلماء يعممها، يقول: إنها ليست خاصةً بالنبي ، بل تشمل كل عبدٍ من عبيده، وكل وعدٍ وعد الله به النصر لعباده المؤمنين، وهزيمة الأحزاب في كل عصرٍ ومصرٍ، بعض العلماء يعممها، لكن السنة أن يأتي بهذا الذكر يكرره ثلاث مراتٍ ويدعو.
طيب كم يكون الذكر؟ كم يأتي بالذكر من مرةٍ؟ وكم يأتي بالدعاء من مرةٍ؟
نرجع لحديث جابرٍ ، تأمل عبارة جابرٍ ، وأريد الجواب منكم، ماذا قال جابرٌ ؟ قال: “ثم دعا بين ذلك”.
فالذكر كم مرةً؟ والدعاء كم مرةً؟
الذكر ثلاث مراتٍ، يعني: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قديرٌ، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، هذه ثلاث مراتٍ.
طيب الدعاء هل هو ثلاث مراتٍ، أو مرتان؟ وما السبب؟
مداخلة:…
الشيخ: الدعاء مرتان؟ لماذا؟ لماذا مرتان وليس ثلاث مراتٍ، وجابرٌ يقول فعل ذلك ثلاث مراتٍ؟
مداخلة:…
الشيخ: أحسنت، الدعاء بينهما، يعني: يأتي بالذكر ثم يدعو، ثم يأتي بالذكر ثم يدعو، ثم يأتي بالذكر، معنى ذلك الدعاء مرتان، والذكر ثلاث مراتٍ.
فإذنْ الدعاء مرتان، والذكر ثلاث مراتٍ.
قال: ثم نزل إلى المروة.
الأخوات النساء سنعطيهن أسئلةً، وترسل مكتوبةً -إن شاء الله- في آخر الدرس بإذن الله تعالى.
“ثم نزل إلى المروة” يعني: لما رقى على الصفا وأتى بهذا الذكر؛ نزل بعد ذلك ماشيًا إلى المروة.
ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبَّت قدماه في بطن الوادي سعى.
“حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي”: بطن الوادي: هو مجرى السيل، وهو الآن ما بين العلمين الأخضرين، كان واديًا، فكان النبي يسعى في هذا المكان، يعني: يركض فيه ركضًا شديدًا، حتى إن إزاره ليدور من شدة السعي [20]، والحكمة في ذلك: قيل: لأنه وادٍ، وقيل وهو الأقرب: اقتداءً بأم إسماعيل عليهما السلام، فإن أم إسماعيل وضعت ابنها عند بئر زمزم الآن وهي تراه؛ لأنه لم يكن بينها وبينه شيءٌ، تراه وهي ملتفةٌ وهي تسير من الصفا للمروة، لكن كانت إذا هبطت في الوادي؛ تسعى سعيًا شديدًا؛ لأن ابنها غاب عن نظرها، فهو اقتداءٌ بأم إسماعيل عليهما السلام.
ثم بعد ذلك دُفن ورُدم هذا الوادي، ووُضع ما بين بدايته ونهايته علمان أخضران، ويبدو -والله أعلم- أن هذين العلمين الأخضرين كانا من قديم الزمان؛ الموفق بن قدامة ذكر ذلك في “المغني”، والموفق توفي سنة (620 هـ)، فهذا يدل على أن هذين العلمين الأخضرين لهما مئات السنين، يعني ليسا من الوقت الحاضر، وأيضًا بهذا اللون، بالأخضر، الفقهاء السابقون كلهم ذكروا هذا: “علمين أخضرين”، لكن متى وُضعا؟ الله أعلم، هذا يحتاج لتحقيقٍ تاريخيٍّ: متى دُفن الوادي ووضع العلمان الأخضران؟ يحتاج إلى بحثٍ وتحقيقٍ تاريخيٍّ، لكن ابن قدامة في “المغني” ذكرها، وهذا يدل على أنها موجودةٌ من قديمٍ، وتبقى السُّنة -حتى لو دُفن الوادي- تبقى سنة السعي ما بين العلمين الأخضرين.
قال: حتى إذا صعِدتا.
يعني: قدماه.
مشى حتى أتى المروة.
ما الذي يقوله بين الصفا والمروة؟ وهكذا ما الذي يقوله في أشواط الطواف؟
لم يرد في ذلك شيءٌ، إلا ما بين الركن اليماني والحجر الأسود: رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗ وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ حَسَنَةٗ وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ [البقرة:201]، ما عدا ذلك لم يثبت فيه دعاءٌ معينٌ، أو ذكرٌ معينٌ، ولذلك نقول: السنة: أن يدعو الله تعالى بما يحضره من خيري الدنيا والآخرة في أشواط الطواف والسعي، لكن ما بين الركن اليماني والحجر الأسود يتأكد أن يقول: رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗ وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ حَسَنَةٗ وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ.
وأما ما يُرى من بعض الناس من دعاء الشوط الأول، دعاء الشوط الثاني، دعاء الشوط الثالث؛ فهذا لا أصل له، هذه الأدعية لا أصل لها، والسنة: أن المسلم يدعو الله تعالى بما يحضره من خيري الدنيا والآخرة، في أشواط الطواف، وفي أشواط السعي، وألا يتقيد بأدعيةٍ معينةٍ ما أنزل الله بها من سلطانٍ.
وقد ورد عن عبدالرحمن بن عوفٍ أنه كان في جميع الأشواط السبعة يلزم دعاءً واحدًا، كان يقول: “ربِّ قني شح نفسي، ربِّ قني شح نفسي”، فسئل فقال: أليس الله يقول: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9]؟
فهذا يدل على أنه ليس هناك دعاءٌ معينٌ يدعو به في أشواط الطواف والسعي، وإنما يختار من الدعاء ما أعجبه.
قال: حتى أتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا.
تمامًا يفعل على المروة كما فعل على الصفا.
دخول العمرة في الحج
حتى إذا كان آخر طوافه على المروة فقال: لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت؛ لما سُقت الهدي، وجعلتها عمرةً، فمن كان منكم ليس معه هديٌ؛ فلْيَحِلَّ، وليجعلها عمرةً.
وهذه المرة الثالثة هي أمر الصحابة الذين معه الذين لم يسوقوا الهدي بقلب القِران والإفراد إلى تمتعٍ، وأمرهم بذلك أمر إلزامٍ، وقال تطييبًا لخواطرهم: لو استقبلت من أمري ما استدبرت؛ لما سُقت الهدي، وكما ذكرنا أن هذا كان خاصًّا بالصحابة ؛ للاعتقاد الموجود في الجاهلية، وهو أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، فأراد النبي أن يبطله.
قال: فقام سراقة بن مالك بن جُعْشُمٍ فقال: يا رسول الله، أَلِعَامِنا هذا أم لأبدٍ؟
يعني: هل هذا الأمر بالعمرة في أشهر الحج بأن يكونوا متمتعين، هل هذا خاصٌّ بهذا العام أو للأبد؟
فشبَّك رسول الله أصابعه واحدةً في الأخرى، وقال: دخَلَت العمرة في الحج، مرتين، لا، بل لأبد الأبد.
وهذا يدل على أن هذا الحكم عامٌّ للأمة جميعًا، وأنه يشرع العمرة في أشهر الحج، وفيه إبطالٌ لما كان موجودًا في الجاهلية؛ من أن العمرة في أشهر الحج أن ذلك من أفجر الفجور.
تحلل المتمتع في الحج
قال: وقدم عليٌّ من اليمن ببُدْن النبي .
علي بن أبي طالبٍ كان أرسله النبي إلى اليمن للدعوة إلى الله ، ولأخذ الزكوات من الناس، ولغير ذلك، وأتى معه من اليمن ببعض بُدْن النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه أهدى مئةً من الإبل، وأتى ببعضها علي بن أبي طالبٍ.
كأن عليًّا تأخر عن النبي عليه الصلاة والسلام قليلًا، فوافى النبي ، قال: فوجد فاطمة زوجة عليٍّ ابنة النبي عليه الصلاة والسلام.
فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حلَّ.
لأنها كانت متمتعةً، فأتت بالعمرة وحلت.
ولبست ثيابًا صَبيغًا.
يعني: جميلةً.
واكتحلت، فأنكر ذلك عليها.
لأن عليًّا أيضًا لديه هذا الاعتقاد، وهو أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، فكيف تأتين بعمرةٍ وتتحللين؟
فأنكر ذلك عليها، فقالت: إن أبي أمرني بهذا.
يعني: إن رسول الله أمرني بهذا، قال:
فكان عليٌّ يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله مُحَرِّشًا على فاطمة؛ للذي صنَعَت، مستفتيًا لرسول الله فيما ذَكَرَت عنه.
قوله: محرشًا، التحريش معناه في الأصل: التهييج والإغراء، فكان ذهاب عليٍّ للنبي لأمرين:
- الأمر الأول: للتحريش على فاطمة رضي الله عنها، كيف تفعل هذا وهي بنت النبي ؟!
- والأمر الثاني: الاستفتاء: هل ما قالته صحيحٌ؟
قال عليٌّ : فأخبرتُه أني أنكرت ذلك عليها، فقال : صدَقَت، صدَقَت.
يعني أكد صدقها مرتين، لتأكيد صحة كلامها: صدقت صدقت.
يعني عليٌّ أيضًا كان يحمل هذا المعتقد، فبين له النبي عليه الصلاة والسلام أن العمرة في أشهر الحج مشروعةٌ.
ثم قال عليه الصلاة والسلام:
ماذا قلتَ حين فرضتَ الحج؟.
لاحِظ أن النبي عليه الصلاة والسلام -هذا من حكمة تعامله- يعني قضيةٌ بين عليٍّ وفاطمة أنهاها النبي عليه الصلاة والسلام، ثم انتقل إلى موضوعٍ آخر؛ حتى ينتهي من الحديث في الموضوع السابق؛ حتى ما يبقى له أي علائق، فسأله النبي عليه الصلاة والسلام، قال:
ماذا قلت حين فرضت الحج؟، قال: قلت: اللهم إني أُهلُّ بما أهل به رسولك.
وهذا يدل على ذكاء عليٍّ ؛ لأنه قال: “أُهلُّ بما أهل به رسولك”، ويدل أيضًا على فقهه، وأن هذا من الأمور الجائزة؛ ولهذا أقره النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك.
قال: فإن معي الهدي، فلا تحل.
ويستفاد من هذا فائدةٌ: وهي أنه يجوز أن يقول المحرم: أحرمت بما أحرم به فلانٌ، أو أهللت بما أهل به فلانٌ، يَعرف مثلًا بأن فلانًا عنده حرصٌ على السُّنة، وعنده فقهٌ وعنده علمٌ، وهو لا يدري أي الأنساك أفضل، فقال: اللهم إني أهللت بما أهل به فلانٌ، أو أحرمت بما أحرم به فلانٌ، هذا يجوز، وفَعَله عليٌّ ، قال: “أهللت بما أهل به رسول الله “.
الهدي الذي قَدِم به عليٌّ من اليمن
قال: فكان جماعة الهدي.
يعني: مجموع الهدي، فـ”جماعة”: تطلق على “مجموع”، يقال: مجموع، ويقال: جماعة.
جماعة الهدي الذي قدم به عليٌّ من اليمن، والذي أتى به النبي : مئةً.
مئةً من الإبل، وهذا يدل على تعظيم النبي لشعائر الله، فإنه قد نحر مئة من البُدْن، مع أنه يكفيه سُبع بَدَنةٍ، ومع ذلك نحر مئة من البُدْن؛ وذلك لأن التقرب إلى الله بالنحر في الهدي، في الأضحية، من أفضل وأجل الأعمال، بل قال ابن تيمية رحمه الله: أفضل العبادات المالية: النحر، وأفضل العبادات البدنية: الصلاة، ولهذا جمع الله بينهما فقال: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2]، وقال: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162].
وبعض الناس يبخل في التقرب إلى الله تعالى بهديٍ أو بأضحيةٍ، فتجد بعض الحجاج يسأل ما هو النسك الذي ليس فيه هديٌ؟ يريد أن يتخلص من الهدي، وإذا تأملت في واقعه؛ تجد أنه ينفق أموالًا في كمالياتٍ، وفي أمورٍ غير مهمةٍ، يريد أن يوفر مالًا ليشتري به هدايا ويفر من الهدي، وهكذا أيضًا في الأضحية، يفر من الأضحية، وينفق مالًا كثيرًا في كمالياتٍ وأسفارٍ ونحو ذلك.
فنقول: ما تنفقه وما تبذله في شراء الهدي والأضحية، هذا عمل صالحٌ عظيمٌ؛ لأن التقرب إلى الله بنحر الهدي أو الأضحية من أجل وأفضل الأعمال الصالحة، بل هو أفضل العبادات المالية: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2].
فلا يبخل المسلم على نفسه؛ فذبح الهدي وذبح الأضحية يدخل في تعظيم شعائر الله: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32].
انقسام الناس إلى قسمين في حجة الوداع
قال: فحل الناس كلهم وقصروا، إلا النبي ومن كان معه.
يعني انقسم الناس إلى قسمين:
- قسم كانوا متمتعين: وهم الذين لم يسوقوا الهدي.
- وقسم كانوا قارنين: وهم الذين ساقوا الهدي، وهم النبي ومن ساق الهدي معه.
وأكثر الصحابة كانوا لم يسوقوا الهدي؛ فأكثرهم كان متمتعًا، فانقسموا قسمين: قسم متمتعين، وقسم قارنين فقط.
ولم يكن هناك من كان مفرِدًا في ذلك العام فقط؛ لأن التمتع كان واجبًا على الصحابة خاصةً كما قال أبو ذرٍّ .
ونكتفي بهذا القدر في هذا المجلس، ونجيب عن بعض الأسئلة والاستفسارات.
الأسئلة
السؤال: يقول: عند حج الإفراد أيهما أفضل: أداء سعي الحج بعد طواف القدوم، أو طواف الإفاضة؟
الجواب: النبي كان قارنًا، وأعمال القارن والمفرِد سواءٌ، فهل النبي أتى بالحج بعد طواف القدوم، أو بعد طواف الإفاضة؟ الجواب: بعد طواف القدوم؛ ولهذا فالأفضل: أن يأتي بالسعي بعد طواف القدوم، ويجوز أن يؤخره بعد طواف الإفاضة.
فالقارن والمفرِد: عليهما سعيٌ واحدٌ، إن شاءا قدماه بعد طواف القدوم، وإن شاءا أخراه بعد طواف الإفاضة.
وأما المتمتع: فعليه سعيان: سعيٌ للعمرة، وسعيٌ للحج.
السؤال: وصيتكم لمن يحج للمرة الأولى، وكيف يرتقي بإيمانه في هذا الحج؟
الجواب: عليه أن يحرص على التفقه في مسائل الحج وأن يقرأ الآن في كتب المناسك، ومن أفضل الكتب التي أنصح بقراءتها: كتاب شيخنا عبدالعزيز بن بازٍ رحمه الله “التحقيق والإيضاح”، وكتاب أيضا شيخنا محمد بن عثيمين رحمه الله “المنهج لمريد العمرة والحج”، هذان الكتابان من أفضل الكتب المصنفة في المناسك “التحقيق والإيضاح”، و”المنهج لمريد العمرة والحج”.
وعليه أن يحرص -الأخ الحاج- على اختيار الحملة المناسبة التي يكون فيها طلبة علمٍ ومشايخ يبينون الأحكام للحجاج، ويرجع إليهم عند الاستفتاء، وكذلك أيضًا عليه أن يغتنم وقته أثناء الحج؛ لأن بعض الحجاج تضيع أوقاتهم ما بين النوم والحكايات ونحو ذلك، فننصحه بأن يغتنم وقته فيما ينفعه.
السؤال: ما حكم من زاد على سبعة أشواطٍ بسبب الشك؟
الجواب: إذا كان كثيرَ الشكوك والوساوس: لا يَلتفت لهذا الشك.
أما إذا لم يكن كثير الشكوك: فإذا شك هل طاف ستة أشواطٍ أو سبعةً؛ يجعلها ستةً، يبني على اليقين وهو الأقل، ويأتي بشوطٍ، وهذا كما أنه يكون في الطواف؛ يكون في السعي، يكون أيضًا حتى في الصلاة، إذا شككت: هل صليت ثلاث ركعاتٍ أو أربعًا؛ تجعلها ثلاثًا وتأتي بواحدةٍ.
السؤال: ذكرتم السجود على الحجر الأسود؟
الجواب: نعم، هذا ورد في روايةٍ بعض أهل العلم يضعفها، وبعضهم يحسنها، وهي واردةٌ عن بعض السلف، لو أنه إذا استلم الحجر الأسود وقبَّله وسجد عليه؛ فلا بأس بذلك إن شاء الله.
السؤال: ما هو أفضل الأنساك: التمتع، أم الإفراد، أم القران؟
الجواب: الأفضل هو التمتع؛ لأنه النسك الذي أمر به النبي الصحابة ، وقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت؛ لما سُقت الهدي، ولجعلتها عمرةً، يعني: كنت متمتعًا.
فأفضل الأنساك: التمتع، ثم القران، ثم الإفراد، إلا في حق من ساق الهدي، فهذا يجب عليه أن يكون قارنًا، والآن لا أحد يسوق الهدي، فسُنة سوق الهدي انقطعت؛ بسبب تغير ظروف الحياة الآن، وإلا فكان الناس قديمًا يسوقون الهدي من الحل إلى الحرم، فأصبح الناس الآن -جميع الحجاج- لا يسوقون الهدي؛ ولذلك نقول: الأفضل التمتع، ثم القران، ثم الإفراد.
السؤال: يقول: ذكرتَ: أن الذين حجوا مع النبي مئة ألفٍ، أو مئةٌ وعشرون ألفًا، ثم لما سألتَ أجاب أحد الطلاب بمئةٍ وأربعةٍ وعشرين ألفًا؟
الجواب: يبدو أن هذا السؤال من الأخوات النساء، السؤال كان عن عدد الصحابة عمومًا، الذين حجوا والذين لم يحجوا: كم كان عددهم؟ فكان جواب من أجابهن: أنهم مئةٌ وأربعةٌ وعشرون ألفًا، أما الذين حجوا فهم مئة ألفٍ أو مئةٌ وعشرون ألفًا، لكن عدد الصحابة مئة وأربعةٌ وعشرون ألفًا.
السؤال: ما معنى: كلَّمه الله كِفاحًا؟
الجواب: أي: مباشرةً، والله أعلم كيف كان ذلك ومتى؟ الله أعلم، إن صحت الرواية أيضًا، بل هناك أيضًا من يضعفها.
السؤال: هل يجوز أن يُشرِك الرجلُ في الهدي أهله؟
الجواب: يجوز ذلك إذا كان أهله حجوا معه، يجوز ذلك في البقر وفي الإبل إلى سبعة أشخاصٍ، أما الغنم فلا يجوز الاشتراك فيها، فالاشتراك يكون في الإبل والبقر إلى سبعةٍ، وأما الغنم فلا يكون فيها اشتراكٌ، وهذا في الأضحية وفي الهدي.
على هذا نقول: الاشتراك في الهدي والأضحية يكون في الإبل والبقر إلى سبعة أشخاصٍ، وأما الغنم فلا يصح الاشتراك فيها، سواءٌ في الهدي أو في الأضحية.
وأما الاشتراك في الأضحية فينقسم إلى قسمين:
- اشتراكٌ في المِلك.
- واشتراكٌ في الثواب.
في الملك: في الإبل والبقر إلى سبعةٍ، وأما الواحدة من الغنم فلا يصح الاشتراك فيها في الأضحية.
وأما الاشتراك في الثواب فمعناه: أن مالك الأضحية يُشرِك معه في ثوابها من شاء من الأحياء والأموات، وهذا مشروعٌ ولا حد لهذا الاشتراك، له أن يشرك في ثوابها من شاء من الأحياء والأموات وفضل الله واسعٌ.
فإذنْ الاشتراك إنما يكون في الإبل والبقر إلى سبعةٍ، ولا يكون الاشتراك في الغنم.
السؤال: هل يحل للمتمتع أن يعقد النكاح بعد التحلل من العمرة؟
الجواب: نعم، يحل له كل شيءٍ حَرُم عليه بالإحرام؛ ولهذا لما سئل النبي : أي الحل؟ قال: الحل كله، فيجوز له أن يعقد بعد التحلل من العمرة، وإنما هو ممنوعٌ أثناء الإحرام بالعمرة أو أثناء الإحرام بالحج.
السؤال: قال: في حديث أنسٍ، ذُكر أن النبي اعتمر أربع عمرٍ، وذُكر منها الحديبية، علمًا أنه صُد عن البيت، فكيف عُدَّت عمرةً؟
الجواب: يعني اعتبرها العلماء عمرةً؛ لأن من أتى بعملٍ صالحٍ، ثم حصل عائقٌ يعيقه عن إكماله؛ يكتب له الأجر كاملًا؛ فلذلك عدت عمرةً كاملةً؛ لأن النبي والصحابة قصدوا مكة للعمرة، وأتوا محرمين فصدتهم قريشٌ، فحسبت لهم عمرةً، وأجرهم كاملٌ.
فمن أراد أن يأتي بعملٍ صالحٍ وحصل له عائقٌ يعيقه عن إكماله؛ يكتب له الأجر كاملًا؛ كما قال الله تعالى: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء:100].
أيهما أفضل: العمرة في شهر رمضان، أم في شهر ذي القعدة؟
الأفضل: العمرة في شهر رمضان؛ لقول النبي : عمرةٌ في رمضان تعدل حجةً -أو قال- حجةً معي [21]، وهذا الحديث في “الصحيحين”، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وأما العمرة في شهر ذي القعدة: فليس لها فضلٌ إلا أنها في أشهر الحج وفي الأشهر الحرم، وأنها توافق عُمَر النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن قول النبي عليه الصلاة والسلام: عمرةٌ في رمضان تعدل حجةً، هذا صريح الدلالة في فضل العمرة في رمضان، وأن أجرها وثوابها ثواب حجٍّ؛ وعلى هذا: فالعمرة في رمضان أفضل من العمرة في شهر ذي القعدة.
السؤال: ماتت أمي رحمها الله وقد حجت واعتمرت، وأريد أن أبرها، هل بالحج والعمرة أفضل أم بالصدقة؟
الجواب: كل هذه يصل ثوابها لها، فإذا اعتمرت عنها؛ وصل ثوابها إليها، إذا حججت عنها؛ وصل ثوابها إليها، كذلك إذا تصدقت، فما دامت أنها أمك؛ فالأم لها حقٌّ عظيمٌ، فإن تيسر أن تحج عنها وتعتمر؛ فهذا هو الأكمل والأفضل، وهذا يدخل في البر بها، بشرط أن تكون قد اعتمرتَ وحججت عن نفسك حج الفريضة وعمرة الفريضة؛ لأن الأم لها حقٌّ عظيمٌ، وكونك تعتمر وتحج عنها هذا يدخل في البر بها، ويصل الثواب إليها.
السؤال: هل للشخص أن يسعى في توسعة المسعى على الجزء القديم؟
الجواب: المسعى الموجود حاليًّا يشرع السعي فيه، سواءٌ كان المسعى القديم أو المسعى الجديد، المسعى الجديد ملحقٌ بالمسعى القديم، والعبرة هو السعي بين الصفا والمروة، وهذا يشمل المسعى القديم والمسعى الجديد.
السؤال: هل يشترط السعي بعد الطواف مباشرةً؟
الجواب: لا يشترط، وإنما يستحب، فلو أنك طفت في أول النهار وسعيت في آخر النهار؛ لا بأس، فالموالاة بين السعي والطواف غير واجبةٍ وإنما مستحبةٌ.
السؤال: هل الصلاة في مكة كلها بمئة ألف صلاةٍ، أو في الحرم فقط؟
الجواب: هذه مسألةٌ خلافيةٌ، والقول الراجح: أن التضعيف يختص بالمسجد الحرام فقط؛ لأنه قد جاء في بعض الروايات: إلا مسجد الكعبة [22]، ولأن التضعيف في المسجد النبوي يختص بالمسجد فقط بإجماع العلماء؛ فكذلك أيضًا في مكة، لا فرق.
فالأقرب -والله أعلم- عند كثيرٍ من المحققين: اختصاص التضعيف بالمسجد الحرام، ويشمل ذلك الأماكن المحيطة بالمسجد الحرام؛ مثل مصليات الفنادق مثلًا، يشملها التضعيف، إذا صليت مع إمام الحرم فيها؛ يدخل ذلك في التضعيف الوارد، لكن من يصلي في أماكن ومساجد بعيدةٍ عن المسجد الحرام، الذي يظهر أنه لا يشمله التضعيف، لكن الصلاة في الحرم أفضل من الصلاة في الحل، ولهذا لما كان النبي في الحديبية، كان إذا أراد أن يصلي؛ دخل داخل حدود الحرم [23].
فلا شك أن الصلاة في الحرم عمومًا لها مزيد فضلٍ، لكن التضعيف الوارد يختص بالمسجد الحرام في أرجح أقوال أهل العلم.
ونكتفي بهذا القدر في هذا المجلس، وإن شاء الله نستكمل الحديث في المجلس الثالث بعد صلاة المغرب.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحاشية السفلية
^1 | رواه مسلم: 1218. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 1564، ومسلم: 1240. |
^3 | رواه البخاري: 1564 ، ومسلم: 1240. |
^4 | رواه البخاري: 3832 |
^5 | رواه مسلم: 1216. |
^6 | رواه مسلم: 1224، بمعناه. |
^7 | رواه البخاري: 7229. |
^8 | سبق تخريجه. |
^9 | رواه مسلم: 1218 |
^10 | رواه البخاري: 4844. |
^11 | رواه مسلم: 1785. |
^12 | رواه البيهقي: 9298. |
^13 | رواه الترمذي: 961، وأحمد: 2215، وقال الترمذي: حسن. |
^14 | رواه أحمد: 4628. |
^15 | رواه البخاري: 359، ومسلم: 516. |
^16 | رواه مسلم: 726. |
^17 | رواه الترمذي: 431، وابن ماجه: 1166. |
^18 | رواه أبو داود: 1905، والترمذي: 862، والنسائي: 2961، وابن ماجه: 3074، وقال الترمذي: حسن صحيح. |
^19 | رواه النسائي في السنن الكبرى: 3954، والبيهقي في السنن الكبرى: 403. |
^20 | رواه أحمد: 27367. |
^21 | رواه البخاري: 1782، 1863، ومسلم: 1256. |
^22 | رواه مسلم: 1396. |
^23 | رواه ابن أبي شيبة: 36840. |