الرئيسية/دروس علمية/شرح حديث جابر في صفة حجة النبي ﷺ/(1) شرح حديث جابر في صفة حجة النبي- متى فرض الحج؟
|categories

(1) شرح حديث جابر في صفة حجة النبي- متى فرض الحج؟

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فأحمد الله الذي يسَّر هذا اللقاء بهذه الدورة العلمية، دورة الشيخ: سليمان بن عبدالله المهنا رحمه الله تعالى، في هذا الجامع، في هذا اليوم: السبت، الموافق 26 من ذي القعدة، من عام 1443 هـ.

عناية العلماء بحديث جابرٍ  في صفة حجة النبي

وستكون هذه الدورة في شرح حديث جابرٍ في الحج، فأسأل الله تعالى أن يبارك فيها، وأن ينفعنا جميعًا بما نقول.

وستتاح الفرصة للإجابة عن الأسئلة والاستفسارات والاستشكالات في نهاية كل درسٍ بإذن الله تعالى، فمن كان عنده سؤالٌ أو استفسارٌ أو استشكالٌ فليرسله مكتوبًا، وسنجيب -إن شاء الله تعالى- عن الأسئلة الواردة ما أمكن.

أيضًا أخبرني الإخوة: أن هناك هدايا رمزيةً لمن يجيب عن بعض الأسئلة التي ستطرح من حينٍ لآخر.

ستكون هذه الدروس في شرح هذا الحديث، وهو حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، وهذا الحديث عُنِيَ العلماء به عنايةً كبيرةً؛ وذلك لأن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قد اهتم بضبط حجة النبي ووصْفِها، وقد وصفها وصفًا دقيقًا؛ ولذلك العلماء يرجحون حديث جابرٍ في المسائل الخلافية؛ ولذلك فإن العلماء يرجحون دلالة حديث جابرٍ في المسائل المختلف فيها، ويعللون بهذا التعليل، بأن جابرًا  عُني بضبط حجة النبي .

فعلى سبيل المثال: في مزدلفة، كم أُذِّن من مرةٍ، وكم أُقيم من مرةٍ؟ اختلفت الروايات؛ ففي بعض الروايات: أنه كان أذانان وإقامتان، وفي بعضها: إقامتان بدون أذانٍ، وفي بعضها: أذان بإقامتين، وهذه -إن شاء الله- سنأتي إليها، لكن العلماء يرجحون الأذان بإقامتين، ويعللون ذلك بأنها وردت في حديث جابرٍ ، وجابرٌ عُني بضبط حجة النبي .

ثم إن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قد عُمِّر، وهو من فقهاء وعلماء الصحابة ، ومعروفٌ حرصه الشديد على طلب العلم، يكفي أنه ارتحل من المدينة إلى الشام من أجل سماع حديثٍ واحدٍ فقط؛ فهذا يدل على حرصه الشديد على طلب العلم والتفقه في دين الله ​​​​​​​، مكث في هذه الرحلة شهرين؛ شهرًا في الذهاب، وشهرًا في الإياب، سافر على بعيره وحده من المدينة إلى الشام من أجل سماع حديثٍ واحدٍ فقط؛ فهذا يدل على حرص جابرٍ  على طلب العلم والتفقه في دين الله ؛ ولهذا فهو معدودٌ من العلماء، من علماء الصحابة ، وبعض الصحابة  يعتني بجانبٍ من الأحاديث؛ فمثلًا: جابرٌ  روى عددًا من الأحاديث، لكنه عُني بضبط حجة النبي ، وحذيفة بن اليمان  عني بضبط أحاديث الفتن وأشراط الساعة، وعَدي بن حاتمٍ  عُني بضبط أحاديث الصيد؛ لأنه كان مهتمًّا بالصيد، فنجد أن بعض الصحابة  له اهتمامٌ برواية أحاديث في بابٍ معينٍ، فجابرٌ  اشتهر عنه العناية بضبط حجة النبي .

وعِلم المناسك من أدق ما في العبادات، قال الإمام ابن تيمية رحمه الله، كما في “منهاج السنة”: “عِلم المناسك أدق ما في العبادات”، ولذلك يستشكل كثيرٌ من العلماء مسائل في الحج، وتتجدد نوازل في الحج، والمُفتون في الحج يذكرون هذا، يذكرون أنهم كل عامٍ تتجدد لهم نوازل ومسائل مشكلةٌ فيه؛ وذلك لأن مسائل الحج دقيقةٌ كما وصف ذلك ابن تيمية رحمه الله، قال: “إن علم المناسك هو أدق ما في العبادات”.

ولذلك تجد أحيانًا النية في الحج لا تقاس على غيرها؛ فيمكن أن ينوي الإفراد أو القِران، ثم يقلبه إلى تمتعٍ، يصح.

كذلك في الطواف بالصبي غير المميِّز، ينوي عن نفسه وعن هذا الصبي، فكيف تكون النية عن شخصين؟

كذلك النية في التحويل من نسكٍ إلى نسكٍ، والنية في أبوابٍ وفي مسائل في الحج، لا يقاس الحج على غيره في باب النية؛ فلذلك مسائل الحج هي من أدق ما في العبادات، علم المناسك هو أدق ما في العبادات.

التعريف براوي الحديث (جابر بن عبدالله رضي الله عنهما)

راوي هذا الحديث جابر بن عبدالله بن حَرَامٍ السَّلِمي [1]، هكذا ضبطوه، أبو عبدالله، الصحابي الأنصاري الخزرجي، فهو من الأنصار ومن الخزرج، وهو من أهل بيعة الرضوان الذين قال الله ​​​​​​​ عنهم: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18]، وشهد هو وأبوه بيعة العقبة، وكان والده عبدالله بن حرامٍ  من كبار الصحابة ، ومن البدريين، قتل يوم أحدٍ، وكلمه الله كفاحًا، وقد انكشف قبره من آثار السيول، فأراد ابنه جابرٌ نقل قبره بعد مدةٍ من الدهر، فلما حفر القبر؛ وجده طريًّا، وجد أباه طريًّا لم يَبْلَ جسده، وهذه كرامةٌ، وقد جاء في الحديث الصحيح: أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء [2]. لكن هل يشمل ذلك الشهداء والصديقين والصالحين، أن الأرض لا تأكل أجسادهم أم لا؟

الذي ورد هو فقط: الأنبياء، أن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، لكن وُجد من قديم الزمان أجساد أناسٍ من الصديقين والشهداء والصالحين لم تأكل الأرض أجسادهم؛ ولذلك قال كثيرٌ من أهل العلم: إن الأرض لا تأكل أجساد جميع الأنبياء، ومن شاء الله من الصديقين والشهداء والصالحين.

الصديقون أعلى درجةً من الشهداء، ومن شاء الله من الصديقين والشهداء والصالحين، ونقيدها بـ”من شاء الله”؛ لأننا ليس عندنا دليلٌ على أن الأرض لا تأكل جميع هؤلاء، لكن وُجد من الصديقين والشهداء والصالحين من لم تأكل الأرض أجسادهم، وأيضًا هذا التقييد يفيد أنه لو وجد شخصٌ أكلت الأرض جسده لا يلزم أنه ليس بشهيدٍ، أو ليس بصِدِّيقٍ، أو ليس بصالحٍ، فهذا هو أظهر الأقوال في هذه المسألة.

فعبدالله بن حَرامٍ وَجَدَه ابنه طريًّا لم تأكل الأرض جسده.

جابر بن عبدالله رضي الله عنهما هو يعتبر من المكثرين من رواية الحديث عن النبي ؛ روى ألفًا وخمسمئةٍ وأربعين حديثًا، اتفق البخاري ومسلمٌ على ثمانيةٍ وخمسين حديثًا، وانفرد البخاري بستةٍ وعشرين، ومسلمٌ بمئةٍ وستةٍ وعشرين.

وقد توفي أبوه وترك دينًا بثلاثين وَسْقًا ليهوديٍّ، فأتى اليهودي يطالب جابرًا بالدين، فاستنظره فأبى، فكلم جابرٌ  النبي يطلب منه شفاعته، فأتى النبي لهذا اليهودي وشفع في إنظار جابرٍ في سداد الدين، ولكن اليهودي أبى، فأتى النبي إلى نخل جابرٍ ، الذي ورثه عن أبيه، فمشى فيه، ثم قال: يا جابر، جُدَّ له فأَوفِ الذي له، فجد له فأوفاه ثلاثين وَسْقًا، وفضَل سبعة عشر، فجاء جابرٌ  وأخبر النبي بذلك، مع أن ثمر النخل كان قليلًا لا يكفي، لكن هذا ببركة النبي ، فلما أخبر جابرٌ  النبي قال: أشهد أني رسول الله، قال عمر : والله لقد علمت حين مشى فيها رسول الله ليبارَكن فيها [3]، فهذا ببركة النبي ، وهذه أيضًا آيةٌ من آيات الله تعالى.

وقصة جابرٍ في بيعه جمل النبي عليه الصلاة والسلام؛ قصةٌ مشهورةٌ في “الصحيحين”: قال: كنت مع النبي فأبطأ بي جملي، والنبي كان من عادته أنه يتفقد الجيش، فلما وجد جابرًا في آخر الجيش، في مؤخرة الجيش، قال: ما شأنك؟، قال: أبطأ عليَّ جملي، قال: اركب، فلما ركب جمله، قال: تزوجت؟، قال جابرٌ : قلت: نعم، قال: أتزوجت بكرًا أم ثيبًا؟، قلت: ثيبًا، قال: هلَّا بكرًا تلاعبها وتلاعبك؟، قلت: يا رسول الله، إن لي أخواتٍ -قيل: كان له تسع أخواتٍ- فأحببت أن أتزوج امرأةً تجمعهن وتمشطهن وتقوم عليهن، فضرب النبي الجمل، ضربه بعصًا، ودعا له، فسار سيرًا ليس يسير مثله، حتى صار في مقدمة الجيش، فلما ضربه وسار؛ قال له النبي عليه الصلاة والسلام قبل أن ينطلق: أتبيعني جملك؟، قلت: نعم، لكني أستثني حُمْلانه إلى المدينة، يعني: أن يوصلني إلى المدينة، فاشتراه النبي بأوقيةٍ.

قال: فلما قدمت المدينة؛ أتيت المسجد فوجدت النبي على باب المسجد، فقال لي: دع جملك وصل ركعتين، وهذه سنةٌ للمسافر إذا قدم من سفرٍ أن يصلي ركعتين في المسجد إن تيسر، فإن لم يتيسر؛ يصليها في البيت، وهذه من السنن المهجورة، أو شبه المهجورة، المسافر إذا قدم من سفرٍ السنة: أن يصلي ركعتين.

فقال: دع جملك وصل ركعتين قال: ثم أتيت، وقلت في نفسي -يقول جابرٌ – قلت في نفسي: الآن يَرُد عليَّ جملي؛ لأنه قال: صلِّ ثم تعال، فقلت في نفسي: الآن يرد علي جملي، ولم يكن شيءٌ أبغض إلي منه؛ لأنه أتعبه، كان بطيئًا، وكان في آخر الجيش، ما يريد أن يراه أصلًا، فأمر بلالًا  أن يزن لي أوقيةً، فأرجح لي في الميزان، فأعطاني الثمن، ثم قال لي: خذ جملك، قلت: يا رسول الله، قد استوفيت الثمن، قال: الثمن والجمل لك [4]، وهذا من كريم خلقه عليه الصلاة والسلام، هذا الموقف ما ظنكم بأثره على هذا الصحابي؟ أن يأتي إليه، ويتكلم معه ويلاطفه في العبارة، ويسأله عن الزواج، ثم يقول: بِعني جملك، ثم لما أتى أيضًا أعطاه الثمن وأعطاه الجمل، فانظر إلى هذا الخلق العظيم! وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].

جابرٌ ​​​​​​​ عُمِّر وعاش أربعًا وتسعين سنةً، وكف بصره في آخر حياته، توفي سنة ثمانٍ وسبعين، ونقل الحافظ ابن حجرٍ في “الإصابة” عن علي بن المديني أنه قال: مات جابرٌ  بعد أن عُمِّر ، فأوصى ألا يصلي عليه الحَجَّاج، لكن جاء في تاريخ البخاري والطبري: أن الحجاج شهد جنازته، والذي يظهر أنه أوصى، لكن لم يستطع أهله أن ينفذوا الوصية، فصلى عليه الحَجَّاج.

فجابرٌ إذنْ معدودٌ من علماء الصحابة ، ومن المكثرين من الرواية، وقد ضبط حجة النبي .

حج النبي قبل الهجرة

ونبدأ بحديث جابرٍ ، ننتقل مباشرةً للكلام عن الحج؛ لأن في أوله كلامًا نريد أن نكسب الوقت، ننتقل مباشرةً للكلام عن الحج.

قال:

إن رسول الله مكث تسع سنين لم يحج.

لم يحج النبي بعد الهجرة، وإنما حج قبل الهجرة، حج عدة مراتٍ قبل الهجرة.

وقد جاء في “صحيح البخاري” عن جبير بن مطعمٍ، قال: أضللت بعيرًا لي فذهبت أطلبه يوم عرفة، فرأيت النبي واقفًا بعرفة، فقلت: هذا والله من الحُمْس -والحمس جمع أحمَس، والأحمس: هو الشديد على دينه، وكانت قريشٌ من الحُمْس، وكانوا لا يقفون بعرفاتٍ، يقفون بمزدلفة، ويقولون: نحن أهل الحرم، فلا نقف بعرفة؛ لأن عرفة من الحِل، فيقول جبيرٌ: قلت: هذا من الحُمْس- فما شأنه هنا؟! لماذا لم يقف مع قريشٍ ووقف بعرفة؟! [5].

وهذه الواقعة التي ذكرها جبيرٌ هذه في “صحيح البخاري”، لكن متى كان هذا؟ بعض العلماء قال: إن هذا كان في حجة الوداع؛ لأن جبير بن مطعمٍ أسلم يوم الفتح، فكان سؤاله إنكارًا أو تعجبًا، ولعله لم يبلغه نزول الآية: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199]، هذا قاله جمعٌ من أهل العلم.

والقول الثاني: أن هذه القصة التي ذكرها جبيرٌ وقعت قبل الهجرة، لكن رواها جبيرٌ بعدما أسلم، والراوي قد يروي شيئًا قبل إسلامه، بل إن جبير بن مطعمٍ نفسه هو الذي روى حديث: “سمعت النبي يقرأ: وَالطُّورِ، فلما بلغ: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35]، كاد قلبي أن يطير” [6]، قبل أن يسلم، ثم روى الحديث بعدما أسلم.

وهذا القول الأخير: أن هذه الواقعة وقعت قبل الهجرة، هو القول الراجح، وقد رجح هذا الحافظ ابن حجرٍ في “الفتح”، وقال: “إن هذا القول هو المعتمد”؛ لأنه يبعد جدًّا أن جبيرًا يجهل أن النبي عليه الصلاة والسلام يقف مع الناس في عرفة، كيف يقول: هذا والله من الحمس؛ فما شأنه هنا؟ فالأقرب -والله اعلم- أن هذا وقع في حجةٍ قبل الهجرة، وهذا يدل على أن النبي حج قبل الهجرة، لكن كم حج من حجةٍ؟ الله أعلم.

متى فرض الحج؟

فرضية الحج؟ قال جابرٌ : إن رسول الله لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة، الحج فُرض في السنة التاسعة، وقيل: فرض في السنة السادسة، قولان مشهوران للعلماء، فالقائلون بأنه قد فرض في السنة السادسة، قالوا: إنه قد فرض بقول الله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، وهذه نزلت في السنة السادسة؛ لأنه قال: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196]، والاحصار وقع في سنة الحديبية.

والقول الثاني: أن الحج إنما فرض في السنة التاسعة؛ لقول الله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97]، وهذا هو القول الراجح: أن الحج فرض في السنة التاسعة.

وأما قول الله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، هذا أمر بإتمام الحج والعمرة، لكن لا يستفاد منه فرضية الحج، ثم إنه يبعد جدًّا أن يفرض الحج على المسلمين، ومكة ليست بدار إسلامٍ، كيف يفرض الحج على الناس ومكة ليست بدار إسلامٍ، كانت بيد قريشٍ، لم تفتح مكة إلا في السنة الثامنة؛ ولهذا فالصواب: أن الحج إنما فرض في السنة التاسعة من الهجرة.

لماذا لم يحج النبي في السنة التاسعة؟

لما فرض الحج في السنة التاسعة من الهجرة في عام الوفود؛ لماذا لم يحج النبي ؟

لم يحج في السنة التاسعة التي فرض فيها الحج، وإنما أخر الحج إلى السنة العاشرة، قالوا: إن النبي عليه الصلاة إنما أخر الحج للسنة العاشرة؛ لمصالح:

المصلحة الأولى: أنه كان يحج البيت مشركون، وكان يطوف بالبيت عراةٌ؛ وذلك أن قريشًا ابتدعت أنه لا يطوف بالبيت إلا من كان من الحُمْس، أو يعطيه واحدٌ من الحمس ثوبًا يطوف فيه، أما من كان من غيرهم يخلع ثيابه، ويطوف عاريًا، حتى المرأة تطوف عاريةً، وتقول:

اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله

هذه هي الفاحشة التي ذكرها الله تعالى في قوله: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف:28].

المفسرون قالوا: إن المقصود بالفاحشة هنا: الطواف بالبيت عراةً، قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا، فالله تعالى سكت عن قولهم: وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا؛ لأنهم بالفعل وجدوا آباءهم عليها، لكن قولهم: وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا، أنكر الله تعالى عليهم: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ.

وأيضًا أراد النبي عليه الصلاة والسلام في تأخير الحج أن يبعث أبا بكرٍ أميرًا على الحج، وينادي في الناس ألا يحج بعد ذلك العام مشركٌ، ولا يطوف بالبيت عريانٌ، فنادى أبو بكرٍ في الناس في السنة التاسعة: “أيها الناس، لا يحج بعد هذا العام مشركٌ، ولا يطوف بالبيت عريانٌ [7].

وأيضًا من المصالح: أن النبي في السنة التاسعة انشغل بالوفود التي تفد عليه من أقطار الجزيرة العربية لتعلن إسلامها؛ لأنه بعد فتح مكة قوي المسلمون، والناس يتبعون في الغالب القوي، فأصبحت قبائل العرب تفد إلى النبي عليه الصلاة والسلام وتعلن إسلامها؛ فانشغل النبي عليه الصلاة والسلام بتلك الوفود.

خلاف الأصوليين في دلالة الأمر على الفور أو التراخي

لكن هنا ترد مسألةٌ أصوليةٌ، وهي الفورية، هل الأمر المجرد عن القرائن يقتضي الفورية أو أنه على التراخي؟ هذه مسألةٌ أصوليةٌ معروفةٌ، فإذا قلنا: إن الأمر يقتضي الفورية، الحج فرض في السنة التاسعة؛ لماذا لم يحج النبي في السنة التاسعة؟ وإذا قلنا: على التراخي هذا يقتضي تأخير فعل المأمور به، وتأخيره إلى ماذا؟ ربما يموت وهو لم يأت به، وهذه المسألة الأصولية فيها ثلاثة أقوالٍ، وبعضهم يجعلها أربعةً:

القول الأول: أن الأمر يقتضي الفورية، أن الأمر على الفور، طبعًا صورة المسألة مع التجرد من القرائن، أما المحتف بالقرائن فيعمل بالقرينة؛ إذا كانت القرينة تدل على الفورية؛ يقتضي الفورية، تدل على التراخي؛ يقتضي التراخي.

لكن المسألة: إذا كان الأمر مجردًا عن القرائن، لم يَحتَفَّ به قرائن، فهل هو على الفور، أو على التراخي؟

  • القول الأول: أن الأمر على الفور، وهذا هو المذهب عند الحنفية والحنابلة.
  • والقول الثاني: أن الأمر على التراخي.
  • والقول الثالث: أنه لا يدل على الفور ولا على التراخي، بل يدل على طلب الفعل، وهذا القول ينسب للإمام الشافعي، واختاره الرازي والآمدي وابن الحاجب والإسنوي، القول بأنه على الفور هذا هو المشهور، لكن يَرِد عليه اشكالاتٌ؛ لماذا لم يبادر النبي عليه الصلاة والسلام بالحج وهو قد فُرض بالسنة التاسعة؟

أيضًا إذا قلنا: على الفور؛ فكل من تأخر في تنفيذ أمرٍ يأثم، لو وجبت الزكاة ولم يخرجها على الفور أثم، لو وجب الحج عليه ولم يحج في ذلك العام أثم، وهذا التأثيم يحتاج إلى دليلٍ، ومن قال بأنه على الفور جميع الأدلة التي استدلوا بها إما أنها مُحْتَفَّةٌ بالقرائن، أو أنها تدل على فضل المسارعة والمبادرة، لكن لا تدل على الوجوب.

فهل أحدٌ منكم يحفظ دليلًا يدل على أن الأمر المجرد عن القرائن يقتضي الفورية؟ أنا ما وجدت دليلًا ظاهرًا في المسألة، الأدلة كلها إما أنها محتفَّةٌ بالقرائن، أو أنها إما أن يكون هذا الدليل محتفًّا بالقرائن، أو أنه يدل على فضل المسارعة والمبادرة، وأيضًا القول بأنه على التراخي يحتاج إلى دليلٍ، ليس هناك دليلٌ ظاهرٌ يدل على أن الأمر على التراخي.

ولذلك القول الثالث -المنسوب للإمام الشافعي، والذي اختاره جمعٌ من كبار أئمة الأصول- لعله هو الأقرب والله أعلم، وهو أن الأمر ليس على الفور ولا على التراخي، بل يدل على طلب الفعل، وينظر بعد ذلك للسياق والأحوال وما يحتف من مجموع القرائن، وكثيرٌ من الأدلة والنصوص يحتف بها شيءٌ من القرائن التي ترجح أنه إما على الفور أو على التراخي؛ يعني مثلًا: قضاء رمضان، هل هو على الفور أو على التراخي؟ على التراخي إلى رمضان من العام الذي بعده، إلى رمضان من العام المقبل.

وقت الصلاة هل تجب الصلاة على الفور أو على التراخي؟ على التراخي، ما لم يدركه وقت الصلاة التي بعدها، أو ما لم يخرج الوقت؛ حتى نخرج من وقت الفجر؛ الفجر ليس بينه وبين الظهر اتصالٌ، يعني وقت الصلاة يمتد ما لم يخرج وقتها، على التراخي ما لم يخرج وقته، وهكذا.

فهذه مسألةٌ أصوليةٌ أحببت أن أنبه إليها؛ لأنه يتبادر لكثيرٍ من طلبة العلم أن الأمر على الفور، مع قوة الخلاف في هذه المسألة.

والذي يظهر والله أعلم: أن القول الثالث هو الأقرب في هذه المسألة.

التأذين في الناس بالحج

قال:

ثم أذَّن في الناس في العاشرة.

لماذا أذن في الناس؟ أذن في الناس؛ كي يُعلِم الناس بأنه سيحج؛ حتى يقتدوا به ويتأسوا به.

قال:

ثم أذن في الناس في العاشر: أن رسول الله حاجٌّ، فقدم المدينة بشرٌ كثيرٌ.

قُدِّر عددهم بمئة ألفٍ، وقيل: مئة وعشرون ألفًا.

الذي يجيب عن هذا السؤال له جائزةٌ، الجوائز عند الإخوة، من يبين لنا كم عدد الصحابة؟

مئةٌ وأربعةٌ وعشرون ألفًا، بارك الله فيك! تفضل سجل اسمه.

مئةٌ وأربعةٌ وعشرون ألفًا، يعني معنى ذلك: أن أكثر الصحابة  حجوا، مئة ألفٍ، ما بقى منهم إلا أربعةٌ وعشرون ألفًا، معظم الصحابة  حجوا؛ لأنهم يريدون أن يتأسوا بالنبي .

قال: “فقدم المدينة بشرٌ كثيرٌ”، وهناك من لقيه على الطريق، وهناك من أيضًا أتى النبي عليه الصلاة والسلام وهو في مكة، وهناك من لم يأت إلا ليلة المزدلفة؛ مثل عروة بن مُضَرِّسٍ.

كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله .

يعني: هذا هو السبب، كلٌّ يريد الاقتداء والتأسي بالنبي ، ويعمل مثل عمله.

خروج النبي من المدينة

قال:

فخرجنا معه.

“فخرجنا معه” يقصد جابر ومن معه من الصحابة ، خرجوا مع النبي ، وكان ذلك في يوم السبت، الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة من السنة العاشرة من الهجرة، كان يوافق يوم السبت بعدما أعلم الناس في خطبة الجمعة كيف يحرمون، وماذا يلبس المحرم، وأحكام النسك، ثم بعدما صلى بالناس في مسجده صلاة الظهر أربع ركعاتٍ سار عليه الصلاة والسلام إلى ذي الحليفة بعد صلاة الظهر، فلما وصل إلى ذي الحليفة صلى فيها العصر ركعتين.

ويستفاد من هذا فائدةٌ: وهي أن المسافر قبل أن يفارق عمران البلد الذي هو مقيمٌ فيه ليس له الترخص برخص السفر؛ وإنما يجب عليه الاتمام، لكن إذا فارق العمران؛ جاز له الترخص، من أين أخذنا هذه الفائدة؟

النبي عليه الصلاة والسلام صلاة الظهر صلاها في مسجده أربع ركعاتٍ، وفي ذي الحليفة العصر صلاها ركعتين، فمثلًا: لو كنت في مدينة الرياض، وتريد أن تسافر، ودخل عليك وقت أذان العصر، صلِّها أربع ركعاتٍ، لكن لو أنك لم تصلِّ صلاة العصر إلا بعدما فارقت عمران الرياض، صليتها في الطريق، فتصليها ركعتين على القول الراجح، وإن كان بعض العلماء يقول: إذا دخل عليه الوقت في الحضر، ثم أراد أن يصليها في السفر يُغلِّب جانب الحضر، هذا هو مذهب الحنابلة، لكن القول الراجح قول الجمهور، وهو أن العبرة بحال الفعل، ما دمت أثناء الصلاة تصليها وأنت في السفر، فأنت مسافرٌ، فتصلي ركعتين، لكن الذي ينبَّه عليه: أن الإنسان قبل أن يفارق العمران ليس له الترخص برخص السفر، أخذنا هذه الفائدة من أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى الظهر في مسجده أربع ركعاتٍ، ولما وصل إلى ذي الحليفة صلى العصر ركعتين [8].

الوصول إلى ذي الحليفة

ووصل إلى ذي الحليفة، وذو الحليفة قريبة من المدينة، والآن تجاوَزَها عمران المدينة، دخَلَت في عمران المدينة وتجاوزها، وبقي عليه الصلاة والسلام في ذي الحليفة في ذلك اليوم -يعني يوم السبت- وصلى صلاة العصر، وصلى الظهر في مسجده.

لما وصل إلى ذي الحليفة، هي كما قلنا: قريبةٌ من المدينة، وصلها قبل العصر، فصلى في ذي الحليفة صلاة العصر ركعتين، ثم صلاة المغرب ثلاث ركعاتٍ، ثم العشاء ركعتين، ثم الفجر ركعتين.

ثم الفجر قال للصحابة : إنه أتاني هذه الليلة آتٍ من ربي وقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجةٍ [9].

صل في هذا الوادي المبارك: طيب من يعرف اسم هذا الوادي؟ ولا زال يسمى إلى الآن بهذا الاسم: “وادي العقيق”، صل في هذا الوادي المبارك، وصفه النبي عليه الصلاة والسلام بأنه وادٍ مباركٌ، وهو ذو الحليفة.

و”الحليفة”: تصغير حَلَفَة، ويقال: حَلْفاء، وهو شجرٌ معروفٌ، وسميت بذلك؛ لكثرة هذه الأشجار في ذلك الوادي.

وقوله: أتاني آتٍ من ربي، يعني: في النوم، ورؤيا الأنبياء حقٌّ، ويسمَّى ذو الحليفة “أبيار عليٍّ”، فما المراد بعليٍّ؟ المقصود به علي بن أبي طالبٍ ؟ الجواب: لا، وبعض العامة يعتقد أنه علي بن أبي طالبٍ ، وأن عليًّا قاتل الجن، وأنكر هذا العلماء، وقالوا: عليٌّ أرفع قدرًا من أن يقاتل الجن، وهذه حكاياتٌ لا أصل لها.

لماذا سمي “أبيار عليٍّ”؟

ذكر هذا بعض الكُتَّاب، وقد رأيت هذا في كتابات بعض الصحفيين، وفي..، يقولون: إنه علي بن دينارٍ، ولد في دارفور، وأنه لما أتى ووجد ذلك المكان ليس فيه ماءٌ؛ أمر بحفر الآبار، ولكن هذا القول غير صحيحٍ؛ لأن علي بن دينارٍ لما قدم للحج قدم سنة ألفٍ وثلاثمئةٍ وخمسة عشر، يعني قريب، بينما أبيار علي ذكرها العلماء السابقون، وذكرها ابن تيمية ومن قبله، ابن تيمية توفي عام سبعمائة وثمانية وعشرين.

والذي يظهر: أن عليًّا رجلٌ من الولاة لا ندري من هو؟ هذه تحتاج إلى تحقيقٍ تاريخيٍّ، ما المقصود بأبيار علي؟ لكن ليس هو علي بن أبي طالبٍ ، وليس أيضًا علي بن دينارٍ، من هو؟ هذه تحتاج إلى تحقيقٍ تاريخيٍّ لمعرفة من هو علي الذي تنسب له هذه الأبيار؟

طيب، صلى النبي بذي الحليفة العصر والمغرب والعشاء والفجر.

إحرام النبي من الميقات

هل أحرم بعد الفجر من يوم الأحد السادس والعشرين من ذي القعدة؟ أو أنه أحرم بعد صلاة الظهر؟ قولان للعلماء:

  • القول الأول: أن النبي أحرم بعد صلاة الفجر من يوم الأحد، وهذا اختاره النووي رحمه الله.
  • والقول الثاني: أن النبي إنما أحرم بعد صلاة الظهر، وقد اختار هذا القول ابن القيم وابن كثيرٍ وجمع من أهل العلم رحمهم  الله، وهذا هو القول الراجح: أن إحرام النبي إنما كان بعد صلاة الظهر، وليس بعد صلاة الفجر.

ويدل لذلك ما جاء في “صحيح مسلمٍ” عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: “صلى النبي الظهر بذي الحليفة، ثم دعا بناقته فأشعرها، ثم ركب راحلته..” [10] إلى آخر الحديث.

فهذا نصٌّ في أن ذلك إنما كان بعد صلاة الظهر وليس بعد صلاة الفجر، فهذا هو الأظهر والله أعلم، أن إحرام النبي عليه الصلاة والسلام إنما كان بعد صلاة الظهر.

إذا قلنا: بعد صلاة الظهر، معنى ذلك: كم صلى النبي بذي الحليفة من صلاةٍ؟ قدم لها قبل صلاة العصر، فصلى بها العصر والمغرب والعشاء والفجر والظهر، أي صلى في ذي الحليفة كم صلاةً؟ خمس صلواتٍ.

وكون النبي عليه الصلاة والسلام يحرم بعد صلاة الظهر، يدل على أن السنة الإحرام عقب صلاةٍ، لكن هل للإحرام ركعتان تخصه؟

هذه مسألةٌ محل خلافٍ بين العلماء:

  • فمنهم من قال: إن للإحرام ركعتين تخصه، وهذا هو قول الجمهور، واستدلوا بالحديث السابق، بقول النبي : إنه أتاني الليلة آتٍ من ربي وقال: صل في هذا الوادي المبارك [11].
  • والقول الثاني: إنه ليس للإحرام ركعتان تخصه، لكن السنة أن يكون الإحرام عقب صلاةٍ، وهذا هو القول الراجح، وقد اختاره ابن تيمية وابن القيم، واختاره أيضًا الشيخ محمد بن عثيمين، رحمة الله تعالى على الجميع؛ لأنه ليس هناك دليلٌ يدل على أن للإحرام ركعتين تخصه، وأما قوله عليه الصلاة والسلام: صل في هذا الوادي المبارك، فهذا لأجل بركة هذا المكان، وهو وادٍ مباركٌ، وادي العقيق، لكن كون النبي إنما أحرم بعد صلاة الظهر يدل على أن السنة أن يكون الإحرام عقب صلاةٍ، فإن كان وقت صلاة الفريضة قريبًا، فالسنة أن يكون الإحرام بعد صلاة الفريضة مباشرةً، أما إذا لم يكن قريبًا فيصلي المسلم صلاةً مشروعةً، أي صلاةٍ مشروعةٍ، إذا كان في الليل مثلًا يصلي صلاة الوتر، إذا كان في الضحى يصلي ركعتي الضحى، أو يتوضأ ويصلي ركعتي الوضوء، يأتي بأي صلاةٍ مشروعةٍ، ثم يحرم بعد الصلاة، هذا هو القول الراجح، والمختار عند كثيرٍ من المحققين في هذه المسألة.

إحرام النفساء بالحج، واستحباب اغتسالها

قال:

حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميسٍ محمد بن أبي بكرٍ.

أسماء بنت عُميسٍ رضي الله عنها هي: زوجة أبي بكرٍ الصديق ، وأسماء هذه تزوجها ثلاثةٌ من أكابر الصحابة : أول من تزوجها جعفرٌ الطيار ، وهاجرت معه إلى الحبشة، وولدت له ثلاثة أبناءٍ، ثم رجعت معه إلى المدينة، وهاجرت معه من مكة إلى المدينة، وبقيت معه إلى أن قتل في غزوة مؤتة.

ثم بعد ذلك تزوجها أبو بكرٍ الصديق ، وكانت مع النبي في حجة الوداع وهي زوجة أبي بكرٍ الصديق ، وولدت ابنه محمدًا، محمد بن أبي بكرٍ، ولما توفي أبو بكرٍ الصديق أوصى بأن تغسله، فغسلته، وهذا يدل على أن المرأة يجوز لها ان تغسل زوجها، وهذا بالإجماع، وإنما الخلاف هل يجوز للرجل أن يغسل زوجته أم لا؟ والراجح أنه يجوز، أما كون المرأة تغسل زوجها، فهذا جائزٌ بالإجماع؛ ولهذا أسماء بنت عميسٍ رضي الله عنها غسلت أبا بكرٍ الصديق ، بعد وفاة أبي بكرٍ الصديق تزوجها علي بن أبي طالبٍ ، فتزوج هذه الصحابية الجليلة ثلاثةٌ من أكابر الصحابة .

لكن السؤال أيضًا أسماء بنت عميسٍ رضي الله عنها كانت في شهرها التاسع، كانت قريبةً من الوضع، فلماذا ذهبت للحج وهي قريبةٌ من الوضع، ويغلب على ظنها أنها ستلد إما في الطريق، أو بعد وصولها لمكة، مع مشقة السفر في ذلك الوقت؟

الجواب: أنها أرادت ألا تفوت على نفسها فرصة الحج مع النبي عليه الصلاة والسلام، والتأسي به، وتحملت المشاق، وإلا امرأةٌ حاملٌ في شهرها التاسع، ومع ذلك تسافر مع النبي عليه الصلاة والسلام، وتذهب معه من المدينة إلى مكة وتبقى في السفر مدة عشرة أيامٍ على الإبل، فهذا يدل على أنها اختارت هذا الأمر؛ لأنها تريد ألا تفوت على نفسها أن تحج مع النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا يدل على حرص الصحابة  على الخير، مع ما تعانيه المرأة أثناء الوضع، وأيضًا بعد الوضع ستبقى نفساء وهي في الطريق وفي مكة، فانظر إلى هذا الموقف العجيب من هذه المرأة! فولدت أسماء بنت عميس في ذي الحليفة، فأرسلت إلى النبي تستفتيه.

قال جابرٌ : فأرسلت إلى رسول الله : كيف أصنع؟ قال: اغتسلي.

أمرها بالاغتسال للإحرام، وليس لرفع الحدث؛ لأن الحدث مستمرٌّ معها؛ لكونها نفساء، لا يرتفع الحدث إلا بانقطاع الدم.

اغتسلي، واستثفري بثوبٍ.

الاستثفار معناه: أن تتعصب بثوب وتشده على فرجها؛ حتى لا يخرج الدم.

واستثفري بثوبٍ وأحرمي، ففعلت، قال: فصلى رسول الله في المسجد.

أي: في مسجد ذي الحليفة؛ وهذا يدل على أنه كان في ذلك المكان مسجدٌ، ولا يزال إلى الآن، مسجد ذي الحليفة لا يزال إلى الآن.

حال الصحابة مع نبيهم في الحج

ثم ركب القصواء.

والقصواء: لقب ناقته عليه الصلاة والسلام، وله ناقةٌ أخرى اسمها: العضباء، وكان عليه الصلاة والسلام يسمي دوابه، وابن القيم رحمه الله تكلم عن هذا في الهدي النبوي؛ ولذلك بعض العلماء يقول: إن هذا من السنة، وهذا يعمل به الناس الآن في المراكب الحديثة، تجد أن سيارته هذا نوع كذا، سيارة كذا، سيارة كذا، لكن الحيوانات متشابهةٌ؛ ولذلك الأحسن يسمي هذه الناقة اسمها كذا، وهذه اسمها كذا، وهذه اسمها كذا، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يسميها، هذه العضباء، هذه القصواء، فالناقة التي كانت مع النبي في حاجة الوداع كانت القصواء.

قال:

ثم ركب القصواء حتى اذا استوت به ناقته على البيداء.

البيداء: جبلٌ صغيرٌ طرف ذي الحليفة.

قال:

نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكبٍ وماشٍ، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك.

قرابة مئة ألفٍ، وكلهم محيطون بالنبي عليه الصلاة والسلام كان عددهم كثيرًا، فمراد جابرٍ : كثرة الذين حجوا مع النبي  والمتحلقون به؛ ولذلك لما طاف النبي أحاط الناس به، ما استطاع أن يكمل الطواف، طلب بعيره وأكمل بقية الطواف على بعيره، إن الناس قد غَشُوه، ما استطاع أن يكمل، يعني المئة الألف كلهم محيطون متحلقون به، كلٌّ يريد أن ينظر ماذا يفعل؟ كلٌّ يريد أن يتأسى به، يقتدي به، فطلب النبي عليه الصلاة والسلام البعير وأكمل الطواف على بعيره، إن الناس قد غَشُوه.

والنبي عليه الصلاة والسلام كلٌّ يأتيه؛ يأتيه المستفتي، يأتيه المسترشد، يأتيه الناس كلهم، وهو قائد الدولة الإسلامية في وقته عليه الصلاة والسلام، وهو مقصدٌ لجميع الناس؛ ولذلك كان عليه الصلاة والسلام في آخر حياته يصلي صلاة الليل جالسًا، تقول عائشة رضي الله عنها: “حَطَمَه الناس” [12]، ينشغل بالناس بمشكلة هذا وهذا، وهذه تؤثر على النفس، تقول: “حطمه الناس” عليه الصلاة والسلام.

قال جابرٌ :

ورسول الله بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله.

أي: أن النبي عليه الصلاة والسلام يعرف تفسير القرآن، وهو المرجع في التفسير، وهو إمام المفسرين عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك أحسن ما يفسر به القرآن هو تفسير القرآن بالقرآن، ثم تفسير القرآن بالسنة، ثم تفسير القرآن بأقوال الصحابة ، ثم بأقوال التابعين رحمهم الله، وهذا هو الذي عليه السلف في تفسير القرآن.

قال: “وهو يعلم تأويله”، يعني: تفسيره.

وما عَمِل به من شيءٍ عملنا به.

يقصد: من أعمال النسك، يعني: كل الصحابة ينظرون للنبي عليه الصلاة والسلام، أي شيءٍ يفعله؛ يقتدون به، وقد كان عليه الصلاة والسلام يقول: أيها الناس، لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا؛ خذوا عني مناسككم، خذوا عني مناسككم [13].

الإهلال بالتوحيد

قال:

فأهَلَّ بالتوحيد.

وظاهر هذا السياق: أن إهلال النبي عليه الصلاة والسلام بالنسك إنما كان بعدما استوت به راحلته على البيداء، وهذه هي السنة أن يكون الإهلال بعد الاستواء على الراحلة.

فمثلًا ذهبتَ للميقات، اغتسلت فيه، وأتيت بصلاةٍ مشروعةٍ، الأفضل ألا تهل بالنسك إلا بعدما تركب السيارة، إذا ركبت على السيارة أَهِلَّ بالنسك؛ لأن النبي لم يُهِلَّ بعدما استوى على البيداء، لاحِظ عبارة جابرٍ قال: “فلما استوت به على البيداء أهل بالتوحيد”، ورواية أخرى أيضًا تبين هذا المعنى؛ فإذنْ الإهلال، الأفضل أن يكون بعد الاستواء على الراحلة، والأفضل أن يسبق الإهلالَ التسبيحُ والتحميد والتهليل والتكبير، وهذا عَقَد له البخاري في “صحيحه” بابًا: “باب التسبيح والتحميد والتكبير قبل الاهلال”، وساق بسنده حديثًا عن النبي أنه قبل أن يُهِل سبح وحمد الله وهلل وكبر [14].

قبل أن تقول: اللهم لبيك عمرة، أو اللهم لبيك حجًّا، قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله الا الله، والله أكبر، وهذا الحكم -كما قال الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله- لا يوجد في كتب الفقه، وإنما هو في كتب الأحاديث، والطريقة الصحيحة للتفقه: هي ربط الحديث بالفقه، مع أصول الفقه، لا بد لهذه العلوم الثلاثة أن تكون مترابطةً، لمن أراد أن يتفقه، وإلا ففصل بعضها عن بعضٍ يترتب عليه خللٌ في المنهجية لدى طالب العلم، لا بد من ربط هذه العلوم الثلاثة: الفقه، وأصول الفقه، والحديث.

قال: “فأهل بالتوحيد”، يعني: أهل أولًا بالنسك الذي أراده، وما هو النسك الذي أهل به النبي ؟

هل هو التمتع، أو الإفراد، أو القِران؟

هناك خلافٌ في النسك الذي أهل به النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن بعض العلماء قال: إنه الإفراد، وابن القيم رحمه الله أطال كثيرًا في “زاد المعاد” في تحقيق هذه المسألة، لكن القول الراجح المختار عند كثيرٍ من المحققين وأهل العلم: أن النبي حج قارنًا، قال الامام أحمد رحمه الله: “لا أشك أن النبي حج قارنًا”؛ لأنه قد ساق الهدي، ومن ساق الهدي فإنه يتعين في حقه القران؛ ولهذا قال للصحابة : لولا أني سقت الهدي؛ لجعلتها عمرةً [15]، يعني: كنتُ متمتعًا.

فإذنْ النبي عليه الصلاة والسلام أَهَلَّ قارنًا، وأمر من لم يسق الهدي من أصحابه بالتمتع، هذه مسألةٌ سنعود لها، الصحابة ما كانوا يعرفون العمرة في أشهر الحج؛ ولذلك لما أمرهم النبي عليه الصلاة والسلام بالتمتع استغربوا، سنأتي للكلام عن هذه المسألة بالتفصيل بعد قليلٍ، لكن نكمل أولًا عبارة جابرٍ قال: “فأهل بالتوحيد”، يعني: لبى النبي ، وعبر جابرٌ عن تلبية النبي بالتوحيد، وهذا من فقه جابرٍ ؛ لأن هذه التلبية العظيمة قد تضمنت التوحيد وإخلاص التوحيد لله : “لبيك اللهم لبيك”.

تلبية النبي

ذَكَر جابرٌ  هذه التلبية:

لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.

هذه هي تلبية النبي : لبيك اللهم لبيك.

لبيك: مِن لبى، والتلبية في اللغة العربية تحمل معنيين: معنى الإجابة، ومعنى الإقامة: الإجابة، والإقامة؛ فمعنى لبيك يعني: أجبتك يا رب، أجبت نداءك؛ ولهذا يقول الله تعالى: يا آدم، فيقول: لبيك، يقول: أخرج بعث النار [16].

والإقامة من قولهم: فلانٌ أَلَبَّ بالمكان، أقام فيه؛ فمعنى ذلك: أجبتك وأقمت على طاعتك، ويكون “لبيك” يعني: أنا مجيبٌ لك، مجيبٌ لندائك لي بالحج أو العمرة، ما هو نداء الله؟ دعاء الله تعالى هو المذكور في قول الله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج:27]، فإن إبراهيم لما فرغ هو وإسماعيل من بناء الكعبة أمره الله أن يؤذن في الناس بالحج، قال: يا رب، وما يبلغ صوتي؟ قال: أذِّن وعلينا البلاغ، فقام إبراهيم  على أَكَمَةٍ مرتفعةٍ، ونادى بأعلى صوته: أيها الناس، إن الله قد كتب عليكم الحج فحُجُّوا.

فأنت عندما تقول: لبيك اللهم، يعني: أجبتك يا رب، أجبت هذا النداء، النداء لي بالحج أو بالعمرة التي هي الحج الأصغر، فينبغي عندما تقول: لبيك اللهم لبيك، أن تستحضر هذا المعنى، أنك تجيب نداء الله لك: أيها الناس، إن الله قد كتب عليكم الحج فحجوا، فهذا معنى الإجابة، وأيضًا أنا مقيمٌ على طاعتك يا رب، أنا أجبت نداءك، ومقيم على طاعتك يا رب، هذا معنى لبيك.

لبيك اللهم: اللهم أصلها: يا الله، لكن حذفت الياء، وأضيفت الميم تعويضًا، فكانت: اللهم.

لبيك: هنا لبيك الثانية توكيدٌ لفظيٌّ، يعني: إجابة مني لك يا رب، إجابةً غير مقيدةٍ بعددٍ، لبيك يا رب، كل ما أمرتني به، كل ما ناديتني به لبيك يا رب، لبيك اللهم لبيك.

لبيك: أيضًا كررها للمرة الثالثة، الأولى: لبيك، اللهم لبيك: الثانية، لبيك: الثالثة.

لا شريك: هنا أتى بالتوحيد، لا شريك لك في ملكك، ولا شريك لك في ربوبيتك، ولا في ألوهيتك، ولا في أسمائك وصفاتك.

لبيك: أتى بها للمرة الرابعة، وهذا يؤكد معنى الإجابة لله : لبيك لا شريك لك لبيك.

إن الحمد والنعمة لك والملك: لبيك لا شريك لك، أيضًا لا شريك لك تتضمن معنًى آخر، وهو: أن هذا النسك من حجٍّ أو عمرةٍ، أنا مخلصٌ فيه لك يا ربي، لا أريد به رياءً، ولا أريد به سمعةً، ولا أريد به عرضًا من الدنيا، فهذا النسك لك لا شريك لك، وهو أيضًا يتضمن هذا المعنى لبيك اللهم لبيك لا شريك لك.

إن الحمد: الحمد هو: وصف المحمود بالكمال؛ محبةً وتعظيمًا، هذا هو تعريف الحمد، وانتبه لهذا القيد: محبةً وتعظيمًا؛ لأنه إذا خلا الوصف من المحبة والتعظيم أصبح مدحًا وليس حمدًا، وهذا هو الفرق بين الحمد والمدح، المدح لا يستلزم منه المحبة؛ ولذلك ربما الشاعر يمدح إنسانًا وهو لا يحبه، لكن يريد منه عرضًا من الدنيا، لكن الحمد يستلزم المحبة والتعظيم، فالفرق بين الحمد والمدح: أن الحمد: وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم، بينما المدح: وصف المحمود بالكمال من غير محبةٍ ولا تعظيم، يعني: قد يكون هناك محبةٌ، وقد لا يكون، فالشاعر يمدح، لكن لا يستلزم هذا المدح المحبة والتعظيم، لكن الحمد على وجه الكمال إنما يطلق على الله على وجه الكمال، يطلق على الله لا يستحقه على وجه الكمال إلا الله سبحانه.

إن الحمد والنعمة: النعمة أي الإنعام والأفضال لك يا رب، إن الحمد والنعمة لك والملك أي: الملك لله ، فالله تعالى له ملك كل شيءٍ، هو المالك لهذا الخلق، لا خالق إلا الله، فكل الخلق ملكٌ لله ، كلٌّ عبيدٌ لله سبحانه.

إن الحمد والنعمة لك والملك: ثم أكد أيضًا التوحيد: لا شريك لك.

فلاحِظ هنا كيف أن هذه التلبية اشتملت على التوحيد في عدة مواضع: لبيك اللهم لبيك، أولًا هذه تتضمن التوحيد؛ لأنه نداءٌ لله مع إقامةٍ، ثم لبيك لا شريك لك توحيدٌ، إن الحمد والنعمة لك هذا أيضًا توحيدٌ. لك والملك لا شريك لك؛ ولهذا وصف جابرٌ هذه التلبية بالتوحيد، وهذا يدل على فقه جابرٍ .

قال:

وأهل الناس بهذا الذي يهلون به، فلم يَرُدَّ رسول الله عليهم شيئًا منه، ولزم رسول الله تلبيته.

كان بعض الصحابة يجتهد في أنواعٍ أخرى من التلبية، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يستمع لهم ويسكت، ومن ذلك ما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول: “لبيك وسعديك، والخير في يديك، والرغباء إليك والعمل”، وكان أيضًا بعضهم يقول: “لبيك حقًّا حقًّا، تعبدًا ورقًّا”، وبعضهم يقول: “لبيك مرغوبًا ومرهوبًا إليك، لبيك ذا النعماء والفضل الحسن”، فهذه كلها أنواعٌ من التلبية وردت عن بعض الصحابة ، لكن النبي لزم تلبيته.

وهنا تأتي مسألةٌ: هل الأفضل الاقتصار على تلبية النبي ، أو أن الأفضل الإتيان بما ورد من أنواعٍ من التلبية عن بعض الصحابة ؟

الراجح، وهو ما اختاره النووي رحمه الله وجماعةٌ من أهل العلم: أن الأفضل هو الاقتصار على تلبية النبي ، لكن من آتى بهذه الأنواع من التلبية الواردة عن الصحابة لا يُنكَر عليه، هذا هو الراجح، فالأفضل هو اقتصار على تلبية النبي عليه الصلاة والسلام، ومن أتى بأنواعٍ من التلبية الواردة لا بأس، خاصةً من أراد بذلك التنويع والترويح، يعني: كونه مثلًا يكون في الطريق ومسافة الطريق طويلةٌ، وأحيانًا يريد -من باب التنويع- أن يأتي ببعض أنواع التلبية الواردة عن الصحابة، لا بأس، الأمر في هذا واسعٌ، لكن من حيث الأفضلية، الأفضل: الاقتصار على تلبية النبي .

وجاء عند الإمام أحمد بسندٍ صحيحٍ، أن النبي قال: لبيك إله الحق [17]، وهذه أيضًا تدخل بتلبية النبي ، ولهذا قال جابرٌ : “فلم يرد رسول الله عليهم شيئًا منه، ولزم رسول الله تلبيته”.

أنواع النسك

النبي -كما قلنا- حج قارنًا، وأنواع النسك ثلاثة: التمتع، والإفراد، والقِران.

فالتمتع معناه: أن يحرم بالعمرة، ثم يفرغ منها ويحرم بالحج من عامه، يحرم بالعمرة ويفرغ منها يعني: يتحلل منها، ثم يحرم بالحج من عامه، هذا هو التمتع.

وهل يشترط أن ينوي ذلك؟ لا يشترط، حتى لو أتى بالعمرة، وهو لم يرد أصلًا، لم يخطر بباله التمتع، وبقي في مكة، ثم أحرم بالحج من عامه، فهو متمتعٌ؛ ولهذا ترد استفتاءاتٌ من بعض الناس، يقول: أنا أتيت بعمرةٍ، وبقيت في مكة، ثم أردت أن أحج، وأنا أصلًا ما خطر ببالي التمتع أنا أريد الافراد، نقول: أنت متمتعٌ شئت أم أبيت، ما دمت أتيت بعمرةٍ، وأتيت بالحج في نفس العام، فأنت متمتعٌ، إلا في حالةٍ واحدةٍ وهي ما إذا رجع إلى بلده بعد العمرة انقطع تمتعه، فلو أن رجلًا الآن ذهب من الرياض وأتى بعمرةٍ، ثم رجع للرياض مرةً أخرى، ثم حج هذا العام، يكون مفردًا، ولا يكون متمتعًا، لكنه لو أنه لما ذهب الآن وأتى بعمرةٍ بقي في مكة، أو لم يرجع للرياض، يعني بقي في مكة، ثم ذهب إلى المدينة، ثم رجع إلى مكة، لم يرجع للرياض، فهنا يكون متمتعًا.

والنسك الثاني: القِران، معناه: أن يحرم بالعمرة والحج جميعًا، يقول: لبيك عمرة وحجًّا، وهذا هو نسك النبي عليه الصلاة والسلام.

والنسك الثالث: الإفراد، أن يحرم بالحج فقط.

وأعمال القارن والمفرد سواءٌ، إلا أن القارن عليه هديٌ، والمفرد ليس عليه هديٌ، وإلا فأعمالهما سواءٌ.

فهذه أنواع النسك الثلاثة، بعض العلماء ذهب إلى أن نسك الإفراد منسوخٌ، وأنه ليس هناك إلا نسكان: القران في حق من ساق الهدي، والتمتع في حق من لم يسق الهدي، والآن أصبح لا أحد يسوق الهدي، فيلزم الناس جميعًا التمتع، هذا القول رُوي عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، واختاره ابن القيم رحمه الله، وقال به من المعاصرين: الألباني رحمه الله، والقائلون به قلةٌ من أهل العلم.

وأكثر العلماء وهو الذي عليه المذاهب الأربعة: أن الحاج مُخيَّرٌ بين الأنساك الثلاثة: التمتع، والإفراد، والقِران، وأن الإفراد لم ينسخ، وأن الأحاديث التي تدل على النسخ المقصود بذلك الصحابة ، الصحابة أراد النبي أن يبطل المعتقد الموجود لديهم بأنه لا تجوز العمرة في أشهر الحج، ومما يدل لذلك -وهذا من لطائف الاستدلال- ما جاء في “صحيح مسلمٍ” عن النبي في شأن عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام عندما ينزل في آخر الزمان، قال: يهل حاجًّا، أو معتمرًا، أو بهما معًا [18]، حاجًّا يعني: مفردًا، معتمرًا يعني: متمتعًا، بهما معًا: قارنًا.

فذَكَر النبي عليه الصلاة والسلام الأنساك الثلاثة؛ وهذا يدل على عدم النسخ؛ لأن عيسى عليه الصلاة والسلام إنما ينزل في آخر الزمان، ويحكم بشريعة محمدٍ ويعمل بها؛ فهذا يدل على عدم النسخ، فهذا استدلالٌ بهذا الحديث في غير موضعه، أحيانًا بعض الأدلة يُستدل بها في غير مواضعها، يعني هذا الحديث يُذكَر في أشراط الساعة، فلا يذكر في أحكام الحج ومسائل الحج، لكن ذكره بعض العلماء هناك، وقال: إنه يستنبط من هذا الحديث أنه ليس في الأنساك نسخٌ، وأن الأنساك الثلاثة باقيةٌ: التمتع، والإفراد، والقِران، وهذا من لطائف الاستدلال.

نكتفي بهذا القدر في هذا المجلس، وإن شاء الله في المجلس القادم نفتتح به أيضًا: ما الأنساك التي اختارها الصحابة؟ وماذا حصل من مراجعة الصحابة للنبي عليه الصلاة والسلام واشتداده عليهم، وإلزامه لهم بنسك التمتع؟ ولماذا الصحابة  راجعوا النبي عليه الصلاة والسلام في هذا؟ هذا -إن شاء الله- سنبينه في بداية الدرس أو المجلس القادم، فنكتفي بهذا القدر.

ونسأل الله للجميع الفقه في الدين، والعلم النافع.

وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 السَّلَمي: بفتح السين واللام، نسبة إلى بنى سَلِمة، حى من الأنصار، والنحويون ينسبون إليه بفتح اللام على خلاف القياس، وأما أصحاب الحديث فيكسرون اللام. ينظر: الأنساب للسمعاني: 7/ 184، واللباب في تهذيب الأنساب لابن الجزري: 2/ 129.
^2 رواه أبو داود: 1531، والنسائي: 1374، وابن ماجه: 1085.
^3 رواه البخاري: 2396.
^4 رواه البخاري: 2097، ومسلم: 715.
^5 رواه البخاري: 1664، ومسلم: 1220.
^6 رواه البخاري: 4854.
^7 رواه البخاري: 1622، ومسلم: 1347.
^8 رواه البخاري: 1547، ومسلم: 690.
^9 رواه البخاري: 1534.
^10 رواه مسلم: 1243.
^11 سبق تخريجه.
^12 رواه مسلم: 732.
^13 رواه مسلم: 1297، بنحوه.
^14 رواه البخاري: 1551، بنحوه.
^15 رواه البخاري: 7229، ومسلم: 1211، بنحوه.
^16 رواه البخاري: 3348، ومسلم: 222، بنحوه.
^17 رواه ابن ماجه: 2920، والنسائي: 2752، وأحمد: 8497.
^18 رواه مسلم: 1252، بنحوه.