عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.
أيها الإخوة: هذه الليلة هي ليلة الرابع والعشرين من شهر رمضان المبارك، وكنا قد تحدثنا بالأمس عن أهمية الدعاء، وفضله، ووعدنا بأن نستكمل الحديث عن آداب الدعاء في هذا اللقاء، وفي هذا الدرس؛ فأقول أيها الإخوة:
الحرص على الدعاء في الأوقات الفاضلة
أولًا: الدعاء ينبغي للمسلم أن يحرص عليه، وبخاصة في هذه العشر المباركة، فإن الدعاء فيها حري بالإجابة، وإذا وافق أن يكون الدعاء في ليلة القدر، فإنه يكون أحرى بالإجابة، وقد ورد أن الدعاء في ليلة القدر مستجاب.
وهناك أناس من الصالحين دعوا الله بدعوات في ليلة القدر، فتبينوا إجابتها، فعلينا جميعًا أن نجتهد بالدعاء، وأن نُري الله تعالى من أنفسنا خيرًا، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فإن تيسر أن يكون الدعاء في السجود، فهذا أكمل ما يكون، ويجتمع مع ذلك شرف المكان، وشرف الزمان.
- أما شرف المكان: فأنتم أيها الإخوة في المسجد الحرام في أطهر بقعة على وجه الأرض.
- وشرف الزمان: هذه الليالي الفاضلة هي أفضل ليالي العام على الإطلاق.
فإذا اجتمع مع ذلك أن يكون هذا في السجود، وأن يكون في الثلث الأخير من الليل، فقد اجتمعت أسباب الإجابة.
وحتى لو لم يكن ذلك في الثلث الأخير من الليل، فإن هذا الوقت وقت فاضل ينبغي أن تحرص على الدعاء، وحتى أيضًا حتى لو لم يكن أيضًا في السجود، يمكن أن تدعو الله ، تستقبل الكعبة، وترفع يديك وتدعو الله بما يحضرك من خيري الدنيا والآخرة.
ورب دعوة واحدة تستجاب لك، يكتب الله تعالى لك بسببها سعادة الدنيا والآخرة، ورب دعوة واحدة تستجاب لك، يدفع الله تعالى عنك بها من البلايا والشرور شيء عظيم.
من آداب الدعاء:
-
تقديم الثناء على الله والصلاة على رسول الله
أن الداعي يقدم بين يدي دعائه الثناء على الله ، ثم الصلاة على رسوله ، وقد علمنا وأدبنا ربنا سبحانه بهذا الأدب في سورة الفاتحة، فإن سورة الفاتحة ابتدأت بالثناء على الله سبحانه: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2].
إذا قال العبد في صلاته: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، قال الله: حمدني عبدي، إذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3]، قال الله: أثنى عليَّ عبدي، إذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، قال الله: مجدني عبدي.
فهذا كله ثناء وتمجيد لله ، فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، قال الله: هذا بيني وبين عبدي نصفين»، ثم يأتي الدعاء: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7]، يقول الله: «سألني عبدي، ولعبدي ما سأل [1].
فانظروا أيها الإخوة كيف أن الله علمنا أدب الدعاء، وذلك بأن نقدم بين يدي هذا الدعاء العظيم: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7] أن نقدم بين يديه الثناء على الله ، وتمجيده، وتعظيمه، وتوحيده بالدعاء وبالاستعانة.
فـــــ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:2-4]، هذه كلها مقدمات بين يدي هذا الدعاء، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، كذلك، ثم يأتي الدعاء: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6].
هكذا أيضًا في بقية أدعيتك ينبغي أن تقدم بين يدي دعائك الثناء على الله ، ثم تصلي على النبي ، ولهذا لما سمع النبي رجلًا يدعو ولم يحمد الله، ولم يصل على رسوله، قال: عجل هذا [2].
فإذن: أي دعاء تريد أن تدعو به قدم بين يدي الدعاء الثناء على الله، وتمجيد الله ، وتصلي على رسوله ، ثم بعد ذلك تدعو الله تعالى.
-
التضرع إلى الله
أيضًا من آداب الدعاء: ما ذكره ربنا سبحانه في قوله: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا [الأعراف: 55]، التضرع إلى الله ، فيدعو الإنسان بحضور قلب، وبخشوع وتضرع وانطراح بين يدي الله ، يا رب يا رب.
وأما الذي يدعو الله سبحانه بقلب غافلٍ، وبقلبٍ لاهٍ، جسمه في وادٍ، وقلبه في وادٍ آخر، فهذا بعيد عن الإجابة، فإذا أردت أن تستجاب دعوتك ادع الله سبحانه بتضرع بحرارة قلب، بحضور قلب ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا [الأعراف:55].
-
إخفاء الدعاء ما أمكن
والأدب الآخر من آداب الدعاء الذي أشار إليه ربنا في هذه الآية: وَخُفْيَةً [الأعراف:55]، إخفاء الدعاء ما أمكن، فإن رفع الصوت بالدعاء من الاعتداء في الدعاء، وما نسمعه من بعض الناس عندما يدعون الله يرفعون أصواتهم في الدعاء، أو حتى عندما يؤمنون يرفع صوته يا رب، هذا من الاعتداء في الدعاء، ينبغي أن تخفي الدعاء ما أمكن.
ولهذا أثنى الله على نبيه زكريا عليه السلام: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا [مريم:3]، فأثنى الله عليه؛ لأنه دعا الله لكن بصوت خفي، والله السر والجهر عنده سواء: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ [الملك:13]، جل وعلا.
-
الطمع في الإجابة والخوف من عدم القبول
أيضًا من آداب الدعاء: ما أشار إليه ربنا في قوله: وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا [الأعراف:56]، أن الداعي يدعو الله وهو يطمع في الإجابة، وهو أيضًا يخاف ألا يقبل منه الدعاء، وألا يستجاب منه الدعاء.
فمن لم يطمع في الإجابة يدعو وهو يائس، هذا من موانع الدعاء، بعض الناس يدعو يقول: أنا دعوت كثيرًا ولم يستجب لي، ويدعو بروح اليأس، هذا من موانع الإجابة، ادع وأن تطمع في الإجابة، بل أنت موقن بالإجابة.
وأيضًا لا تعجب بدعائك، بل كن على خوف وعلى وجل: وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56].
-
عدم الاستعجال في الإجابة
أيضًا من آداب الدعاء، وهو من أعظم الآداب: عدم الاستعجال في الإجابة، لا تستعجل في طلب إجابة الدعاء، يقول النبي : يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: قد دعوت، قد دعوت فلم يستجب لي [3].
فبعض الناس بل ربما أقول كثير من الناس عندهم هذه الصفة صفة الاستعجال في الدعاء، يريد كلما دعا الله تحققت إجابته، واستجيبت دعوته مباشرة، والله تعالى يحب من العبد أن يدعوه، وأن يكثر من الدعاء، وأن يلح عليه في الدعاء، فلذلك لا تستعجل في طلب إجابة الدعاء: يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول يعني بين عليه الصلاة والسلام صفة هذا الاستعجال: يقول: قد دعوت، قد دعوت فلم يستجب لي، يعني: تحسر ويترك الدعاء، يقول: دعوت، دعوت، ولم يستجب لي، هذا من أعظم موانع إجابة الدعاء.
-
الدعاء بالمأثور وجوامع الدعاء
أيضًا من آداب الدعاء: أن يحرص الداعي على أن يدعو بجوامع الدعاء، وأن يحرص ما أمكن على الدعاء بالمأثور، فقد كان النبي يختار من الدعاء جوامع الدعاء، ويدع ما سوى ذلك.
فمثلًا: عندما يدعو العبد ربه أن يدخله الجنة، فلا داعي لأن يصف الجنة، ويقول: وما فيها من الحور، وما فيها من الفواكه، وما فيها من كذا، لا داعي لهذا، كذلك: عندما يستعيذ بالله من النار، لا داعي للتفصيل: اللهم إني أعوذ بك من النار، ومن أغلالها، ومن سمومها، ومن حميمها، لا داعي لهذا، فالدعاء يكون بجوامع الدعاء، هذا هو هدي النبي .
أيضًا يا أخي الكريم احرص على أن تدعو بالمأثور ما أمكن، لا بأس أن يكون لك دعاء خاص بك، تسأل الله تعالى مثلًا: أن يبارك لك في صحتك، وفي مالك وأهلك، ونحو ذلك، لا بأس، تنشئ دعاء من نفسك.
لكن أيضًا احرص على المأثور من الدعاء، وقد كان أكثر دعاء يدعو به النبي : ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، كما قال أنس رضي الله عنه: هذه أكثر دعوة كان يدعو بها النبي [4].
وأيضًا من دعائه عليه الصلاة والسلام: الدعاء الذي وصى به معاذًا رضي الله عنه، قال: يا معاذ والله إني لأحبك، لا تدعن أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك، وعلى شكرك، وعلى حسن عبادتك [5]، هذا الدعاء أيضًا احرص عليه، احرص على أن تدعو به كل يوم: اللهم أعني على ذكرك، وعلى شكرك، وعلى حسن عبادتك.
فينبغي أن يحرص المسلم على الدعاء بالمأثور، وأن يلح على الله في الدعاء، وألا يستبطئ الإجابة، وإن شاء الله سيكون في الدرس القادم بإذن الله تعالى تكملة للحديث عن أبرز آداب الدعاء.
أسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعًا لما يحب ويرضى من الأقوال والأعمال، وأن يستعملنا جميعًا في طاعته، وأن يوفقنا لليلة القدر، وأن يجعلنا ممن يصوم هذا الشهر، ويقومه إيمانًا واحتسابًا، وأن يجعلنا من عتقائه من النار.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.