عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذه الليلة هي ليلة الثاني والعشرين من شهر رمضان، وأتحدث في هذه الليلة عن ليلة القدر، هذه الليلة العظيمة، هذه الليلة الشريفة، هذه الليلة المهيبة، التي أنزل الله تعالى في شأنها قرآنًا يتلى، بل أنزل في شأنها سورة كاملة من كتابه الكريم، يقول ربنا سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ [الدخان:3]، إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ أي: أنزلنا القرآن، فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ وهي: ليلة القدر؛ كما قال في السورة الأخرى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1].
معنى نزول القرآن في ليلة القدر
ووصفها الله تعالى بأنها ليلة مباركة لكثرة بركاتها، ومن أعظم بركاتها: نزول القرآن فيها: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1]، ما معنى نزول القرآن في ليلة القدر؟
للعلماء في ذلك قولان:
- القول الأول: أن المقصود بنزول القرآن: أن القرآن نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا في ليلة القدر، ولكن هذا يَرد عليه بعض الإشكالات؛ لأن هناك بعض الآيات نزلت مرتبطة بأسباب النزول، مثل: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة:1]، ونحو ذلك؛ ولذلك فكثير من أهل العلم يرجح المعنى الثاني، وهو:
- أن المقصود بنزول القرآن، أي: ابتداء نزوله، فابتداء نزول القرآن كان في ليلة القدر، فهذا هو القول الراجح أن معنى نزول القرآن في ليلة القدر، أي: ابتداء نزول القرآن إنما كان في ليلة القدر.
العمل الصالح في ليلة القدر
هذه الليلة يقول الله تعالى فيها: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ [الدخان:3] بركاتها كثيرة، فمن بركاتها بالإضافة إلى نزول القرآن: ما يحصل للمؤمنين فيها من الأجور العظيمة، والثواب الجزيل، فإن العمل الصالح في ليلة القدر خير من العمل الصالح في ألف شهر؛ كما قال سبحانه: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:3].
أتدرون كم تعادل ألف شهر؟ كم تعادل ألف شهر؟
ألف شهر تعادل ثلاثًا وثمانين سنة وأربعة أشهر، سبحان الله! العمل في ليلة واحدة سويعات قليلة ليس مساويًا، بل خير، خير من العمل في ثلاث وثمانين سنة وأربعة أشهر.
المسألة مسألة توفيق، من وفق لهذه الليلة كأنما كتب له عمر مديد، من وفق لليلة القدر فقد وفق لخير عظيم: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:3].
نزول الملائكة في ليلة القدر
ومن بركات هذه الليلة: نزول الملائكة فيها، فإن الملائكة تنزل بالخير والرحمة، تنزل الملائكة بمن فيهم جبريل عليه السلام، وتسلم على المؤمنين؛ كما قال الله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا [القدر:1-4].
الملائكة تنزل إلى الأرض في ليلة القدر كي ترى عبادة المؤمنين، وكما جاء في بعض الآثار: أنها تسلم على كل مؤمن ومؤمنة، وهو قائم يصلي، حتى إنه جاء في بعض الآثار: أن الملائكة تتعرف على المؤمنين، وأنها إذا فقدت أحدًا سألت عنه، فقالت: فلان ابن فلان رأيناه العام الماضي يصلي، ولم نره هذا العام، اللهم إن كان مريضًا فاشفه، وإن كان غائبًا فاردده.
تنزل الملائكة إلى الأرض كي ترى المؤمنين وهم يتعبدون لله ، والله تعالى يباهي بعباده ملائكته، ويقول: انظروا إلى عبادي، وهم يصلون، وهم يتعبدون، وهم يتضرعون بالدعاء، انظروا إلى عبادي لما أخبرتكم بأني سأخلق بشرًا، قلتم: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة:30]، فقلت: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [البقرة:30].
فانظروا إلى عبادتهم، وانظروا إلى صلاتهم، وانظروا إلى دعائهم، وانظروا إلى تضرعهم، الملائكة تنزل في ليلة القدر من غروب الشمس، وتستمر إلى طلوع الفجر: تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [القدر:4-5].
فيها يُفْرَق كل أمر حكيم
أيها الإخوة: هذه الليلة المباركة تسمى ليلة القدر من القدر، وهو الشرف، وقيل: من التقدير، وذلك أن أقدار السنة تكون في تلك الليلة، كما أشارت إلى ذلك الآية الكريمة في سورة الدخان: فِيهَا [الدخان:4] أي: في ليلة القدر.
يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا [الدخان:4-5]، فـ فِيهَا يُفْرَقُ أي: يفصل، كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، يفصل من اللوح المحفوظ إلى الصحف التي بأيدي الملائكة، ما هو كائن في تلك العام إلى العام المقبل، يعني من ليلة القدر هذا العام إلى ليلة القدر من العام المقبل، يفصل من اللوح المحفوظ إلى الصحف التي بأيدي الملائكة ما قدره الله في تلك السنة، فتفصل الأقدار، وتكون في الصحف التي بأيدي الملائكة.
يكون مثلًا من تلك الأقدار بأن فلان ابن فلان سيموت هذا العام، وأن فلان ابن فلان سيرزق بكذا، وأن فلان ابن فلان سيتزوج، وأن فلان ابن فلان سيحصل على كذا، فجميع الأقدار التي يقدرها الله في تلك السنة تنزل وتفصل من اللوح المحفوظ إلى الصحف التي بأيدي الملائكة، وهذا معنى قول الله : فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:4] أي: يفصل من اللوح المحفوظ إلى الصحف التي بأيدي الملائكة.
تعظيم ليلة القدر
وتأملوا أيها الإخوة لما ذكر الله ليلة القدر، قال: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1]، قال بعد ذلك: وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ [القدر:2]، وهذا الاستفهام استفهام للتفخيم، واستفهام للتعظيم، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ [القدر:2] هذا لا يؤتى بهذا الأسلوب إلا للأمور العظيمة الكبيرة؛ كما في قول الله : الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ [القارعة: 1-3]، فالقارعة والساعة شيء عظيم، كذلك عظم الله هذه الليلة، فقال: وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ [القدر:2] فأي تعظيم أعظم وأشرف من هذا أن رب العالمين العظيم خالق الكون يقول عن هذه الليلة: وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ [القدر:2]، على سبيل التفخيم والتعظيم لشأن هذه الليلة.
ثم قال سبحانه: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:3] أي: أن العمل الصالح في هذه الليلة الشريفة العظيمة المهيبة خير من العمل الصالح في ألف شهر، في ثلاث وثمانين سنة وأربعة أشهر، فيا له من فضل عظيم، ويا له من ثواب جزيل.
تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا [القدر:4] تنزل الملائكة في هذه الليلة لكي ترى عبادة المؤمنين، بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ [القدر:4]، تنزل الملائكة بمن فيهم أعظم الملائكة وهو الروح جبريل عليه السلام.
فانظروا أيها الإخوة كيف أن الله أعلى من شأن هذه الليلة، وعظمها غاية التعظيم: وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:2-3]، إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ [الدخان:3]، هذه الأوصاف العظيمة تدل على عظمة هذه الليلة، وعلى عظيم شأنها، وعلى أن من وفق لها، فقد وفق لخيرات عظيمة، وبركات كثيرة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه [1].
فاجتهدوا أيها الإخوة في هذه الليالي المباركة، فإن ليلة القدر منحصرة في ليالي العشر الأواخر من رمضان، فمن اجتهد في جميع ليالي العشر يكون قد أدرك ليلة القدر لا محالة.
وإذا أدرك ليلة القدر فإنه يُرجى أن يحصل على المغفرة العظيمة، وعلى الأجور الجزيلة: من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه [2]، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:3].
وقد ورد أن الدعاء في ليلة القدر أنه مستجاب، فاجتهدوا في الدعاء، وبخاصة في السجود، فإنه أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.
فاجتهدوا أيها الإخوة في هذه الليالي المباركة رجاء مصادفة هذه الليلة، وأعظم ما يكون الاجتهاد بالصلاة، وبالقيام مع الإمام، فإنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة.
وإذا انصرفت مع الإمام اجتهد بقية الليل في كل ما هو طاعة من تلاوة للقرآن، من الذكر، من التسبيح، والتحميد، والتهليل، والتكبير، والصلاة على النبي ، ونحو ذلك.
فالمطلوب من المسلم أن يجتهد بكل ما هو عمل صالح، وأن يحيي هذه الليالي الفاضلة بالأعمال الصالحة، وأن يقتدي في ذلك بالنبي .
اللهم وفقنا لليلة القدر، اللهم وفقنا لليلة القدر، اللهم وفقنا لليلة القدر، اللهم اجعلنا ممن يفوز بجزيل الثواب وعظيم الأجر، واجعلنا ممن يقوم هذا الشهر ويصومه إيمانًا واحتسابًا.
اللهم ما قسمت في هذا الشهر المبارك من خيرات ومن بركات، ومن عتق من النار، فاجعل لنا منه أوفر الحظ والنصيب.
اللهم وفقنا لما تحب وترضى من الأقوال والأعمال.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.