عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فحياكم الله تعالى في هذه السلسلة من الدروس في هذه الليالي المباركة، والتي تنظمها وتشرف عليها الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، ممثلة في إدارة التوعية والتوجيه والإرشاد.
الاجتهاد في العبادة في ليالي العشر
وهذه الليلة هي أولى ليالي العشر، هي ليلة الحادي والعشرين، ونستقبل معها هذه العشر المباركة، وهذه الليلة هي إحدى ليالي الوتر، فينبغي أن نجتهد فيها، وأن نجتهد في هذه العشر المباركة عمومًا.
وقد كان النبي يخلط العشرين الأولى من رمضان بصلاة ونوم، فإذا دخلت العشر “شد المئزر، وأحيا ليله، وأيقظ أهله” [1]، كان يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيرها.
وهذا الاجتهاد يدل على أنه عليه الصلاة والسلام كان يخص هذه العشر المباركة بمزيد من الطاعة، ومزيد من العبادة، والأعمال الصالحة، ومن ثمرات هذا الاجتهاد: أنه إذا دخلت هذه العشر:
“شد المئزر”: أي اعتزل نساءه، واعتكف في مسجده، وتفرغ للعبادة.
“وأيقظ أهله”: حتى ينالوا الفضل العظيم الوارد في هذه العشر المباركة.
“وأحيا ليله”: كان عليه الصلاة والسلام يحيي ليالي هذه العشر المباركة بالطاعات والعبادات.
الاعتكاف في العشر
كان يعتكف طيلة هذه العشر، يعتكف في مسجده عليه الصلاة والسلام، ويعتزل الناس، ويتفرغ للعبادة، مع أنه عليه الصلاة والسلام هو مفتي الأنام، ونبي الإسلام، وهو بالنسبة للصحابة المرجع، بل للأمة هو المرجع، والنبي والرسول والموجه والمرشد، والقائد للدولة الإسلامية في وقته، ومع ذلك كانت إذا دخلت هذه العشر اعتزل الدنيا، واعتزل الناس، وتفرغ للعبادة.
تحري ليلة القدر
وإنما كان عليه الصلاة والسلام يعتكف ويتفرغ للعبادة طلبًا لليلة القدر، فإن ليلة القدر شأنها عظيم، ليلة القدر أنزل الله تعالى في شأنها قرآنًا يتلى، بل سورة كاملة تتلى إلى قيام الساعة، هذه الليلة ليلة كما قال ربنا : خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:3]، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:3] أي: أن العمل الصالح فيها ليس مساويًا، بل خير من العمل الصالح في ألف شهر، وألف شهر تعادل ثلاثًا وثمانين سنة وأربعة أشهر.
فمن وفق لهذه الليلة، فكأنما كتب له عمر مديد، من وفق لهذه الليلة فقد وفق لخير عظيم، ولهذا فينبغي لنا أن نجتهد في جميع ليالي العشر رجاء موافقة هذه الليلة؛ لأن ليلة القدر هي في العشر الأواخر من رمضان، كما أخبرنا بذلك النبي ، ولكنها قد أخفيت، حتى يجتهد الناس في طلبها.
كان النبي قد أعلم بتحديد ليلة القدر، وتعيينها، وخرج ليخبر الصحابة بذلك، ثم لما دخل المسجد تلاحى اثنان فأُنسيها، أُنسيها، وكما قال عليه الصلاة والسلام: وعسى أن يكون خيرًا [2].
ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان [3]، فهي في العشر الأواخر من رمضان، من اجتهد في جميع ليالي العشر يكون قد أدرك ليلة القدر لا محالة.
هدي النبي في الليالي العشر
وظاهر هدي النبي أنه كان يحيي ليالي هذه العشر بالصلاة، أو يحيي أكثرها بالصلاة، وقد كان عليه الصلاة والسلام يصلي في حجرته، ولم يشأ أن يصلي صلاة التراويح بالناس خشية أن تفرض على أمته.
وكان في ليلة من الليالي في ليلة ثلاث وعشرين يصلي، وكان جدار حجرة عائشة رضي الله عنها قصيرًا، فرآه أناس فصلوا بصلاته، ثم بعد ذلك لم يقم بهم ليلة الرابع والعشرين، ثم قام بهم ليلة الخامس والعشرين، وكثر الناس، وصلى بهم إلى منتصف الليل، فقالوا: يا رسول الله لو نفلتنا بقية ليلتنا هذه؟ قال: إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة [4]، وهذه بشارة من النبي لكل مسلم بأنه إذا صلى صلاة التراويح، أو صلاة القيام مع الإمام، ولم ينصرف إلا مع انصراف الإمام من آخر ركعة، يكتب له أجر قيام ليلة كاملة، إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة.
ثم لم يقم بهم ليلة السادس والعشرين، وقام بهم ليلة السابع والعشرين معظم الليل، حتى خشي الصحابة أن يفوتهم السحور، وهذا يدل على تأكد ليلة سبع وعشرين، وأنها أرجى ليالي العشر موافقة لليلة القدر.
فينبغي أيها الإخوة أن نجتهد في هذه الليالي العشر المباركة، وأن نري الله من أنفسنا خيرًا، ينبغي لنا أولًا: أن نحرص على أن نصليها كاملة مع الإمام، ثم بعدما ينصرف الإمام ينبغي أن ننشغل بقية الوقت في الذكر والطاعة والعبادة، من أراد أن يصلي ويتنفل فكان ذلك حسنًا، فإن الصلاة أحب عبادة إلى الله .
والليل ليس فيه وقت نهي، لك أن تصلي ما شئت ركعتين ركعتين، وكما قال عليه الصلاة والسلام: واعلم أنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة [5].
وكذلك أيضًا: ينشغل الإنسان بتلاوة القرآن، وبالتسبيح، والتحميد، والتكبير، والتهليل، والصلاة على النبي ، وبكل ما هو عمل صالح.
كذلك من الأمور التي تتأكد في هذه العشر المباركة: الدعاء، فإن الدعاء حري بالإجابة في هذه الليالي المباركة، ولهذا فإن الله ذكر آية الدعاء بين آيات الصيام، ذكر آية الدعاء: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186]، بين آيات الصيام.
فالآية التي قبلها: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185]، والآية التي بعدها: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [البقرة:187].
فينبغي الاجتهاد في الدعاء، وبخاصة في السجود، وبخاصة في الثلث الأخير من الليل، فإذا اجتمع شرف المكان في أطهر بقعة في المسجد الحرام، وشرف الزمان في هذه الليالي الفاضلة، ووافق ذلك مثلًا الثلث الأخير من الليل، وكان ذلك في السجود، فهنا اجتمعت أسباب الإجابة.
فاجتهدوا أيها الإخوة في الدعاء في هذه الليالي الفاضلة، وبعض الناس يذهب عليه كثير من الليل في أمور في أشغال يمكن تأجيلها، أو في سواليف، وأحاديث جانبية.
فأقول أيها الإخوة: هذا أوان التشمير للطاعة، وهذا أوان الاجتهاد للطاعات، فينبغي أن نجتهد في هذه الليالي المباركة، فإنها سرعان ما تنقضي، وسرعان ما تطوى صحائفها.
والله لما ذكر أيام شهر رمضان، وصفها بأنها أيام معدودات، قال: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184]، وإذا كانت أيامًا معدودات، فإنها سرعان ما تنقضي.
فينبغي أيها الإخوة أن نجتهد في هذه الليالي العشر المباركة، وأن نحرص على أن نقوم هذه الليالي، فقد قال عليه الصلاة والسلام: من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه [6]، ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه [7].
وليلة القدر هي في هذه العشر، فإذا قمت جميع ليالي العشر تكون قد قمت ليلة القدر، فيرجى أن تحصل على هذا الوعد العظيم بأن يغفر لك ما تقدم من ذنبك.
أيها الإخوة: ينبغي أن يحرص المسلم على تحري ليلة القدر، وأن كل ليلة من الليالي يقدر أنها ربما تكون هي ليلة القدر، وأن يستحضر ما ورد في هذه الليلة من الأجور المضاعفة، والثواب الجزيل.
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ [القدر:1-2]، انظر إلى هذا الاستفهام الذي يدل على التفخيم والتهويل، والتعظيم لشأن هذه الليلة: وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:2-3] أي: أن العمل الصالح فيها خير من العمل الصالح في ألف شهر.
ومن بركاتها أنه: تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا [القدر:4]، تنزل الملائكة بمن فيهم جبريل عليه السلام في هذه الليلة العظيمة الشريفة المباركة، تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [القدر:4-5].
فلنجتهد أيها الإخوة في هذه الليالي المباركة رجاء أن نوافق هذه الليلة، ينبغي أن نحتسب ذلك، فإن النبي يقول: من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، وقال: من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا [8].
فينبغي أن نحتسب ذلك، وأن نستحضر ما أعد الله تعالى من الثواب للقائمين، وما أعد الله تعالى من الأجر العظيم، والثواب الجزيل لمن وافق ليلة القدر.
اللهم وفقنا لليلة القدر، اللهم اجعلنا ممن يقومها إيمانًا واحتسابًا، واجعلنا ممن يفوز بجزيل الثواب وعظيم الأجر.
اللهم وفقنا للاجتهاد في هذه الليالي العشر المباركة، وفقنا فيها لما تحب وترضى، وأعنا على ذكرك، وعلى شكرك، وعلى حسن عبادتك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.