عناصر المادة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا.
المسابقات التجارية وأحكامها
موضوع درسنا لهذا اليوم هو: “المسابقات التجارية وأحكامها”.
وهذا الموضوع هو في غاية الأهمية، خاصةً في وقتنا الحاضر، الذي قد كثرت فيه هذه المسابقات وتنوعت، بل وتفنن القائمون عليها، وأصبحت وسيلةً من وسائل الاستثمار والربح، سواءٌ المحلات التجارية، والمؤسسات، والشركات، أو كان ذلك عن طريق الوسائل الإعلامية، فلا بد من معرفة الضوابط فيما يباح، وفيما يحرم من هذه المسابقات.
وتبرز أهمية هذا الموضوع من جهة اتصاله بالواقع أولًا، ومن جهة عدم فهم بعض الناس للضوابط الشرعية في هذا الموضوع، وعدم فهم مقاصد الشرع في هذا الباب، وربما يكون من أسباب ذلك: قلة ما كتب في هذا الموضوع، أعني: المسابقات التجارية، وإن كان الفقهاء يذكرون أحكام السَّبْق في باب السبق، بل عامة كتب الفقه والحديث تتكلم عن أحكام السبق، ولكن تنزيل هذه الأحكام على واقعنا المعاصر، هو الذي لا يزال قليلًا، لا يزال ما كتب في ذلك قليلًا، بل حتى المحاضرات والدروس والندوات لا تزال قليلةً مقارنةً بانتشار هذه المسابقات انتشارًا كبيرًا.
ففي هذا الدرس سوف نركز على التأصيل والتقعيد لهذه المسابقات، بحيث نذكر ضوابط يستطيع كل واحدٍ أن يعرف من خلال هذه الضوابط ما الذي يباح، وما الذي يحرم من هذه المسابقات، وسنذكر أمثلةً لهذه المسابقات، وربما لا نستطيع الحصر لكثرتها وتنوعها، لكن سنذكر أمثلةً لها.
ومما سنتعرض لحكمه إن شاء الله: المسابقات التجارية في الشركات والمحلات والمؤسسات، وكذلك المسابقات في الصحف، والمسابقات في القنوات الفضائية، وكذلك المسابقات عن طريق رسائل الهاتف الجوال عن طريق الرقم (700)، وأيضًا: بطاقات الفنادق، ونقاط الطيران، وأيضًا: الهدايا التي تمنحها المحلات التجارية ومحطات الوقود، كل هذه سوف نتعرض لها إن شاء الله تعالى، وسنذكر الضوابط فيها.
أحكام السبق
لكن قبل أن نتكلم عنها، لا بد من أن نبدأ بالجانب التأصيلي لهذا الموضوع، فنذكر ما ذكره العلماء من قواعد وضوابط في هذا الباب على ضوء ما ورد من النصوص.
فأقول: إن الفقهاء يذكرون هذه الأحكام في باب السَّبْق، والسبق: هو العوض الذي يسابَق عليه، والأصل في هذا الباب: حديثٌ عظيمٌ عن النبي هو الذي اعتمد عليه العلماء في تقرير أحكام هذا الباب، وهو الأصل الذي يرجع إليه في هذا الباب، وهو حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : لا سَبَق إلا في خفٍّ، أو نصلٍ، أو حافرٍ [1].
هذا الحديث العظيم لا تتجاوز كتابته سطرًا واحدًا، ولكنه اشتمل على أحكامٍ كثيرةٍ كما سيأتي، كل مسألةٍ سنوردها سنحتج بهذا الحديث، ولهذا؛ هذا الحديث من جوامع الكلم؛ فإن النبي اختُصر له الكلام اختصارًا، فاللفظ الوجيز يحمل معانيَ كثيرةً. هذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد، وهو حديثٌ صحيحٌ من جهة السند.
قال: لا سَبَق، “لا”: نافيةٌ للجنس، و”سبق” بفتح الباء، ورُوي بلفظٍ بإسكان الباء: لا سَبْق، رُوي هذا وهذا، ولكن الرواية المشهورة هي بالفتح: لا سَبَق، قال الخطابي رحمه الله في “معالم السنن”: الرواية الصحيحة في هذا الحديث: السَّبَق، مفتوحة الباء.
وهنا نفيٌ بمعنى النهي، وهو أبلغ ما يكون من النهي، لا سبق، كأنه قال: لا يصح أن يكون هناك عِوضٌ يسابَق عليه إلا في هذه الأمور الثلاثة.
إلا في خفٍّ، والمراد بالخف هنا: الإبل، أو نصلٍ والمراد به: السهم، أو حافرٍ، والمراد به: الخيل، فيكون معنى الحديث: أنه لا يجوز أن يكون هناك عِوضٌ يسابَق عليه إلا في الإبل والخيل والسهام.
وإذا نظرنا إلى هذه الأمور الثلاثة المستثناة في هذا الحديث، ما الذي يجمعها -الخيل والإبل والسهام- ما الذي يجمعها؟ الذي يجمعها هو كونها من آلات الجهاد في سبيل الله في وقت النبي ، أنها آلات الجهاد في سبيل الله في عهد النبي ، فيكون المعنى: أنه لا يجوز أخذ السَّبَق إلا إذا كان ذلك في التدريب على آلات الجهاد في سبيل الله، ويفهم من هذا: أن آلات الجهاد في سبيل الله -الحديثة- يجوز أخذ السبق عليها؛ لأنها في معنى هذه الأمور الثلاثة، ولأن مقصود الشارع من استثنائها هو حث الناس على التدرب عليها.
وفي قوله: لا سبق، دليلٌ على أن الأصل في باب المسابقات المنع أو الإباحة؟ المنع، لاحِظ هذا الأصل، الدليل على أن الأصل المنع إلا فيما ورد النص باستثنائه، فتنبه لهذا الأصل.
أنواع المسابقات
وقد قسم أهل العلم المسابقات والمغالبات إلى ثلاثة أقسامٍ:
- القسم الأول: ما يجوز بعوضٍ وبدون عوضٍ، وهو المسابقة في الإبل والخيل والسهام، لهذا الحديث: لا سَبَق إلا في خفٍّ، أو نصلٍ، أو حافرٍ [2]، وقد اتفق العلماء على ذلك، يعني هذا ليس محل خلافٍ، اتفق العلماء على جواز المسابقة بعوضٍ أو بدون عوضٍ في هذه الأمور الثلاثة لهذا الحديث.
- القسم الثاني: ما لا تجوز المسابقة فيه مطلقًا، سواءٌ كان بعوضٍ أو بدون عوضٍ، يعني عكس القسم الأول، ما لا تجوز المسابقة فيه مطلقًا، سواءٌ كان بعوضٍ أو بدون عوضٍ، وهو كل ما أدخل في محرَّمٍ، أو ألهى عن واجبٍ.
- القسم الثالث: ما تجوز المسابقة فيه بدون عوضٍ، وهو كل ما فيه منفعةٌ مباحةٌ، وليس فيه مضرةٌ راجحةٌ؛ كالمسابقة بالأقدام مثلًا، وأضاف بعض أهل العلم للقسم الأول: وهو ما يجوز بعوضٍ وبدون عوضٍ، أضافوا له ما كان فيه ظهورٌ لأعلام الإسلام وأدلته وبراهينه.
الرِّهان من أجل إظهار الدين وبراهينه
أضاف بعض أهل العلم للقسم الأول: ما كان فيه ظهورٌ لأعلام الإسلام وأدلته وبراهينه، ومنهم: شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى، وقد فصل ابن القيم في كتابه القيم “الفروسية” الكلام في ذلك، وذكر أو استدل لهذا بقصة مراهنة أبي بكرٍ الصديق لكفار قريشٍ [3]، كما عند الترمذي وغيره بسندٍ قال ابن القيم: “إنه على شرط الصحيح”: أنه لما نزل قول الله تعالى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ [الروم:1-5] إلى آخر الآيات، وكان المسلمون يحبون انتصار الروم على فارس، وكانت قريش تحب انتصار فارس على الروم.
لماذا كان المسلمون يحبون انتصار الروم على فارس؟
لأنهم أهل كتابٍ، يعني مع أنهم كفارٌ، لكن لأنهم أهل كتابٍ؛ يحبون انتصارهم، وقريشٌ تحب انتصار فارس؛ لأنهم ليسوا أهل كتابٍ، فيشابهونهم من هذه الناحية، ليسوا بأهل كتابٍ ولا إيمانٍ بالبعث، فيشابهونهم من هذه الناحية.
وهذا يدل على أن المسلم ينبغي أن يفرح بانتصار إخوانه المسلمين، ولو كان عندهم شيءٌ من التقصير، إذا كان المسلمون يحبون انتصار الروم مع أنهم كفارٌ، ما بالك بمسلمٍ عنده شيءٌ من القصور أو التقصير.
فكان المسلمون يحبون انتصار الروم؛ لأنهم فقط أهل كتابٍ، وذكر الله تعالى فرحهم بهذا: وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الروم:3-5].
فلما أنزل الله تعالى هذه الآيات، خرج أبو بكرٍ الصديق يصيح في نواحي مكة يقرؤها على الناس، فقال ناسٌ من قريشٍ لأبي بكرٍ : تزعم أن الروم ستغلب فارسًا في بضع سنين، ألا نراهنك على ذلك؟ قال: نعم، فقالوا: اجعل بيننا وبينك وسطًا ننتهي إليه، يعني أنت تقول: إن الروم ستنتصر على فارس في بضع سنين، والبضع: ما بين ثلاثٍ إلى تسعٍ، فاجعل وسطًا، فجعلها ستًّا، وفي روايةٍ: خمس سنين، فبلغ ذلك النبي ، فقال لأبي بكرٍ: هلَّا أخفضت؟، وفي روايةٍ: هلا احتطت؟ [4]، يعني: لو جعلت تسعًا احتياطًا لكان ذلك أكثر حزمًا، فمضت ست سنين، ولم تغلب الروم فارسًا، مرت ست سنين، ولم تغلب الروم فارسًا، فأتوا أبا بكرٍ الصديق ، وأخذوا منه الرهان؛ لأنه اتفق معهم على أن الروم ستغلب فارسًا، وهذا يعني… انظر إلى قول النبي عليه الصلاة والسلام: هلا احتطت؟، يعني: كان ينبغي أن يحتاط ويجعلها تسعًا، لكنه وافقهم على مقولتهم في كونه يجعل وسطًا، ووافقهم على ستٍّ.
فلما مضت ست سنين، ولم تغلب الروم فارسًا أتوا أبا بكرٍ ، وأخذوا منه الرهان، ولكن أبا بكرٍ كان على يقينٍ بوعد الله سبحانه، وأن ما قاله الله حقٌّ، فعاد أبو بكرٍ وراهنهم مرةً أخرى على أن الروم ستغلب فارسًا خلال هذه الثلاث السنين المتبقية فراهنوه.
فلما كان في السنة السابعة ظهرت الروم على فارس، فأخذ أبو بكرٍ منهم الرهان، يعني استرد رهانه، فقيل: إنه أسلم أناسٌ في ذلك الحين لما غلبت الروم فارسًا.
والشاهد من هذه القصة: أن النبي أقر أبا بكرٍ الصديق على هذه المراهنة، وهذا يدل على أن ما كان في معنى هذه المراهنة فيه إظهارٍ لأعلام الإسلام وأدلته وبراهينه، فإنه جائزٌ، ولا بأس به.
قال ابن القيم رحمه الله في كتابه “الفروسية”: وأما الرهان على ما فيه ظهور أعلام الإسلام وأدلته وبراهينه؛ كما راهن الصديق، فهو من أحق الحق، وهو أولى بالجواز من الرهان على النضال وسباق الخيل والإبل، وأثر هذا في الدين أقوى؛ لأن الدين قام بالحجة والبرهان، وبالسيف والسِّنان، والمقصد الأول: إقامته بالحجة، والسيفُ مُنفِذٌ.
قال: وإذا كان الشارع قد أباح الرهان في الرمي، والمسابقة بالخيل والإبل؛ لما في ذلك من التحريض على تعلم الفروسية، وإعداد القوة للجهاد، فجواز ذلك في المسابقة والمبادرة إلى العلم والحجة، التي بها تفتح القلوب ويعز الإسلام وتظهر أعلامه، أولى وأحرى.
فتكون إذنْ هذه الحالة، تضاف للقسم الأول، فنقول: إذا كانت المسابقة في الإبل والخيل والسهام، أو كان فيها إظهارٌ لأعلام الإسلام وأدلته وبراهينه، فإنها تجوز بعوضٍ وبدون عوضٍ.
حكم اشتراط المحلِّل في المسابقات
جمهور الفقهاء اشترطوا -إذا كانت المسابقة في الإبل والخيل- إدخال محلِّلٍ، أي: فرسٌ ثالثٌ يدخل مع الخيل، أو ثالثٌ يدخل مع الإبل، ويكون هذا المحلل الثالث مع المتسابقَين، ولا يُخرج شيئًا، لا يخرج شيئًا هذا المحلل الثالث، فإن سبقهما أخذ سَبَقهما، وإن سبقاه أحرزا سبقهما، ولم يغرم المحلل شيئًا، وإن سبق المحلل مع أحدهما اشترك هو والسابق في سبقه.
إذنْ الجمهور اشترطوا إدخال محللٍ ثالثٍ لا يخرج شيئًا، فإن سبقهما أخذ سبقهما، وإن سبقاه أحرز سبقهما ولم يغرم شيئًا، وإن سبق المحلل مع أحدهما اشترك هو والسابق في سبقه.
واعتمدوا في ذلك على حديثٍ ضعيفٍ عن النبي في المحلل، ولكن هذا الحديث حديثٌ ضعيفٌ لا يصح، ولا تقوم به الحجة، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله: إن القول بالمحلل مذهبٌ تلقاه الناس عن سعيد بن المسيب، وأما الصحابة فلا يحفظ عن أحدٍ منهم قط أنه اشترط المحلل، ولا راهَن به، مع كثرة تناضلهم ورهانهم، بل المحفوظ عنهم خلافه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ما علمت بين الصحابة خلافًا في عدم اشتراط المحلل.
وقد بسط ابن القيم رحمه الله هذه المسألة في كتابه “الفروسية”، ونصر القول بعدم اشتراط المحلل.
إذنْ هذا القول قولٌ مرجوحٌ، ولا يعرف هذا القول عن الصحابة، وإنما أول من قال به سعيد بن المسيب وتبعه بعض العلماء.
والصواب: عدم اشتراط المحلل؛ لعدم الدليل الصحيح الدال على اشتراط المحلل، والحديث المروي في ذلك ضعيفٌ، بل إن هذا القول، وهو القول باشتراط المحلل، لا يعلم عن الصحابة، ولا يعرف عن الصحابة، بل لا يعرف عن أحدٍ من الصحابة، وإنما ذكَرت هذه المسألة؛ لأنكم تجدونها في كتب الفقه، تجد عامة كتب الفقه عندما تتكلم عن أحكام السبق يتكلمون عن هذه المسألة، والصواب: عدم اشتراط المحلل.
الميسر والقمار
المسابقات في غير هذه الأمور التي استثناها الشارع، إذا كان متسابقان فأكثر يحصل منهم بذل عوضٍ، فإنها تكون من الميسر، وهذا يقودنا إلى معرفة معنى الميسر والقمار، والعلة في تحريمه.
فنقول: إن الميسر معناه في لغة العرب: اللعب بالقداح، وقال الجوهري: الميسر: قمار العرب بالأزلام.
وأما اصطلاحًا: فهو جميع المغالبات التي فيها عوضٌ من الجانبين؛ كالمراهنة ونحوها، إلا فيما استثناه النص.
وأما القمار: فهو التردد بين الغرم والغنم.
وكثيرٌ من العلماء لا يفرق بين القمار والميسر، وبعضهم يجعل القمار نوعًا من الميسر، ويجعل الميسر أعم من القمار، وقد روي عن الإمام مالكٍ أنه قال: الميسر ميسران: ميسر لهوٍ، وميسر قمارٍ.
فكأن أصحاب القول يرون أن القمار: ما كان فيه بذل عوضٍ، والميسر: ما كان فيه بذل عوضٍ، أو ليس فيه بذل عوضٍ وتحققت فيه العلة، فيكون بناءً على هذا التفريق: كل قمارٍ ميسرٌ، وليس كل ميسرٍ قمارًا.
وقد نهى الله عز وجل عن الميسر، كما في سورة المائدة، وقرنه بالخمر، قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [المائدة:90-92]، فما هي العلة في تحريم الميسر؟ هل العلة في تحريمه هو ما فيه من المخاطرة المتضمنة لأكل المال بالباطل؟ أو أن العلة هي ما اشتمل عليه من المفسدة، حتى وإن خلا عن العوض؟
الذي ذهب إليه المحققون من أهل العلم؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمة الله عليهما: أن علة تحريم الميسر هو ما اشتمل عليه من المفاسد المذكورة في هذه الآيات.
قال ابن القيم رحمه الله: وهذا هو أصح نصًّا وقياسًا، وأصول الشريعة تشهد له بالاعتبار؛ فإن الله قرن الميسر بالخمر والأنصاب والأزلام، وأخبر عن هذه الأربعة بأنها رِجْسٌ، وأنها مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، ونبه عز وجل على وجوه المفسدة في الخمر والميسر فقال: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ [المائدة:91].
إذنْ هذه هي المفاسد المترتبة على الخمر والميسر، وهي: إيقاع العداوة والبغضاء بين الناس، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة.
فإذنْ هذه هي علة تحريم الميسر، وليست العلة هي أكل المال بالباطل، فتحريم الميسر إذنْ هو من جنس تحريم الخمر، فإنه يوقع العداوة والبغضاء، ويصد عن ذكر الله، وأكل المال فيه عونٌ وذريعةٌ على الإقبال عليه.
فيكون إذنْ إذا اشتمل على أكل المال بالباطل أشد تحريمًا، أما إذا كان الميسر لا يشتمل على أكل المال بالباطل، وإنما يشتمل على هذه المفاسد أو بعضها، فهو أيضًا محرمٌ.
فإن قال قائلٌ: ما وجه اقتران الميسر بالخمر في هذه الآيات، وفي آية البقرة أيضًا: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219]، نجد دائمًا أن الميسر يقترن بالخمر؟
الحكمة في هذا -والله أعلم- هي: أن الميسر من يدخل فيه يصبح مدمنًا كالخمر تمامًا، فقليله يدعو إلى كثيره.
ولهذا؛ فإن من يدخل في قليل الميسر يستمر فيه، ويصبح مدمنًا عليه كالخمر تمامًا؛ ولأن كلًّا منهما يوقع العداوة والبغضاء، وكلًّا منهما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، فتكون إذنْ علة الميسر هي ما تضمنه من المفاسد وإن خلا عن العوض، ولهذا؛ جاء في “صحيح مسلمٍ”: أن النبي قال: من لعب بالنَّرْدَشِير فكأنما صبغ يده في لحم خنزيرٍ ودمه [5].
وبعد ذلك نقول: إن القاعدة في المسابقات المحرمة داخلةٌ في الميسر: هي كل مسابقةٍ أو مغالبةٍ أو لعبةٍ، يَبذل فيها المتسابق، أو الداخل فيها، عوضًا وهو مترددٌ بين الربح والخسارة، أو بين الغُرم والغُنم.
كل مسابقةٍ أو مغالبةٍ أو لعبةٍ، يَدخل فيها المتسابق، أو اللاعب، وهو مترددٌ بين الربح والخسارة، فهي داخلةٌ في الميسر، إذا كان الإنسان يدخل مسابقةً وهو إما غانمٌ وإما غارمٌ فهي من الميسر، فتكون المسابقات التي يُبذل فيها عوضٌ مع التردد في الربح والخسارة من الميسر، هذا هو الضابط فيها.
مسابقات المحلات التجارية المبنية على السحب
وأما إذا كان من يدخل في المسابقة إما غانمًا وإما سالمًا، فإن هذا ليس من الميسر، إذا كان إما غانمًا وإما سالمًا فليس من الميسر، وهذا يقودنا إلى الجانب التطبيقي لهذا الموضوع، فنقول: المسابقات التي يشترط للدخول فيها بذل أو دفع مبلغٍ من المال، قليلًا كان أو كثيرًا، فإنها محرمةٌ، إلا في الأمور المستثناة التي استثناها النص، جميع المسابقات التي يبذل فيها المتسابق عوضًا فإنها محرمةٌ، إلا فيما استُثني، ومن ذلك: مسابقات المحلات التجارية المبنية على السحب، والتي لا يستطيع الراغب فيها الدخول إلا ببذل عوضٍ؛ إما بشراء قسيمة هذه المسابقة، وإما بشراء الحد الأدنى بشراء بضائع تمثل الحد الأدنى للشراء؛ لكي يدخل في هذه المسابقة، فإن هذه المسابقات محرمةٌ ومن الميسر؛ لأنها تنطبق عليها قاعدة الميسر.
هذا المتسابق إما غانمٌ وإما غارمٌ، حتى ولو كان سعر هذه القسيمة زهيدًا، فإنه وإن كان زهيدًا بالنسبة للفرد، إلا أنه يكون كبيرًا بالنسبة لمجموع المتسابقين، وهكذا لو وضع المحل التجاري حدًّا أدنى للشراء للدخول في المسابقة، فإن هذا محرمٌ؛ لأن وضع حدٍّ أدنى يعني: أن لهذه المسابقة ثمنًا مدفوعًا ضمن فاتورة الشراء.
أما لو كانت هذه المسابقة لا يشترط للدخول فيها شراء قسيمةٍ، ولم يوضع حدٌّ أدنى للشراء، وكان المحل التجاري يبيع بسعر السوق، لم يزد في الثمن لأجل المسابقة، فإن هذا لا بأس به؛ لأن المتسابق في هذه الحال إما غانمٌ وإما سالمٌ، فلا تنطبق عليه قاعدة الميسر، انتبه! الفرق دقيقٌ.
إذنْ: إذا كانت تنطبق عليه قاعدة الميسر، إذا كان من يدخل المسابقة إما غانمًا وإما غارمًا، رابحًا أو خاسرًا، فإن هذا من الميسر، وهذا سواءٌ إن كان ذلك بشراء قسيمة المسابقة، أو كان ذلك بوضع حدٍّ أدنى للشراء، أو كان ذلك برفع أسعار البضائع أو السلع التي تباع في هذا المحل لأجل المسابقة، فإن هذا من الميسر، فإذا خلا من هذا كله؛ بأن كان المحل لا يشترط للدخول في المسابقة شراء قسيمةٍ، ويبيع بسعر السوق، ولم يضع حدًّا أدنى للشراء لأجل الدخول في المسابقة، فإن هذا لا بأس به.
المسابقات عن طريق الاتصال برقمٍ معينٍ
ومن ذلك أيضًا: المسابقات التي يشترط للدخول فيها الاتصال الهاتفي عن طريق رقمٍ معينٍ؛ مثل الرقم (700)، فإن هذه المسابقات من ضروب الميسر، ولذلك؛ جميع المسابقات عن طريق الرقم (700) محرمةٌ ومن الميسر، جميع المسابقات التي تكون عن طريق الرقم (700) من الميسر؛ لأن الاتصال عن طريق هذا الرقم مكلفٌ، وحينئذٍ تنطبق قاعدة الميسر عليه، فيكون المتسابق عن طريق هذا الرقم إما غانمًا وإما غارمًا.
فإن قال قائلٌ: قد لا يكون مكلفًا بالنسبة للفرد، كونه يدفع سبعة ريالاتٍ أو عشرة ريالاتٍ ليس بمكلفٍ.
نقول: ولكنه بالنسبة لمجموع الأفراد يكون مبلغًا كبيرًا، ولهذا؛ فإن عامة العلماء في الوقت الحاضر يفتون بأن المسابقات عن طريق الرقم (700) من الميسر، وقد أحسنَت شركة الاتصالات السعودية حينما منعت مؤخرًا المسابقات عن طريق هذا الرقم، وذلك بعدما نبه العلماء على أن المسابقات عن طريقه من الميسر، قامت شركة الاتصالات السعودية بمنع جميع المسابقات عن طريق هذا الرقم، وهذا شيءٌ يُشكرون عليه.
وكثيرٌ من المسؤولين إذا نُبهوا على مثل هذه الأمور فإنهم يستجيبون، لكن أحيانًا لا يكون عندهم التصور الواضح للحكم من الناحية الشرعية، ولهذا؛ ينبغي التواصي بالحق، والتعاون على البر والتقوى، ومناصحة المسؤولين عندما يوجد شيءٌ من المنكرات؛ لأن كل مسؤولٍ فيه بذرة خيرٍ، يحتاج إلى من يحرك فيه هذه البذرة ويشجعه، ويذكره بالله عز وجل، فيتخذ القرار المناسب الذي يحمي فيه المسلمين من الوقوع في مثل هذه الأمور المنكرة.
فأقول إذنْ: جميع المسابقات عن طريق هذا الرقم من الميسر.
أيضًا: المسابقات عن طريق رسائل الهاتف الجوال، وهذه -مع الأسف!- لا تزال موجودةً إلى الآن، من الميسر؛ لأنها تنطبق عليها قاعدة الميسر، فالذي يدخل المسابقة عن طريق رسائل الهاتف الجوال إما غانمٌ وإما غارمٌ؛ فتكون إذنْ من الميسر.
مسابقات الصحف
وأما مسابقات الصحف ففيها تفصيلٌ:
فإن كان الداخل في مسابقات الصحف يشتري الصحيفة لأجل المسابقة، فإن دخوله في هذه المسابقة يعتبر من الميسر، ويكون محرمًا.
أما إذا كان يشتري الصحيفة ليس لأجل الفوز بالمسابقة؛ وإنما من عادته شراء الصحيفة، ودخوله المسابقة كان تبعًا، أو أن الصحيفة تهدَى إليه عن طريق مثلًا دائرةٍ حكوميةٍ، أو مؤسسةٍ، فإنه لا بأس بالدخول في هذه المسابقة.
وبهذا التفصيل أفتى شيخنا محمد بن عثيمين رحمه الله، وأحسن ما قيل في هذه المسألة هو التفصيل؛ لأنه بهذا التفصيل نرى أن قاعدة الميسر تنطبق على الحالة الأولى، ولا تنطبق على الحالة الثانية، قاعدة الميسر: إما غانمٌ وإما غارمٌ، تنطبق على الحالة الأولى، وهي من يشتري الصحيفة لأجل الفوز بالمسابقة، نجد أن قاعدة: الميسر تنطبق على هذه الحالة؛ فقد يربح وقد يخسر.
لكن إذا كان لا يشتري الصحيفة لأجل الفوز بالمسابقة، من عادته أصلًا شراء الصحيفة، فأجاب عن أسئلة هذه المسابقة وأرسلها وفاز، لا بأس، أو أهديت له الصحيفة، فاشترك في هذه المسابقة فلا بأس، أما كونه يشتري الصحيفة لأجل الفوز بالمسابقة، فإن هذا من الميسر.
وقد ذكر أحد المشايخ نقلًا عن رئيس التحرير في إحدى الصحف، أنه قال: إن صحيفته كانت تطبع في اليوم الواحد أربعين ألف نسخةٍ، ويسترجع منها كل يوم ألف نسخةٍ على الأقل، يقول: فلما وضعنا مسابقةً أصبحنا نطبع ثلاثمئة ألف نسخةٍ، ولا يسترجع منها شيءٌ، ما معنى هذا؟
معنى هذا: أن كثيرًا من الداخلين في المسابقة يشتري أعدادًا ليس في حاجةٍ إليها؛ وإنما لأجل الفوز بالمسابقة، يشتري له عشرين نسخةً، خمسين، مئة نسخة من هذه الصحيفة؛ حتى يفوز بالمسابقة، لا شك أن هذا داخلٌ في الميسر.
فانظر، الغالب أن قرَّاء هذه الصحيفة هم القراء أو مقاربون، لكونه يتضاعف العدد من أربعين ألف إلى ثلاثمئة ألف نسخةٍ، يعني هذا يعطي دلالةً على أن كثيرًا من الداخلين في هذه المسابقة يَشتري هذه الصحف لأجل الفوز بالمسابقة، وهذا تنطبق عليه تمامًا قاعدة الميسر.
بطاقات الفنادق
ومن ذلك أيضًا، من صور المسابقات التي يدخل فيها الميسر: بطاقات الفنادق، وما يسمى بنقاط الطيران، إذا كان الداخل فيها يبذل عوضًا، فإنها حينئذ تنطبق عليها قاعدة الميسر.
فإن بعض خطوط الطيران مثلًا تضع نقاطًا إذا جَمعت كذا نقطة يعطونك جائزةً، أو يعطونك سَفَرًا مجانيًّا، أو نحو ذلك، فهذه حكمها إذا كان المتسابق أو الداخل فيها يبذل عوضًا فإنها تكون من الميسر، وإلا فإنها جائزةٌ.
وبهذا قرر “مجمع الفقه الإسلامي الدولي” التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، فإنه أصدر قرارًا في المسابقات، ومن ضمن بنود هذا القرار: بطاقات الفنادق، وشركات الطيران، والمؤسسات التي تمنح نقاطًا تجلب منافع مباحةً، هي جائزةٌ إذا كانت مجانيةً بدون عوضٍ، جائزةٌ إذا كانت مجانيةً بدون عوضٍ، أما إذا كانت بعوضٍ فإنها غير جائزةٍ.
إذنْ هي تجري على القاعدة: بطاقات الفنادق، ونقاط الطيران والمؤسسات، إذا كانت بدون عوضٍ، مجانيةً، فإنه لا بأس بها، أما إن كانت بعوض فإنها محرمةٌ.
المسابقات الثقافية التي يشترط للدخول فيها شراء قسيمةٍ
أيضًا: المسابقات الثقافية التي يشترط للدخول فيها شراء قسيمةٍ، أو شراء كتابٍ، أو شريطٍ، فإن هذه تنطبق عليها قاعدة الميسر؛ لأن الداخل فيها يبذل عوضًا، وهو شراء هذه القسيمة أو الكتاب أو الشريط، وهو إما غانمٌ وإما غارمٌ، فتنطبق عليها القاعدة.
وبعض العلماء ألحقها بالقسم الأول، وقال: إنها تعتبر من العلم، وما كان من العلم فإنه يلحق بالقسم الأول، وهو ما يجوز فيه المسابقة بعوضٍ أو بدون عوضٍ، ولكن هذا محل نظرٍ؛ لأن النبي أعطي جوامع الكلم، قال: لا سَبَق، وهذا يشمل جميع أنواع السبق، إلا في هذه الأمور الثلاثة، ثم إن هذا لا ينضبط، لو قلت: إن ما كان في العلم كان جائزًا بذل العوض فيه، فإن هذا لا ينضبط، هذا ينجر على جميع المسابقات الثقافية، ولهذا نقول بالنسبة لهذه المسابقات: لا يجوز أن يؤخذ من المتسابقين أي عوضٍ، وإنما إذا كانت تطرح المسابقة، ويَتبرع بالجوائز بها طرف ثالثٌ، يعني من غير المتسابقين، فإن هذا يعتبر جَعَالةً ولا بأس به، فإذا كانت الجوائز من طرفٍ ثالثٍ، فإن هذا التكييف الفقهي لهذا، هو أنه من قبيل الجعالة، ولا بأس به.
المهم أنه لا يَبذل المتسابقون أي عوضٍ ولو يسيرًا، لا يبذل المتسابقون أي عوضٍ، وعلى هذا مسابقات القرآن والسنة النبوية، والمسابقات الثقافية عمومًا، هذه إذا كانت الجوائز تقدم من طرفٍ ثالثٍ من غير المتسابقين فلا بأس بها، ويكون التكييف الفقهي لها: أنها من قبيل الجعالة؛ لأن الجعالة: هي بذل مالٍ لمن يعمل عملًا معلومًا أو مجهولًا مدةً معلومةً أو مجهولةً، هذا هو تعريف الجعالة عند الفقهاء، وهذا منطبقٌ على هذه المسابقات.
بل ربما نقول: إن هذا النوع من المسابقات مندوبٌ إليه ومحمودٌ؛ لما فيه من التشجيع على حفظ كتاب الله، وحفظ السنة، والتشجيع أيضًا على تحصيل العلم، فهذا لا بأس به، لكن المهم ألا يبذل المتسابقون أي عوضٍ؛ لأن الأصل في هذا الباب المنع، إلا فيما استثناه النص.
فإن قال قائلٌ: إن بعض الإخوة في بعض الحلقات والمراكز وغيرها يجعلون المسابقات في كتابٍ، أو في شريطٍ، ويباع بسعر التكلفة، يقول: نحن لا نستفيد شيئًا، لا نربح، نبيع بسعر التكلفة، نقول: حتى ولو كان بسعر التكلفة لا يجوز؛ لأن الأصل في هذا الباب المنع، لا سَبَق إلا في هذه الأمور الثلاثة، وأنت إذا كنت عاجزًا عن التبرع بقيمة هذا الكتاب، أو وضع جوائز مجانيةٍ من عندك، فلست ملزمًا بهذه المسابقات، حتى لا توقع عباد الله في الميسر، إذا لم يكن عندك الاستعداد الكافي للقيام بهذه المسابقات، فأنت لست مجبرًا عليها، ولست ملزمًا بها؛ لأنه حتى لو بيع الكتاب أو الشريط بسعر التكلفة، فإنه تنطبق قاعدة الميسر، هذا الداخل في هذه المسابقة يشتري هذا الكتاب أو الشريط، وهو إما غانمٌ وإما غارمٌ، والنبي وضع لنا قاعدةً: لا سَبَق إلا في خفٍّ، أو نصلٍّ، أو حافرٍ [6]، فالواجب هو التمسك بهذا النص، وعدم الخروج عنه؛ لأنه أتى بهذا اللفظ الجامع؛ فإن “لا” نافيةٌ للجنس، تنفي جميع أنواع السبق إلا فيما ورد النص باستثنائه.
الألعاب التي يكون فيها عِوضٌ
وأيضًا من صور ذلك: جميع الألعاب التي يُبذل فيها عوضٌ، ويكون الداخل فيها مترددًا بين الربح والخسارة، وهذه -مع الأسف!- موجودةٌ في بعض المحلات، الألعاب التي يُشترط للدخول فيها بذل عوضٍ، وقد يفوز وقد يخسر، فإن هذه من ضروب الميسر.
ومن ذلك أيضًا: ما يُبذل من مالٍ في لعب ورق البلوت والشِّطْرنج والنَّرْد، فإن هذه من ضروب الميسر، بل قال عليه الصلاة والسلام: من لعب بالنَّرْدَشِير فكأنما صبغ يده في لحم خنزيرٍ ودمه [7].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: اللعب بالنرد حرامٌ وإن لم يكن بعوضٍ عند جماهير العلماء، وإن كان بعوضٍ فهو حرامٌ بالإجماع.
الرهان في غير ما ورد النص باستثنائه
ومن ذلك أيضًا: الرهان في غير ما ورد النص باستثنائه، فإنه محرمٌ؛ كأن يكون رهانٌ على خبرٍ معينٍ، أراهنك على أنه إن لم يكن كذا فلك كذا، أو أنك إن قمت بكذا، أراهنك على أنك إن قمت بكذا فلك كذا، يعني يكون بينهم شيءٌ من التحدي، فإن هذا رهانٌ محرمٌ، ولا يجوز إلا ما كان فيه نصرةٌ للإسلام وإظهارٌ لأعلامه وبراهينه، كما راهن أبو بكرٍ قريشًا.
فإن مراهنة الصديق كانت على سبيل التحدي لهم، فأقره النبي على هذا، ويعتبرها العلماء صورةً مستثناةً، وإلا فإن الأصل في الرهان المبني على التحدي أنه محرمٌ، وأنه من ضروب الميسر.
إذنْ هذه صورٌ من ضروب الميسر، وهذه الصور التي ذكرناها هي من أنواع أو ضروب الميسر، وعرفنا القاعدة فيها، وهي: أن كل مسابقةٍ، أو مغالبةٍ، أو لعبةٍ يدخل فيها الإنسان، وهو مترددٌ بين الربح والخسارة؛ بحيث يكون غانمًا أو غارمًا، رابحًا أو خاسرًا، فإنها تكون من الميسر، تكون محرمة، إلا ما ورد النص باستثنائه، وهي مسابقة بالخيل والإبل والسهام، وكذلك ما كان فيه نصرةٌ لأعلام الإسلام وبراهينه.
المسابقات التي لا تدخل تحت قاعدة الميسر
ونأتي لذكر بعض الأنواع من المسابقات التي لا تدخل تحت قاعدة الميسر، ذكرنا منها: مسابقات القرآن والسنة، والمسابقات الثقافية التي لا يبذل فيها المتسابقون أي عوضٍ.
أيضًا من ذلك: هدايا بعض المحلات التجارية، كالتي تكون مع الألبان والعصائر ونحوها، فإن هذه الهدايا لا بأس بها؛ لأنها في حقيقة الأمر تنازل من البائع عن بعض حقه، فكأنه يقول مثلًا: هذا العصير بدل ما أبيعك هذا العصير بعشرة ريالاتٍ، أبيعك إياه بثمانية ريالاتٍ، وبدل أن يأتي بهذا بصورةٍ مباشرةٍ يضع معه هديةً.
ومن ذلك أيضًا: بعض الهدايا التي تكون في بعض أنواع الحليب أو غيره، حيث يوضع نقودٌ في الحليب، مثلًا يقول: إنه وضع نقودًا في بعض علب هذا الحليب، أو هذه السلعة، فإن كانت هذه السلعة تباع بسعر السوق، أي أنه لم يزد في الثمن لأجل هذه المسابقة، فإن هذا لا بأس به؛ لأنه لا تنطبق عليها قاعدة الميسر؛ لأنه إما غانمٌ وإما سالمٌ.
أما إذا كان يزاد في السعر لأجل هذه المسابقة فتنطبق عليها قاعدة الميسر، فيكون إما غانمًا وإما غارمًا، فتكون إذنْ على هذا التفصيل.
ومن هذا أيضًا: ما يبذل من هدايا من بعض محطات الوقود، مثل محطات البنزين مثلًا؛ حيث يمنحون من يعبئ منهم الوقود هدايا كعلب مناديل ونحوها، هذه نطبقها على القواعد التي ذكرناها، إذا كان البنزين يباع بسعره من غير زيادةٍ، ومُنح من يأتي إليهم هذه الهدية، فهل تنطبق قاعدة الميسر هنا؟
لا تنطبق؛ لأن من يعبئ الوقود هنا إما غانمٌ وإما سالمٌ، وليس إما غانمًا وإما غارمًا، فلا تنطبق قاعدة الميسر هنا، فأنت تعبئ بسعر السوق، وأعطاك هديةً، وهو في حقيقة الأمر كأنه خفَّض لك سعر البنزين، لكن بطريقٍ غير مباشرٍ، بدل ما يقول لك سعر اللتر مثلًا سبع وثمانون هللةً بدل تسعين هللةً، أتى لك بهذه الطريقة أعطاك هدايا، وهذا لا مانع منه، ولا بأس به، فلا تنطبق قاعدة الميسر على هذه المسألة.
وبعض العلماء منع منها، وقال: إنها تحدث ضررًا لمحطات الوقود الأخرى، ولكن هذا محل نظرٍ؛ إذ إن أمور التجارة قائمةٌ على التنافس بين التجار من قديم الزمان، والأسعار تخضع للعرض والطلب والتنافس بين أرباب التجارة.
وقد غلت الأسعار في عهد النبي ، قالوا: يا رسول الله، سعر لنا، قال: إن الله هو المسعِّر القابض الباسط [8]، فكون هذا يخفض في السعر، هذا لا بأس به، وهذا كما ذكرت موجودٌ من عهد الرسول إلى يومنا هذا، وحينئذٍ نقول: إن هذا لا بأس به، نعم لو وصلت المسألة إلى حدوث أضرارٍ كبيرةٍ، فهنا تكون مسؤولية ولي الأمر أن يتدخل، فتكون هذه مسؤولية ولي الأمر.
أما بالنسبة للأفراد فإنه لا بأس بالدخول في مثل هذه الصور، ولا بأس أن تذهب لمحطة بنزين تعبئ لك وقودًا وتأخذ منه هديةً، أو يعطونك (كروتًا) وإذا جمعتها حصل لك مثلًا: إما تغيير زيتٍ، أو غسيلٌ مجانًا، أو نحو ذلك؛ لأن هذه في الحقيقة لا تنطبق عليها قاعدة الميسر التي ذكرناها.
قد أفتى بهذا بعض مشايخنا، ومنهم الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله وجماعةٌ من أهل العلم، بأن هذه لا تدخل تحت قاعدة الميسر، ولا تنطبق عليها؛ لأنك إما غانمٌ وإما سالمٌ.
ومن منع ذلك من العلماء فليس معه دليلٌ ظاهرٌ؛ لأنه إن قال: من الميسر، فلا تنطبق عليها قاعدة الميسر، وإن قال: أنه يُحدِث ضررًا، فنقول: أمور التجارة قائمةٌ على هذا على التنافس بين التجار، وإلا لو أخذت بهذا المبدأ منعت التجار من التنافس فيما بينهم في تخفيض الأسعار، ونحو ذلك، وهذا يتنافى مع أمور التجارة، إلا كما ذكرت إذا كان هناك ضررٌ إما بزيادة الأسعار أو بخفضها خفضًا مبالغًا فيه، فإن هذا تكون مسؤولية ولي الأمر، كما أبان ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم، عندما تكلما عن التسعير وحكمه، وأن ولي الأمر هو الذي يتدخل ويسعر إذا رأى المصلحة في هذا.
أقول: المسابقات هذه درسها “مجمع الفقه الإسلامي” التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وأشرت إلى القرار الصادر في هذا، وذكر جملةً من الضوابط أشرنا لمعظمها في ثنايا هذا الدرس، ومما ذكره في هذا: أن المسابقة بلا عوضٍ جائزةٌ في كل أمرٍ لم يرد في تحريمه نصٌّ، ولم يترتب عليه ترك واجبٍ أو فعل محرمٍ، هذه إذا كانت بلا عوضٍ، إذا كانت المسابقة بلا عوضٍ فإن بابها واسعٌ، تجوز إلا فيما كان يترتب عليه ترك واجبٍ أو فعل محرمٍ.
ضوابط المسابقات بعوض
أما المسابقة بعوضٍ فجائزةٌ إذا توفرت فيها الضوابط الآتية:
- ألا يكون العوض من المتسابقين، وهذا أهم الشروط في الحقيقة، أهم الشروط ألا يكون العوض من المتسابقين، إلا فيما استثناه النص.
- وأن تكون أهداف المسابقة وسائلها مشروعة.
- وأن تحقق مقصدًا من مقاصد المعتبرة شرعًا.
- وألا يترتب عليها ترك واجبٍ أو فعل محرمٍ.
هذه الضوابط التي وضعها المجمع الفقهي، وأهمها كما ذكرت: عدم بذل العوض من المتسابقين؛ لأن الأصل في هذا الباب هو المنع، إلا ما ورد النص باستثنائه.
بطاقات (كوبونات) المسابقات التي تدخل قيمتها أو جزءٌ منها في مجموع الجوائز لا تجوز شرعًا؛ لأنها ضربٌ من ضروب الميسر، وقد أشرنا إلى هذا، (الكوبونات) أو القسائم التي تدخل قيمتها في مجموع الجوائز؛ بحيث يكون لها ثمنٌ، فإنها من ضروب الميسر.
أيضًا جاء في القرار: المراهنة بين الطرفين فأكثر على نتيجة فعلٍ لغيرهم في أمورٍ ماديةٍ أو معنويةٍ حرامٌ؛ لعموم الآيات والأحاديث، كما ذكرنا أن الأصل في المراهنة المنع، إلا ما ورد النص باستثنائه؛ كالمراهنة في إظهار أعلام الإسلام وأدلته وبراهينه.
أيضًا جاء في القرار: ودفع مبلغٍ على المكالمات الهاتفية للدخول في المسابقات غير جائزٍ شرعًا، إذا كان ذلك المبلغ أو جزءًا منه يدخل في قيمة الجوائز، وأشرنا إلى هذا، وقلنا: إن المسابقات عن طريق المكالمات الهاتفية محرمٌ ومن ضروب الميسر، ولذلك من أراد أن يجعل مسابقةً عن طريق الهاتف فليجعل الرقم مجانيًّا، إذا كان مجانيًّا حينئذٍ لا إشكال، أو أنه إذا كان العدد محدودًا في مكان محدودٍ يمكن أن يؤتى بهاتفٍ ويجعل المسابقات عن طريق هذا الهاتف؛ لأنه ترد هذه الإشكالية وهي انطباق قاعدة الميسر على المسابقات عن طريق المكالمات الهاتفية.
جاء في القرار أيضًا: لا مانع من استفادة مقدم الجوائز من ترويج سلعه فقط، دون الاستفادة المالية عن طريق المسابقات، شريطة ألا تكون قيمة الجوائز أو جزءٌ منها من المتسابقين، وألا يكون في الترويج غشٌّ أو خداعٌ أو خيانةٌ للمستهلكين، لا مانع من هذا، لكن بهذا الشرط ألا يبذل المتسابقون عوضًا.
أيضًا: تصاعد مقدار الجائزة وانخفاضها بخسارةٍ لاحقةٍ للفوز غير جائزٍ شرعًا، وهذا يوجد في المسابقات عن طريق بعض القنوات الفضائية، فتكون من هذا النوع، أن مقدار الجائزة يتصاعد أو ينخفض بالخسارة اللاحقة، وهذا من ضروب الميسر.
بطاقات الفنادق، وشركات الطيران والمؤسسات التي تمنح نقاطًا تجلب منافع مباحةً جائزةٌ إذا كانت مجانيةً، يعني بدون عوضٍ، أما إذا كانت بعوضٍ فإنها غير جائزةٍ، هذه هي الضوابط في هذا الباب، وكما ترون هذه المسائل مسائل دقيقةٌ، يعني فرقٌ بين الميسر، كون هذه المسابقة من الميسر أو ليست من الميسر، فرق دقيقٌ.
ولهذا ينبغي التنبه لمثل هذه المسائل، وألا يدخل الإنسان في أية مسابقةٍ إلا بعد التأكد من أنها ليست من الميسر؛ لأن المسابقة التي يصحبها بذل عوضٍ الأصل فيها المنع، خذ هذا الأصل معك، وهذا الأصل مستفادٌ من النص، من قول النبي : لا سَبَق إلا في خفٍّ، أو نَصْلٍ، أو حافرٍ [9]، وتعتبر من ضروب الميسر.
فيكون إذنْ هذا هو الأصل في المسابقات التي يكون فيها عوضٌ من المتسابقين.
ونكتفي بهذا القدر، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.
الأسئلة
السؤال: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، هذا يقول: ما الضابط في التفريق بين الوعد بالبيع أو الشراء، وبين العقد على سلعةٍ في بيعٍ أو شراءٍ؟
الجواب: نعم، الضابط هو أن العقد فيه إلزامٌ، والوعد ليس فيه إلزامٌ، فإذا تعاقدت مع شخصٍ على بيع سيارةٍ مثلًا أو أية سلعةٍ من السلع، وحصل تفرق بالأبدان لزم البيع، أنت ملزَمٌ، وليس لك التخلص من هذا العقد، بل تلزم به ديانةً وقضاءً، وأما الوعد فإنه غير ملزِمٍ، إذا قلت لك: سوف أشتري منك سيارةً، أعدك بأنني أشتري منك سيارةً، ثم بدا لي ألا أشتريها، أنا لست ملزمًا قضاءً، يعني وصلت المسألة للقضاء فأنا لست ملزمًا، لكن هل أكون ديانةً ملزَمًا؛ باعتبار أنني وعدتك؟
هذا محل خلافٍ بين العلماء، وبعض العلماء يعتبر أن الإنسان ملزمٌ ديانةً لا قضاءً، وأنه يأثم بإخلاف الوعد، لكنه قضاءً ليس بملزمٍ.
فالوعد في الحقيقة ليس فيه إلزامٌ هو مجرد إبداء الرغبة في الشيء، أنا أعدك بشراء هذه السلعة، وقد تطرأ طوارئ ولا يتيسر لي شراء هذه السلعة منك، فرقٌ ظاهرٌ بين الوعد وبين العقد، ولكن الوعد الملزم في معنى العقد، الوعد إذا كان ملزمًا فهو في معنى العقد تمامًا.
ولذلك؛ إذا كان هناك وعد لكنه ملزمٌ فإنه يكون في معنى العقد تمامًا، والوعد غير الملزم يعتبر في الحقيقة مخرجًا في بعض التعاملات، ومن ذلك مثلًا المرابحة للآمر بالشراء التي سبق وأن تكلمنا عنها في درس سابق.
عندما تقول لبنكٍ أو مؤسسةٍ أو فردٍ: أريد منكم أن تشتروا لي هذه السيارة بهذه المواصفات، وإذا اشتريتموها فأنا سوف أشتريها منكم، أنا أعدكم وعدًا بأنني سوف أشتريها منكم، إذنْ هذا وعدٌ ليس فيه عقدٌ، فهم يقومون بشراء السيارة على هذه المواصفات.
ثم يبيعونها عليك، يعقدون العقد بعد تملك السيارة وبعد شرائها، بهذه الصورة لا بأس بها، لكن بهذا الشرط أن تكون على سبيل الوعد غير الملزم، يعني الاتفاق المبدئي أن يكون على سبيل الوعد غير الملزم.
ولهذا؛ لا يكون بينهما أي نوعٍ من أنواع الالتزام؛ لا دفع عربونٍ ولا غيره، وإذا تملك البنك أو المؤسسة، أو حتى فرد من الأفراد، تملك السيارة وقبضها فإنه يبيعها لك، لكن لو كانت على سبيل العقد أو الوعد الملزم، يكون هذا البنك أو المؤسسة قد باع ما لا يملك فوقع في المحظور الشرعي.
لكن إذا كان على سبيل الوعد غير الملزم بحيث يكون الخيار لهما، فإن هذا لا بأس به.
السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: الاتصال على مسابقات الفروسية يكون عن طريق الرقم (700)، وتكون الدقيقة بسبعة ريالاتٍ، فهل لي الدخول في هذه المسابقات؟
الجواب: جميع المسابقات عن طريق الرقم (700) من الميسر، جميع المسابقات بدون استثناء، جميع المسابقات عن طريق الرقم (700) من الميسر، وليس معنى ذلك أن كل شيءٍ عن طريق الرقم (700) من الميسر، لا، الأشياء النافعة عن طريق الرقم (700) من غير المسابقات لا بأس بها، مثلًا كاستشاراتٍ طبيةٍ عن طريق الرقم (700)، لا بأس بها.
لكن كلامنا في المسابقات خاصةً، فنقول: جميع المسابقات عن طريق الرقم (700) من الميسر، سواءٌ كانت فيما ذكره السائل من مسابقات الفروسية أو في غيرها؛ لأنها تنطبق عليها قاعدة الميسر.
وأنا نقلت لكم عن أنه قد منع هذا النوع من المسابقات لمَّا أفتى العلماء بتحريمه، منع هذا النوع عن طريق شركة الاتصالات السعودية، وهم يشكرون على هذا، والتحريم في هذا وكونه من الميسر ظاهرٌ جدًّا؛ لأن المتسابق يبذل عوضًا، وهو إما غانمٌ وإما غارمٌ، ولهذا فإنهم يحصلون من المتسابقين عن طريق هذا الرقم ملايين الريالات، وفيها أيضًا نوعٌ من ابتزاز الأموال وأكلها بالباطل.
السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: في المسابقات الثقافية: ماذا لو كان شراء الشريط للمسابقة ليس من الشخص المقيم للمسابقة، ولكن عن طريق التسجيلات الإسلامية؟
الجواب: نعم، إذا كان شراء الشريط شرطًا للدخول في المسابقة، فإن هذا لا يجوز، لكن لو تبرع بهذا الشريط أحدٌ؛ كأن تتبرع به التسجيلات أو غيرهم، وقالوا: هذا الشريط نوفره مجانًا، هذا لا بأس به، أو يكون مثلًا متوفرًا لديهم، وفروا نسخًا، يقال: من أراد الدخول في هذه المسابقة، فالشريط موجودٌ عندنا، ومن أراد أن يشتري من التسجيلات فلا مانع.
لكن المهم لا نلزم بشراء الشريط، بل الشريط موجودٌ عندنا؛ من أراد أن يأخذه فهو متاحٌ، ومن أراد أن يشتري من التسجيلات وينتفع به فالأمر إليه، فهذا أيضًا لا بأس به، الإشكال في الإلزام بشراء الشريط وجعله شرطًا، فهذا تنطبق عليه قاعدة الميسر؛ لأنه سيدخل في هذه المسابقة أناسٌ هدفهم الفوز في المسابقة، فتنطبق عليهم القاعدة: إما غانمٌ وإما غارمٌ، وقد يقول قائلٌ: إن المبلغ أحيانًا يكون زهيدًا، نقول: حتى وإن كان زهيدًا؛ لأن الأصل المنع في هذا الباب.
ولذلك نجد أن مشايخنا يفتون بتحريم مسابقات الصحف إذا كان المشتري لها يقصد الفوز، يعني يقصد بشراء الصحيفة دخول المسابقة، مع أن سعرها زهيدٌ أيضًا؛ فلعموم الحديث: لا سَبَق إلا في خفٍّ، أو نصلٍ، أو حافرٍ [10]، وهو عامٌّ في جميع أنواع السبق قليلًا كان أو كثيرًا.
ولهذا نقول بهذا التفصيل، إن كان شراء هذا الشريط شرطًا، فإن هذا لا يجوز، أما إذا لم يكن شرطًا، أو أنه وفَّر منه كمياتٍ، وقيل: من رغب الدخول في المسابقة، ورغب في اقتناء هذا الشريط عن طريقنا فلا بأس، ومن أراد شراءه عن طريق التسجيلات فلا بأس، أو وفرته جهةٌ أخرى، فإن هذا لا بأس به في هذه الحال.
السؤال: أحسن الله إليكم، يقول..، والأسئلة كثيرةٌ حول ما هو النرد؟ وما الحكمة في تحريمه؟
الجواب: النرد هو الزهر الذي يكون له عدة أضلاعٍ، ويلعب به، وهو معروفٌ، ومشتهرٌ عند كثيرٍ من الناس، وهذا قد ورد النص بتحريمه: من لعب بالنَّرْدَشِير فكأنما صبغ يده في لحم خنزيرٍ ودمه [11]، أخرجه مسلمٌ في “صحيحه”.
أما إذا كان بالمال فهو محرمٌ بالإجماع، إذا كان بغير مالٍ فهو محل خلافٍ، وعند جمهور العلماء أيضًا محرمٌ لهذا الحديث.
السؤال: أحسن الله إليكم، وهذا سائلٌ من عمان يقول: أحيانًا نذهب للعمرة، فيدفع المشاركون في الرحلة اشتراكًا بالتساوي، وفي أثناء الرحلة نجري مسابقاتٍ، ثم تعطى جوائز في نهاية الرحلة، وتشترى هذه الجوائز من الاشتراك الذي دفعناه للعمرة، فما حكم ذلك؟
الجواب: نعم، هذه المسابقات فيها إشكالٌ؛ لأنهم يبذلون فيها عوضًا، يبذل المتسابقون فيها عوضًا، ثم تمنح الجائزة لمن يفوز، فتنطبق عليها قاعدة الميسر، نعم لو أن أحدهم هو الذي اشترى الجوائز، وغيره هم الذين تسابقوا، تكون هذه من قَبيل الجَعَالة؛ كأنه قال: هذه المسابقة من فاز فيها فله كذا، تنطبق عليها صورة الجعالة تمامًا.
لكن أن يكون بذل الجوائز من المتسابقين تنطبق عليها قاعدة الميسر، ولهذا؛ فإن هذه الصورة لا تجوز، وأنا قلت في بداية هذا الدرس: إن بعض الإخوة يدخلون في هذه المسابقات عن جهلٍ، فينبغي أن يعلم بأن الأصل في المسابقات التي تكون بعوضٍ، الأصل فيها المنع: لا سَبَق إلا في خفٍّ، أو نصلٍ، أو حافرٍ [12]، فينبغي التنبه لهذا الأصل.
فمثل هذه المسابقات التي ذكرها الأخ السائل تنطبق عليها قاعدة الميسر.
السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: دفعت مئة ريالٍ للمشاركة في دورة حفظ القرآن، ويعطون جوائز في آخر الدورة لكل المتسابقين، وهناك ذهاب للعمرة، فما حكمها؟ وإذا كان المال الذي ندفعه راتبً المدرسين، فما حكم ذلك؟
الجواب: دورات حفظ القرآن، ما يأخذونه من رسمٍ لا بأس به؛ لأن هذه ليست مسابقاتٍ، وإنما هي عملٌ يُبذل؛ فإن هذه الدورات يبذل فيها، فيها شيءٌ من التكلفة، أولًا من جهة رواتب المدرسين، ومن جهة أيضًا ما قد يكون من ترتيب وتنظيم لهذه الدورات، وربما أيضًا تقدم لهم مثلًا وجبة إفطارٍ أو غداءٍ أو نحو ذلك، وربما أيضًا يكون هناك رواتب أو مكافآتٌ للعاملين، فهي فيها كلفةٌ، وحينئذٍ أخذ هذا الرسم لتغطية هذه الكلفة لا بأس به، وهذا ليس من المسابقات في شيءٍ.
وأما منح الجوائز في آخر الدورة لمن ينتظم في الحضور، أو لمن يحفظ أكثر، فهذا أيضًا لا بأس به؛ لأن هذا ليس مرتبطًا بما يؤخذ من رسمٍ؛ لأن الرسم ليس لأجل هذه المسابقات، وإنما الرسم لأجل تغطية الكلفة التي يبذلها القائمون على هذه الدورات.
وهذه الجوائز التي تمنح لأفضل المنتظمين في الدورة هذه من قَبيل الجَعَالة، فكأنه يقال: من انتظم في هذه الدورة، أو من حفظ أكثر فله كذا، فهذا لا تنطبق عليه قاعدة الميسر، والرسم الذي يؤخذ كما ذكرت هو في مقابلة ما يبذلونه، وما قد يتكبدونه من خسائر في سبيل تنظيم وترتيب هذه الدورات، ولهذا؛ نرى أنه لا بأس بأخذ هذا الرسم، والنبي قال: إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله [13].
السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: بالنسبة للنقود التي توضع في بعض علب الحليب، ألا تكون من باب مسألة (مُدِّ عجوةٍ)، حيث فيه دراهم متفاضلة؟
الجواب: هذه هي النقود أول صورة المسألة: بعض الشركات تضع نقودًا في بعض علب الحليب، وتجعل هذا بمثابة الحافز لمن يشتري هذه العلب.
ونحن قلنا: إذا كانت لا تباع بسعر السوق، فإنها لا تجوز، يعني إذا زيد في قيمتها لأجل هذه الهدايا فإنها لا تجوز.
ولكن إذا كانت تباع بسعر السوق فهو في الحقيقة أشبه بالتخفيض، أو التنازل من بائع هذه السلعة عن بعض حقه، فكأنه يقول: هذا الحليب بدل أن يكون سعره ثلاثين ريالًا، أصبح سعره الآن تسعةً وعشرين.
وأما دخولها في مسألة مُد عَجْوةٍ، فهذا ليس بظاهر؛ لأن مسألة مد عجوة هي أن يبيع مالًا ربويًّا بمالٍ ربويٍّ ومعه غيره، فلا يحصل التماثل، يعني: مد عجوةٍ هو درهمٌ بدرهمٍ، أو مد عجوةٍ هو درهمٌ بمدين، فعندما تبيع مد عجوةٍ، مد عجوةٍ هو نوعٌ من التمر الذي قال فيه النبي : من تصبَّح بسبع تمراتٍ من تمر عجوةٍ لم يصبه في ذلك اليوم سمٌّ ولا سحرٌ [14]، أخرجه البخاري ومسلمٌ، فما معنى مسألة: “مد عجوة”؟ أولًا إذا باع مد عجوةٍ، ودرهمًا بمدَّي عجوةٍ، معنى ذلك: باع تمرًا بتمرٍ مع التفاضل، أو مد عجوةٍ ودرهمًا بدرهمين، باع دراهم بدراهم مع التفاضل، يعني لم يتحقق التساوي والتماثل.
إذا أردنا تطبيق هذه المسألة على ما ذكره الأخ السائل، نجد أنها في الحقيقة لا تنضبط مثل هذه المسألة؛ لأن هذا هو بيع حليبٍ، لكن تنازل عن بعض حقه، البائع تنازل عن بعض حقه، فباعها بهذه القيمة، فبدل أن يباع الحليب بهذا السعر بِيع بسعرٍ أقل.
ثم أيضًا أنه يشترط في مسألة مد عجوةٍ ودرهم: أن يكونا المالان رِبَوِيَّين، يعني تنطبق عليهما علة الربا، وهذا غير ظاهرٍ في هذه المسألة، والله تعالى أعلم.
السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: إذا قصد الشخص المحطة التي تمنح الهدايا، أو قصد السلعة التي يوجد معها هديةٌ، فهل هذا جائزٌ؟
الجواب: نعم، الإنسان يقصد السلعة التي يكون سعرها أقل، أي إنسانٍ عاقلٍ عندما يريد شراء سلعةٍ، فإنه يختار السلعة التي يكون سعرها أقل، فإذا قصد هذه المحطة لكون سعرها أقل، فإنه لا بأس به، سواءٌ كان ذلك بصورةٍ مباشرةٍ، أو بطريقٍ غير مباشرٍ، بأن كانت تمنح هدايا، فإن حقيقة هذه الهدايا هو التخفيض، لكن بطريقةٍ غير مباشرةٍ.
وأنت لو وجدت بائعين أحدهما يبيع هذه السلعة بعشرة ريالاتٍ، وآخر بجواره يبيعها بتسعة ريالاتٍ، لا شك أنك تقصد هذا البائع الذي يبيعها بتسعة ريالاتٍ، فكون الإنسان يقصد الذهاب إلى من يبيع بسعرٍ أقل، فهذا لا بأس به، لا بأس بمثل هذا، ولا حرج فيه.
السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: ساهمت مع أحد المعارف في محفظته التي يتاجر فيها في الأسهم السعودية النقية، يقول: فهل لي أن أحضر له زبائن، وآخذ عليهم نسبةً؟
الجواب: نعم، لو أحضرت زبائن وأخذت عليهم نسبةً يكون هذا من قَبيل السمسرة، وهذا لا بأس به، وهذا جارٍ في أمور التجارة كلها، من أحضر لغيره زبونًا فله أن يأخذ مقابل إحضار هذا الزبون، وهذا في مقابل السمسرة، ولا حرج فيه.
السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: بعض محطات الوقود تشترط إعطاء الهدية إذا كانت المشتريات أكثر من خمسةٍ وثلاثين ريالًا مثلًا؟
الجواب: إذا كانت هذه المحطات تبيع بسعر السوق، يعني لا تزيد في سعر البنزين لأجل هذه الهدية، فهذا لا بأس به، حتى ولو اشترطت لمنح الهدية ألا تمنح الهدية إلا من عبَّأ منهم قدرًا معينًا، لكن بهذا الشرط: وهو أن يبيعوه بسعر السوق.
أما إذا كانوا لا يبيعونه بسعر السوق، فإن هذا لا يجوز، لكن إذا كانوا يبيعونه بسعر السوق، لكن يقولون: نحن لا نتنازل عن بعض حقنا إلا لمن عبأ منا مثلًا هذا القدر، فهذا لا مانع منه؛ لأنه ليس أصلًا ملزَمًا بأن يتنازل عن بعض حقه، ليس ملزمًا بهذه الهدية أصلًا، فهو حرٌّ فيها.
يقول: أنا لا أمنح هديةً إلا لمن عبأ مني هذا القدر من الوقود، فهذا لا بأس به، وهذه المسألة تختلف عن المسألة التي ذكرناها في الدرس، وهو وضع حدٍّ أدنى للشراء؛ لأن وضع حدِّ أدنى للشراء، ثم السحب على جوائز، لاحِظ أن السحب على جوائز، فهنا يكون الداخل في هذا السحب مترددًا بين الربح والخسارة، فيكون هذا السحب له قيمةٌ، وهذه القيمة تُدفع ضمن فاتورة الشراء.
وهذه المسألة تختلف عن المسألة التي ذكرها السائل؛ لأن المسألة التي ذكرها السائل أنت ستُمنح هديةً، لكن إذا بلغت هذا القدر فأنت ستُمنح هذه الهدية، ولستَ مترددًا بأن كونها تمنح أو لا تمنح، هو يقول: أنا أتنازل عن بعض حقي إذا عبأت مني هذا القدر المعين.
نظير ذلك مثلًا: أن تبيع سلعًا، وقلت تشجيعًا للزبائن: من اشترى مني خمس سلعٍ فله السادسة مجانًا، لكن من اشترى مني سلعةً واحدةً ما له شيءٌ، فهذا لا بأس به، هذه المسألة أيضًا من هذا القبيل.
السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: ما رأيكم في كتاب “دليل الطالب لنيل المطالب”؟
الجواب: لا شك أنه من الكتب القيمة والنافعة، وعليه شروحٌ مفيدةٌ، فهو كتابٌ قيمٌ وأوصي بالاستفادة والانتفاع منه.
السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: بعض المسابقات عن طريق القنوات الفضائية لا يوجد بها رقمٌ مجانيٌّ، وتكلفة الاتصال ريالان أو ثلاثةٌ، فهل يجوز الدخول فيها؟
الجواب: نعم هذه المسابقات فيها إشكالٌ حقيقةً، وهو قيمة أو تكلفة هذا الاتصال، حتى وإن كان ريالين أو ثلاثةً، ففيها تكلفةٌ، وقد يكون الاتصال -خاصةً إذا كان من مناطق بعيدةٍ- كلفته أكثر.
ولهذا؛ ففيه شبهةٌ، بل إننا لو طبقنا عليه قاعدة الميسر نجد أنها منطبقةٌ عليه، ولهذا؛ ينبغي للقائمين على هذه المسابقات أن يضعوا الرقم مجانيًّا، هو متيسرٌ أن يضعوا الرقم مجانيًّا، حتى لا يضعوا الناس في الحرج؛ لأنه -كما ذكرنا- الأصل في باب المسابقات التي تقترن بالعوض الأصل فيها المنع، والأصل دخولها في الميسر، إلا ما ورد النص باستثنائه.
فلذلك نقول: ينبغي للقائمين على تلك المسابقات أن يجعلوا الرقم مجانيًّا، حتى لا يوقعوا الناس في الحرج.
السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: هل تقاس الألعاب؛ كالورق والشِّطْرنج، على النَّرْد؟
الجواب: هذه المسألة؛ أما الورق إذا كان بعوضٍ، إذا كان يبذل فيه مالٌ، فهذا محرمٌ بالإجماع، لا إشكال في تحريمه، لكن إذا كان لعب الورق بدون بذل مالٍ، فإن أَدخَل في محرمٍ، أو ألهى عن واجبٍ، فلا شك أنه محرمٌ، أما إذا لم يُدخل في محرمٍ، ولم يكن فيه إلهاءٌ عن واجبٍ، ولم يكن فيه بذل مالٍ، فالعلماء مختلفون في حكمه ما بين الكراهة والتحريم، فالحكم فيه دائرٌ بين الكراهة والتحريم.
وأما الشطرنج: فقد تكلم ابن القيم رحمه الله في “الفروسية” عن حكم لعب الشطرنج، ونقل تحريمه، طبعًا بعوضٍ هذا بالإجماع، إذا كان بعوضٍ فهو محرمٌ بالإجماع، لكن الكلام في لعب الشطرنج بدون عوضٍ، نقل ابن القيم رحمه الله: تحريمه فيمن لعب بالشطرنج عن جماهير العلماء.
المقدم: أحسن الله إليكم وأثابكم.
وصلى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحاشية السفلية
^1 | رواه أبو داود: 2574، والترمذي: 1700، والنسائي: 3585، وابن ماجه: 2878، وأحمد: 10138. |
---|---|
^2, ^6, ^7, ^9, ^10, ^12 | سبق تخريجه. |
^3 | رواه الترمذي: 3193. |
^4 | رواه الترمذي: 3191 |
^5, ^11 | رواه مسلم: 2260. |
^8 | رواه أبو داود: 3451، والترمذي: 1314، وابن ماجه: 2200، وأحمد: 14057. |
^13 | رواه البخاري: 5737. |
^14 | رواه البخاري: 5445، ومسلم: 2047. |