الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فحديثنا في هذا الدرس سيكون -إن شاء الله- عن عقود التوريد، وعقود المناقصات والمزايدات.
وقبل أن نبدأ في عقود التوريد، والتي يَرِد فيها إشكالاتٌ كثيرةٌ وتساؤلاتٌ، خاصةً عند من يتعامل بتوريد البضائع والسلع، بحيث يقع العقد على ما لا يتم تملكه في كثيرٍ من الأحيان.
وهنا ترد هذه الإشكالية، فيكون المُورِّد لا يملك البضاعة، ويعقد مع صاحب المحل، فيكون قد باع ما لا يملك، بل إن هذا لا يختص بالتوريد، بل حتى بعض أصحاب المحلات عندما يتعاملون مع الزبائن ترد هذه الإشكالية، وهو أنهم قد يبيعون ما لا يملكون.
ولهذا؛ سنبحث هذه المسألة، والتكييف الفقهي لعقود التورد، وسنذكر البدائل والمخارج الشرعية لهذه الإشكاليات الواردة في هذه العقود.
ولكن قبل أن نبدأ في الحديث عن عقود التوريد، لا بد من الإشارة -ولو بشيءٍ من الاختصار- إلى عقودٍ سوف نحيل عليها عندما نتكلم عن التكييف الفقهي لعقود التوريد، سوف نحيل على عقدين مهمين، وهما: عقد السلم، وعقد الاستصناع.
فلا بد أن نعرف حقيقة السلم، وحقيقة الاستصناع، وشروطهما، حتى إذا أحلنا عليهما تكون الإحالة إلى أمرٍ واضحٍ ومعروفٍ مسبقًا.
فنبدأ بالحديث عن السلم، ثم الاستصناع، ثم بعد ذلك ننتقل للتكييف الفقهي لعقود التوريد.
عقد السلم
فنأخذ نبذةً مختصرةً عن السلم، نقول:
تعريف السلم في اللغة والاصطلاح
السلم في اللغة: مأخوذٌ من التسليم والإسلام، ويقال له: السلف بالفاء، واشتهرت في بعض كتب الفقه هذه المقولة، وهي أن السَّلَم لغة أهل الحجاز، والسَّلَف بالفاء لغة أهل العراق، تجدون في كثيرٍ من كتب الفقه هذه العبارة: السلم لغة أهل الحجاز، والسلف لغة أهل العراق.
ولكن عندما نتأمل حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما، أن النبي قدم المدينة فوجد أهلها وهم يُسْلِفون -بالفاء- ثمار السنة والسنتين، فقال: من أَسلف -بالفاء- في شيءٍ، فليسلف في شيءٍ معلومٍ، ووزن معلومٍ، إلى أجلٍ معلومٍ [1].
فهنا النبي ، وكذا ابن عباسٍ رضي الله عنهما تكلما بناءً على هذه المقولة بلغة أهل العراق، وهذا ليس بصحيحٍ، النبي تكلم بلغة أهل الحجاز، ولهذا؛ فهذا يُشكِل على هذه المقولة، لما يقولون: السلم لغة أهل الحجاز، والسلف لغة أهل العراق، فنقول: في هذا الحديث ورد: من أسلف، بالفاء، وأنتم تقولون: السلف لغة أهل العراق.
ولهذا فالذي عليه المحققون من أهل اللغة: أن السلم والسلف لغة أهل الحجاز جميعًا، السلم والسلف لغة أهل الحجاز، والمشهور أيضًا من لغة أهل العراق هو السلف، على كل حالٍ هذه فائدةٌ لغويةٌ أوردتها هنا لمَّا وردت.
ويعرِّف الفقهاء السلم بأنه عقدٌ على موصوفٍ في الذمة مؤجلٍ بثمنٍ مقبوضٍ في مجلس العقد، ولنضرب مثالًا نشرح على ضوئه التعريف:
أتى رجلٌ إلى آخر وقال له: خذ، هذه عشرة آلاف ريالٍ، أسلمت لك هذه العشرة الآلاف ريالٍ، أو نقده عشرة آلاف ريالٍ، وقال: على أن تعطيني بها مئة كيلو تمرًا من النوع السكري، تسلمها لي في منتصف شهر رجب من هذا العام، أو من العام المقبل مثلًا.
أعطاه عشرة آلاف ريالٍ، وقال: على أن تعطيني مئة كيلو تمرًا من النوع السكري تسلمها لي في وقت كذا، في شهر رجب مثلًا، في منتصف شهر رجب مثلًا من هذا العام، أو من العام المقبل، هذا يعتبر سلفًا.
إذا أردنا أن نطبق هذا على التعريف: عقدٌ على موصوفٍ في الذمة، موصوفٍ في الذمة، يعني تقول: تمر من النوع السكري، هنا هذا موصوفٌ في الذمة، ولا تقل: تمرٌ، هذا التمر، أو تمرٌ من المزرعة الفلانية، أو من هذه المزرعة، هذا لا يصلح موصوفًا في الذمة، موصوفٌ في الذمة أن تقول: تمرٌ من نوع كذا، ولا تحدد من أي مكانٍ، وإنما هو في ذمتك، تأتي به من أي مكانٍ.
عقدٌ على موصوفٍ في الذمة مؤجلٍ؛ لأنه لا بد أن يكون السلم مؤجلًا، فلا يصح أن يكون حالًّا؛ لأنه إذا كان حالًّا أصبح بيعًا، بثمنٍ مقبوضٍ في مجلس العقد، يعني لا بد أن يكون رأس المال في السلم، وهو في هذا المثال: عشرة آلاف ريالٍ، لا بد أن تسلم في مجلس العقد، وهذا في الحقيقة سنتكلم عنه، وهو من أهم شروط السلم.
يعني لا بد أن أعطيك عشرة آلاف ريالٍ الآن، على أن تسلم لي مئة كيلو تمرًا من نوع كذا، في وقت كذا، أسلمها لك العشرة آلاف الآن، إذا أسلمها لك الآن تصبح المسألة من قبيل بيع الدين بالدين فيقع في الربا.
مشروعية السلم
السلم مشروعٌ بالإجماع، قبل أن نتكلم عن الشروط، نقول: السلم مشروعٌ بإجماع العلماء، ويسميه بعضهم: “بيع المحاويج”؛ لأنه في الغالب يلجأ إليه الفقراء، وهو مشروعٌ بإجماع العلماء.
ويدل لذلك الحديث الذي ذكرناه في “الصحيحين”: حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما: قدم النبي للمدينة، فوجد أهلها يُسلِفون في الثمار السَّنة والسنتين والثلاث، فقال: من أسلف في شيءٍ، فليسلف في كيلٍ معلومٍ، ووزنٍ معلومٍ، إلى أجلٍ معلومٍ [2].
شروط عقد السلم
أما شروط صحة السلم: فيشترط له شروط البيع، ويضاف لها سبعة شروطٍ، نذكرها على سبيل الاختصار:
الشرط الأول: أن يكون فيما يمكن ضبط صفاته؛ كالمَكِيل، والموزون، والمذروع، ونحو ذلك، وإذا قلنا: المكيل، الموزون، فهذه العبارة تتردد في كتب الفقه والحديث كثيرًا: مكيلٌ، وموزونٌ، ما الفرق بين المكيل والموزون؟ إذا قيل: مكيلٌ، وموزونٌ، ما الفرق بين المكيل والموزون؟
المكيل: تقدير الشيء بالحجم، والموزون: تقدير الشيء بالثِّقَل.
فمثلًا: هذا الصاع، أقول: إذا ملأت هذا الصاع بتمرٍ مثلًا أو قمحٍ، أقول: هذا صاع تمرٍ، هذا صاع برٍّ، هذا صاع كذا من الحبوب.
أما الموزون: فتقدير الشيء بالثقل، معنى ذلك: أن المكيل قد أضع فيه تمرًا من النوع الثقيل، وقد أضع فيه تمرًا من النوع الخفيف، قد أضع فيه برًّا من النوع الثقيل، وقد أضع فيه برًّا من النوع الخفيف، فيكون أيهما أدق الكيل أو الوزن؟
الوزن أدق كثيرًا، ولهذا ترك الناس في هذا الزمان وهجروا الكيل، ليس أحد الآن يتعامل بالكيل؛ لأن الوزن أدق من الكيل، حتى في الأشياء المكيلة؛ مثل التمور مثلًا، ومثل الحبوب، أصبح الناس الآن يزنونها وزنًا، وإن كانوا يسمونها كيلًا، لكن هو في الحقيقة وزنٌ، ولذلك زكاة الفطر وردت في الشرع بالكيل صاعًا، والناس يتعاملون بالوزن.
ولهذا؛ انتبه عند تحويل الكيل إلى وزنٍ، لا بد من الاحتياط، لا بد من احتياط التقدير، لماذا؟ لأن مثلًا صاع من الأرز مثلًا في زكاة الفطر عندما تريد تحويله إلى كيلوجراماتٍ قد تضع مثلًا في هذا الصاع من النوع الثقيل، قد تضع من النوع الخفيف، وهكذا من البر، وهكذا من التمر، فيختلف الوزن.
قد يكون مثلًا وزن هذا الصاع كيلوجرامين وأربعين جرامًا، قد يكون كيلوجرامين ونصفًا، قد يكون أكثر، ولهذا؛ ينبغي الاحتياط في التحويل، ولهذا؛ فمشايخنا قالوا: إن الصاع يقدر بثلاثة كيلوجراماتٍ تقريبًا؛ لأنه لا يمكن أن تحول الكيل إلى وزنٍ على وجهٍ دقيقٍ، بل لا بد من شيءٍ من الاحتياط؛ لأن هذا الشيء الذي يوضع في هذا الصاع قد يكون ثقيلًا وقد يكون خفيفًا، فهو يختلف، هذه يعني فائدةٌ وردت معنا، أحببنا أن نشير لها هنا، وهي في الحقيقة فائدةٌ مهمةٌ، خاصةً فيما يتعلق بتحويل المكيل إلى موزونٍ.
فنقول:
- الشرط الأول: أن يكون السلم فيما يمكن ضبط صفاته؛ إما بكيلٍ، وإما بوزنٍ، وإما بذرعٍ، وإما بغير ذلك، أما إذا كان لا يمكن ضبط صفاته فإنه لا يصح السلم فيه.
والواقع أنه في الوقت الحاضر أصبح يمكن ضبط كثيرٍ من السلع، بل إننا نجد في كتب الفقه بعض الأمثلة التي ذكرها الفقهاء، وقالوا: إنه لا يصح السلم فيها، لكونها لا تنضبط صفاتها؛ لأنها في زمنهم لا يمكن ضبط صفاتها، أما في وقتنا الحاضر فيمكن ضبط صفاتها بدقةٍ متناهيةٍ.
وأضرب لهذا مثالًا: مثلًا القدور، لمَّا قال الفقهاء: إنه لا يصح السلم في القدور؛ لأنها لا يمكن ضبط صفاتها، هذا قد يكون القِدر كبيرًا وهذا صغيرٌ، وهذا واسعٌ وهذا ضيقٌ، لكن في الوقت الحاضر يمكن ضبط القدور بدقةٍ بأن تذكر الشركة والبلد والرقم، وبذلك يمكن ضبط القدور بدقةٍ متناهيةٍ حتى.
ولهذا؛ فهذا المثال نجده مثلًا في كتب الفقه، ولكن لا بد أن ينظر طالب العلم إلى أن هذا المثال الذي ذكره الفقهاء بناءً على ما هو موجودٌ في زمن الفقهاء قديمًا؛ لأنه لا يمكن ضبط مثلًا هذا المبيع في زمنهم، لكن في وقتنا الحاضر أصبح يمكن ضبط كثيرٍ من السلع بدقةٍ كبيرةٍ، إذنْ هذا هو الشرط الأول.
- الشرط الثاني: أن يصفه بما يختلف به الثمن ظاهرًا، يعني لا بد من ذكر الصفات التي يختلف بها الثمن اختلافًا ظاهرًا، فيذكر جنسه ونوعه وقدره وبلده وحداثته أو قِدَمه، وغير ذلك من الصفات التي يختلف بها الثمن ظاهرًا.
يعني مثلًا لو كان يريد أن يسلم في السيارات فلا بد أن يذكر نوع هذه السيارة، لونها، الموديل، الشركة المصنعة، إلى غير ذلك من الأمور التي يختلف بها الثمن اختلافًا ظاهرًا.
- الشرط الثالث: ذِكر قدر المُسْلَم فيه، فلا يصح السلم بدون ذكر قدره؛ لقول النبي : من أسلف في شيءٍ، فليسلف في كيلٍ معلومٍ، ووزنٍ معلومٍ [3]، وهذا الشرط محل اتفاقٍ بين العلماء، لا بد إذنْ أن يذكر قدره.
- الشرط الرابع: ذِكر أجلٍ معلومٍ له وَقْعٌ في الثمن، وبناءً على ذلك: لا يصح أن يكون السلم حالًّا، ففي مثالنا السابق: لو قلت لك: هذه عشرة آلاف ريالٍ على أن تسلمني الآن مئة كيلو تمرًا من نوع كذا، فيقولون: هذا يعتبر بيعًا، ويكون هذا قد باعني ما لا يملك.
وقد اختلف العلماء في هذا الشرط، فالجمهور على أنه لا بد من ذكر أجلٍ معلومٍ، جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والحنابلة، قالوا: لا بد من ذكر أجلٍ معلومٍ، واستدلوا بظاهر الحديث، حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما: من أسلف في شيءٍ، فليسلف في كيلٍ معلومٍ، ووزنٍ معلومٍ، إلى أجلٍ معلومٍ [4].
والقول الثاني هو مذهب الشافعية: أنه لا يشترط هذا الشرط، بل يصح أن يكون السلم حالًّا، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنه يصح أن يكون السلم حالًّا بشرط: أن يكون المُسْلَم فيه موجودًا في مِلكه، وهذا هو القول الصحيح في المسألة، اختار شيخ الإسلام رحمه الله أنه يصح أن يكون السلم حالًّا، بشرط: أن يكون المسلم فيه موجودًا في ملكه.
ففي مثالنا السابق: يعني لو قال أعطاه عشرة آلاف ريالٍ، قال: خذها بعشرة آلاف ريالٍ، على أن تسلمني هذه البضاعة، أو هذه السلعة الآن، وكان هذا الشخص له مؤسسةٌ كبيرةٌ، ولها فروعٌ في عدة مناطق، وهو يملك هذه البضاعة، فعلى رأي شيخ الإسلام ابن تيمية يصح هذا، وإن كان على رأي الجمهور لا يصح، لكن على القول الثالث وهو الذي اختاره شيخ الإسلام يصح، وهو القول الصحيح؛ لأن الإشكال فيما إذا كان السلم حالًّا، وهو أنه قد يبيع ما لا يملك.
لكن إذا اشترطنا هذا الشرط، فقلنا: بشرط أن يكون المبيع في ملكه، زال هذا المحظور، والأصل في المعاملات الحل والإباحة، فيكون القول الصحيح في هذا الشرط: أنه يصح أن يكون السلم حالًّا بشرط: أن يكون المبيع في ملكه.
- الشرط الخامس: أن يوجد المُسْلَم فيه غالبًا في وقت حلول أجله؛ ليمكن تسليمه في وقته، ومثَّل الفقهاء لهذا، قالوا: فإذا أسلم مثلًا في رطبٍ، فلا بد أن يكون في الصيف، فلا يكون في الشتاء، أما إذا أسلم في رطبٍ في الشتاء فإن هذا لا يصح؛ لأن الرطب لا يوجد في الشتاء.
أو أسلم في عنبٍ، فلا بد أن يكون في الصيف، ولا يكون في الشتاء، وقال ابن قدامة رحمه الله: لا نعلم في هذا الشرط خلافًا.
- الشرط السادس وهو في الحقيقة أهم الشروط: أن يقبض رأس مال السلم في مجلس العقد، قبض رأس مال السلم في مجلس العقد؛ لأنه إذا لم يقبض الثمن في مجلس العقد أصبح من قبيل بيع الدين بالدين، وهو محرمٌ بالإجماع، أصبح من قبيل بيع الدين بالدين، وهذا الشرط هو في الحقيقة من أهم الشروط، وهو الذي يحصل به الإخلال الآن عند من يريدون تطبيق السَّلَم.
فعندما أعطيك عشرة آلاف ريالٍ على أن تسلمني هذه البضاعة من نوع كذا، في وقت كذا، لا بد أن أسلم لك الآن عشرة آلاف ريالٍ كاملةً أنقُدها لك الآن، فإن لم يحصل نقد رأس مال السلم الآن، أصبحت المسألة من قَبيل بيع الدين بالدين.
كيف من قبيل بيع الدين بالدين؟ يعني: المُسْلَم فيه أصلًا دينٌ، تُسلِمه لي فيما بعد، ربما بعد سنةٍ أو سنتين أو ثلاثٍ، فإذا أيضًا أصبح رأس المال دينًا، لَمْ أسلمه لك الآن، أصبحت المسألة كلها من قبيل بيع الدين بالدين، وهذا لا يجوز، فلا بد إذنْ من تسليم رأس مال السلم كاملًا.
وهذا الشرط متفقٌ عليه في المذاهب الأربعة: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، إلا أن المالكية أجازوا تأخير تسليم رأس المال ثلاثة أيامٍ، ورأوا أن ثلاثة أيامٍ مما تتسامح فيها الشريعة؛ كما في حديث: لا يحل لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاثٍ [5]، لا يحل لامرأةٍ تؤمن بالله واليوم الآخر أن تَحُد على ميتٍ فوق ثلاثٍ، إلا على زوجٍ [6]، ولا يحل للمهاجر أن يبقى بعد طواف الصدر أكثر من ثلاثة أيامٍ، إلى غير ذلك من النصوص، فكأن المالكية رأوا أن ثلاثة أيامٍ مما يَتسامح فيه الشرع، فأجازوا تأخير تسليم رأس مال السلم إلى ثلاثة أيامٍ فقط.
أما بعد ثلاثة أيامٍ، فاتفاق العلماء على أنه لا يجوز تأخير تسليم رأس مال السلم، وقد أخذ بهذا “المجمع الفقهي” أخذوا برأي المالكية في المسألة، ورأوا أن هذا فيه توسعةً للناس، خاصةً في السلع الكبيرة، قد يتعذر تسليم رأس المال في نفس الوقت، فأخذ “المجمع الفقهي” برأي المالكية، وقالوا: إن فيه توسعةً على الناس، خاصةً في الوقت الحاضر الذي ربما يتطلب السلم تأخير رأس المال قليلًا.
- الشرط السابع: أن يسلم في الذمة، أي أن يكون المسلم فيه غير معينٍ، أما إذا كان معينًا فإنه لا يصح، فمثلًا في مثالنا السابق: يقول: خذ، هذه عشرة آلاف ريالٍ، على أن تسلمني مئة كيلو تمرًا من نوع كذا، تسلمها لي في وقت كذا، ولا يقول: مئة كيلو تمرًا من هذه المزرعة، أو من هذا البستان؛ لأنه إذا قال ذلك، فإنه ربما لا يثمر النخيل في ذلك العام، ربما لو أسلم في الثمار من هذا البستان، أو هذه المزرعة ربما لا تثمر، وربما تتلف، ولذلك؛ لا بد أن يكون في الذمة، ولا يصح أن يكون معينًا، لا بد أن يكون السلم في الذمة، ولا يصح أن يكون في شيءٍ معينٍ.
هذه هي شروط صحة السلم، وسوف نرجع ونطبقها -إن شاء الله- على عقود التوريد.
عقد الاستصناع
لكن نريد أيضًا أن نأخذ نبذةً مختصرةً عن عقد الاستصناع.
تعريف الاستصناع في اللغة والاصطلاح
فنقول: الاستصناع معناه في لغة العرب: طلب صناعة الشيء، واستصنع الشيء أي دعا إلى صنعه.
ومعناه في اصطلاح الفقهاء: أن يطلب إنسانٌ من آخر شيئًا لم يُصنع بعد؛ ليُصنع له طبق مواصفاتٍ محددةٍ، بمواد من عند الصانع، مقابل عوضٍ محددٍ، ويقبل الصانع بذلك.
التعريف مرةً أخرى: أن يطلب إنسانٌ من آخر شيئًا لم يُصنع بعد؛ ليُصنع له طبق مواصفاتٍ محددةٍ، بمواد من عند الصانع، مقابل عوضٍ محددٍ، ويقبل الصانع بذلك.
ويلاحظ في هذا التعريف أن العقد يقع على ما سيصنعه الصانع، فالعين والعمل من الصانع جميعًا، أما إذا كانت العين من المستصنع، وليست من الصانع، فإن العقد في الحقيقة يكون إجارةً لا استصناعًا، نوضح هذا بمثال: لو ذهبت للخياط، وطلبت منه أن يفصل لك ثوبًا، والقماش من الخياط، فهذا يعتبر استصناعًا، قلت له: أريد منك أن تفصل لي ثوبًا من قماش كذا، تسلمها لي في وقت كذا، هذا يعتبر استصناعًا.
لكن لو أنك أتيت بقماشٍ، وأعطيته إياه، وقلت له: أريد منك أن تخيط لي ثوبًا من هذا القماش، فإن هذا لا يعتبر استصناعًا؛ وإنما يعتبر إجارةً، فإذا كانت المواد والعمل من عند الصانع فإنه يعتبر استصناعًا، أما إذا كانت المواد من عند المستصنع فإنه يعتبر إجارةً، ولا يعتبر استصناعًا.
مثالٌ آخر: رجلٌ طلب من مقاولٍ أن يبني له بيتًا، والمواد من عند المقاول، فهذا يعتبر استصناعًا، لكن لو أنه طلب من هذا المقاول أن يبني له بيتًا، وتعهد له بأن يحضر له مواد البناء، فإن هذا لا يعتبر استصناعًا؛ وإنما يعتبر إجارةً.
خلاف الفقهاء في عقد الاستصناع
إذنْ هذا الاستصناع هذا العقد بهذا المعنى الذي ذكرناه منع منه جمهور الفقهاء؛ من المالكية والشافعية والحنابلة، إلا إذا توفرت فيه شروط السلم، جميع شروط السلم، ومنها: تسليم رأس المال كاملًا في مجلس العقد.
وبناءً على ذلك، على رأي الجمهور: لو ذهبت تخيط ثوبًا لا بد أن تَنقُد الخياط رأس المال كاملًا، ثمن الخياطة كاملًا، وإلا ما صح، وهكذا بالنسبة للمقاول في بناء البيت، وسائر ما يمكن أن يمثل به لهذا العقد.
والقول الثاني في المسألة، وهو مذهب الحنفية: أن عقد الاستصناع عقدٌ مستقلٌّ متميزٌ عن السلم، وليس نوعًا من السلم حتى نشترط فيه جميع شروط السلم؛ وإنما هو عقدٌ مستقلٌّ متميزٌ عن السلم بمسائله وأحكامه، ولا يشترط فيه تسليم رأس المال، بل يجوز تأجيل رأس المال كله أو بعضه.
وقول الحنفية في هذه المسألة هو الراجح، وهو الذي عليه عملُ المسلمين من قديم الزمان، بل قال بعض العلماء: إنه يشبه أن يكون هذا إجماعًا عمليًّا من المسلمين على الاستصناع، وإلا لو أخذنا بقول الجمهور في المسألة لَلَحِق الناس حرجٌ كبيرٌ في الحقيقة.
فإذا أردت أن تخيط الثوب لا بد أن تَنقُد جميع الثمن للخياط، ولو أردت أن تبني عمارةً فلا بد أن تنقد جميع الثمن للمقاول، لو أردت أن تستصنع مثلًا بابًا أو أي سلعةٍ لا بد أن تنقد جميع رأس المال، يعني تسلم رأس المال مقدمًا كاملًا، وهذا فيه حرجٌ كبيرٌ على الناس في الحقيقة، بل لا يسع الناس في الوقت الحاضر إلا قول الحنفية في المسألة.
وكما ذكرنا يشبه أن يكون الإجماع العملي من المسلمين على رأي الحنفية في هذه المسألة، وعلى هذا قرر “مجمع الفقه الإسلامي” الأخذ بقول الحنفية في هذه المسألة، الأخذ بقول الحنفية؛ لأن القول أيضًا بأنه نوعٌ من السلم، ولا بد أن يشترط فيه شروط السلم لا دليل عليه في الحقيقة، ليس عليه دليلٌ ظاهرٌ، ويحاق الناس بسببه حرجٌ كبيرٌ، وإلا لو أراد شخصٌ أن يذهب إلى خياطٍ مثلًا، وكان حنبليًّا مثلًا أو شافعيًّا، فلا بد أن يَنقُد الثمن كاملًا، وإلا ما صح هذا العقد، ولا بد أن ينقد الثمن كاملًا عندما يبني بيتًا، وعندما يستصنع أية سلعةٍ.
ولكن قول الحنفية -كما ذكرت- فيه شيءٌ من التوسعة على المسلمين، وعليه عمل المسلمين من قديم الزمان، والحمد لله، فيكون القول الراجح في هذه المسألة: القول بجواز الاستصناع، وأنه عقدٌ مستقلٌّ عن السلم.
ومما استدل به لهذا: ما جاء في “صحيح البخاري”: عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي اصطنع خاتمًا من ذهبٍ، وجعل فصه في بطن كفه إذا لبسه، فاصطنع الناس خواتم من ذهبٍ، فرقى المنبر وحمد الله وأثنى عليه، وقال: إني كنت اصطنعته، وإني لا ألبسه، فنبذه، فنبذه الناس [7]، ثم أصبح عليه الصلاة والسلام يتخذ خاتمًا من فضةٍ.
ولهذا يجوز لبس الخاتم من فضةٍ، أما الذهب فإنه محرمٌ على الرجال، وأما الفضة فإنه يجوز، وهل يقال: إنه مستحبٌّ؛ لأن النبي كان لبس خاتمًا من فضة؟
الصحيح في هذه المسألة: أنه إذا كان الإنسان يحتاج إلى خاتمٍ من فضةٍ لختمٍ ونحوه؛ كأن يكون قاضيًا، فإنه يكون لبس الخاتم في حقه مستحبًّا، أما إذا كان لا يحتاج إليه فإنه يكون مباحًا.
فإذا كان مثلًا قاضيًا ويحتاج للبس الخاتم، يكون هذا الخاتم مثلًا عليه ختمه، فإنه يكون مستحبًّا؛ لأن النبي لما لبس الخاتم كان منقوشًا عليه: محمدٌ رسول الله، ويحتاج إلى أن يختم بهذا الخاتم الكتب والرسائل التي يرسلها إلى رؤساء وملوك العالم.
فإذا كان الإنسان يحتاج إلى هذا الخاتم؛ كأن يكون قاضيًا، فيكون مستحبًّا، أما إذا كان لا يحتاج إليه فإنه يكون مباحًا، لكن بشرط أن يكون من الفضة لا من الذهب.
ومحل الشاهد من هذا الحديث: هو أن النبي اصطنع خاتمًا، فدل ذلك على مشروعية الاستصناع، وأما ما فيه من الجهالة والغرر، فإنه مغتفرٌ بجانب المصلحة الكبيرة، وهكذا فإن السلم أيضًا فيه جهالةٌ وغررٌ، إلا أن هذا الغرر مغتفرٌ بجانب المصالح المترتبة عليه.
ونجد أن الشريعة تبيح بعض الأشياء التي فيها غررٌ وجهالةٌ، إذا كانت المصالح المترتبة عليها كبيرةً، فالسلم والاستصناع فيهما شيءٌ من الغرر والجهالة، فإنه يعتبر بيع معدومٍ، ولكن أبيح ذلك؛ لما يترتب عليه من المصالح الكبيرة، كما أن الشريعة أباحت بيع العرايا، مع أنه بيع رطبٍ بتمرٍ، والأصل فيه المنع، بيع الرطب بتمرٍ مع التفاضل، والأصل فيه المنع، إلا أن الشريعة أباحته؛ لما في ذلك من المصالح الكبيرة، فالاستصناع يكون من هذا الباب.
شروط الاستصناع
ويشترط في عقد الاستصناع تحديد مواصفات الشيء المطلوب صناعته، يشترط تحديد مواصفات الشيء المطلوب صناعته تحديدًا دقيقًا يمنع من التنازع، وذلك يكون بذكر الصفات التي يختلف فيها الثمن؛ فيذكر جنس المستصنَع ونوعه وقدره، وأوصافه المطلوبة، وكذلك أيضًا: يشترط تحديد الأجل؛ قطعًا للنزاع، ولا يشترط في عقد الاستصناع تعجيل الثمن، لاحِظ هذا الشرط في السلم، لكنه في الاستصناع ليس بشرطٍ.
ففي الأمثلة السابقة التي ذكرناها مثلًا عندما تذهب للخياط، لا يشترط أن تسلم له الثمن، إن سلمت له الثمن، أو سلمت بعضه، أو أجلته كله جاز ذلك على القول بجواز الاستصناع، وهو الصحيح.
الشرط الجزائي في الاستصناع
وهل يجوز الشرط الجزائي في الاستصناع؟
الشرط الجزائي يعني: هو أخذ غرامةٍ مقابل التأخير، والصحيح في الشرط الجزائي أنه لا بأس به.
وقد بحث الشرط الجزائي مجلس هيئة كبار العلماء قديمًا، وأصدر فيه قرارًا بالجواز في غير الديون، وهكذا مجمع الفقه الإسلامي أيضًا أصدر فيه قرارًا بجوازه، لكن في غير الديون.
أما الدين فإنه لا يجوز الشرط الجزائي فيه؛ لأنه يجعله من ربا الجاهلية: إما أن تَقضي وإما أن تُربي، لو كنت تطلب من آخر دينًا ثمن مثلًا بضاعةٍ، فلما حل الدين قلت له: إذا تأخرت عن السداد أحسب عليك شرطًا جزائيًّا، وهو مثلًا مئة ريالٍ عن كل يوم تأخير، فهذا محرمٌ، بل هو ربا الجاهلية الصريح: إما أن تقضي وإما أن تربي.
لكن الشرط الجزائي في غير الديون؛ كما لو كان في عقد الاستصناع لا بأس به، فمثلًا تتفق مع مقاولٍ يبني لك بيتًا خلال ستة أشهرٍ، ونتفق معه على أنه إن تأخر عن ستة أشهرٍ يدفع لك غرامةً قدرها مثلًا مئة ريالٍ عن كل يوم تأخير، فهذا لا بأس به.
فالشرط الجزائي في عقد الاستصناع لا بأس به، اتفقت مع شخصٍ على أن يورد لك سلعةً وهي مما يستصنع، وأخذت عليه شرطًا جزائيًّا، وقلت: على أن تدفع غرامةً قدرها كذا عن كل يوم تأخير، هذا لا بأس به، فالشرط الجزائي في غير الديون لا بأس به، أما في الدين فإنه محرمٌ.
هذه نبذةٌ مختصرةٌ عن عقدي السلم والاستصناع.
عقود التوريد
بعد ذلك ننتقل لعقود التوريد، وقد بحثها “مجمع الفقه الإسلامي الدولي” المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية عشرة، التي عقدت بالرياض عام (1421 هـ).
وقرر في عقد التوريد:
تعريف عقد التوريد
- أولًا: تعريف عقد التوريد: عقد التوريد: هو عقدٌ يتعهد بمقتضاه الطرف الأول بأن يسلم سلعًا معلومةً مؤجلةً بصفةٍ دوريةٍ خلال فترةٍ معينةٍ لطرفٍ آخر، مقابل مبلغٍ معينٍ مؤجلٍ كله أو بعضه.
يكون مثلًا لك محلٌّ وتتفق مع شخصٍ مورِّدٍ يورد لك البضائع والسلع، يكون مثلًا محل بيع أدواتٍ كهربائيةٍ، أو أدوات سباكةٍ، أو أي محلٍّ من المحلات، وتتفق مع مورِّدٍ يورد لك مثلًا بضائع، أو يورد لك سلعًا، أو يورد لك..، فكيف تعقد معه العقد؟
هذا المورِّد لا يملك البضاعة التي يراد توريدها، إن عقدت معه العقد مباشرةً الآن يكون قد باع لك ما لا يملك، وهنا يَرِد الإشكال، ونقول بعد ذلك:
إذا كان محل عقد التوريد سلعة تتطلب صناعة
- ثانيًا: إذا كان محل عقد التوريد سلعة تتطلب صناعةً، فالعقد استصناعٌ تنطبق عليه أحكامه، وقد صدر بشأن الاستصناع قرار المجمع، وهو القاضي بالجواز.
فإذا كان محل عقد التوريد سلعة تتطلب استصناعًا، فالأمر فيها سهلٌ؛ لأننا نكيف هذا العقد على أنه عقد استصناعٍ، وعقد الاستصناع لا يشترط فيه تسليم الثمن، وقلنا: إن عقد الاستصناع -على القول الراجح، وهو مذهب الحنفية- جائزٌ، ولا يشترط فيه تسليم الثمن، وإن كان على رأي الجمهور أنه لا بد فيه من تسليم رأس المال، وإلا لم يصح.
لكن قلنا: إن القول الصحيح الذي لا يسع الناس إلا هذا القول هو جواز عقد الاستصناع.
وبناءً على ذلك: إذا كانت السلعة التي يراد توريدها تتطلب صناعةً، فيكون عقد استصناعٍ، ولا يشترط تسليم جميع الثمن، فمثلًا: إذا كان صاحب المحل اتفق مع المورد أن يورد له سلعًا، وهذه السلع سوف تستصنع في الداخل أو في الخارج، فهنا يعتبر عقد استصناعٍ، وسواءٌ سلم له الثمن كله أو بعضه، أو لم يسلم له الثمن، لا إشكال في هذا؛ لأنه عقد استصناعٍ لا يشترط فيه تسليم الثمن.
إذا كان محل عقد التوريد سلعة لا تتطلب صناعة
- ثالثًا: إذا كان محل عقد التوريد سلعة لا تتطلب صناعةً، وهي موصوفةٌ في الذمة يلتزم بتسليمها عند الأجل، فهذا يتم بإحدى طريقتين..، إذنْ اتفَق معه على أن يورد له سلعةً، هذه السلعة لا تتطلب صناعةً حتى نكيفها أنها عقد استصناٍع، لا تتطلب صناعةً، هذا إذنْ يكون بإحدى طريقتين:
- الطريقة الأولى: أن يعجل المستورد الثمن بكامله عند العقد، فماذا يكون هذا؟ يكون سَلَمًا، فهذا عقد يأخذ حكم السلم، إذنْ أن يعجل المستورد الثمن بكامله عند العقد، فهذا عقدٌ يأخذ حكم السلم، فيجوز بشروطه المعتبرة شرعًا التي ذكرناها.
إذنْ، إذا كان قد جعل له الثمن كاملًا يعتبر سَلَمًا، ولكن الواقع أن الناس الآن يندر أن أحدًا يعجل للمورِّد الثمن كاملًا، بل يقول…، يعطيه…، مثلًا إما أن يؤجل له الثمن، أو يعطيه بعضه، لكن يعجل له الثمن كاملًا، هذا قليلٌ في الناس، لكن لو قُدِّر هذا فيكون سلمًا، إذا عجل لك كامل الثمن قبل توريد البضاعة فيكون هذا سلمًا. - الطريقة الثانية: إن لم يعجل المستورد الثمن بكامله عند العقد، فإن هذا لا يجوز؛ لأنه مبنيٌّ على المواعدة الملزِمة بين الطرفين، وهي تشبه العقد نفسه، فيكون ذلك من بيع الكالئ بالكالئ، يعني: بيع الدين بالدين، وهذا -مع الأسف!- هو الذي عليه عمل كثيرٍ من الناس الآن، وهو الإشكال الذي أشرت إليه في مقدمة هذا الدرس.
- الطريقة الأولى: أن يعجل المستورد الثمن بكامله عند العقد، فماذا يكون هذا؟ يكون سَلَمًا، فهذا عقد يأخذ حكم السلم، إذنْ أن يعجل المستورد الثمن بكامله عند العقد، فهذا عقدٌ يأخذ حكم السلم، فيجوز بشروطه المعتبرة شرعًا التي ذكرناها.
فتكون السلعة التي يراد توريدها لا تتطلب صناعةً، والمستورد لا يعجل الثمن، وإنما يؤجل الثمن كله أو بعضه، فهنا ترد هذه الإشكالية، فتصبح المسألة من قَبيل بيع الدين بالدين، كيف من قبيل بيع الدين بالدين؟
يعني إذا أجل المستورد الثمن، والبضاعة التي يراد توريدها أيضًا مؤجلةٌ، فهذا دينٌ وهذا دينٌ، وأصبحت المسألة من قَبيل بيع الدين بالدين وهو محرمٌ، وهذه إشكاليةٌ كبيرةٌ في عقود التوريد ينبغي التنبه والتنبيه عليها.
أما إذا كانت المواعدة غير ملزمةٍ، وهذا يعتبر مخرجًا، إذا كانت المواعدة غير ملزمةٍ لأحد الطرفين أو لكليهما فتكون جائزةً، على أن يتم البيع بعقدٍ جديدٍ أو بالتسليم، إذا كانت المواعدة غير ملزمةٍ، فتكون جائزةً على أن يتم البيع بعقدٍ جديدٍ أو بالتسليم.
إذا كان على سبيل الوعد غير الملزم، فيقول صاحب المحل للمورد، صاحب المحل الذي هو المستورد للمورد، يقول: أرغب أن تورد لي السلعة الفلانية -ويذكر مواصفاتها- وأعدك بأنك إذا وردتها سوف أشتريها منك، وعدًا غير ملزمٍ، فهذا لا بأس به، وهذا -كما قلنا في درس سابق في بيع المرابحة للآمر بالشراء- إذا كانت على سبيل الوعد غير الملزم فلا بأس به، ويعتبر هذا مخرجًا لمن أراد أن يتعامل بعقود التوريد.
ولكن الصورة الشائعة عند الناس: أن يتفق مع المورد على أن يورد له سلعةً بمواصفاتٍ معينةٍ، ويعطيه بعض الثمن، وأحيانًا ما يعطيه شيئًا، فتصبح المسألة من قبيل بيع الكالئ بالكالئ، بيع الدين بالدين، وهي محرمةٌ [8].
طيب ما هو المخرج؟ نقول: إذا كانت السلعة مما يستصنع، فهذا لا إشكال فيه، إذا كانت مما لا يستصنع فيجعلها عقد سلمٍ، يسلم لك كامل الثمن، وتكون المسألة من قبيل السلم، ولكن أكثر الناس لا يرغب في تسليم رأس المال مقدمًا.
طيب إذا كان لا يرغب في تسليم رأس المال مقدمًا فليس له إلا مخرجٌ واحدٌ، وهو أن يعد هذا المورد وعدًا غير ملزمٍ، يقول: إذا وردت لي هذه السلعة بهذه المواصفات أنا سوف أشتريها منك، فإذا وردها يعقد معه عقدًا جديدًا، أو يكون بالسلم.
أما أنه ليس هناك حلٌّ إلا بإحدى هاتين الطريقتين: إما عن طريق السلم يسلمه، ولكن يشترط لهذا بأن يسلم له رأس المال كاملًا، أو أنه يكون عن طريق المواعدة غير الملزمة، أن يقعد معه عقدًا، ويكون على سبيل المواعدة الملزمة، فإن هذا لا يجوز.
وهذا كما ذكرت يقع فيه كثيرٌ من أصحاب المحلات، تجد أن كثيرًا من أصحاب المحلات يتفقون مع موردين، ويعقدون معهم عقودًا، ولا يسلمون لهم الثمن، فتكون المسألة من قبيل بيع الدين بالدين.
وربما بعضهم يقع عن جهلٍ، وبعضهم عن تساهلٍ، فينبغي التنبيه على هذه المسألة، هذا هو حاصل الكلام في عقود التوريد.
وألاحظ من الأسئلة في الدروس السابقة أن بعض الإخوة يرغب في تلخيص الدرس في آخر كل درسٍ، نستطيع أن نلخص الكلام في عقود التوريد فنقول:
عقود التوريد إذا كان محل عقد التوريد مما يتطلب صناعةً، يعني: مما سوف يستصنع، يقوم المورد باستصناعه، فإن هذا يعتبر عقد استصناعٍ، ولا يشترط فيه تسليم الثمن، وهو عقدٌ جائزٌ على القول الراجح من قولي الفقهاء.
إذا كان محل عقد التوريد لا يتطلب صناعةً، وإنما سوف يقوم المورد بشرائه مثلًا، فهذا إن قام المستورد بتسليم رأس المال يعني الثمن كاملًا مقدمًا، فهذا يعتبر سلمًا، لكن بهذا الشرط: وهو أن يسلم له رأس المال كاملًا، يسلم له الثمن كاملًا، فيعتبر هذا سلمًا، وهو جائزٌ بالإجماع، لكن بهذا الشرط، لاحِظ، وأؤكد على هذا الشرط؛ لأن هذا الشرط يفر منه كثيرٌ من الناس من المستوردين، لا يرغب في تسليم رأس المال مقدمًا، لا يرغب في تقديم الثمن مقدمًا.
أما إذا كانت السلعة مما لا يستصنع، ولم يتم تسليم رأس المال في بداية العقد، فإن هذا لا يجوز، يكون هذا محرمًا؛ لأنه من قبيل بيع الدين بالدين وهو محرمٌ.
من المخارج الشرعية في هذا: أن يكون هذا العقد على سبيل الوعد غير الملزم، فيقول المستورد للمورد: أرغب أن تورد لي هذه السلعة بهذه المواصفات، وأعدك وعدًا غير ملزمٍ، أعدك بأنني سوف أشتريها منك، فهذا يعتبر مخرجًا شرعيًّا.
فإذنْ المخارج الشرعية: إما أن يكون عن طريق السلم، أو عن طريق المواعدة غير الملزمة، أما أن يعقد معه عقدًا ليس بعقد سلمٍ، فإن هذا محرمٌ ولا يجوز، وهذه الصورة الشائعة، وهي -كما ذكرت- صورةٌ ممنوعةٌ شرعًا؛ لأنها من قبيل بيع الدين بالدين.
عقد المزايدة والمناقصة
ننتقل بعد ذلك إلى عقدين مهمين، وهما: عقد المزايدة، وعقود المناقصات، والكلام فيهما متقاربٌ، وأيضًا تم بحث هذين العقدين في المجمع الفقهي؛ عقد المناقصات ألحق بعقود التوريد، وعقد المزايدة كان فيه قرارٌ مستقلٌّ سابقٌ لهذا القرار.
عقد المزايدة: هو من العقود الشائعة في الوقت الحاضر، وهو أيضًا من العقود التي بحثت في كتب الفقه، عقدٌ معروفٌ من قديم الزمان، ومعناه: عقد معاوضةٍ يعتمد دعوة الراغبين في المشاركة في المزاد، ويتم عند رضا البائع.
فيقال مثلًا: أنه سوف تباع السلعة الفلانية، أو هذه السلع، وتعرض للمزايدة، هذا يزيد، وهذا يزيد، حتى إذا قبل البائع بالثمن أُبرم العقد.
والمناقصة: هي طلب الوصول إلى أرخص عطاءٍ لشراء سلعةٍ أو خدمةٍ تقوم فيها الجهة الطالبة لها بدعوة الراغبين لتقديم عطاءاتهم وفق شروطٍ ومواصفاتٍ محددةٍ.
فإذنْ في عقد المزايدة نجد أن البائع يرغب في أعلى سعرٍ يطرحه من يريد الشراء، بينما في المناقصة نجد أن المشتري، أو أن من يطرح هذه المناقصة يرغب في أقل سعرٍ، إذا كان مثلًا في شراء سلعٍ يرغب في أقل سعر يشتري به، إذا كانت في خدمةٍ يرغب في أقل سعر للقيام بهذه الخدمة.
والمناقصة والمزايدة جائزان شرعًا، لكن فقط من الأمور التي نشير إليها هنا، والتي ذُكرت في قرار المجمع، لا إشكال في جواز المزايدة، وكذلك جواز المناقصة، لا إشكال في جوازهما، لكن هناك بعض المسائل التي لأجلها أوردنا هذين العقدين، وتحتاج إلى تنبيه عليها، وقد وردت هذه الأمور في قرار المجمع.
طلب رسم الدخول: أحيانًا يُطلب رسمٌ ممن يريد الدخول في المزايدة أو في المناقصة، وهذا الرسم يعتبرونه قيمة دفتر الشروط، يقولون: من أراد الدخول في هذه المزايدة أو المناقصة لا بد أن يشتري هذا الدفتر، فما حكم شراء هذا الدفتر؟
جاء في قرار المجمع: لا مانع شرعًا من استيفاء رسم الدخول -قيمة دفتر الشروط- بما لا يزيد عن القيمة الفعلية؛ لكونه ثمنًا له، وقد حصل خلافٌ في حكم استيفاء هذا الرسم، ولكن هذا هو القول الأظهر الذي صدر به القرار: أنه يجوز إذا كان بحدود القيمة الفعلية لهذا الدفتر؛ لأن في المناقصات والمزايدات، أحيانًا المزايدات، أما المناقصات غالبًا لا بد أن يكون هناك دفتر شروطٍ يُذكر فيه المواصفات والشروط المطلوبة، ويباع لمن يريد الدخول في المناقصة.
نقول: إذا كان بقيمتها الفعلية الحقيقية لا بأس بذلك، وأما طلب الضمان لمن يريد الدخول في المناقصة أو المزايدة، فهو جائزٌ شرعًا، ولكن يجب أن يُرَدَّ لكل مشاركٍ لم يَرْسُ عليه العطاء، لا بد أن يرد هذا الضمان لكل مشاركٍ لم يَرْسُ عليه العطاء، ويحتسب من الثمن لمن فاز في الصفقة.
أحيانًا بعض الدوائر الحكومية تضع مناقصةً إما في شراء سلعٍ، أو في خدمةٍ مثلًا، ويشترطون على من أراد الدخول في المناقصة أن يدفع خمسة آلاف ريالٍ أو عشرة آلاف ريالٍ أحيانًا، فيأتي مجموعةٌ ممن يريد الدخول في هذه المناقصة، ثم ترسو هذه المناقصة على أحدهم، نقول: هذا لا بأس به، لكن بعد ذلك يحتسب هذا الرسم الذي هو مثلًا عشرة آلاف أو خمسة آلاف رياٍل يحتسب من الثمن على من رَسَت عليه هذه الخدمة أو هذا البيع.
ومن لم يَرْسُ عليه العطاء يجب أن يرد عليه هذا المبلغ، وإلا كان أخذ مالٍ بغير حقٍّ، يكون من قبيل أكل المال بالباطل، وهذه نقطةٌ مهمةٌ يا إخواني؛ لأن كثيرًا من المؤسسات والدوائر الحكومية التي تفعل هذه، وهي المناقصات، لا يحصل رد المبلغ، وحكم الشرع: أنه لا بد من رد المبلغ على من لم يرسُ عليه العطاء، لا بد من رد المبلغ على من لم يرس عليه العطاء، وإلا كان هذا أخذًا للمال بغير حقٍّ.
فمن الذي يبيح لهذه الجهة أن تأخذ هذه الأموال ممن أراد الدخول في المناقصة؟ وربما يكون الراغبون في الدخول في المناقصة عددهم كثيرًا، ومثلًا ربما يكون مئة شخصٍ كل واحدٍ منهم بذل خمسة آلاف ريالٍ، المبلغ سيكون كبيرًا، ربما عشرة آلاف ريالٍ، فما الذي يبيح لهذه الجهة أخذ هذا المبلغ؟
ولهذا نقول: لا بد من أن ترد هذه المبالغ على من لم يرسُ عليه العطاء، وحتى من فاز بالصفقة يحتسب من الثمن، هذا ما يتعلق بعقود المناقصة والمزايدة، هي -كما ذكرت- لا إشكال فيها، لكن تَرِد الإشكالية فقط من جهة أخذ هذه المبالغ ممن يريد أن يتقدم لهذه العقود، ولا تُرَدُّ عليهم هذه المبالغ، فيكون ذلك من قبيل أكل المال بالباطل، وهذا لا يجوز، فهذه هي الإشكالية التي ترد في عقود المناقصات وفي عقود المزايدات.
ونكتفي بهذا القدر، والله تعالى أعلم.
الأسئلة
السؤال: أحسن الله إليكم، وهذا سائلٌ يقول: إذا كان المورد وكيلًا لصاحب السلعة، فهل يجوز البيع بدون دفع الثمن كاملًا؟
الجواب: إذا كان المورد وكيلًا، فماذا يراد بهذه الوكالة؟ نقول: ماذا يراد بهذه الوكالة؟ إن كان يراد بها: أن هذا المستورد قد وكَّل هذا المورد في شراء في توريد هذه البضاعة، فهذا هو الذي نقصده بهذا البحث.
ولذلك لا يجوز أن يعقد معه عقدًا إلا أن يكون عقد سلمٍ، أو أنه يعده وعدًا غير ملزمٍ بأنه إذا استورد البضاعة اشتراها منه، إلا إذا كانت البضاعة مما يستصنع، فيكون عقد استصناعٍ.
فإذا كان إذنْ المراد بالوكيل شخصًا أجنبيًّا مورِّدًا، فإنه تنطبق عليه الأحكام التي ذكرناها، أما إذا كان هذا الوكيل شخصًا مثلًا شريكًا معه في السلعة، أو..، فإن هذا يعتبر في الحقيقة هو الذي قام بالتوريد، يعني لا يَرِد في هذا أي إشكالٍ؛ لأنه إما أنه يورد بنفسه أو بشريكه، ولكن يعني الظاهر من حال السؤال أنه يُقصد بالوكيل شخصٌ أجنبيٌّ يَطلب المستورد من المورد يعني من شخصٍ أجنبيٍّ سماه وكيلًا أن يورد له سلعةً، وهذا تنطبق عليه الأحكام التي ذكرناها.
السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: ذكرتم أن من شروط السلم شروط البيع السبعة، ومن شروط البيع: أن يكون المبيع مملوكًا للبائع، فكيف ينطبق ذلك على السلم؟
الجواب: نعم، هو من شروط البيع: أن يكون المبيع مملوكًا للبائع، وفي السلم لا بد أن يكون المبيع موصوفًا في الذمة، فلا نريد بانطباق شروط البيع انطباقها بعينها، ولكن نريد انطباقها في الجملة، وإلا فإن السلم عقدٌ على موصوفٍ في الذمة، ولو قلنا: إنه لا بد أن يكون المسلم فيه مملوكًا حال العقد لما كان هناك سلمٌ أصلًا.
فإذنْ المقصود بالإشارة إلى شروط البيع يعني: انطباقها عليه في الجملة؛ فمثلًا: من شروط صحة البيع: أن يكون العاقد جائز التصرف، حرًّا مكلفًا رشيدًا، هذا الشرط لا بد منه في السلم، التراضي بين المتعاقدين لا بد منه في السلم.
لكن هذا الشرط: وهو أن يكون المبيع مملوكًا للبائع، فهذا ربما نتجاوز عنه في السلم، وذلك بأن نشترط أن يكون موصوفًا في الذمة، بأن يكون المسلم فيه موصوفًا في الذمة.
فيكون إذنْ المقصود إذا أردنا عبارةً دقيقةً أن تنطبق عليه شروط البيع في الجملة.
السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: إذا اشترطت الشركة التي تدعو إلى الدخول في المناقصات عدم رد الضمان.
الجواب: نعم، إذا اشترطت عدم رد الضمان يكون شرطًا باطلًا؛ لقول النبي : من شرط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطلٌ، وإن كان مئة شرطٍ [9]، فيكون من وسائل أكل المال بالباطل؛ لأنه ما الذي يبيح لهذه الجهة أن تأخذ الأموال من الناس، وهو لم يرسُ عليهم العطاء، فأخذ المال يكون له سببٌ؛ إما بشراءٍ، إما بهبةٍ، فما الذي يبيح لهذه الجهة أن تأخذ هذه الضمانات، وهذه المبالغ من الناس من غير سببٍ؟
ومعلومٌ أن الشروط إذا كانت شروطًا مخالفةً للشرع، فإنها تكون شروطًا باطلةً، ولهذا قال النبي : مَن شَرَط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطلٌ، وإن كان مئة شرطٍ.
السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: ما معنى قول المجمع الفقه الإسلامي في تعريف بطاقات الائتمان غير المغطاة بشخصٍ طبيعيٍّ أو اعتباريٍّ؟
الجواب: الشخص الطبيعي هو الفرد من الناس، اعتباري، إذا قيل: شخصٌ اعتباريٌّ، المقصود به: أنه قد لا يكون شخصًا فردًا من الناس، وإنما قد يكون مثلًا جهةً أو قد يكون مجموعةً، فهذا هو مقصود الشخصية الطبيعية والشخصية الاعتبارية، وهذا هو الذي عندما يطلق في الكلام، خاصةً في كلام المعاصرين، أنه يقال: هذا شخصٌ طبيعيٌّ، وهذا شخص اعتباريٌّ، هو من هذا القبيل.
السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: أرغب في بناء منزلٍ، وليس لديَّ مالٌ يكفي لذلك، وأرغب في شراء أسهمٍ من “شركة الراجحي”، حتى أحصل على المبلغ الكافي، على أن يكون البنك من يشتري الأسهم وهو البائع، أرغب في توضيح هذه المسألة، والحكم الشرعي فيها؟
الجواب: الذي فهمت من السؤال: أن هذا الشخص يريد أن يبني بيتًا، وليس عنده سيولةٌ، فيريد أن يشتري أسهمًا بالتقسيط، ثم يبيعها على غير البائع؛ لكي يحصل على السيولة النقدية.
وهذه المسألة تكلمنا عنها فيما سبق، وقلنا: إنها تسمى ببيع المرابحة للآمر بالشراء، وهذه قلنا: تجوز بشرطين:
- الشرط الأول: أن يكون الاتفاق المبدئي ليس عقدًا، وإنما اتفاقٌ، يعني إبداء رغبةٍ في الشيء.
- والشرط الثاني: أن يملك البائع السلعة ويقبضها، ثم يبيعها.
فإذا كان هذا يريد أن يشتري أسهمًا عن طريق الراجحي أو غيره، والبائع يملك هذه الأسهم، ويشتريها بالتقسيط، ثم يبيعها لطرفٍ آخر غير البائع، فهذا لا بأس به.
ولكن لا بد من التأكد من أن تكون هذه الأسهم أسهم شركاتٍ نقيةٍ، وهي -ولله الحمد- أسهم الشركات النقية في تزايدٍ، وقد أقبل الناس عليها الآن وقام سوقها، وربما يكون هذا حافزًا لبقية الشركات لكي تصبح شركات نقيةً، وارتفعت أسهم هذه الشركات؛ بسبب إقبال الناس عليها.
فما دام أنه يوجد في السوق شركاتٌ نقيةٌ، فنقول للأخ السائل: ننصحه بأن يكون شراؤه لأسهم هذه الشركات، ثم بيعها لطرفٍ ثالثٍ؛ لأن بيعها للبائع الأول تصبح المسألة بيع عينةٍ، لكن إذا باعها لطرفٍ ثالثٍ أصبحت من قَبيل التورق، وهو لا بأس به.
السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: ما حكم فتح اعتماداتٍ من قبل البنك للشركات التي من خارج البلد؟
الجواب: الاعتمادات المستندية هذه نحتاج إلى أن نشرح المقصود بها، ونبين كلام العلماء فيها، وأحكامها الشرعية، وهذا يحتاج إلى وقتٍ، وإن شاء الله تعالى سنجعله في درسٍ قادمٍ إن شاء الله، لأجل أن نبين المقصود بالاعتمادات وحقيقتها، وتكييفها الفقهي، وحكمها الشرعي، فنرجئ الإجابة عن هذا السؤال حتى نشرح هذا المصطلح.
المقدم: أحسن الله إليكم، يقول: قلتم: إن الشرط الجزائي في الدين لا يجوز، فإن قال المدين: إني لن أتأخر عن السداد، أو سأجعل شخصًا آخر يضمن السداد إن تأخرت، فهل يجوز له على هذا أن يعقد عقدًا مع شركةٍ تشترط ذلكم الشرط الجزائي؟
الجواب: الشرط الجزائي في الدين محرم كما قلنا، هو ربا الجاهلية، لو قال: أحتسب عليك غرامةً عن كل يوم تأخير، فإن هذا هو ربا الجاهلية؛ لأن ربا الجاهلية إذا حل الدين، أتى الدائن للمدين، وقال: إما أن تقضي، وإما أن تُرْبِي.
وهكذا إذا كان الشرط الجزائي بصورةٍ أخرى، إذا كان الشرط الجزائي بأي صورةٍ من الصور، سواءٌ كانت بصورةٍ مباشرةٍ، أو غير مباشرةٍ، أما إذا كان على ما ذكر السؤال من أن من الضمان، ضمان السداد، يعني إذا حل الدين، يقول: إذا حل الدين أريد منك أن تسدد، أو أن تأتي بمن يضمن السداد من شركةٍ أخرى، أو من شخصٍ، فهذا هو الكفيل، أو ما يسمى بالضامن، وهو أمرٌ جائزٌ شرعًا لا بأس به، فيقول له: أنا لا أبيع لك بالدين، إلا بشرط أن تأتيني بضامنٍ أو بشركةٍ ضامنةٍ، أو بكفيلٍ ضامنٍ، فهذا لا بأس به، وهو ضمانٌ من عقود التوثقة الجائزة شرعًا، والضمان والكفالة والرهن، هذه من عقود التوثقة، فكونه يطلب منه ضامنًا، لكن بدون مقابلٍ؛ لأن الضمان لا يجوز أخذ مقابلٍ عليه، فإن هذا لا حرج فيه شرعًا.
كلامنا في أن يتفق معه على أن يدفع غرامةً عن كل يوم تأخير مقابل الدين، هذا هو المحرم، فغير الدين يجوز، كما لو كان في عقد مقاولةٍ في تفصيل ثوبٍ، في توريد سلعةٍ، في استخدام مثلًا..، هذا كله يجوز أخذ الشرط الجزائي فيه، يجوز يعني فرض الشرط الجزائي، يقول: أحسب عليك غرامة تأخيرٍ عن كل يوم تأخير مثلًا، أحسب عليك غرامةً قدرها كذا عن يوم كل تأخير.
لكن في الديون لا يجوز مثل هذا، الضمان الذي ذكره السائل جائزٌ، لكن بشرط ألا يترتب على هذا الضمان أي مبلغٍ ماليٍّ: لأن الضمان من عقود الإرفاق، فلا يجوز أخذ مقابلٍ عليه.
السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: ما حكم بيع جنين الناقة وهو في بطن أمه؟
الجواب: هذا ورد النهي عنه، وهو النهي عن بيع حَبَل الحَبَلَة [10]، وهو من بيوع الغرر التي قد جاءت الشريعة بمنعها، فبيع ما في بطن البهيمة عمومًا، الناقة وغير الناقة، فهذا من بيوع الغرر المنهي عنها شرعًا؛ لأنه لا يدري هل يخرج هذا الذي في بطن أي بهيمةٍ حيًّا أو ميتًا، فهو يعتبر من بيوع الغرر.
السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: بالنسبة لبطاقات “سوا” والمتاجرة بها، فما شرعية تعاملها مع الناس، حيث لها وقتٌ محددٌ وتنتهي، ويقول: والمساهمة فيها، حيث يدفع المساهم ثمانمئة وخمسين ريالًا، ويكون له ربحٌ أسبوعيٌّ، تقريبًا ألفٌ وخمسمئة ريالٍ، تزيد أو تنقص؟
الجواب: هذا السؤال تضمن مسألتين:
- المسألة الأولى: حكم هذا النوع من البطاقات.
- المسألة الثانية: حكم المساهمة فيها.
أما المسألة الأولى: هو حكم هذا النوع من البطاقات التي لها مدةٌ محددةٌ إن استخدمتها فيها، وإلا ضاع حقك، نقول: هذا لا بأس به، ولا يعتبر هذا غررًا، وقول من قال من بعض العلماء: إن هذا غررٌ، فلا يسلم، وإن كان فيه غررٌ فنقول: غررٌ مغتفرٌ؛ لأنه ليس كل غررٍ يكون ممنوعًا.
ولهذا؛ فالسلم فيه غررٌ لكنه مغتفرٌ، الاستصناع فيه غررٌ لكنه مغتفرٌ، فالجعالة فيها غررٌ لكنه مغتفرٌ، فالقول: بأن فيه جهالةً وغررًا، هذا محل نظرٍ.
ووجه من قال بالمنع في مثل هذه المسألة، يقول: لأن المستخدم لهذه البطاقة قد يستخدمها، وقد لا يستخدمها، فيضيع عليه حقه، نقول: وهذا أيضًا منطبقٌ على مسائل كثيرةٍ، يعني مثلًا: في عقد الإجارة عندما تستأجر بيتًا ولا تسكنه، فالمؤجر يستحق الأجرة، سواءٌ سكنت هذا البيت، أو لم تسكن.
عندما تستأجر سيارةً، ولا تنتفع بها، فالمؤجر يستحق الأجرة، سواءٌ انتفعت بها أو لم تنتفع، فعقد الإجار هو من هذا النوع ومن هذا القبيل، فمثل ذلك أيضًا هذه البطاقات، قد حجز لك أنت هذا الرقم، ويلحق الشركة ضررٌ لو أنهم ردوا لك بقية المبلغ، ربما لحق الشركة ضررٌ؛ لأنهم حجزوا لك هذا المبلغ، وصرفوا لك هذا المبلغ خلال هذه المدة، وربما أنك لو لم تحجز هذا الرقم لباعوه لشخصٍ آخر وانتفعوا.
وهذا أيضًا ينطبق حتى على الهاتف الثابت مثلًا، أو الهاتف الجوال، يكون هناك رسمٌ يؤخذ، تأخذه الشركة، وهذا لا بأس به، وحينئذٍ نقول: لا بأس بالتعامل بهذه البطاقات، حتى ولو كانت محددة المدة، لا حرج في ذلك ولا إشكال، وما قد يوجد فيه من الجهالة والغرر فإنه مغتفرٌ، فهو يشبه الغرر الذي قد يكون في عقد الإجارة.
وأما بالنسبة للمسألة الثانية: وهي المساهمة في بطاقة “سوا”، فقد صدر في هذا بيان من بعض الجهات الرسمية يحذرون فيه من مثل هذه المساهمات، وبينوا أن فيها شيئًا من النصب والاحتيال.
ثم أيضًا أمورها غير واضحةٍ، ويُخشى أن تكون من قَبيل غسيل الأموال، وقد كان لهذه المساهمة ضحايا، ونشر في الصحف شيءٌ من هذا.
وهنا مسألةٌ أنبه عليها: وهي أن بعض الناس لا يعرف فيم تشغَّل أمواله، يأتي إليه شخصٌ يقول: أعطني ألف ريالٍ، أو مثلًا أعطني ثمانية آلاف ريالٍ، وأنا أعطيك كل أسبوعٍ أرباحًا قدرها كذا، لكن فيم يكون الاستثمار؟ لا يدري، أنت لا شأن لك، أو يقول كما يقولون: هذا سر المهنة، هذا ليس بصحيحٍ، لا بد أن تعرف فيم يستثمر هذا المال؛ لأنك مسؤولٌ عن مالك أمام الله ، من أين اكتسبه وفيم أنفقه.
وربما أن بعض الأمور المحرمة يُتعامل بها بهذا الغطاء، يقال: أعطنا أموالك ونحن نشغلها لك، لكن فيم يشغلونها؟ لا تدري، وهذا أمرٌ غير مقبولٍ، لا بد أن تعرف فيم تشغل أموالك، ومن هذا القبيل هذا النوع من البطاقات التي كثر الكلام فيه، وصدر فيه تحذيرٌ من بعض الجهات الرسمية، ونشر في الصحف، وبينوا أن هذه المساهمات يشوبها ما يشوبها من النصب والاحتيال وأكل المال بالباطل، والأرباح التي فيها أيضًا تثير الشبهة، أرباحٌ كبيرةٌ تثير الشبهة حول هذا التعامل.
ثم أيضًا الربح يشبه أن يكون مضمونًا، يشبه أن يكون الربح مضمونًا؛ لأنه يقول: أعطني كذا من المال، وأعطيك كل أسبوعٍ ربحًا قدره كذا، والربح المضمون محرمٌ، لا يجوز أن يكون الربح مضمونًا، ولا أن تكون الخسارة أيضًا مضمونًا عدم الخسارة، فلا يضمن عدم الخسارة، ولا يضمن الربح، التجارة الصحيحة هي التجارة القائمة على المخاطرة، القائمة على التردد بين الربح والخسارة، أما أن يضمن عدم الخسارة، أو يضمن لك الربح، فإن هذا لا يجوز.
وهكذا لو ضمن لك الربح معينًا محددًا لا يجوز، لا بد أن يكون الربح بنسبةً مشاعةً (20%، 30%)، الربع، النصف، أما أن يحدد يقول: أعطيك مثلًا ثلاثة آلاف ريالٍ ربًحا أو أربعة آلاف ريالٍ فهذا لا يجوز.
السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: رجلٌ يجمع أموالًا ثم يضارب بها في الأسهم، وبعد ذلك يأخذ (20%) من الربح، والباقي يعطيه المساهم، فما حكم ذلك؟
الجواب: هذا لا بأس به، بشرط أن يكون ذلك في الشركات النقية، أما الشركات التي تتعامل بالربا، فإنه لا يجوز المساهمة فيها، ويوجد لدينا هنا بالمملكة خمسةٌ وسبعون شركةً، منها الآن: اثنتان وعشرون شركةً نقيةً، والبقية تتعامل بالربا، وسوف تطرح شركةٌ بعد أيامٍ، وقد أعلنوا صراحةً في الصحف أن عندهم قروضًا ربويةً، والعجيب من بعض الإخوة، بعض المشايخ، الذين يفتون بجواز المساهمة فيها، وهم يُعلِنون صراحةً، نشروا قوائمهم المالية في الصحف، بل عندهم قروضٌ ربويةٌ كبيرةٌ تزيد على (20%)، فما الذي يبيح الدخول في مثل هذه الشركات التي تعلن صراحةً وعلنًا أن عندها قروضًا ربويةً؟ هذا حقيقةً من العجب!
الربا أمره عظيمٌ في دين الله ، شددت الشريعة في الربا، حتى إن النبي لعن حتى شاهد الربا، وكاتب الربا [11]، فكيف بمن يريد أن يصبح أحد ملاك هذه الشركة بالمساهمة، المساهم يعتبر أحد ملاك الشركة، شاء أم أبى، وتنسب إليه جميع أعمال الشركة، فجرأة بعض الناس على الدخول في مثل هذه الشركات التي تتعامل بالربا فيه إشكالٌ كبيرٌ في الحقيقة، ويشبه أن يَصدُق على هذا قول النبي كما في “صحيح البخاري”: يأتي على الناس زمانٌ لا يبالي المرء من أين أخذ المال، من حلالٍ أم من حرامٍ [12]، هذا في البخاري.
والحديث الآخر وإن كان في إسناده ضعفٌ: أنه يأتي على الناس زمان لا يبقى أحد إلا وقع في الربا، فإن لم يصبه شيءٌ أصابه شيءٌ من غباره [13].
فالربا أمره عظيمٌ، وينبغي أن تقاطع الشركات التي تتعامل بالربا، ينبغي أن يقوم المجتمع بمقاطعتها حتى ترتدع، وحتى يرتدع القائمون عليها؛ لأن مثل هذه الفتاوى في الحقيقة التي تجيز الدخول في الشركات المساهمة التي تتعامل بالربا، هذا يجعل الأمر يستمر على ما هو عليه، إذا وجدوا من يفتي لهم فسوف يستمرون، مع أنه -ولله الحمد- يوجد بدائل شرعيةٌ، يوجد المرابحة، يوجد أشياء يمكن أن يُحَصِّلوا بها ما يحصلونه عن طريق القروض الربوية، ولكن قلة الورع، وقلة الخوف من الله ، وعدم وجود الرادع الذي يردع القائمين على مجالس الشركات، هو الذي يجعلهم يستمرون في مثل هذه التعاملات الربوية.
وقول من قال من بعض المشايخ بأن الإنسان مخيرٌ أن يأخذ بهذا القول أو بهذا القول، هذا في نظري قولٌ غير صحيحٍ، وإنما يقال: يؤخذ بما تقتضيه النصوص والأدلة الشرعية، والعامِّي الذي لا يستطيع التمييز يأخذ بالأوثق في علمه ودينه وأمانته.
أما أن يقال: إن العلماء اختلفوا؛ خذوا بهذا أو بهذا، هذا ليس بصحيحٍ، خاصةً إذا عرفنا أن الشريعة قد شددت في شأن الربا تشديدًا عظيمًا، وترتب عليه اللعن ومحق البركة، وسدت جميع الذرائع الموصلة له، جميع الذرائع الموصلة للربا منعت منها الشريعة.
فمثلًا: في بيع العينة، قد يقع بيع العينة من غير مواطأةٍ ولا اتفاقٍ، ومع ذلك ممنوعٌ شرعًا سدًّا للذريعة.
فينبغي إذنٍ أن ننطلق من هذا المنطلق، إذا رأينا الشريعة شددت في أمرٍ نشدد فيه، إذا رأينا الأمر فيه سعةٌ في الشريعة نتسامح فيه.
فالربا نجد أن النصوص قد شددت كثيرًا بشأن الربا: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا [البقرة:276]، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279]، “لعن النبي آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه” [14]، النصوص عظيمةٌ في شأن الربا، فما الذي يجيز الدخول في مثل هذه الشركات؟!
ولهذا نقول: ينبغي أن تشجع هذه الشركات النقية، وأن يُشكر القائمون عليها، وأن تُعلَن أيضًا للناس، حتى إذا رأى أصحاب الشركات الأخرى أن الناس قد اتجهوا لهذا النوع من الشركات يكون هذا يشكل ضغطًا عليهم، وفي ظني أنه إذا أشيع ونشرت أسماء هذه الشركات، أن هذا سيكون مردوده إيجابيًّا، وأتوقع أنه خلال سنواتٍ قادمةٍ -ربما لا تكون كثيرةً- تتحول جميع الشركات إلى شركاتٍ نقيةٍ؛ لأن المجتمع في الحقيقة هو الذي يفرض رأيه وكلمته على هذه الشركات، إذا رأوا أن الناس هجروا الشركات غير النقية واتجهوا للشركات النقية، فستتحول جميع الشركات إلى شركاتٍ نقيةٍ.
فإذنْ المجتمع في الحقيقة مسؤولٌ بالدرجة الأولى عن هذه المسألة، فيقال للناس: لا تساهموا، ولا تدخلوا إلا في الشركات النقية، وهي -ولله الحمد- الآن في تزايدٍ، كان قبل سنواتٍ لا يوجد ولا شركةٌ، ثم وجدت ثلاث شركاتٍ، ثم زادت إلى..، الآن أصبح 22 شركةً تقريبًا، وربما أيضًا هناك شركاتٌ في طريقها للتحول لأن تصبح شركاتٍ نقيةً.
السؤال: أحسن الله إليكم، سائلٌ يقول: ما اسم هذه الشركة؟
الجواب: على كل حالٍ هم لمَّا أعلنوا عن هذا صراحةً في الصحف، هي “شركة المراعي”، وإنما سميتها وليس من عادتي التسمية؛ لأنهم في الحقيقة أعلنوا هذا، أعلنوا عن القروض الربوية، طلعت في بعض الصحف على نشرة الإصدار، ومن ضمنها قروضٌ، والتي هي قروضٌ ربويةٌ؛ لأن الشركات والبنوك لا تقرض لوجه الله ، ليس عندهم قرضٌ اسمه قرضٌ حسنٌ، كل القروض الموجودة عندهم قروضٌ ربويةٌ، اللهم إلا أن يوجد قرضٌ من البنك الصناعي أو الزراعي، لكنها قروضٌ قليلةٌ مقاربةٌ ببقية القروض التي اقترضتها هذه الشركة.
ولذلك نقول: ما دام أنه توجد عندهم هذه النسبة من القروض، وهي تزيد على (20%)، فنرى عدم جواز المساهمة فيها.
السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: من أخذ جوائز من البنك، وتخفيضاتٍ فيما سبق، فماذا يعلم؟
الجواب: إذا كان لا يعلم بالحكم، وهذه قاعدةٌ في الربا، إذا كان لا يعلم بالحكم وقبضه، فإن الله تعالى يقول: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ [البقرة:275].
فإذا كان قد دخل عن جهلٍ، وقبض ذلك الشيء، فإنه لا شيء عليه، فَلَهُ مَا سَلَفَ، له ما أخذ، وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ، إذا تاب إلى الله تعالى من هذا، فإن الله تعالى يتوب عليه.
أما إذا كان الربا لم يُقبض، فإن القاعدة في هذا: فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ [البقرة:279]، يأخذ رأس المال، ويترك الربا، هذه قاعدةٌ مفيدةٌ في مسائل الربا ذكرها الله .
نقول: من وقع في الربا عن جهلٍ وقبض الربا، فَلَهُ مَا سَلَفَ، لا نقول له: حط ما أخذته، وتصدق بما قبضته، لا نقول له هذا، فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ، فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ.
ولهذا؛ لم يطالب النبي من وقع في الربا قبل علمه بالحكم، لم يطالبهم بأن يضعوا الربا، وإنما أمر النبي بوضع الربا عمن؟ عن الربا القائم الموجود، وقال: كل ربًا في الجاهلية موضوعٌ، وأول ربًا أضعه ربا عمي العباس [15]، ويدل لذلك أيضًا: الآية الكريمة: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أموالكم [البقرة:279]، فإذا كان لم يقبض هذا المال، فنقول: لك رأس المال فقط، ولا تأخذ الربا، أما إذا قبضه فهذا لا شيء عليه، فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ.
أما بالنسبة للهدايا: نحن قلنا: إنها محرمةٌ ولا تجوز، والحكمة من منعها هو سد ذريعة الربا، وقد لا يكون فيها ربًا، لكن من باب سد الذريعة، وهذا يصلح أن يكون مثالًا لما ذكرناه من أن الشريعة قد سدت جميع الذرائع الموصلة للربا، فمن هذا القبيل: منع المقترض من أن يُهدي للمقرض أية هديةٍ قبل الوفاء مطلقًا، وهذا من باب سد الذريعة للربا.
لكن إذا كان الأخ السائل وقع فيه عن جهلٍ فلا شيء عليه.
السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: طلب مني أحد الإخوة قرضًا، مبلغًا من المال، على أن أشتري له به أشياء، وقال لي: سأرد لك مبلغك الذي اقترضته منك، وأعطيك معه أتعابك، فهل يجوز لي أن آخذ هذه الأتعاب، وهي مقابل خدمتي له، وليس زيادة المبلغ المقترض.
الجواب: القرض يجب أن يرد بالمثل، ولا يجوز أن ترد معه زيادةٌ مشترطةٌ، فإذا كان قد اقترض منه مبلغًا، فلا يجوز أن يقول: سأرد لك المبلغ ومقابل أتعابك؛ لأن هذه زيادةٌ محرمةٌ، ولكن بعض الناس يسمي التورق قرضًا، ربما سمى المرابحة للآمر بالشراء: قرضًا، فبعض الناس عندهم إطلاقاتٌ، يتوسعون في إطلاق لفظ القرض، والقرض خاصٌّ بمن يدفع مالًا، دفع مالٍ لمن ينتفع به ويرد بدله، وهو كما ذكرنا في دروسٍ سابقةٍ في الأصل صورة القرض صورةٌ ربويةٌ؛ لأنها دفع مالٍ لمن ينتفع به ويرد بدله، وهذا المال مالٌ ربويٌّ، ولكن الشريعة أجازت القرض من باب تشجيع الناس على التعاون والتكافل والإحسان والإرفاق.
فإذا أصبح يراد به المعاوضة، فإنه يكون محرمًا، وحينئذٍ نقول لمثل هذا الذي قال: أقرضني وسأرد لك القرض، وأعطيك مقابل أتعابك: إن هذا لا يجوز؛ لأن القرض لا بد أن يتمحَّض فيه الإحسان.
فهذا الشخص الذي قد أقرضك، أجره على الله ، ولذلك لا يجوز أن يأخذ هذه الزيادة، نعم، لو كانت الزيادة غير مشترطةٍ، وغير متعارفٍ عليها لا بأس، كما استسلم النبي من رجلٍ بكرًا، فأتى يتقاضاه قالوا: يا رسول الله، لم..، قال: أعطوه مثل سنه، قالوا: لم نجد مثل سنه، قال: أعطوه سنًّا خيرًا من سنه؛ فإن خير الناس أحسنهم قضاءً [16].
فإذا كان ذلك غير مشترَطٍ فإنه لا بأس به، يعني مثلًا: أقرضك شخصٌ عشرة آلاف ريالٍ، ثم أردت أن تقضيه حقه، أعطيته عشرة آلافٍ، وأعطيته هديةً، أو أعطيته أحد عشر ألفًا من غير شرطٍ، فهذا لا بأس به، لكن من غير شرطٍ.
ولاحِظ هنا: أن المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا، لو كان هناك تعارفٌ على هذه الزيادة، كما في بعض البنوك وبعض المؤسسات، فإن المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا، ولا يجوز.
الخلاصة: أننا نقول للأخ السائل: إن هذه الزيادة التي اشترطها المقرض على المقترض محرمةٌ.
المقدم: أحسن الله إليكم وأثابكم.
وصلى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 2240. |
---|---|
^2, ^3, ^4, ^14 | سبق تخريجه. |
^5 | رواه البخاري: 6065، ومسلم: 2559. |
^6 | رواه البخاري: 1280. |
^7 | رواه البخاري: 5866، ومسلم: 2091. |
^8 | رواه الحاكم: 2303، 2304، والدارقطني: 3060، 3061. |
^9 | رواه البخاري: 2168، ومسلم: 1504. |
^10 | رواه البخاري: 2143، ومسلم: 1514. |
^11 | رواه مسلم: 1598. |
^12 | رواه البخاري: 2059. |
^13 | رواه أبو داود: 3331، والنسائي: 4467، وابن ماجه: 2278. |
^15 | رواه مسلم: 1218. |
^16 | رواه البخاري: 2392. |