عناصر المادة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
أحكام الصيام
درسنا في هذه المحاضرة عن أحكام الصيام، ونبدأ أولًا بتعريف الصيام.
تعريف الصيام
الصيام في اللغة: معناه الإمساك، مجرد الإمساك، فهذه المادة، مادة: (الصاد، والواو، والميم) تدور حول معنى الإمساك، ومنه قول الله تعالى عن مريم عليها السلام: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا [مريم: 26]. فقولها: نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا أي: سكوتًا وإمساكًا عن الكلام، ومنه قول الشاعر:
خيلٌ صِيامٌ وأخرى غير صائمةٍ | تحتَ العَجَاج وأخرى تَعْلُك اللُّجُمَا |
خيل صيام يعني: ممسكة عن الصهيل.
ومعناه اصطلاحًا: إمساكٌ بِنِيَّةٍ عن أشياءَ مخصوصةٍ، في زمنٍ معيَّنٍ، من شخصٍ معيَّنٍ.
قولنا: “إمساك بنية”، لا بد من هذا القيد، ولا بد أن يكون الإمساك بنية، فإن كان الإمساك بغير نية، فهل يعتبر صومًا شرعًا؟ هو صوم من ناحية اللغة، لكن هل يعتبر صومًا من الناحية الشرعية؟ لا يعتبر؛ لأنه لو أن أحدًا مثلًا نفترض أنه طيلة النهار ما أكل ولا شرب، إلى أن غربت الشمس لم يأكل ولم يشرب، ولم يأت بأي مفسد من مفسدات الصوم، لكنه لم ينو الصيام، فهل يعتبر صائمًا شرعًا؟ لا يعتبر؛ لأنه لم ينو الصيام، فلا بد من أن يكون الإمساك بنية.
“عن أشياء مخصوصة”، وهي مفسدات الصيام أو المفطرات؛ أصولها: الأكل والشرب والجماع، كما سيأتي.
“في زمن معين”، وهو من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، مِن تبيُّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر إلى غروب الشمس.
“من شخص مخصوص”، وهو المكلف، الإنسان العاقل البالغ، يعني مكلف.
وهنا شرح للتعريف: إذا قلنا: بنية، فلا يجزئ بدون نية بالإجماع، ومفسدات الصوم هي الأكل والشرب والجماع، وعرفنا المقصود بزمن معين، يعني من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس.
ومن شخص مخصوص، وقلنا: المسلم العاقل القادر، غير الحائض والنفساء، يعني: استثنينا الحائض والنفساء؛ لأنهما لا يصح الصيام منهما، بل لا يجوز الصيام منهما، ولكنهما يقضيانه.
فرْضية صوم رمضان
وقد فرض صوم شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة، وكان قبل ذلك قد فرض صيام عاشوراء، ثم نسخ وجوب صيام يوم عاشوراء بفرضية صوم شهر رمضان، وبقي صيام يوم عاشوراء مستحبًّا، وإلا كان -قبل فرض صوم رمضان- صومُ عاشوراء واجبًا.
وقد مرت فرضية صوم رمضان بمرحلتين:
- المرحلة الأولى: أن الله تعالى شرع الصوم، لكنه ليس واجبًا حتمًا، وإنما خير الإنسان بينه وبين الإطعام، يعني من شاء أطعم، ومن شاء صام.
- ثم بعد ذلك فرض الله تعالى صوم شهر رمضان حتمًا.
ويدل للمرحلة الأولى قول الله تعالى: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ يعني: على الذين يستطيعونه فدية طعام مسكين فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة: 184].
يعني: كان الإنسان في تلك المرحلة مُخيَّرًا بين الصيام وبين الفدية، لكن الصيام أفضل، ولهذا؛ قال: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة: 184].
ثم في المرحلة الثانية قال : شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة : 185]. فهنا أوجب الله تعالى صيام شهر رمضان حتمًا من غير تخيير.
الحكمة من التدرج في الصيام
والحكمة في هذا التدرج: حتى تقبل النفوس وتألف هذه العبادة؛ لأن النفوس عندما تؤمر بالشيء الشاق قد لا تقبله لأول وهلة، ولهذا نجد حكمة الشريعة في التدرج، كيف أن صيام شهر رمضان تدرج مع الناس في فرضيته.
وتحريم الخمر كان تحريمها بالتدرج:
كان أولًا: لمَّا ذكر الله تعالى: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا [النحل: 67]، فأثنى الله تعالى على الرزق الحسن، وسكت عن السكر.
ثم المرحلة الثانية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [النساء : 43].
ثم المرحلة الثالثة: تحريمها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة : 90].
فنلاحظ هنا حكمة الشريعة في التدرج مع المكلفين في هذا.
صام النبي تسع رمضانات؛ لأن رمضان فُرِض في السنة الثانية، وتوفي عليه الصلاة والسلام في السنة الحادية عشرة في ربيع الأول، فصام عليه الصلاة والسلام تسع رمضانات.
كيف يُحكم بدخول رمضان؟
يحكم بدخول شهر رمضان بواحد من أمرين:
- إما برؤية هلاله.
- أو بإكمال شعبان ثلاثين يومًا.
ورؤية هلاله؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: إذا رأيتم الهلال فصوموا [1]. صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته [2].
كم شاهد يكفي لدخول رمضان وخروجه؟
ويكفي لثبوت دخول شهر رمضان شاهد واحد رجلًا كان أو امرأة، وذلك؛ لما رواه أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: تراءى الناس الهلال، فأخبرت النبي أني رأيته، فصام، وأمر الناس بصيامه [3]، ورواه الدارمي والدارقطني والبيهقي.
وأما هلال شهر شوال وغيره من الشهور كشهر مثلًا ذي القعدة وشهر ذي الحجة، وشهر محرم، يعني جميع شهور السنة ما عدا شهر رمضان، فهنا لا بد من شهادة رجلين عدلين فأكثر؛ لحديث عبدالرحمن بن زيد بن الخطاب أن النبي قال: فإن شهد شاهدان مسلمان، فصوموا وأفطروا [4]، رواه أحمد والنسائي والدارقطني، وهو حديث صحيح.
لماذا اكتفي في رؤية هلال شهر رمضان بشهادة شاهد واحد، بينما في شهر هلال شوال لا بد من شهادة رجلين فأكثر؟ لماذا شدد في جانب الشهادة في هلال شوال، بينما في دخول شهر رمضان يعني لم يشدد في ذلك، واكتفي بشهادة واحد؟
…
يعني: من باب الاحتياط للعبادة؛ لأننا إذا لم نتشدد في قبول شهادة الشهود عند دخول شهر رمضان احتطنا للصيام، لكن عندما نتشدد في إثبات الشهادة في شهر شوال احتطنا للفطر، لا نفطر إلا ونحن متأكدون من ثبوت الرؤية، فإذَنْ كوننا لا نتشدد في قبول الشهادة في دخول شهر رمضان، وإنما نكتفي بشهادة واحدة، هذا لأن فيه احتياطًا لعبادة الصوم، بينما نتشدد في غيره من الشهور؛ لأن في ذلك -خاصة شهر شوال- لأن في ذلك احتياطًا أيضًا للعبادة، فنحن لا نفطر إلا ونحن متأكدون من الفطر.
هل يعمل بالحساب لدخول رمضان؟
أكثر أهل العلم على أنه لا يعمل به؛ وإنما العمل بالرؤية؛ لأن النبي إنما علَّق الأمر بالصيام والأمر بالفطر على رؤية الهلال صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته [5]، والحساب كان موجودًا عند الناس من قديم الزمان، والحساب لا يدركه إلا قلة من الناس، بينما الرؤية متاحة للجميع، من قديم الزمان الحسابون قلة، لكن الرؤية متاحة لجميع الناس، يستطيع أن يصل إليها أي إنسان أعرابي في باديته، والفلاح في مزرعته، وأي إنسان يرى الهلال، صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، لو أخطأ الناس في الرؤية فلا أثر لذلك من الناحية الشرعية، العبرة بما يكون في الظاهر، وبإعلان الهلال، فإذا أعلن الهلال كان هلالًا شرعًا، حتى وإن كان خطأً في نفس الأمر، قرَّر هذه القاعدة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، يعني: قرَّر مثلًا أن الناس أخطأوا في دخول شهر رمضان، أخطأ الشهود، أو أخطأ الشهود في الشهادة في شهر شوال، فيقول: هنا العبرة إعلان دخول الشهر؛ لأن الهلال من الاستهلال، فإذا أعلن كان هلالًا شرعًا، حتى وإن لم يكن هلالًا في نفس الأمر، وإذا لم يعلن لم يكن هلالًا شرعًا حتى وإن هلَّ الهلال في نفس الأمر، ولهذا؛ نقل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، حكى الإجماع على أن الناس لو وقفوا يوم عرفة خطأ؛ فإن حجهم صحيح بإجماع العلماء، الحمد لله، الأمور في الشريعة مبناها على اليُسر، فلا داعي للتشدد في مثل هذه المسألة، بعض الناس يتشدد ويقول: ربما يكون صومنا غير صحيح، وربما يكون فطرنا غير صحيح، ويبدأ يثير شكوك الناس هذا كله لا داعي له، أمور الشريعة مبناها على اليسر وعدم التكلف، فمتى ما أُعلن كان هلالًا شرعًا، والصوم يوم يصوم الناس، والفطر يوم يفطر الناس، فيكون الإنسان مع جماعة المسلمين في هذا.
الأمر الثاني: إكمال شهر شعبان ثلاثين يومًا؛ لأن الشهر القمري لا يمكن أن يزيد على ثلاثين يومًا؛ لقول النبي : صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غُمِّيَ عليكم الشهر فعدوا ثلاثين [6]، رواه مسلم، ورواه البخاري: فإن غُبِّيَ عليكم، فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا [7].
حكم تبييت النية للصيام
يجب تبييت نية الصوم الواجب من الليل؛ لقول النبي : من لم يُبيِّت الصيام من الليل فلا صيام له. هذا الحديث رواه أبو داود وغيره عن حفصة رضي الله عنها مرفوعًا، وفي لفظ: من لم يُجْمِع الصيام قبل الفجر فلا صيام له [8].
وهذا بخلاف صوم النفل، فإنه يصح بنية من النهار مطلقًا، يعني: سواء كان قبل الزوال أو بعده؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليَّ النبي ذات يوم، فقال: هل عندكم شيء؟. قلت: لا. قال: فإني إذَنْ صائم [9]. رواه الجماعة إلا البخاري.
ما الحكمة من الأمر بتبييت نية الصوم من الليل؟ ما الحكمة من الأمر بتبييت نية الصوم الواجب من الليل؟
…
لماذا؟ لأنه لو أن أحدًا مثلًا لم يبيت نية صوم رمضان، غالبًا ما يحصل إشكال في أول يوم رمضان، إنسان نام مبكرًا، ولم يعلم بدخول الشهر إلا بعدما صلى الناس الفجر، أو بعدما مضى وقت صلاة الفجر، فلم يبيت النية من الليل، فهنا يُفتَى بأنه لا بد أن يقضي هذا اليوم.
لماذا؟ ما الحكمة من الأمر بتبييت النية من الليل؟
الحكمة في ذلك؟
…
لماذا؟ الحكمة في ذلك: حتى يكون جميع النهار مشمولًا بنية الصوم، فمثلًا يعني شهر رمضان لا بد من تبييت النية لجميع أيام شهر رمضان، إذا لم تبيت النية ليوم واحد من أيام الشهر، معنى ذلك أنك ما صمت جميع رمضان صمت بعضه، وأما صوم النافلة، فإنه نافلة غير واجب، ولذلك؛ لا تشترط أن تكون النية شاملة لجميع النهار.
ولكن يشترط ألا يكون قد أتى بمفطر من مفطرات الصوم، يعني لا يكون قد أكل أو شرب من أول النهار.
لكن ليس له من أجر الصوم إلا من حين ما نوى، فلو مثلًا أنه نوى صوم النافلة بعد الظهر، فيكون له الأجر من بعد الظهر إلى غروب الشمس، ولا يكون له أجر يومٍ كاملٍ.
بناء على ذلك: النفل المعين مثل مثلًا صيام الست من شوال، هل نقول: إنه لا بد من تبييت النية فيها؟ نعم لا بد من تبييت النية في النفل المعين؛ لماذا؟ لأنه لو لم يبيت النية من الليل في النفل المعين، ما يصدق عليه أنه صام ستًّا من شوال؛ وإنما صام بعضها.
لنفترض مثلًا: أنه بيَّت نية خمسة أيام من شوال، وفي اليوم السادس لم يُبيِّت النية من الليل؛ وإنما أنشأ النية أثناء النهار، هنا ما صام ستة أيام من شوال؛ وإنما صام خمسة أيام وبعض يوم، ولذلك؛ في النفل المعين أيضًا لا بد من تبييت النية من الليل، إنما الذي لا يكون فيه تبييت النية: هو النفل المطلق، ومن ذلك: صيام الاثنين والخميس، لا يشترط تبييت النية من الليل؛ لأن المقصود من مشروعية صومهما: أن يرفع عمل الإنسان وهو صائم، هذا هو المقصود، ولذلك؛ لو أنشأ النية أثناء النهار رفع عمله وهو صائم.
فَفَهْمُ -يا أخوة- مقاصد الشريعة في مثل هذه المسائل أمر مهم جدًّا.
إذَنْ عرفنا حكم تبييت نية الصوم من الليل، وفرَّقنا بين ما إذا كان صومًا واجبًا، أو صوم نافلة، وأيضًا قسَّمنا النافلة إلى نفل معين يلحق بالصوم الواجب، ونفل مطلق؛ فلا يشترط فيه تبييت النية من الليل.
حكم نية قطع الصوم
أيضًا من المسائل المتعلقة بالصيام: أن من نوى الإفطار أفطر بقَطْعِه نيةَ الصوم بنية الإفطار؛ لأن الصيام في الحقيقة: هو إمساك بنيَّةٍ، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، إذا قطع هذه النية قطع الصوم، فمدار الصوم في الحقيقة على الإمساك بنية، ولذلك؛ إذا نوى الإفطار جازمًا، فإنه يكون قد فسد صومه، وأفطر حتى لو لم يأكل شيئًا، لماذا؟ لأن نية الصوم قد قطعها، فلا بد منها، فلهذا؛ نحن ذكرنا قبل قليل: أن من أمسك عن الأكل والشرب والجماع طيلة النهار بغير نية، فلا صوم له، لو أمسك عن المفطرات طيلة النهار بغير نية لا يصح صومه بالإجماع، هكذا أيضًا إذا قطع النية فقد فسد صومه، لكن إذا تردد فيها، لم يقطعها لكن تردد، فهل ينقطع صومه أم لا؟ بعض أهل العلم يقول: إنه يفسد صومه؛ لأنه قد تردد في نية الصوم، وهي لا بد أن تكون نية جازمة، ومن أهل العلم من قال: إن صومه صحيح، وهذا هو الأقرب -والله أعلم- أن صومه صحيح، وذلك؛ لأن الأصل صحة الصوم، ولا تنقطع نية الصوم إلا إذا جزم بقطعها، وهذا هو الأقرب، والله تعالى أعلم.
مفسدات الصوم
ننتقل بعد ذلك إلى مفسدات الصوم:
- الأول: الأكل والشرب وهذا بالنص والإجماع؛ كما قال الله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة : 187].
- الثاني: ما كان بمعنى الأكل والشرب، كالإبر المغذية التي يُستغنى بها عن الأكل والشرب.
وهذه لا شك أنه يفسد بها الصوم؛ لأن هذه الإبر المغذية تقوم مقام الأكل والشرب، هذا الذي يعيش عليها ربما مدة طويلة، ألسنا نجد من المرضى من لا يأكل ولا يشرب، لكن على المغذيات، على هذه الإبر المغذية، فهي تقوم مقام الأكل والشرب، ولهذا؛ فإنها تفسد الصوم كذلك.
حكم الكحل والحقنة والاستعاط للصائم
هناك بعض الأمور التي هي محل خلاف بين العلماء؛ كالكحل والحقنة والاستِعَاطِ بدهن وغيره، يعني: الاستعاط شيء يستنشقه عن طريق الأنف، والوجور عن طريق الفم.
فهذه اختلف العلماء فيها؛ فمشهور مذهب الحنابلة: أنها تفطر الصائم، إذا علم بوصولها إلى الحلق، واستدلوا بقول النبي : وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا [10]، وهو حديث لَقِيط بن صَبِرة، قالوا: فدل ذلك على أن كلَّ ما وصل إلى الدماغ فإنه يفطر الصائم، إذا كان بفعله، يقاس على ذلك: ما وصل إلى جوفه بفعله من حقنة، وغيرها.
هذا هو المشهور من مذهب الحنابلة في هذه المسألة.
وقالوا بالنسبة للكحل: إن العين لها منفذ على الجوف ولهذا؛ أحيانًا إذا وضعت القطرة في العين تحس بطعمها في حلقك، بل حتى الكحل أيضًا قد يحس به الإنسان في حلقه، لهذا؛ قال الإمام أحمد: حدثني إنسان أنه تكحل بالليل، وتنخعه بالنهار.
قالوا: فالعين لها منفذ إلى الجوف.
وذهب بعض العلماء إلى أن هذه الأشياء لا تفطر، هذا هو قول أبي حنيفة والشافعي، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهذا القول هو الأقرب، والله أعلم، أنها لا تفطر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الأظهر: أنه لا يُفطِر بشيء من ذلك؛ لأن الصيام من دين المسلمين، والذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمه الله ورسوله في الصيام، ويفسد الصوم بها، لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه، ولو ذَكَرَ ذلك لعلِمَه الصحابة وبلغوه الأمة، كما بلغوا سائر شرعه، فلما لم يَنقل أحد من أهل العلم عن النبي بذلك حديثًا صحيحًا ولا ضعيفًا، ولا مسندًا ولا مرسلًا، عُلِم أنه لم يذكر شيئًا من ذلك.
هذا الاستدلال كثيرًا ما يَستدِل به شيخ الإسلام ابن تيمية في مسائل كثيرة، يقول: المسائل المهمة التي تحتاج الأمة إلى بيانها، هذه لا بد أن يبينها النبي ، وهذه الأمور تحتاج الأمة إلى بيانها، الكحل مثلًا والحقنة ونحوها، لو كانت تفطر الصائم؛ لبين ذلك النبي للأمة بيانًا واضحًا، ولكن لم يرد في ذلك شيء حتى لم يرد ولا أحاديث ضعيفة، كما ذكر، اللهم إلا في الكحل، ورد فيه بعض الأحاديث، لكنها ضعيفة لا تصح، فدل ذلك على أنه لا يفسد الصوم بحال.
أما ما استدل به أصحاب القول الأول في قياس هذه الأمور على المبالغة في المضمضة والاستنشاق، ويهمنا هنا الاستنشاق بالذات، ما استدلوا به على القياس في هذه الأمور على المبالغة في الاستنشاق، وقد نهى النبي عنه، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: هو قياس ضعيف؛ لأن من نشِق الماءَ بمنخريه يَنزل الماء إلى حلقه وإلى جوفه، فحصل له بذلك ما يحصل للشارب من فمه، وليس كذلك الكحل والحقنة؛ فإن الكحل لا يُغَذِّي البَتَّةَ، ولا يُدخِل أحد كحلًا إلى جوفه؛ لا من أنفه ولا من فمه، وكذلك الحقنة لا تغذي، بل تستفرغ ما في البدن.
وأيضًا مثل الكحل الإبر التي لا تغذي، بل للدواء، لا تفطر، سواء استعملها في العضل، أو في الوريد.
هذه الأمور كلها الأقرب -والله أعلم- فيها أنها لا تفطر، حتى الإبر غير المغذية، ومنها إبر الأنسولين التي يستخدمها مرضى السكر مثلًا، جميع الإبر غير المغذية، هذه لا تفطر الصائم، والحقنة التي تستخدم قديمًا وحديثًا هذه أيضًا الصحيح أنها لا تفطر الصائم، وكذلك أيضًا الكحل الصحيح أنه لا يفطر الصائم، ولكن مع ذلك لو أن المسلم اجتنبها، وتركها إلى الليل، لا شك أن هذا يعني أولى خروجًا على الأقل من الخلاف، لكن لا نستطيع أن نجزم بإفساد عبادات المسلمين من غير دليل ظاهر؛ ولهذا فنحن نتمسك بالأصل، وهو أن الأصل صحة الصوم، وهذه مسائل مهمة وكبيرة، وتحتاج الأمة إلى بيانها، فلو كانت تفسد الصوم لبين ذلك النبي .
ولهذا؛ فإن القول الراجح في هذه المسألة: هو القول الثاني: وهو أن هذه كلها لا تفسد الصيام.
- الأمر الثالث: الجماع في الفرج، وذلك بإجماع العلماء.
والجماع يترتب عليه كفارة مغلظة، فإذا حصل الجماع ترتب عليه كفارة مغلظة، ولعله يأتي الكلام عنها أيضًا، سيأتي الكلام عنها.
- ولذلك أنتقل للأمر الرابع: إنزال المني؛ سواء كان ذلك بالمباشرة دون الفرج، أو بالاستمناء أو غيره، إنزال المني عمدًا؛ سواء كان ذلك بمباشرة الزوجة، أو كان بالاستمناء أو غيره، يفسد الصوم.
أما الاحتلام، فإنه لا يفسد الصوم؛ لأن ذلك ليس بسبب من جهته، وما كان من غير جهته فغير مؤاخذ به، الاحتلام يكون بغير اختيار الإنسان؛ ولذلك لا يفسد الصوم.
وأما المذي بالذال، وهو سائل لزج يخرج عند اشتداد الشهوة من غير دفق، فالمشهور من مذهب الحنابلة: أن خروج المذي مفسد للصوم، ولكن الأظهر والأقرب في هذه المسألة والله أعلم: أنه لا يفسد الصوم، كما رجح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وذلك؛ لأنه لا دليل يدل على أن المذي يفسد الصوم.
وأما قياسه على المني فقياس مع الفارق، بينهما فرق؛ لأن من قال: بأن خروج المذي مفسد للصوم. قاسه على المني، لكن هذا القياس قياس غير صحيح، فرق عظيم بينهما؛ لأن المني إنما يخرج دفقًا بلذة، والمذي لا يخرج دفقًا، والمني موجب للغسل، والمذي غير موجب للغسل، ولذلك بينهما فرق؛ فقياس أحدهما على الآخر قياس مع الفارق.
ثم إن المذي نجس، قيل: إن نجاسته مخففة، والمني طاهر في القول الصحيح، فبينهما فروق؛ إذن قياس المذي على المني في هذه المسألة قياس مع الفارق.
- الخامس: الاستقاءة عامدًا، وذلك بأن يستدعي القيء، فإنه يفسد صومه بهذا.
أما من ذَرَعَه القيء فَقَاء من غير استدعاء منه، فإنه لا يفسد صومه؛ لقول النبي في حديث أبي هريرة : من ذَرَعَه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء فلْيَقْضِ [11]، رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد والحاكم.
هل يُتَصور أن أحدًا يستدعي القيء، أو أن هذه المسألة مفترضة؟ يعني: من رَغَمَه القيء وذَرَعَه القيء هذا كثير، وهذا قلنا لا يفسد صومه.
لكن قول الفقهاء، بل ما ورد في الحديث: من استقاء فليقض. هل يمكن هذا؟ نعم، نقول: ممكن، قد يحتاج الإنسان إلى استدعاء القيء كما لو كان مريضًا مثلًا، وهذا المرض متعلق بالجهاز الهضمي، فنصحه الطبيب بأن يستقيء مثلًا، هذا يمكن، يمكن أن يتصور هذا، هنا نقول: إذا استقاء في هذه الحال، ولو كان لحاجة، يلزمه القضاء، لكن إذا كان مريضًا ليس عليه إثم، لكن عليه القضاء، أما إذا كان بدون سبب، فإنه يأثم مع القضاء.
فإذَنْ هذا ممكن، لكنه قليل، والكثير هو أن يَغلِب على الإنسان القيء رغمًا عنه.
- السادس: خروج الدم بالحجامة، والحجامة: هي استخراج الدم، وكانوا في السابق يستخرجونه بالمَصِّ عن طريق المحاجم، ولا زالت الحجامة إلى الآن يعملها بعض الناس، وقد جاء في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري وغيره: أن النبي قال: إن أَمْثَلَ ما تداويتم به الحجامة [12]، وهذا حديث صحيح، صريح النص، صحيح وصريح في فائدة الحجامة، وفيه رد على من أنكرها، من أنكر فائدة الحجامة فقد غَلِط وأخطأ؛ لأن النبي لا ينطق عن الهوى، وهذا الحديث في «صحيح البخاري»، وصريح، بل أخبر عليه الصلاة والسلام بأنها أمثل ما يتداوى به الإنسان، إن أمثل ما تداويتم به الحجامة. وقد أثبت الطب الحديث فائدته فيما يسمونه بالطب البديل، الطب البديل أثبت فائدتها العظيمة.
ولكن لا زال هناك بعض الناس عندنا ينكرون فائدتها، وهذا غلط، خاصة إذا ورد في المسألة حديث عن النبي ، وهذا الحديث في «الصحيح»، أخرجه الإمام البخاري، فيجب اعتقاد أن ما قاله عليه الصلاة والسلام حق.
حكم الحجامة للصائم
الحجامة اختلف العلماء: هل تفطر الصائم أو لا تفطره؟ وبالمناسبة: الحجامة أنفع ما تكون للإنسان، وهو صائم، ولذلك؛ ينصحون الإنسان عندما يريد أن يحتجم أن يحتجم على الريق، ومن هنا نشأ الخلاف بين العلماء في تفطير الحجامة للصائم.
من العلماء من قال: إنها لا تفطر، وهو رأي جماهير العلماء، قالوا: إنها لا تفطر الصائم، كما جاء في البخاري وغيره: أن النبي احتجم وهو صائم [13].
والقول الثاني: وهو المذهب عند الحنابلة: أن الحجامة تفطر الصائم، وهذا هو القول الصحيح، أنها تفطر الصائم؛ لقول النبي : أَفْطَرَ الحاجم والمحجوم [14]، أخرجه أبو داود وابن ماجه وأحمد.
وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وهو الذي عليه فتوى كثير من علمائنا ومشايخنا؛ ومنهم: سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز والشيخ محمد بن عثيمين رحمة الله تعالى عليهم أجمعين.
وأما ما استدل به الجمهور من أن النبي احتجم وهو صائم، فإنها واقعة عين تَرِدُ عليها عدة احتمالات، يعني وقائع الأعيان يَرِدُ عليها عدة احتمالات؛ فيَحتمِل: أن النبي كان مسافرًا، كما جاء ذلك في بعض الروايات، ويَحتمِل: أنه كان صوم نافلة، ويَحتمِل عدة أمور، ذكر ابن القيم عدة احتمالات، وإذا تعارض القول والفعل، فأيهما يقدم؟ القول هو أصرح من الفعل.
أضرب مثلًا بسيطًا: لو رأيت عالمًا يقرر رأيًا في مسألة ويرجحه، ثم رأيته يفعل بخلافه، فأيهما ينسب له القول أم الفعل؟ القول؛ فالفعل يَحتمِل أنه فعل ذلك لضرورة، يحتمل أنه نسي، يحتمل أنه تأول، يحتمل أنه لعذر، فدائمًا القول يقدم على الفعل، دلالة القول أصرح وأقوى من دلالة الفعل، فعندنا في هذه المسالة قوله عليه الصلاة والسلام: أفطر الحاجم والمحجوم. هذا من قوله عليه الصلاة والسلام، والحديث صحيح، صححه كثير من المحدثين، وأما كون النبي احتجم وهو صائم، فهذه يَرِدُ عليها عدة احتمالات، والقول مقدم على الفعل.
حكم التبرع بالدم للصائم
يقاس على خروج الدم بالحجامة التبرع بالدم، والتبرع بالدم يكون -في الغالب- الدم المتبَرَّع به كثيرًا، فعندما يُسحب دم الإنسان للتبرع به، يُسحب منه دم كثير، وإذا كان الدم كثيرًا، بمعنى دم الحجامة فأكثر، فإنه يأخذ حكم الحجامة ولهذا؛ فإن التبرع بالدم يفسد به الصوم؛ لأنه إذا كان يفسُد الصوم بالحجامة، فيفسد بالتبرع بالدم من باب أولى.
هل يجوز للإنسان أن يتبرع بدمه وهو صائم في نهار رمضان؟
نقول: فيه تفصيل؛ إن كان لضرورة فلا بأس، لكن يقضي، يعني كما لو أصيب أناس في حادث، وحصل مع مريض نزيف، فقال: نحتاج الآن إلى تبرع بالدم، وإلا مات هذا الإنسان، هنا يجوز أن يتبرع.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 1906، ومسلم: 1080. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 1909، ومسلم: 1081. |
^3 | رواه أبو داود: 2342، والدارمي: 1733، والدارقطني: 2146، والبيهقي: 8058. |
^4 | رواه النسائي: 2116، وأحمد: 18895، والدارقطني: 2193. |
^5 | سبق تخريجه. |
^6 | رواه مسلم: 1081. |
^7 | رواه البخاري: 1909. |
^8 | رواه أبو داود: 2454، والترمذي: 730، والنسائي: 2331. |
^9 | رواه مسلم: 1154، والترمذي: 733، والنسائي: 2321، وابن ماجه: 1701. |
^10 | رواه أبو داود: 2366، والترمذي: 788، وقال: حسنٌ صحيحٌ، والنسائي: 87، وابن ماجه: 407. |
^11 | رواه أبو داود: 2380، والترمذي: 720، وقال: حسنٌ، وابن ماجه: 1676، وأحمد: 10463، والحاكم في المستدرك: 1557. |
^12 | رواه البخاري: 5696، ومسلم: 1577. |
^13 | رواه البخاري: 1938. |
^14 | رواه أبو داود: 2367، والترمذي: 774، وقال: حسنٌ صحيحٌ، وابن ماجه: 1679، وأحمد: 8768. |