بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فنسأل الله للجميع العلم النافع، والفقه في الدين،
وفي هذه المحاضرة، وهي المحاضرة الأولى في مادة الفقه في الدورة التأهيلية للمنتسبين، لَعَلِّي قبل أن نبدأ في مادة هذه المحاضرة أُذَكِّر ببعض الأمور؛ منها:
أن يحرص المنتسب لهذه الدورة على الاستفادة من هذه المواد التي تُلقَى فيها؛ فإن فيها علمًا وخيرًا كثيرًا وفائدةً، ولهذا؛ ينبغي الحرص عليها، وإذا نوى من يحضر مثل هذه الدورة بحضور مثل هذه المحاضرات طلب العلم، فإنه يكون مأجورًا ومثابًا على ذلك، فإن طلب العلم لا يعدله شيء لمن صحَّت نيته، كما قال الإمام أحمد رحمه الله، وهو معدود -الاشتغال به- أفضل من الاشتغال بنوافل العبادات.
فيستفيد الإنسان علمًا وفائدة، وخاصة في هذه المادة (مادة الفقه)؛ فإن الفقه هو من ألصق العلوم بالحياة العملية؛ لهذا لو تأملت استفتاءات الناس، أيَّ برنامج استفتاء تأمل الأسئلة الواردة، تجد أن معظمها في الفقه، وذلك كما ذكرتُ؛ لأنه هو من ألصق العلوم بالحياة العملية، ففيه بيان أحكام الطهارة، وأحكام الصلاة، وأحكام الزكاة والصيام والحج، والمعاملات والأسرة والأطعمة، وكل ما يحتاج له المسلم في حياته العملية.
وفي هذه الدورة سوف يكون هناك إلمام -إن شاء الله تعالى- بمعظم المسائل في أبواب العبادات والمعاملات.
والمادة مكتوبة أظنها فرغت في موقع العمادة، وسوف نلقيها، وأيضًا يكون فيها شيء من التوضيح والأمثلة، وكذلك أيضًا إذا كان هناك شيء من الأسئلة والاستفسارات والمناقشة.
المنهج -كما ذكرتُ لكم- مفرداته في العبادات والمعاملات، الطهارة والوضوء، المسح على الخفين، والغسل والتيمم، الصلاة، صلاة الجماعة، الزكاة، الصيام، الحج، البيع، الشروط في البيع، الربا. هذه هي مفردات المنهج.
والمقرر أن تُدرَّس هذه المادة في ثلاثة عشر أسبوعًا، وأيضًا خطة يفترض أن تكون موجودة في موقع العمادة الأسبوع الأول سنأخذ مقدمة في الفقه، وأبرز مسائل الطهارة، وأقسام المياه.
مقدمة في الفقه
نبدأ أولًا بالمقدمة في الفقه:
تعريف الفقه
الفقه معناه في اللغة: الفهم.
وبكل حال، المذكرة مكتوبة ومفرغة في موقع العمادة، يعني حتى الإخوة الذين ربما لا يتمكنون من المتابعة، أو الإخوة الذين يتابعوننا الآن عبر الإنترنت، أقول: المادة موجودة ومفرغة مكتوبة كلها، المنهج كله مكتوب ومفرغ في موقع العمادة، ولكن لا شك أن من يحضر يستفيد فائدة أكثر، ويكون هناك أيضًا مزيد من الأمثلة والتوضيح والمناقشة، وإلا، فالمادة العلمية موجودة في موقع العمادة، يعني لا حاجة إلى أن تكتب، اللهم إلا مجرد فوائد أو شيء من الأمثلة والتوضيحات، وإلا ما ألقيه هو كله موجود ومكتوب.
فإذن:
تعريف الفقه لغة: الفهم، ومنه: قول الله عن موسى : وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه: 27، 28]. فقوله: يَفْقَهُوا يعني يفهموا.
وقوله سبحانه: لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا [الأعراف: 179].
وقال عن قوم شعيب : قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ [هود: 91].
فهذه المادة مادة (الفقه) في لغة العرب تدور حول معنى: الفهم، ولهذا؛ قال ابن القيم رحمه الله: الفقه أخص من الفهم؛ لأن الفقه فهمُ مرادِ المتكلم من كلامه، وهو قدر زائد على مجرد فهم اللفظ في اللغة.
فابن القيم رحمه الله يقول إن الفقه اللفظ هذا أخص من الفهم، فالفهم أعم عبارة؛ لأن الفقه يراد به فهم مراد المتكلم من كلامه، وهو قدر زائد على مجرد الفهم.
اصطلاحًا: أُطلِق الفقه في صدر الإسلام على فهم الأحكام الشرعية مطلقًا؛ سواء كانت اعتقادية أو عملية.
ولهذا؛ صنَّف الإمام أبو حنيفة رحمه الله كتابًا سماه: “الفقه الأكبر” وهو في العقيدة، سمى هذا الكتاب “الفقه الأكبر”، وهو كتاب في مسائل الاعتقاد.
ثم صار بعد ذلك الفقه يطلق على معرفة الأحكام الشرعية (العملية) من أدلتها التفصيلية.
وبهذا التعريف تخرج مسائل التوحيد والاعتقاد؛ لأنها ليست أحكامًا عملية؛ وإنما هي أحكام اعتقادية. وهذا فيما بعد، يعني: في اصطلاح المتأخرين، وإلا فعند المتقدمين يعتبرون أحكام مسائل الاعتقاد من الفقه ولهذا؛ قلنا: إن أبا حنيفة صنف كتابًا سماه: “الفقه الأكبر”.
الفرق بين الفقه وأصول الفقه
أيضًا بهذا التعريف يتبين الفرق بين الفقه وأصول الفقه:
فالفقه: يبحث في الأدلة التفصيلية من حيث: الوجوب، والندب، والحرمة، والكراهة، والإباحة، والصحة، والفساد.
بينما أصول الفقه: يبحث في أدلة الفقه الإجمالية، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد، ولا يتعرض أصولُ الفقه لآحاد المسائل إلا من باب ضرب المثال.
يعني لو أردنا أن نوضح هذا بمثالين، من يمثل لنا مسألة أصولية، مسألة من مسائل أصول الفقه؟ يعني أي حكم من أحكام أصول الفقه أو مسألة من مسائل أصول الفقه، من يمثل لنا بمثال؟
مثال لمسألة من مسائل أصول الفقه، لو قلنا: الأصل في الأمر أنه يقتضي ماذا؟ الوجوب، والأصل في النهي أنه يقتضي: التحريم، هذه من مسائل أصول الفقه، الندب يقتضي: الاستحباب، هذه من مسائل أصول الفقه، لكن الفقه حكم مثلًا صلاة الجماعة أنها واجبة، أكل لحم الإبل ينقض الوضوء هذه من مسائل الفقه.
إذَنْ عرفنا المقصود بالفقه لغة، وقلنا: هو الفهم.
عرفنا أن الفقه اصطلاحًا كان يقصد في صدر الإسلام: فهم العلوم الشرعية مطلقًا؛ سواء كانت اعتقادية أو عملية، ثم بعد ذلك أصبح يطلق على الأحكام العملية فقط، والأحكام الاعتقادية أصبحت لا تسمى فقهًا في اصطلاح المتأخرين.
أحكام الطهارة
ننتقل بعد ذلك إلى مسائل الطهارة، ويفتتح الفقهاء كتب الفقه بأحكام ومسائل الطهارة، وذلك؛ لأن الطهارة هي مفتاح الصلاة التي هي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين، وما كان مفتاحًا للشيء وشرطًا له فهو مقدم عليه؛ ولأنها تَخْلِيَة من الأذى والتخلية قبل التحلية.
تعريف الطهارة
الطهارة معناها في اللغة: النظافة والنزاهة عن الأقذار.
واصطلاحًا: «ارتفاع الحدث وما في معناه، وزوال الخبث».
هذا أحسن ما قيل في معناها وتعريفها: «ارتفاع الحدث وما في معناه، وزوال الخبث».
عندما نقول: «ارتفاع الحدث». ارتفاع يعني: زوال.
«الحدث»: هل هو وصف حسي، أو وصف معنوي؟ هل من الممكن أن نشاهد الحدث؟ أو أنه شيء معنوي؟ عندما نقول: فلان مُحدِث، أو أحدث فلان. هل هذا الحدث وصف حسي أو معنوي؟
هو معنوي، الحدث: وصف معنوي يقوم بالبدن، يمنع من الصلاة ونحوها مما يشترط له الطهارة.
فالحدث إذَنْ: وصف معنوي ليس شيئًا حسيًّا يمكن مشاهدته، عندما يقال: فلان محدث. هل تغير فيه شيء؟ ما تغير فيه شيء؛ فهو وصف معنوي إذَنْ، هذا الوصف يمنع من الصلاة وما يشترط له الطهارة.
إذَنْ: «ارتفاع الحدث وما في معناه».
«وما في معناه»: أي في معنى ارتفاع الحدث؛ كالحاصل بالوضوء المستحب مثلًا، يعني قد يتوضأ الإنسان من غير حدث مثلًا، يقصد بذلك تجديد الوضوء، ويسمى ذلك طهارة، فهو ليس حدث، ومع ذلك يسمى طهارة.
«وزوال الخبث»: يعني النجاسة.
النجاسة: هل هي شيء حسي أو معنوي؟ النجاسة شيء حسي؛ بينما الحدث معنوي، لذلك؛ نفرق بين النجاسة والحدث.
الفرق بين الحدث والخبث
النجاسة: شيء حسي، قد تكون نجاسة على الثوب، قد تكون على البدن، قد تكون على البقعة، فهي قَذَر، وهي شيء حسي نراه.
بينما الحدث: لا يرى، وصف معنوي يقوم بالبدن، يقوم بالإنسان، فيقال: فلان أحدث، فلان مُحدِث. ولا يرى عليه شيء حسي يُبَيِّن هذا الحدث.
فإذنْ: الحدث: شيء معنوي؛ بينما النجاسة شيء حسي.
الأصل في الأشياء الطهارة
عندنا أصل وقاعدة، وهي: أن الأصل في الأشياء الطهارة.
هذه قاعدة، قاعدة مفيدة للإنسان، الأصل في الأشياء الطهارة.
وبناء على ذلك؛ إذا شككت في نجاسة ماء، أو شككت في نجاسة إناء أو بقعة، فالأصل الطهارة، نرجع للأصل.
مثال ذلك: لو أردنا مثلًا أن نصلي في هذا المكان مثلًا صلاة المغرب، فقال أحد الحاضرين: يحتمل أن يكون هذا المكان نجسًا، فبماذا نجيب؟
نقول: الأصل الطهارة، هل تعلم أنه نجس؟ إن كنت تعلم أنه نجس فلا تُصَلِّ فيه؛ وإذا كنت لا تعلم فالأصل الطهارة.
فلك إذَنْ أن تصلي في أي مكان من الأرض، فأي بقعة الأصل فيها الطهارة. إذا تبين لك أنها نجسة، نَعَم لا تصلِّ، لكن إذا لم يتبين لك فابنِ على الأصل، وهو الطهارة.
وعندنا قاعدة: هي أن اليقين لا يزول بالشك، فالمتيقَّن هو الأصل، وهو الطهارة، والشك هو طروء النجاسة، فإذا لم تعلم أن هذا المكان نجس، فالأصل أن تصلي فيه، تصلي في أي مكان، ولا يأتي أحد ويقول: يحتمل أن يكون نجسًا، نقول: استصحِب الأصل.
إذا كنت في البيت، وأردت أن تصلي في أي مكان في البيت، فلك أن تصلي، ولا تقل: يحتمل أن هذا يكون نجسًا، يحتمل أن يكون فيه مثلًا نجاسة أطفال، يحتمل أن يكون فيه كذا، استصحب الأصل، إذا علمت أنه نجس، نعم لا تصل فيه، وإذا لم تعلم فاستصحب الأصل.
ولهذا جاء في «الصحيحين» من حديث عوف بن مالك : أنه لما طلب من النبي أن يصلي في بيته، أتاه عليه الصلاة والسلام، وقال: أين تحب أن أصلي لك في بيتك؟[1].
يعني: كل مكان ممكن أن أصلي فيه؛ لأن الأصل هو الطهارة، وليس الأصل النجاسة، وهذا من يسر الإسلام وسهولته: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78].
ولهذا؛ قال الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله: أدلة هذا الأصل -يعني: أن الأصل في الأشياء الطهارة- من الكتاب والسُّنة كثيرة، وما أنفع هذا الأصل وأكثر فائدته، وهو من نعم الله تعالى على عباده وتيسيره وعفوه، ونفيه الحرج عن هذه الأمة.
فإذَنْ هذه قاعدة مفيدة لنا، وهي: أن الأصل في الأشياء الطهارة، الأصل في الثياب الطهارة، الأصل في الملابس الطهارة، الأصل في البقعة الطهارة، الأصل في الأواني الطهارة.
فإذن: نستصحب هذا الأصل ونقول: إن اليقين لا يزول بالشك.
إذا توضأت وذهبت تصلي، ثم شككت هل أحدثت أم لا؟ فالأصل وهو المتيقن: أنك قد تطهرت، واليقين لا يزول بالشك، ولذلك؛ لا تقطع الصلاة حتى تتيقن أنك أحدثت، ولهذا؛ سئل النبي عن الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا[2]، يعني: لا ينصرف إلا بأمر متيقن، لكن النبي عليه الصلاة والسلام لم يعبر بهذه العبارة، لم يقل: بأمر متيقن؛ وإنما قال: حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا. يجمع هذين الأمرين أنهما متيقَّنان، ولذلك؛ قال بعض السلف: إنه لا يقطع صلاته إلا بيقين، بحيث لو قيل له: احلف لحلف أنه خرج منه شيء.
وذلك؛ حتى يقطع الوسواس؛ لأن الوسواس يعتري بعض الناس ويشغلهم ويقلقهم، ويزعج الإنسان، وربما أفسد عليه الخشوع في الصلاة، لكن من كان عنده بصيرة وفقه استصحب مثل هذه المعاني والأصول، وعرف أنه إذا تيقن الطهارة لا يزول هذا اليقين إلا بيقين مثله، فاليقين لا يزول بالشك، والأصل في الأشياء الطهارة.
لكن لو كانت المسألة العكس، لو أنه الآن غير متوضئ، غير متطهر، ثم شك هل تطهر أم لا؟
فنقول: الأصل أنه غير متطهر، فلا بد أن يذهب ويتطهر.
فإذَنْ: استصحاب مثل هذه الأصول أمر مفيد ونافع، ونرجع إليه عند الاشتباه.
…..
ثم انتقلنا إلى الكلام عن الطهارة، وعرفناها بأنها: ارتفاع الحدث وما في معناه، وزوال الخبث.
وفرقنا بين الحدث والخبث قلنا: الخبث هي النجاسة، وهي شيء حسي أم معنوي؟ النجاسة شيء حسي، وأما الحدث فهو شيء معنوي.
وذكرنا قاعدة: “أن الأصل في الأشياء الطهارة”، وأن الإنسان إذا شك في طهارة بقعة أو ثوب أو أي شيء فإنه يرجع إلى هذا الأصل، وهو أصل نافع ومفيد.
أقسام المياه
ثم بعد ذلك انتقلنا للحديث عن أقسام المياه، وقلنا: إن من الفقهاء من قسَّم المياه إلى ثلاثة أقسام: طهور، وطاهر، ونجس.
قالوا: فالطهور تعريفه: الطاهر في نفسه، المطهر لغيره؛ مثل: مياه الأمطار والآبار والأنهار والعيون.
الطاهر: هو الطاهر في نفسه غير المطهر لغيره، وهو ما اختلط بشيء طاهر؛ مثل: زعفران، ونحوه، هذا يسمونه: طاهرًا غير مطهر.
والنجس: ما تغير طمعه أو لونه أو رائحته بنجاسة.
طبعًا النجس هذا لا يجوز الوضوء به، والطهور يتوضأ به.
حكم الوضوء بالماء الطاهر
أما الطاهر فهل يتوضأ به أم لا بناء على هذا القول؟ ليس نجسًا، لكن لا يتوضأ به، لكن ليس بنجس عندهم، يسمونه طاهرًا في نفسه غير مطهر لغيره.
والقول الثاني في المسألة: أن الماء ينقسم إلى قسمين: طهور، ونجس.
وأنه لا وجود لقسم طاهر غير مطهر.
بناء على هذا يقسمون الماء لطهور ونجس.
النجس هو عندهم: ما تغير طعمه أو لونه أو رائحته بنجاسة، وما عدا ذلك فهو طهور.
حكم الماء الذي خالطه طاهر
الماء الذي خالطه زعفران أو شاهي أو قهوة أو مرق أو أي شيء، طاهر عند أصحاب هذا القول الذي رجحناه -نحن رجحنا القول الثاني- ماذا يسمون هذا الشيء؟ يعني مثلًا: عندي ماء أريد أن أتوضأ به، فسقط فيه شيء من الزعفران، أو قطرة من الشاهي، أنا أريد منك التفصيل، الجواب ما هو؟
نعم، نقول هذا فيه تفصيل:
هذا الشيء الطاهر الذي قد خالطه، من زعفران أو غيره؛ إن كان قد غيره بحيث غلب على اسمه، فأصبح لا يسمى ماء؛ وإنما أصبح يسمى لبنًا، يسمى مرقًا، يسمى قهوة، فهذا الآن خرج عن مسمَّى الماء، ولا يصح الوضوء بغير الماء، ولذلك هو خارج عن هذا التقسيم.
لكن إذا كان تغير بهذا الشيء الطاهر لكنه لم يغير اسمه، فلا زال يسمى ماءً قد اختلط بشيء من زعفران، أو ماءً اختلط بشيء من الشاهي، أو ماء اختلط بشيء من القهوة، فهذا نقول: هو طهور، ما دام أنه لم يتغير بنجاسة، ويسمى ماء؛ فهو طهور.
ونحن رجحنا القول الثاني، وهو: أن الماء ينقسم إلى: طهور، ونجس.
حكم التطهر بماء زمزم
قلنا: ماء زمزم، ما حكم الوضوء به؟ هل هو مكروه أو غير مكروه؟ الوضوء به فقط.
يجوز، لا يكره؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام توضأ به.
استخدام ماء زمزم في إزالة النجاسة؟
حكمه: مكروه.
الاغتسال بماء زمزم؟ إلا في غسل الجنابة فإنه مكروه، وإلا فلا يكره، يعني: يصح الاغتسال به ما عدا غسل الجنابة، على القول الصحيح، فإن الكراهة تختص بغسل الجنابة.
تقسيم الماء باعتبار القلة والكثرة
تقسيم الماء إلى: قليل، وكثير.
قلنا: للعلماء في ذلك قولان مشهوران:
فالقول الأول في تقسيم الماء: أن الماء يُقَسم إلى: قليل وكثير.
والقليل: هو ما كان دون قلتين. والكثير: هو ما بلغ قلتين فأكثر.
والقول الثاني في المسألة: أنه لا يقسم الماء إلى: قليل وكثير، بل نقول: الماء طهور، إلا إن تغير طعمه أو لونه أو رائحته، من غير تقسيم للماء قليل وكثير.
وذكرنا أن من قسَّم الماء إلى قليل وكثير، يستدل بحديث: إذا بلغ الماء قُلَّتَين لم يَحمل الخبث[3].
وأصحاب القول الثاني استدلوا بحديث أبي سعيد : إن الماء طهور لا ينجسه شيء[4].
وقلنا: إن القول الثاني هو القول الراجح؛ لأن حديث أبي سعيد أصح من حديث القلتين، ولأن حديث القلتين إنما استدلوا بمفهومه على تقسيم الماء، بينما حديث أبي سعيد دل بمنطوقه على أن الماء طهور إلا إن تغير طعمه أو لونه أو رائحته بنجاسة.
ذكرنا من فروع هذه المسألة: لو أن رجلًا أخذ ماءً في إناءٍ ليتوضأ به، فوقع في هذا الإناء رَشَاش بول، ولم يتغير طعمه ولا لونه ولا رائحته، فما حكم هذا الماء من حيث الطهارة؟
على القول الثاني: يعتبر طهورًا؛ لأنه لم يتغير لا طعمه ولا لونه ولا رائحته.
وعلى القول الأول: يعتبر نجسًا؛ لأنه دون القلتين، فعندهم ما دون القلتين -حتى لو أصابه رشاش بول- يعتبر نجسًا، حتى لو أصابته نجاسة قدر رأس الذباب، نجس، يقولون: بمجرد ملاقاة النجاسة يصبح نجسًا.
ورجحنا القول الثاني، وذكرنا وجه الترجيح.
……
تعرف أن المسألة فيها قولان، لكن لو قرأت في كتاب من كتب الحنابلة مثلًا، ما يذكرون إلا القول الأول، فتعرف أن المسألة قال فيها القول الأول: كذا، والقول الثاني: كذا، والراجح: هو كذا.
حكم الماء الذي لا يُعلم طهارته
ختمنا بمسألة: إذا وَجَد إنسان ماءً، ولا يدري هل هو طهور أو نجس، هل يشرع تركه احتياطًا؟
لا يشرع.
إذَنْ، الأصل في الماء: الطهارة، إلا إن وجدت قرائن ظاهرة تدل على نجاسته.
ننتقل بعد ذلك إلى أحكام الوضوء.
أحكام الوضوء
تعريف الوضوء
الوضوء في اللغة: مشتق من الوضاءة، وهي: النظافة والحسن، ويقال: وَضوء، ووُضوء. يعني: بفتح الواو وبضم الواو؛ فبفتح الواو: اسم للماء الذي يتوضأ به، بينما بضم الواو: يطلق على الفعل الذي هو التوضؤ.
فعندما نقول: وُضوء. يعني: التوضؤ؛ من غسل الكفين والمضمضة والاستنشاق،.. إلخ.
عندما نقول: وَضوء، يعني: الماء الذي يتوضأ به، وهذا له نظائر في اللغة العربية؛ سَحور وسُحور، السُّحور: هو أكل وجبة السحور، والسَّحور: ما يتسحر به يسمى سَحورًا، قدم له طعام السَّحور، ولا تقل: السُّحور. لكن إذا قلته سُحور معنى ذلك: أنه يتسحر يأكل الآن.
طَهور وطُهور.
طَهور: اسم لما يتطهر به.
وطُهور: فعل التطهر.
وهكذا أيضًا نقول في: وَضوء ووُضوء، فوَضوء: اسم لما يتوضأ به.
عندما تريد أن تعبر عن تقريب ماء الوضوء لإنسان، تقول: قرب له وَضوءه أو وُضوءه؟ وَضوءه، بفتح الواو: اسم لما يتوضأ به.
تعريفه شرعًا: التعبد لله تعالى بغسل الأعضاء الأربعة على صفة مخصوصة.
والأعضاء الأربعة هي: الوجه ومنه المضمضة والاستنشاق، واليدان، ومسح الرأس ومنه الأذنان، وغسل الرجلين إلى الكعبين.
هل الوضوء من خصائص أمة محمد ؟
هل كان الوضوء موجودًا لدى الأمم السابقة، أم أنه خاص بهذه الأمة؟
نقول: الوضوء كان موجودًا لدى الأمم السابقة؛ ويدل لذلك: ما جاء في «صحيح البخاري» وغيره في قصة سارة زوج إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام مع الملِك الذي أعطاها هاجر، فإنه لما همَّ بالدنو منها قامت تتوضأ وتصلي، وذلك؛ أن سارة كانت من أجمل النساء في زمنها، فهمَّ هذا الملِك بمسها، وكان من عادتهم أنه إذا قال: أختي. لم يقربها، فإذا قال: زوجتي. تعدى عليها، فقال إبراهيم : إنها أختي. وقامت وتوضأت وصلت ركعتين، ودعت الله تعالى بأن يعصمها من هذا، وعصمها الله منه[5].
الشاهد من هذه القصة: أنها قامت وتوضأت، وهذا يدل على أن الوضوء كان معروفًا في زمنهم.
أيضًا في قصة جُرَيج الراهب، وهي قصة مشهورة في «الصحيح»، جريج الراهب كان رجلًا عابدًا من بني إسرائيل، وفي صومعته، فذكر بنو إسرائيل عبادته وانقطاعه للعبادة، وتعجبوا منه، فقالوا لبَغِيٍّ من بغايا بني إسرائيل: هل يمكنك إغواؤه؟ قالت: نعم.
فقامت وتصنعت وأتته، وتعرضت له؛ لعله أن يقع بها، لكنه لم يقع بها، وانقطع للعبادة، فأرادت النَّيل منه، فذهبت إلى راع وأمكنته من نفسها، فوقع بها فحملت، فولدت غلامًا وقالت: هو من جريج. فأتى بنو إسرائيل إليه في صومعته، وهدموا صومعته وضربوه، فقام وتوضأ -وهذا موضع الشاهد- وصلى ركعتين، ثم أتى لهذا الغلام وطعنه في بطنه، وقال: يا غلام، من أبوك؟ وهو لا زال في المهد، لا زال طفلًا رضيعًا، قال: يا غلام، من أبوك؟ قال: فلان الراعي. أنطقه الله ، ولذلك؛ لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة، وهذا منهم، فلما قال: فلان الراعي. عظموا جريجًا، وقالوا: نبني صومعتك من الذهب. قال: لا، أعيدوها كما كانت[6].
الشاهد من هذه القصة: أن جريجًا قام وتوضأ، هذا يدل على أن الوضوء كان معروفًا في زمنهم.
إذَنْ: الوضوء ليس من خصائص هذه الأمة.
إذَنْ: ما هو الذي من خصائص هذه الأمة؟
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: الظاهر: أن الذي اختُصت به هذه الأمة: هو الغُرَّة والتحجيل؛ لا أصل الوضوء، وقد صرح بذلك في رواية مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: قال: سِيمَا ليست لأحد غيركم[7].
الغُرَّة والتحجيل، هي: الغرة: بياض في الوجه، والتحجيل: بياض في أطراف اليدين والرجلين.
وهذا من خصائص هذه الأمة؛ لقول النبي : إن أمتي يأتون يوم القيامة غُرًّا مُحَجَّلين من آثار الوضوء[8]. فتعرف هذه الأمة من بين سائر الأمم بهذه العلامة، وهذه الأمة، كما قال عليه الصلاة والسلام بين الأمم الأخرى: كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود[9]، شعرة في جلد ثور كم سيكون حجمها؟! لأن الخلق كثير منذ أن خلق الله آدم إلى قيام الساعة، كم ستكون هذه الأمة من هؤلاء الخلائق؟! ولكن جعل الله تعالى لهذه الأمة هذه العلامة، وهي: الغُرَّة والتحجيل.
وهذه الأمة جعلها الله تعالى خير أمة أخرجت للناس، هي أفضل الأمم، ولهذا؛ جاء في بعض الروايات: أنه ما من أحد يوم القيامة إلا ويتمنى أنه من هذه الأمة، بل إن هذه الأمة تشهد للأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام؛ كما جاء في الحديث الصحيح: أنه يؤتى بنوح عليه الصلاة والسلام فيقال: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيقال لقومه: هل بلغكم؟ فيقولون: لا، فيقال لنوح عليه السلام: من يشهد معك؟ يقول: أمة محمد عليه الصلاة والسلام، فيقول قوم نوح عليه السلام: كيف يشهدون وإنما أتوا بعدنا؟ فيقولون: أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام بذلك فصدقناه، فنحن نشهد على خبره [10]. وهذا معنى قول الله : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة:143]، فهذه الأمة تشهد على الناس، فهي خير الأمم، ولهذا؛ يوم القيامة كل الناس من الأمم الأخرى يتمنون أن لو كانوا من هذه الأمة.
إذَنْ، يجعل الله تعالى لها علامة، وهي: الغرة والتحجيل، وعرفنا المقصود بهما.
إذَنْ، الخلاصة من هذا: أن الوضوء هل هو من خصائص هذه الأمة أم لا؟ لا، الوضوء ليس من خصائص هذه الأمة، وذكرنا قصة جريج، وقصة سارة.
إذَنْ ما هو الذي من خصائص الأمة؟ الغرة والتحجيل.
فروض الوضوء
ننتقل بعد ذلك إلى فروض الوضوء:
الفروض: جمع فرض، والفرض: بمعنى الواجب، إلا أن بعض العلماء يرى: أن الفرض آكد من الواجب، لكنه في الجملة بمعناه.
فروض الوضوء ستة:
الأول: غسل الوجه بكامله، ومنه: المضمضة والاستنشاق.
لماذا لم نقل غسل الكفين؟ هل غسل الكفين من الوضوء في بداية الوضوء؟
لا.
غسل الكفين مستحب ليس واجبًا، وليس من فروض الوضوء، فلو بدأت مباشرة بغسل الوجه أجزأ هذا.
إذَنْ الأول: غسل الوجه، ومنه: المضمضة والاستنشاق.
فالمضمضة والاستنشاق، الصحيح: أنهما واجبان، فمن غسل وجهه وترك المضمضة والاستنشاق أو أحدهما، لم يصح وضوؤه وذلك؛ لأن الفم والأنف من الوجه، والله تعالى يقول: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة: 6]. فأمر بغسل الوجه كله، ومن ترك شيئًا منه لم يكن ممتثلًا لأمر الله تعالى.
ولم ينقل عن النبي قط أنه توضأ من غير أن يتمضمض أو يستنشق.
وأمر النبي عليه الصلاة والسلام بالاستنشاق قال:…
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 424. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 137، ومسلم: 361. |
^3 | رواه أبو داود: 63، وأحمد: 4605. |
^4 | رواه أبو داود: 67، وابن ماجه: 520، وأحمد: 11119. |
^5 | رواه البخاري: 2217. |
^6 | رواه البخاري: 2482، ومسلم: 2550. |
^7 | رواه مسلم: 247. |
^8 | رواه البخاري: 136، ومسلم: 246. |
^9 | رواه البخاري: 6528، ومسلم: 221. |
^10 | رواه البخاري: 3339. |