الرئيسية/دروس علمية/فقه المعاملات المالية المعاصرة (1433هـ)/(4) فقه المعاملات المالية المعاصرة- الأوراق التجارية والسند لأمر والشيك
|categories

(4) فقه المعاملات المالية المعاصرة- الأوراق التجارية والسند لأمر والشيك

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.

أيها الإخوة، درسنا هذه الليلة في “فقه المعاملات المالية المعاصرة”، سيكون فيما يتعلق بالأوراق التجارية والتحويلات المصرفية.

قبل أن نبدأ في الحديث عن هذه المسائل؛ أود التنبيه إلى ما ذكرته في أول درسٍ من أن هذه السلسلة من الدروس ستكون في أبرز المعاملات المالية المعاصرة.

وقد ذكرت أنها ستخرج في كتاب يعالج هذه القضايا، ويبين أبرز المسائل والأحكام المتعلقة بها، ولله الحمد قد صدر هذا الكتاب، كتاب “فقه المعاملات المالية المعاصرة”، وهو الذي سنسير في هذا الدرس -إن شاء الله- على ترتيبه.

قد يكون هناك بعض الإضافات، وبعض التعليقات على ما هو موجودٌ في هذا الكتاب، وربما أيضًا نذكر مسائل لم تُذكر في هذا الكتاب مما يكثر السؤال عنه.

كنا قد تكلمنا عن الأوراق المالية، ثم الأوراق النقدية، وبقي الحديث عن الأوراق التجارية.

الأوراق المالية: قلنا: إنها هي الأسهم والسندات، تكلمنا عنها بالتفصيل، وعن أحكام الأسهم وزكاة الأسهم، وما يتعلق بها من مسائل وأحكامٍ.

كذلك أيضًا تحدثنا عن الصناديق الاستثمارية وزكاتها، ثم كان الحديث عن الأوراق النقدية، وكان الكلام عن تكييفها الفقهي، والأحكام الشرعية المتعلقة بها، وزكاتها، وبقي أن نتكلم عن الأوراق التجارية.

الأوراق التجارية

فهذا المصطلح “الأوراق التجارية” إذا أطلق هذا المصطلح؛ فله معنًى مخصوص*-، هذا المصطلح إذا أطلق فالمقصود به ثلاثة أشياء؛ وهي:

  1. الكمبيالة.
  2. والسند لأمرٍ.
  3. والشيك.

إذا قيل: الأوراق التجارية، فالمقصود به: هذه الأمور الثلاثة: الكمبيالة، والسند لأمرٍ، والشيك.

ولهذا عُرِّفت الأوراق التجارية بأنها: صكوكٌ قابلةٌ للتداول، تمثل حقًّا نقديًّا، وتَستحِق الدفع لدى الاطلاع، أو بعد أجلٍ قصيرٍ، ويجري العرف على قبولها كأداةٍ للوفاء، وتقوم مقام النقود في المعاملات.

وهذه الأوراق التجارية يتعامل بها الناس اليوم، لكن أكثرها تعاملًا في أوساط الناس والأوساط التجارية هو الشيك؛ ولهذا عندما يشتري الإنسان صفقةً، أو يبيع؛ كأن يبيع مثلًا بيتًا أو نحو ذلك؛ فإنه لا يتعامل بالنقود.

لو باع بيتًا بمليون ريالٍ، لا يأتي بمليون ريالٍ نقدًا ويسلمها للبائع عندما يشتري هذا البيت، عندما يشتري بيتًا بمليونٍ؛ لا يأتي بهذا المليون ويسلمه للبائع؛ وإنما يأتي بشيكٍ، هذا الشيك هو نوعٌ من الأوراق التجارية.

ونريد أن نتعرف على أبرز الأحكام المتعلقة بهذه الأوراق، عندنا في المملكة العربية السعودية هناك نظامٌ يحكم هذه الأوراق، وهو نظام الأوراق التجارية، وهذه الأوراق التجارية ونظامها قد دَرَستها في رسالة الدكتوراه في كتابٍ مطبوعٍ بعنوان: “أحكام الأوراق التجارية في الفقه الإسلامي”، ولم يظهر لي في هذا النظام أي محذورٍ شرعيٍّ.

بل يعني قد نص النظام على أن اشتراط فائدة الكمبيالة يعتبر كأن لم يكن، يعني أي شيءٍ مخالفٍ للشريعة الإسلامية فإنه يعتبر كأن لم يكن، وهذه من ميزة الأنظمة عندنا في المملكة، أن تصاغ صياغةً جيدةً، وتكون متوافقةً مع الضوابط الشرعية.

ولكن يأتي الإشكال أحيانًا في التطبيقات، التطبيق هو الذي يأتي أحيانًا فيه الخلل، أما من جهة التنظيمات، فنجد أن التنظيمات جيدةٌ في الجملة، ويراعى فيها موافقتها للضوابط الشرعية.

أصول الأوراق التجارية

أصول هذه الأوراق التجارية كانت معروفة لدى المسلمين، لكن -بتنظيمها الحديث- هي أُخذت من الغرب، أما أصولها فإنها معروفةٌ، فقد وُجد في عصر الصحابة ما يشبه السفاتج، رُوي أن ابن عباسٍ رضي الله عنهما كان يأخذ الوَرِق من التجار بمكة على أن يكتب لهم بها إلى الكوفة، وكان عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما يأخذ من قومه بمكة دراهم ويكتب لهم بها إلى أخيه مصعب بن الزبير  في العراق، فهذه الرقاع التي كانت تكتب هي تشبه في أصولها الأوراق التجارية التي يتعامل بها الناس اليوم.

ولهذا جاء في “صحيح مسلمٍ”: أن صكوكًا خرجت في زمن مروان بن الحكم، ويكتب فيها مقدار الطعام، يكتب لفلان ابن فلانٍ كذا، وفلانٌ يستحق كذا، فتبايعها الناس قبل أن يستوفوها، يعني قبل استيفاء ما تمثله من طعامٍ، تبايعوا هذه الرقاع، وهذه الأوراق، فدخل زيد بن ثابتٍ وأبو هريرة رضي الله عنهما على مروان بن الحكم، فقالا: أتحل الربا يا مروان؟! قال: وما ذاك؟ قال: هذه الصكوك تَبايعها الناس ثم باعوها قبل أن يستوفوها، فبعث مروان بن الحكم الحرس يتبعونها، ينزعونها من أيدي الناس ويردونها إلى أهلها.

هذه القصة في “صحيح مسلمٍ”، وفيها فوائد كثيرةٌ؛ منها:

  • أولًا: أن هذه الصكوك التي تعامل بها الناس في ذلك الزمن، هي أصولٌ لهذه الأوراق التجارية التي يتعامل بها الناس اليوم.
  • وفيها ثانيًا: قيام الصحابة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعندما رأوا هذا المنكر؛ ذهبوا إلى مروان بن الحكم وأنكروا عليه.
  • وفيها أيضًا: تقبل مروان لهذا الإنكار، لمَّا رأى هذين الصحابيين رضي الله عنهما -وهما: زيد بن ثابتٍ وأبو هريرة- أنكرا هذا المنكر؛ تقبل ذلك، وأرسل حرسه فجعلوا ينزعون هذه الأوراق من أيدي الناس ويرجعونها إلى أهلها؛ لأنه لا يجوز بيع الطعام قبل قبضه.
  • ومنها: التعاون على البر والتقوى، وقيام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ذلك العصر الذي هو أفضل العصور الإسلامية، يعني أفضل العصور على الإطلاق، هذا العصر هو أفضل العصور؛ كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم [1]، فأفضل القرون وخير القرون هو قرن الصحابة وجيل الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.

والشاهد من هذه القصة: أن هذه الصكوك التي كانت في ذلك الزمن، هي أصول الأوراق التجارية التي يتعامل بها الناس، إنكار زيد بن ثابتٍ وأبي هريرة رضي الله عنهما ليس لأجل هذه الصكوك؛ وإنما لأجل تبايع الناس بها قبل استيفائها، قبل قبض الطعام، تبايع الناس بهذه الصكوك قبل قبض الطعام، قبل استيفاء الطعام، لا لأجل كتابة تلك الصكوك، والنبي قد نهى عن بيع الطعام قبل قبضه [2].

في الوقت الحاضر نُظِّمت هذه الصكوك تنظيمًا دقيقًا، ولها نظامٌ يحكمها، وعندنا في المملكة سيكون هناك محكمةٌ خاصةٌ بالأوراق التجارية، وهي من المحاكم المتخصصة، وهذه المحكمة تكون منضبطةً بالضوابط الشرعية؛ لأنه كما ذكرت أن نظام الأوراق التجارية ليس فيه أي مخالفاتٍ شرعيةٍ.

(الكمبيالة) في نظام الأوراق التجارية

قلنا: إن هذه الأوراق تشمل هذه الأمور الثلاثة: الكمبيالة، والسند لأمرٍ، والشيك.

أما (الكمبيالة): فهي كلمةٌ ليست عربيةً، هي كلمةٌ إيطاليةٌ، ولا تعرف في لغة العرب، ولا عند فقهاء المسلمين بهذا المصطلح، لكنها في الوقت الحاضر اشتهرت بهذا المصطلح.

وفي بعض الأنظمة التجارية تسمى: “السُّفْتَجَة” [3]، وبعضهم يسميها: “بوليصةً”، أو “سند حَوالةٍ”، وكانت في نظام الأوراق التجارية قديمًا تسمى: “سفتجةً”، وهي: صكٌّ يحرَّر وفقًا لشكلٍ قانونيٍّ معينٍ، يتضمن أمرًا صادرًا من شخصٍ يسمى: “الساحب”، موجهًا إلى شخصٍ آخر يسمى: “المسحوب عليه”، بل يدفع مبلغًا لدى الاطلاع -أو في تاريخٍ معينٍ، أو قابلٍ للتعيين- إلى شخصٍ ثالثٍ يسمى: “المستفيد”، يعني هي باختصار إذا قيل: (الكمبيالة)، كأنها (شيكٌ) مؤجلٌ، هي بين ثلاثة أطرافٍ، ومن المعلوم أن الشيك واجب الدفع لدى الاطلاع، أما الكمبيالة فهي -بحكم تنظيمها- قابلةٌ للتأجيل، وعند تأجيلها يمكن أن تُظَهَّر يعني تجير لعدة أطرافٍ؛ فيستفاد منها؛ ولذلك هي غير مشتهِرةٍ في التعامل لدى الأفراد، لكنها لدى الشركات فيما بينها، والتجار يستعملون الكمبيالات، أما الأفراد فأكثر ما يستعملون: الشيكات.

السَّنَد لأمرٍ

الثاني قلنا: هو “السَّنَد لأمرٍ”، و”السند لأمرٍ” يكون بين طرفين فقط، لاحِظ، (الكمبيالة) بين ثلاثة أطرافٍ، و(الشيك) بين ثلاثة أطرافٍ، والسند لأمرٍ بين طرفين، وهو: صكٌّ يَتعهد بموجبه محرره بأن يدفع مبلغًا معينًا، في تاريخٍ معينٍ، أو قابلٍ للتعيين، أو بمجرد الاطلاع إلى شخصٍ آخر يسمى: “المستفيد”.

فهو تعهدٌ يكون وفقًا لشكلٍ قانونيٍّ معينٍ، ويكون محميًّا بحمايةٍ قويةٍ كحماية (الشيك)، وهو يكون بين طرفين، وهو أيضًا ليس شائعًا عند الأفراد؛ وإنما هو شائعٌ بين الشركات والمؤسسات والتجار.

الشيك

الثالث وهو الشائع عند الناس: وهو (الشيك)، والشيك معروفٌ، وقيل في تعريفه: صكٌّ يحرَّر وفقًا لشكلٍ قانونيٍّ معينٍ، يتضمن أمرًا صادرًا من شخصٍ يسمى: “الساحب”، إلى آخر يسمى: “المسحوب عليه”.

وبعض الأنظمة -مثل الوضع عندنا في المملكة- تُلزم بأن يكون المسحوب عليه بنكًا، وبدفع مبلغٍ معينٍ من النقود لشخصٍ ثالثٍ يسمى: “المستفيد” بمجرد الاطلاع، وهذا هو الفرق بين الشيك والكمبيالة، أن الشيك يكون بمجرد الاطلاع، أما الكمبيالة فيمكن أن تكون مؤجلةً.

(الشيك) هذا المصطلح قيل: إنه منقولٌ من “صك”؛ فيكون أصل هذه الكلمة عربيًّا، على أن “صك” هي ليست عربيةً، يقال: إنها معربةٌ، وإلا فهي أصلها فارسيٌّ، ومعلومٌ أن بعض الكلمات قد عُرِّبت فاستعملها العرب؛ فأصبحت كلماتٍ عربيةً، فذُكر بعض هذه الكلمات في القرآن: إستبرق مثلًا، ونحو ذلك من الكلمات التي هي لم تكن عربيةً في الأصل، لكنها عربت.

فـ”صكٌّ” هي أصلها فارسيٌّ، وجمعها: أَصْكُك، وصِكَاك، وصُكُوك، وعربت، فيكاد يسمى عند الناس بـ”الصك”، و”الصكوك”، ولا زال أيضًا هذا المصطلح مستخدمًا، لكن عندما نقلت للغرب سموها: “شك”، “شيك”، فأصبحت تسمى: شيكًا.

ولا زالت في بعض الدول العربية تسمى الشيكات صكوكًا، أنا أذكر قبل أيامٍ كان هناك لقاءٌ في إحدى القنوات، اتصل بنا سائلٌ من إحدى الدول العربية ويتكلم عن شيكٍ، فيقول: يسميه صكًّا، فقلت: هذا هو الأصل لهذه الكلمة، أصل كلمة شيك: هو صكٌّ.

الشيكات يتعامل بها الناس اليوم، ويشترط لها: أن يكون لدى الساحب رصيدٌ لدى البنك، وإلا لم يُصرف هذا الشيك.

سأتكلم عن الأحكام المتعلقة بهذه الشيكات.

شيكات التحويلات المصرفية

نبدأ أولًا بـ: “شيكات التحويلات المصرفية”، وهذه الشيكات تحرر من قِبل المصرف عندما يتقدم إليه أحدٌ يريد نقل نقوده عن طريق ذلك المصرف إلى شخصٍ آخر في بلدٍ آخر، يستلمها هو أو وكيله، يعني أو من يُنيبه.

هذه التحويلات المصرفية هي شائعةٌ عند الناس اليوم، ويتعاملون بها، وبعض المصارف خَصصت فروعًا للتحويلات المصرفية؛ نظرًا لإقبال بعض الناس على هذا النوع من الشيكات، فخصصت لها بعض الفروع.

هذه الشيكات “شيكات التحويلات المصرفية” لا تخلو؛ إما أن يكون التحويل بنفس العملة، أو يكون بعملةٍ أخرى، أما إذا كان بنفس العملة، يعني يكون من جنس النقد المدفوع، فالتكييف الفقهي لها: أنها سفتجةٌ، التكييف الفقهي لها أنها “سفتجة”.

ويعني عندما مثلًا تريد أن تحول عشرة آلاف ريالٍ من بلدٍ إلى بلدٍ آخر بنفس العملة، يعني نفترض أن المحول في الرياض يريد أن يحول إلى شخصٍ آخر في مكة، يحول له عشرة آلاف ريالٍ، كيف تكيف فقهيًّا؟

هناك خلافٌ بين المعاصرين؛ منهم من قال: إنها أجرةٌ في نقل -أجرة يعني: وكالةٌ بأجرةٍ- في نقل النقود، ومنهم من قال: وكالةٌ بأجرةٍ في نقل النقود، ومنهم من قال: حَوالةٌ، ومنهم من قال: إنها سُفتَجةٌ.

القول بأنها وكالةٌ بأجرةٍ في نقل النقود يرد عليه أنك عندما تعطي البنك هذا المبلغ فإن البنك ضامنٌ له، يعني لو تَلِف من غير تعدٍّ ولا تفريطٍ من البنك؛ فإنه يضمن.

لو افترضنا أنك سلمت عشرة آلاف ريالٍ لهذا البنك، ثم ذلك البنك مثلًا وقع فيه حريقٌ من غير تعدٍّ ولا تفريطٍ؛ فإن البنك يضمن لهذا المحول هذا المبلغ، ولو كانت وكالةً بأجرةٍ في نقل النقود؛ لكان الوكيل أمينًا لا يضمن إلا في حال التعدي أو التفريط، والواقع هنا أنه ضامنٌ، فهذا يُشكِل على التكييف الفقهي بأنها وكالةٌ بأجرٍ.

والقول بأنها أيضًا حوالةٌ، أيضًا يعني يَرِد عليه إشكالٌ؛ لأن الحوالة لا بد أن يكون الشخص المحوِّل يطلب من المحال عليه مبلغًا، ويحيل المحال إلى المحال عليه، الأقرب في تكييفها الفقهي هو أنها سُفتجةٌ، فما معنى السفتجة؟

معنى السُّفْتَجَة

نريد أن نقف وقفةً مع السفتجة، وحكمها الفقهي، وكلام الفقهاء فيها.

“السُّفْتَجَة”: هذه الكلمة أيضًا ليست كلمةً عربيةً، ولكنها معربةٌ، هي أصلها من الكلمات الفارسية.

وتعريفها: معاملةٌ ماليةٌ يُقرِض فيها إنسانٌ آخر في بلدٍ؛ ليوفيه المقترض أو نائبه أو مدينه في ذلك البلد، يعني: معاملةٌ ماليةٌ يُقرِض إنسانٌ فيها قرضًا في بلدٍ على أن يوفيه المقترض أو نائبه أو وكيله في بلدٍ آخر.

التي قلنا: هي بمعنًى آخر، يعني بالمصطلح المتعارف عليه الآن: هي حَوالةٌ لكن بنفس العملة، يسمونها حَوالةً بنفس العملة، فهي قلنا في تكييفها أن الأقرب: أنها سفتجةٌ، فمثلًا عندما تأتي للبنك، وتقول: خذ هذه عشرة آلاف ريالٍ تسلمونها لفلانٍ في بلدٍ آخر، يعني يكتب لك بها مثلًا شيكًا، أو أنك تكتب هذه الحوالة باسم فلانٍ، وتشعره بالهاتف أن يستلم هذه الحوالة في ذلك البلد، فهذه تسمى سفتجةً.

ما هو الغرض من السفتجة؟ الغرض هو أمن خطر الطريق، يعني بدل أن ينقل هذا المبلغ، ويخشى عليه من السرقة ونحو ذلك؛ يلجأ لهذه المعاملة، فالغرض منها: أمن خطر الطريق، ولا زالت هذه الفائدة قائمةً إلى اليوم، قديمًا ربما يحتاج لها الناس أكثر، قديمًا لما كان الناس يسيرون على الإبل، وعلى..، فكان نقل النقود فيه خطورةٌ كبيرةٌ، في الوقت الحاضر ربما قلَّت هذه الخطورة، لكن لا زالت أيضًا قائمةً، خاصةً إذا كان المبلغ كبيرًا، ويريد الإنسان أن يحمله معه، ربما أيضًا يطمع فيه من يطمع، وربما يُعرَّض هذا المبلغ للسرقة، ثم أيضًا هناك كلفةٌ في النقل، فالسفتجة تؤدي هذه الفائدة، وهي: أمن خطر الطريق.

خلاف الفقهاء في حكم السفتجة

وقد اختلف الفقهاء في حكم السفتجة على قولين:

  • القول الأول: تحريم السفتجة، وهو قول أكثر الفقهاء، وهو الذي عليه المذاهب الأربعة: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة.
  • والقول الثاني: جواز السفتجة، وهذا القول روي عن عددٍ من الصحابة؛ كعلي بن أبي طالبٍ وابن عباسٍ وعبدالله بن الزبير ، وهو روايةٌ عن الإمام أحمد رحمه الله، واختار هذا القول جمعٌ من المحققين من أهل العلم؛ كأبي العباس ابن تيمية وابن القيم، رحم الله الجميع، وعامة مشايخنا يفتون بهذا القول، شيخنا عبدالعزيز بن بازٍ، والشيخ محمد بن عثيمين، رحم الله الجميع، وعامة علماء المملكة يفتون بهذا القول، وهو القول بجواز السفتجة.

من قال بالمنع -وهم الجمهور، وهو الذي عليه المذاهب الأربعة- هناك بعض الأدلة التي استدلوا بها، لكنها لا تثبت من جهة الإسناد، مثل: حديث جابر بن سمرة : “السفتجات حرامٌ” [4]، لكن هذا الحديث ضعيفٌ ضعفًا شديدًا، بل قيل: إنه موضوعٌ، وقد عده ابن الجوزي من الموضوعات.

لكن المأخذ عند الجمهور ليس هذا الحديث؛ لأنه.. ذكر هذا بعض الفقهاء، لكن المأخذ عند المذاهب الأربعة في منع السفتجة هو يقولون: إن السفتجة هي قرضٌ جر نفعًا، ما هو هذا النفع؟ أمن خطر الطريق، استفاد المقرض بهذا القرض سقوط خطر الطريق، قالوا: وهذا نوع نفعٍ، وكل قرضٍ جر نفعًا فهو ربًا.

وقد ذكرت في دروسٍ سابقةٍ: أن القرض صورته في الأصل صورةٌ ربويةٌ؛ لكوني أعطيك عشرة آلاف ريالٍ تردها بعد سنةٍ عشرة آلاف ريالٍ، لم يتحقق التقابض، لكن الشريعة استثنت هذا العقد من الربا تشجيعًا للناس على الإرفاق والإحسان.

فلا بد إذنْ أن يراد بالقرض الإرفاق والإحسان، فإذا أصبح القرض لا يراد به الإرفاق والإحسان، وإنما يراد به المعاوضة والربحية؛ رجع القرض لصورته في الأصل، وهو الصورة الربوية، وهذا معنى قول الفقهاء: “كل قرضٍ جر نفعًا فهو ربًا”.

فإذنْ الجمهور اعتمدوا على هذا؛ قالوا: هذا قرضٌ، والسفتجة تكييفها أنها قرضٌ، لا إشكال في هذا، لكن يقولون: قرضٌ جر نفعًا، ما هو هذا النفع؟ أن المقرض استفاد سقوط خطر الطريق، هذه إذنْ هي وجهة الجمهور في منع السفتجة.

أما أصحاب القول الثاني -الذين قالوا بجواز السفتجة- فقالوا: أولًا: هو مأثورٌ عن عددٍ من الصحابة ، ولم يُعرف عن غيرهم خلافٌ، وقول الصحابي هل يكون حجةً إذا لم يخالفه صحابيٌّ آخر؟ هذه مسألةٌ أصوليةٌ أيضًا مختلفٌ فيها، أما إذا اختلف الصحابة ؛ فلا يكون قول الصحابي حجةً بالاتفاق؛ لأنه ليس قول هذا بأوْلى من قول الآخر.

كذلك إذا اشتهر القول؛ كأن يقوله صحابيٌّ على المنبر؛ مثلما يخطب أبو بكرٍ أو عمر أو عثمان أو عليٌّ ، يخطب على المنبر، ويذكر قولًا، ولا يُعرف له مخالفٌ، فهذا الصحيح أنه حجةٌ؛ لأن هذا يعتبر كالإجماع السكوتي.

محل الخلاف القوي: هو قول الصحابي إذا لم يَشتهِر، ولم يعرف له خلافٌ، هل هو حجةٌ أم لا؟ وهذا محل خلافٍ بين الأصوليين: فجمهور الأصوليين على أنه ليس بحجةٍ، ومنهم من قال: إنه حجةٌ، والأقرب أنه ليس بحجةٍ، كما انتصر لذلك الشوكاني، وكما عليه أكثر الأصوليين أنه ليس بحجةٍ، لكن يستأنس به في مَعرِض الترجيح، وهذه مسألةٌ ربما الحديث عنها يكون في مقامٍ آخر، لكن عرضتُ لها بإيجازٍ.

فإذنْ قال هؤلاء: إن هذا هو رأي هؤلاء الصحابة ، ولا يعرف لهم مخالفٌ.

أيضًا القائلون بجواز السفتجة، قالوا: إن السفتجة فيها مصلحةٌ للمقرض والمقترض، ولا يوجد فيها مفسدةٌ ولا ضررٌ بأيٍّ منهما، فالمقرض يستفيد أمن خطر الطريق في نقل دراهمه إلى ذلك البلد، أما المقترض فإنه يستفيد من السيولة، ينتفع بذلك القرض، فكلاهما منتفعٌ.

فليس الآن النفع خاصًّا بالمقرض دون المقترض؛ وإنما المقرض والمقترض كلاهما منتفعٌ بهذا القرض، وما كان فيه مصلحةٌ للجميع، وليس فيه ضررٌ؛ فإن الشريعة لا تحرمه.

وهذا يقودنا إلى معرفة ضابط المنفعة المحرمة في القرض، هل كل منفعةٍ مرتبطةٍ بالقرض تكون محرمةً؟ لا، ولهذا قال أبو محمد بن حزمٍ قال: ليس في العالم سلفٌ إلا وفيه نفعٌ، أي قرضٍ فيه نفعٌ، ليس كل نفعٍ محرمًا، ليس كل نفعٍ مرتبطٍ بالقرض يكون محرمًا، فلا بد إذنْ أن نعرف ما هو ضابط النفع المحرم في القرض، ما معنى قول الفقهاء: “كل قرضٍ جر نفعًا فهو ربًا”؟

الصحيح في ضابط المنفعة المحرمة في القرض: هي المنفعة التي يختص بها المقرض دون المقترض؛ كأن يقول: لا أقرضك إلا بشرط أن تبيع لي بيتك، لا أقرضك إلا بشرط أن تعطيني كذا، لا أبيعك بيتي إلا بشرط أن تقرضني، هذا هو المحرم؛ لأن المنفعة هنا خاصةٌ بالمقرض؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: لا يحل سلفٌ وبيعٌ [5]، يعني: الجمع بين السلف والبيع؛ لأن معنى ذلك: أن هذا السلف -الذي هو القرض- أصبح فيه نفعٌ خاصٌّ بالمقرض.

أما المنفعة المشتركة بين المقرض والمقترض، فالصحيح: أنها جائزةٌ ولا بأس بها؛ وعلى ذلك تخرَّج السفتجة، ولهذا قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: “الصحيح في السفتجة الجواز؛ لأن كلًّا من المقرض والمقترض منتفعٌ بهذا الاقتراض، والشارع لا ينهى عما ينفعهم ويصلحهم، وإنما ينهى عما يضرهم”.

وهذا هو القول الراجح، أن السفتجة جائزةٌ؛ وذلك لأن المنفعة مشتركةٌ بين المقرض والمقترض، وليست خاصةً بالمقرض.

وأما ما استدل به الجمهور: أما قول: الحديث لا يصح، ما عللوا به من أن هذا قرضٌ جر نفعًا، فقلنا: إن النفع هنا ليس خاصًّا بالمقرض؛ وإنما مشترك بينهما، وإذا كان مشتركًا؛ فإنه يكون لا مانع منه، كما حقق ذلك أبو العباس ابن تيمية رحمه الله.

وبهذا أيضًا نستفيد فائدةً، وهي: ليس دائمًا قول الجمهور يكون هو الصواب، بل ليس كل ما اتفق عليه المذاهب الأربعة يكون هو الصواب، فهناك مسائل كثيرةٌ نرى أن المذاهب الأربعة تتفق فيها على رأيٍ، لكن يكون الصواب أو الراجح خلافها؛ منها هذه المسألة مثلًا، منها مثلًا مسألة “ضع وتَعَجَّل”، المذاهب الأربعة تمنع منها، والصحيح أنه لا بأس بها، منها مثلًا: مسألة الطلاق المعلق، الذي لا يريد الطلق به وقوع الطلاق؛ وإنما يريد الحث أو المنع، أو التصديق أو التكذيب، المذاهب الأربعة تُوقِع الطلاق، والقول الآخر قول القلة من العلماء، لكن هو الذي عليه الآن الفتوى، أن الطلاق لا يقع، وإنما فيه كفارة يمينٍ؛ فليس دائمًا الحق في قول الأكثرية.

هل الأكثرية دليلٌ على الحق؟ ليس دليلًا على الحق؛ الله تعالى يقول: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116]، فالكثرة ليست دليلًا على الصحة، قد يكون الصواب مع الأقل، المهم ألا يكون في المسألة إجماعٌ، فإذا كان في المسألة إجماعٌ؛ فلا تجوز مخالفة الإجماع، أما إذا كانت المسألة خلافيةً؛ فإننا ننظر للأدلة، ولا ننظر إلى أن هذا قول الأكثر أو قول الأقل.

ولهذا هناك قاعدةٌ لطيفةٌ ذكرها بعض أهل العلم، يقول: إذا أردت أن تنظر إلى المسائل الخلافية، فلا تعتقد ثم تستدل؛ وإنما استدل ثم اعتقد، إذا اعتقدت فإنك ستحشد الأدلة لصالح الشيء الذي تعتقده، لكن انظر لها في البداية نظرةً متجردةً، خالي الذهن، ثم على ضوء الأدلة اعتقد أن هذا هو القول الصحيح، أو أن ذاك هو القول الصحيح.

إذنْ الحاصل: أن السفتجة قلنا: فيها خلافٌ، وأن المذاهب الأربعة على منعها، وأن القول الثاني، هو روايةٌ عن الإمام أحمد، وهي رواية عند المالكية، وقلنا: اختاره جمعٌ من المحققين من أهل العلم، وهو الذي عليه الفتوى عندنا بالمملكة، وهو القول بجواز السفتجة.

على ذلك: التحويلات المصرفية إذا كانت بنفس العملة، قلنا: إنها جائزةٌ ولا بأس بها على أي تكييفٍ، حتى على تكييف من قال: إنها وكالةٌ بأجرةٍ، أيضًا جائزةٌ، من قال بأنها حوالةٌ جائزةٌ، من قال بأنها سفتجةٌ، قلنا: القول الراجح أنها جائزةٌ، فإذنْ شيكات التحويلات المصرفية بنفس العملة لا إشكال في جوازها على جميع التكييفات التي قيلت فيها.

شيكات التحويلات المصرفية مع اختلاف العملة

ننتقل للقسم الثاني، وهي: شيكات التحويلات المصرفية مع اختلاف العملة، وهذه هي التي تحتاج إلى وقفةٍ، عندما يأتي إنسانٌ إلى مصرفٍ يعطيه مثلًا عشرة آلاف ريالٍ، ويقول: أريد أن تحولها إلى بلدٍ آخر، إلى مثلًا مصر، أو أي بلدٍ آخر، بعملةٍ أخرى، بجنيهات مثلًا، أو بدولاراتٍ، أو بأي عملةٍ أخرى.

عندنا هنا الآن اجتمع صرفٌ وحوالةٌ، صرفٌ؛ لأن عنده ريالاتٍ وجنيهاتٍ، وحوالةٌ، فيفترض أن يتم الصرف أولًا، ثم الحوالة ثانيًا، الحوالة قلنا: إنها سفتجةٌ، وقلنا: إن الصواب هو جواز السفتجة، لكن يبقى الإشكال في الصرف، فهل نقول لمن أراد أن يحول مبلغًا بعملةٍ أخرى: صارِفْ أولًا، ثم حوِّلْ.

طيب إذا قلنا: صارِفْ أولًا، كيف يصارف؟ هل يقول لهم مثلًا: أعطيكم عشرة آلاف ريالٍ، أعطوني جنيهاتٍ، يستلمها ثم يعيدها للبنك مرةً أخرى؟ هذا هو الأصل، لا شك أن هذا هو الأصل، لكن هذا يُلحِق الحرج بالناس؛ لأن البنوك تبيع بسعرٍ وتشتري بسعرٍ آخر، فتشتري بسعرٍ أقل من السعر الذي تبيع به.

ثم أيضًا كونه يتسلمها ثم يعيدها مرةً ثانيةً، فهذا أشبه بالعبث، يعني هل ترد الشريعة بمثل هذا، يتسلمها ثم يعيدها مرةً ثانيةً؟!

ولهذا فالقبض هنا يكفي فيه القيد المحاسبي، القيد المحاسبي لدى البنك، فيكفي فيه هذا، يعني القيد في دفاتر المصرف في حكم القبض، وبهذا صدر قرار “مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي”، وجاء فيه: أن استلام الشيك يقوم مقام القبض، وأن القيد في دفاتر المصرف في حكم القبض، سواءٌ كان الصرف بعملةٍ يعطيها الشخص للمصرف، أو بعملةٍ مودَعةٍ فيه”.

يعني: سواءٌ أعطاه عشرة آلاف ريالٍ، أو قال: أريد أن أحول عشرة آلاف ريالٍ من حسابي الذي عندكم، لكن أيضًا إذا قلنا: إن القيد في دفاتر المصرف يقوم مقام القبض، ويعتبر قبضًا حكميًّا، يَرِد إشكالٌ آخر، وهو: أن بعض العملات لا تملكها البنوك.

أحيانًا يريد الإنسان التحويل بعملةٍ ليست شائعةً، ليست مشتهرةً، والبنك لا يملكها لا في الصندوق المحلي، ولا في الصندوق المركزي، فيكون البنك قد صارف بما لا يملك، وهذا فيه إشكالٌ.

ولهذا نقول: إن البنك إذا كان يملك العملة المحول لها؛ فلا بأس، والقيد في دفاتر المصرف يقوم مقام القبض، فتعطيه مثلًا عشرة آلاف ريالٍ، يكتب لك بما يقابلها من الجنيهات أو الدولارات أو نحو ذلك، وتأخذ هذا الشيك وترسله لمن تريد، ويستلمه، هذا لا إشكال فيه، إذا كان البنك يملك العملة المحول لها.

لكن إذا كان لا يملك العملة المحول لها؛ فالذي يظهر: أن هذه العملية لا تجوز؛ لأن البنك قد صارف بما لا يملك، وهنا لا يشترط أن يملك في الصندوق المحلي للفرع، بل حتى في الصندوق المركزي، إذا كان يملكها في الصندوق المركزي؛ لا إشكال في الجواز، لكن بعض العملات تكون لا يملكها البنك حتى في الصندوق المركزي؛ فيكون البنك قد صارف بما لا يملك، وهذا لا يجوز.

أرأيت لو صارف صاحب محل ذهبٍ ذهبًا بفضةٍ سوف يوفرها له فيما بعد، هو لا يملك هذه الفضة، فإن هذا لا يجوز عند جميع العلماء، كذلك إذا صارف البنكُ بما لا يملك، وإنما سيوفر له هذه العملة فيما بعد؛ فإن أيضًا هذا لا يجوز.

ولهذا ينبغي لمن أراد أن يحول مبلغًا بعملةٍ أخرى: أن يختار عملةً من العملات المشهورة التي يغلب على الظن وجودها لدى المصرف، يعني مثلًا مثل اليورو والدولار، ونحو ذلك من العملات المشهورة، يعني الدولار مثلًا يوجد لدى أي بنكٍ، أو اليورو، لكن عندما يأتي لعملةٍ غير مشهورةٍ، وربما أن البنك لا يملك هذه العملة، وحتى لو سأل موظف البنك؛ قد لا يعطيه جوابًا فيها، لا يدري موظف البنك، لا يدري هل البنك يملك أو لا يملك؛ ولهذا فالأحسن أن يختار عملةً من العملات المشهورة؛ حتى يخرج من هذا الإشكال الشرعي.

فنقول: اختر مثلًا الدولار، اختر اليورو، اختر عملةً من العملات المشهورة وحول بها؛ وبذلك يكون قد تحقق الضابط الشرعي وزال الإشكال.

العلماء المعاصرون معظمهم يفتي بهذا، وبعضهم يمنع من هذا، ولكن يجيزها للضرورة، أذكر أنني سألت بنفسي شيخنا محمد بن عثيمين رحمه الله عن هذه المسألة فقال: إن فيها إشكالًا؛ لأنه قد اجتمع صرفٌ وحوالةٌ، لكنني أجيزها للضرورة، يقول الشيخ: لكنني أجيزها للضرورة.

ولكن الأقرب -والله أعلم- هو ما قرره “مجمع الفقه الإسلامي”: أن القيد في دفاتر المصرف يقوم مقام القبض الحسي؛ فيكون هذا نوعًا من القبض الحكمي يقوم مقام القبض الحسي، وقد نقلت في الكتاب قرار “المجمع الفقهي” بنصه.

إذنْ هذا ما يتعلق بـ”شيكات التحويلات المصرفية”، (الكمبيالة) التكييف الفقهي لها: أنها سفتجةٌ، وقلنا: الصحيح فيها الجواز، لا إشكال في جواز الكمبيالة، ولا بأس بالتعامل بالكمبيالة.

كذلك أيضًا: السند لأمرٍ، لا إشكال في جوازه والتعامل به، (الشيكات) قلنا: “شيكات التحويلات المصرفية” ذكرنا فيها هذا التفصيل.

الشيكات الأخرى، الشيك الذي يكتبه الإنسان لآخر، ويكون له رصيدٌ هذا لا بأس به، التكييف الفقهي له: أنه حَوالةٌ، المحيل: الساحب الذي يحرر الشيك، المحال عليه هو البنك المصرف، المحال هو المستفيد الذي يكتب اسمه في الشيك.

طيب، يترتب على هذا التخريج: أن المستفيد -الذي يحرَّر الشيك لصالحه- يلزمه قبول الشيك، إذا كان الساحب له رصيدٌ؛ لقول النبي : إذا أُتبع أحدكم على مليءٍ فليَتْبع [6]، ولكن لهذا المستفيد أن يشترط أن يكون الشيك مصدَّقًا، فلو مثلًا باع شخصٌ لآخر سيارةً، ثم إن المشتري كتب شيكًا للبائع، قال المشتري: أنا لا أريد شيكًا، أريد نقدًا، وحصل بينهما خلافٌ، المشتري يقول: ما عندي إلا شيكٌ، البائع يقول: لا، أنا أريد نقدًا، لا أريد شيكًا.

فنقول: إذا كان المشتري له رصيدٌ في البنك؛ فيلزم البائع قبول الشيك؛ لأن المحال يلزمه قبول الحوالة إذا كان المحال عليه مليئًا، والملاءة هنا في البنوك تعني وجود الرصيد.

لكن أيضًا لهذا البائع أن يشترط أن يكون الشيك مصدَّقًا، بعض الناس أيضًا يكتب شيكًا، وعندما يذهب يريد أن يصرفه؛ يكون بدون رصيدٍ، فله أن يشترط أن يكون مصدَّقًا، أما إذا كان الشيك مصدقًا؛ فيلزمه قبول هذا الشيك.

الشيك من العميل إلى مصرفٍ ليس له فيه رصيدٌ

طيب، الشيك من العميل إلى مصرفٍ ليس له فيه رصيدٌ، يعني بعض الناس يكتب شيكًا وليس له رصيدٌ، وبعض البنوك تقبل بهذا، إذا كان العميل لديهم معروفًا، فهذا خرج على أنه حَوالةٌ عند الحنفية، عند الحنفية يسمونه حَوالةً على بريءٍ، يسمونه حوالةً، لكن حوالة على بريءٍ، وعند الجمهور يقولون: إحالة الدائن على من لا دين عليه لا يسمى حوالةً، وإنما وكالةٌ في اقتراضٍ.

وعلى كلا التقديرين هو جائزٌ بشرط ألا يتضمن فوائد ربويةً؛ لأن البنوك التي تقبل هذا في الغالب، إنما تقبله بشرط تضمن هذا الشيك لفائدةٍ ربويةٍ، ويسمون هذا الشيك بالسحب على المكشوف، فإذا تضمن فائدةً ربويةً فإن هذا لا يجوز.

لكن لو افترضنا أنه لم يتضمن فائدةً ربويةً؛ فهو جائزٌ، سواءٌ سميناه حوالةً، أو سميناه وكالةً في اقتراضٍ، هناك ما يسمى بـ”الشيكات السياحية”، وهي جائزةٌ لكن في الوقت الحاضر قَلَّ التعامل بها، يكون عليها عمولةٌ، العمولة هذه لا بأس بها؛ لأنها فيها منفعةٌ للطرفين، وسبق أن قلنا: إذا كانت المنفعة للمقرض والمقترض، فالقول الصحيح أن هذه المنفعة ليست محرمةً، وأنها جائزةٌ.

حكم بيع الذهب والفضة بالشيكات

الشيكات هل تقوم مقام القبض في شراء الذهب والفضة ونحو ذلك، أو لا تقوم؟

يعني لو ذهبت لمحل ذهبٍ تريد أن تشتري منه حليًّا، ثم كتبت له شيكًا، فهل هذا يجوز؟ ثم سننتقل لمسألة “بطاقات الائتمان”، وهذا سيأتي البحث عنه مفصلًا.

إذنْ المسألة: هل تَسَلُّم الشيك في حكم القبض لمحتواه أم لا؟

اختلف العلماء المعاصرون في هذه المسألة على أقوالٍ:

  • القول الأول: أن تسلُّم الشيك يعتبر قبضًا لمحتواه مطلقًا؛ وبناءً على ذلك: فأصحاب هذا القول يجيزون أن تشتري بهذا الشيك ذهبًا أو فضةً، ويقولون: إن الشيك محاطٌ بضماناتٍ كبيرةٍ تجعل القابض له مالكًا لمحتواه، ولو كان هذا الشيك بدون رصيدٍ؛ فإن محرِّر الشيك يواجه عقوباتٍ كبيرةً، ونحو ذلك.
  • القول الثاني: إن تسلم الشيك لا يعتبر قبضًا لمحتواه، ومن أبرز من قالوا بهذا: الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله؛ وبناءً على ذلك: لا يجوز أن يحرر به ما يشترط فيه التقابض؛ كالذهب والفضة.
    ووجهتهم: أن الشيك وإن أحيط بضماناتٍ كبيرةٍ، إلا أنه لا يقوم مقام النقد؛ بدليل أنه أحيانًا يكون بدون رصيدٍ، وأيضًا قد لا يصرف لكون التوقيع غير مطابقٍ، وأيضًا لو ضاع لأمكن لصاحبه أن يرجع للبنك، ولو كان في معنى القبض لمحتواه؛ لما كان له الرجوع على البنك.
  • القول الثالث: التفصيل وهو إذا كان الشيك مصدَّقًا، فإن تسلمه في معنى القبض لمحتواه، أما إذا كان غير مصدقٍ فإن تسلمه ليس في معنى القبض لمحتواه، وهذا القول ذهبت إليه “اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء” بالمملكة، واختاره الشيخ عبدالعزيز بن بازٍ رحمه الله.

ومعنى التصديق للشيك، يعني: حجز المبلغ الذي تضمنه الشيك للمستفيد، يعني عندما تذهب للبنك وتطلب منهم شيكًا مصدقًّا؛ يأخذون منك هذا المبلغ بهذا الشيك، ويحجزونه باسم المستفيد، فهو الآن يخصم منك مباشرةً ويحجز باسم المستفيد، فالمستفيد يضمن الحصول عليه، هو ضامنٌ للحصول عليه.

وأصحاب هذا القول قالوا: إن الشيك إذا كان مصدقًا فإنه يقوم مقام النقود، الشيك المصدق يقوم مقام النقود في قوة القبض لمحتواه؛ بدليل أننا نجد أن الناس في الصفقات الكبيرة يتعاملون به، فمن اشترى مثلًا بيتًا بمليون ريالٍ، عندما يريد أن يدفع المبلغ للبائع، هل يعطيه نقدًا؟

لا يعطيه نقدًا، حتى كتابات العدل الآن لا تقبل دفع المبالغ الكبيرة نقدًا، فيريد البائع من المشتري أن يعطيه شيكًا، فالناس الآن تفضل الشيك، لكن يشترطون أن يكون الشيك مصدقًا، إذا كان الناس يفضلون الشيك على النقد، أعني: الشيك المصدق، إذا كان الناس يفضلون الشيك المصدق على النقد، هذا دليلٌ على أنه في قوة أو في معنى القبض لمحتواه.

أما الشيك غير المصدق فيَرِد عليه احتمالات في الحقيقة، يرد عليه أنه قد يكون بدون رصيدٍ، وقد لا يتمكن المستفيد من صرفه؛ ولذلك فالشيك غير المصدق يظهر أنه لا يقوم مقام القبض لمحتواه، إلا في الدول التي تحيط الشيك بضماناتٍ قويةٍ، وعندهم إجراءاتٌ صارمةٌ في حق من يكتب شيكًا بدون رصيدٍ، فعندهم لا فرق بين الشيك المصدق وغير المصدق؛ بسبب الإجراءات القوية في حماية الشيك، فهنا في تلك الدول قد نقول: إن الشيك حتى غير المصدق يقوم مقام القبض لمحتواه.

لكن عندنا بالمملكة الآن الوضع الحالي في الشيكات غير المصدقة، الذي يظهر: أنه لا يقوم مقام القبض لمحتواه، ويمكن أن يتغير هذا الحكم مستقبلًا لو أعطي الشيك ضماناتٍ قويةً وحمايةً، فربما أنه يقال بأنه حتى الشيك غير المصدق يقوم مقام القبض لمحتواه.

وهو في الحقيقة الضمانات والحماية من جهة الأنظمة قويةٌ وصارمةٌ، غرامةٌ كبيرةٌ وسجنٌ، لكن المشكلة في التطبيق والتنفيذ، المشكلة أن هذه العقوبات تطبيقها ضعيفٌ، لكن في بعض الدول هناك تطبيقٌ صارمٌ، ولذلك لا فرق عند الناس في تلك الدول بين الشيك المصدق وغير المصدق.

فإذنْ نقول: هو يختلف باختلاف البلدان وباختلاف البيئات، بل حتى ربما عندنا هنا بالمملكة ربما يتغير هذا الحكم مستقبلًا عندما تكون الضمانات للشيك قويةً في التطبيق، أما في الأنظمة وفي التنظير هي قويةٌ في الحقيقة، العقوبات المنصوص عليها قويةٌ جدًّا وصارمةٌ، لكن الإشكالية في تنفيذها وفي تطبيقها.

فإذنْ نقول: حتى هذا الوقت نفرق بين الشيك المصدق والشيك غير المصدق، نقول هذا، وباعتبار أن هذا الدرس مسجلٌ بالصوت والصورة؛ أذكر تاريخ هذا الدرس، حتى لو تغير الوضع، ربما يتغير الحكم، فنحن اليوم في يوم الثلاثاء، السابع والعشرين من ربيع الآخر من عام ألفٍ وأربعمئةٍ وثلاثةٍ وثلاثين للهجرة.

فأقول: في وقتنا الحاضر الشيك غير المصدق لا يقوم مقام القبض لمحتواه، أما الشيك المصدق فيقوم مقام القبض لمحتواه.

أما ما أورد من أن الشيك حتى وإن كان مصدقًا، فلو ضاع لأمكن صاحبه أن يرجع للبنك أو نحو ذلك، فنقول: إن هذا غير مؤثرٍ في اعتبار كونه قبضًا لمحتواه؛ لأن هذا يرجع إلى طبيعة تلك الشيكات، بل حتى الشيك ربما لو كتب عليه: لحامله، وإن كان هذا غير متداولٍ، لكنه نظامًا لا مانع منه، لو كتب: اصرفوا هذا الشيك لحامله، فيمكن أن أي شخصٍ حاملٍ له يستطيع أن يصرف هذا الشيك؛ فيكون مثل النقد تمامًا، فهذا لا يؤثر، مسألة أنه لو ضاع لأمكن لصاحبه الرجوع إلى البنك، لا يؤثر في التكييف الفقهي لهذا الشيك.

إذن بناءً على القول الراجح في هذه المسألة نقول: الشيك المصدق يجوز أن يُشترى به ذهبٌ أو فضةٌ، الشيك غير المصدق لا يجوز أن يُشترى به ذهبٌ أو فضةٌ.

البطاقات الائتمانية

البطاقات الائتمانية، وإن كنا سنتكلم عنها -إن شاء الله- بالتفصيل في درسٍ قادمٍ، مثل مثلًا بطاقة الصرَّاف الآلي، بطاقة السحب الفوري، أو بطاقة (الفيزا)، أو (الماستركارد)، أو نحو ذلك، هذه البطاقات..، أما بطاقات السحب الفوري، بطاقات الصراف الآلي، فهذه لا بأس بالتعامل بها في شراء الذهب والفضة، وقد أفتت بذلك “اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء”؛ وذلك لأن البائع يضمن حقه، وتحصل براءة الذمة بين الطرفين في الوقت نفسه، ولذلك ربما يشتري الإنسان بهذه البطاقة بضائع بمبلغٍ كبيرٍ، وتجد أن البائع مطمئنٌ وضامنٌ حقه، يعني مطمئنٌ على حقه تمامًا، ولا يرد عنده شكوكٌ في وصول حقه إليه ولو بنسبةٌ (1%)؛ ولذلك هو يخيرك البائع: تريد أن تدفع لي نقدًا، أو تريد أن تدفع عن طريق الشَّبَكة، هو يخيرك الآن، فهذا يدل على أنه يستوي عنده النقد والشبكة، بل بعض المحلات يفضلون أن تدفع عن طريق الشبكة، حتى لا يدخل في الصرف، ربما لا يجد صرفًا ليرد عليك بقية المبلغ؛ فيفضلون الدفع عن طريق الشبكة.

فإذا كان الباعة لا فرق عندهم بين أن تدفع نقدًا أو عن طريق الشبكة، فمعنى ذلك: أن الدفع عن طريق بطاقة الصراف الآلي تقوم مقام المصارفة يدًا بيدٍ؛ ولذلك لا بأس بشراء الذهب والفضة عن طريق بطاقات السحب الفوري، بطاقات الصراف الآلي.

ومعلومٌ أن بطاقات الصراف الآلي لا يستطيع الإنسان أن يستخدمها إلا إذا كان له رصيدٌ، أما بطاقات الائتمان الأخرى: بطاقات (الفيزا)، و(الماستركارد)، ونحوها، فهذه إذا كانت مغطاةً -يعني إذا كان صاحبها له رصيدٌ- فهي كالقسم الأول، مثل بطاقات الصراف الآلي، يعني لا إشكال في جوازها؛ لأنه إنما يسحب من رصيده.

لكن إذا كانت غير مغطاةٍ؛ هنا يرد الإشكال، بل حتى في مسألة الذهب والفضة يرد الإشكال فيها حتى لو كانت مغطاةً، لماذا؟ لأن التأجيل فيها ظاهرٌ، فصاحب المحل لا يستطيع الوصول لحقه إلا بعد مدة تأجيلٍ، بعد يومين أو ثلاثةٍ، أحيانًا تصل إلى أسبوعٍ، فمعنى ذلك: أنه سيبيعك الذهب، ولن يحصل على الثمن إلا بعد مدةٍ، فلا يتحقق التقابض.

والعلماء المعاصرون اختلفوا فيها:

فمنهم من نظر إلى أن البائع حتى وإن كان سيحصل على حقه بعد مدةٍ، إلا أنه ضامنٌ في الحصول على حقه، ولا يَرِد لديه شكٌّ، ولو بنسبةِ (1%) أنه لا يحصل على حقه؛ فاعتَبَروها في مثل بطاقات الصراف الآلي.

وقال آخرون: إن فيها تأجيلًا، وما دام أن فيها تأجيلًا؛ فإنه لا يجوز استخدامها في شراء الذهب والفضة، وهذا هو ما أقره “مجمع الفقه الإسلامي الدولي”، وقال: إن بطاقات الائتمان؛ مثل: (الفيزا) و(الماستركارد) -يعني بطاقات الائتمان غير المغطاة التي يكون فيها تأجيلٌ- لا يجوز استخدامها في شراء الذهب والفضة ونحو ذلك.

هذه المسألة -إن شاء الله- سنحررها ونذكر الأقوال فيها، ونبين الراجح في درسٍ قادمٍ إن شاء الله تعالى، لكن عرضت لها بإيجازٍ؛ باعتبار أننا ذكرنا حكم شراء الذهب والفضة بطريق الشيكات.

خصم الأوراق التجارية

أيضًا من المسائل المتعلقة بالأوراق التجارية هي: خصم الأوراق التجارية، وهذا يكون بالكمبيالة، ومعنى خصم الأوراق التجارية، يعني أن يتفقا: أن من تُكتب له هذه الكمبيالة؛ تكتب له بتاريخٍ مؤجلٍ، يعني مثلًا صوامع الغلال تعطي بعض المزارعين كمبيالاتٍ عندما يضعون القمح فيها، وتقول: ادفعوا لأمر المزارع فلان ابن فلانٍ مبلغًا وقدره مئة ألف ريالٍ بعد مثلًا ستة أشهرٍ، أو بعد سنةٍ.

بعض المزارعين يقول: أنا ما عندي استعدادٌ أن أنتظر إلى ذلك الوقت، يذهب لأي بنكٍ من البنوك، ويقول: هذه كمبيالةٌ صُرفت لي، وأستحقها بعد ستة أشهرٍ، أريد أن تعطوني، تصرفوا لي هذه الكمبيالة وتأخذوا جزءًا منها، البنك يأخذ جزءًا منها، إذا كانت مثلًا مئة ألفٍ ربما يعطيه تسعةً وتسعين ألفًا مثلًا وخمسمئةٍ، فهذا معنى خصم الكمبيالة، هذا هو معنى خصم الكمبيالة، خصم الأوراق التجارية هو المراد به خصم الكمبيالة، هذا هو المقصود بالخصم، وهذه العملية يفعلها بعض الناس كما ذكرت في هذا المثال، فيقول للبنك: أنا لن أنتظر إلى أن يحل موعد هذه الكمبيالة، اصرفوها لي الآن وخذوا حقكم، فيأخذون منها مبلغًا، إذا كانت مثلًا مئة ألفٍ ربما يأخذ البنك خمسمئة ريالٍ، ويعطيه تسعة وتسعين ألفًا وخمسمئة ريالٍ، فما حكم هذه العملية؟

هذه العملية تسمى خصم الكمبيالة، اختلف العلماء المعاصرون فيها على أقوالٍ كثيرةٍ، وقد ذكرت هذه الأقوال، ربما خمسة أقوالٍ أو ستةٍ ذكرتها في أحكام الأوراق التجارية في الفقه الإسلامي، وذكرت أدلتها بالتفصيل في حدود خمسين صفحةً.

لكن باختصارٍ خَلَصْت إلى القول بأن خصم الأوراق التجارية محرمٌ مطلقًا من غير فرقٍ بين أن يكون على المصرف المدين، أو على غير المصرف المدين؛ وذلك لأن التكييف الفقهي بهذا الخصم: أنه قرضٌ بفائدةٍ.

فكأن هذا البنك الآن عندما تقول له: هذه كمبيالةٌ تَحِل بعد ستة أشهرٍ؛ كأنك تقول له: أقرضني هذا المبلغ، وسأعيده لك بأكثر منه، يعني أقرضني تسعةً وتسعين ألفًا وخمسمئةٍ، وسأعطيك مئة ألفٍ بعد ستة أشهرٍ، لكن بهذه الطريقة الملتفة، يعني بدل أن يقول: أعطني تسعةً وتسعين ألفًا وخمسمئةٍ وأعطيك مئة ألفٍ، قال الآن: أعطني الآن تسعةً وتسعين ألفًا وبهذه الكمبيالة تستحق في وقت كذا مئة ألف ريالٍ، فهو في الحقيقة قرضٌ بفائدةٍ، هي تؤول إلى أنها قرضٌ بفائدةٍ.

وبعض المعاصرين يعني تكلفوا وحاولوا أن يجيزوا هذه العملية، لكنها في الحقيقة هي لا تخرج عن كونها قرضًا بفائدةٍ، وينبغي -أيها الإخوة- أن نُخضِع الواقع للشرع، لا أن نلوي أعناق النصوص، ونخضع الشرع للواقع، بعض الناس تجد أنه عندما يرى تعامل الناس معاملةً معينةً؛ يحاول لي أعناق النصوص، ويتكلف للقول بالجواز، ويقول: حتى لا نُلحق الحرج بالناس، نقول: ينبغي أن نُخضع الواقع للشرع، شريعة الله تعالى هي صالحةٌ لكل زمانٍ ومكانٍ، بل ومُصلِحة، صالحةٌ ومُصلِحةٌ لكل زمانٍ ومكانٍ.

فينبغي ألا يتأثر الإنسان بضغط الواقع، وإنما تُخضع تعاملات الناس لأحكام الشريعة الإسلامية، أقول هذا وأنا أجد بعض الناس يحاول أن يتكلف في بعض التخريجات، ويحاول ما استطاع أن يقول بالجواز، فنقول: نحن لا نشدد على الناس، وأيضًا في المقابل لا نتساهل ويكون هناك ليٌّ لأعناق النصوص؛ لكي تتوافق مع أهواء ورغبات الناس، وإنما نُخضع واقع الناس لشريعة الله تعالى.

فأقول هذا لما رأيت بعض التخريجات لبعض المعاصرين التي يُشَم منها هذا النفس، وهو التكلف في التخريج للوصول للقول بالجواز، وإن كان أيضًا التشديد على الناس منهجًا خاطئًا، التشديد أو التساهل، وإنما طالب العلم ينبغي له أن يجري وفق ما يقتضيه الدليل؛ فإن كانت الأدلة تشدد في المسألة؛ يشدد فيها، إذا كانت تجعل فيها سعةً؛ فلا يشدد فيها، هذا هو المنهج الصحيح.

فإذنْ القول الصحيح في خصم الأوراق التجارية: أنها قرضٌ بفائدةٍ، وأنها محرمةٌ مطلقًا؛ وبناءً على ذلك: فلا يجوز خصم الأوراق التجارية، وما يفعله بعض الناس من أنه يعطي البنك هذه الورقة، ويقول: عجل لي مبلغ هذه الورقة، وخذ عمولةً على هذا التعجيل، نقول: إن هذا محرمٌ ولا يجوز.

ونظير ذلك أيضًا من بعض الوجوه ما تفعله بعض البنوك يقولون: نعطيك راتبك مقدمًا، نعطيك راتبك لسنةٍ أو لستة أشهرٍ أو..، مقدمًا مقابل عمولةٍ، فهذا أيضًا قرضٌ بفائدةٍ، وهذا لا يجوز، وهذا تفعله بعض البنوك، نقول: إن هذا محرمٌ ولا يجوز.

لأن البنك في الحقيقة أقرضك راتبك عدة مراتٍ، يعني يقول: أعطيك راتبك مثلًا عشر مراتٍ، لكن بشرطٍ، نحن نستلم راتبك، ونخصم عليك عمولةً، وبعضهم يلتف على هذه العمولة باسم المصاريف الإدارية، يقولون: هذه مصاريف إداريةٌ.

فنقول: إن هذا العمل أيضًا محرمٌ، وهو صورةٌ من صور القرض بفائدةٍ.

طيب، وهناك أنا ذكرت أيضًا في الكتاب بديلًا لخصم الأوراق التجارية، يعني خصم الكمبيالة، وهو بيع الورقة التجارية للمصرف بعوضٍ غير نقديٍّ، أو بعرضٍ من العروض؛ فمثلًا: صاحب هذه الورقة -الكمبيالة التي فيها مئة ألفٍ- يقول: أبيعكم إياها بسيارةٍ، فهنا تكون من قَبِيل بيع الدَّين لغير من هو عليه بالعين، فهذه الكمبيالة تمثل دينًا، وتلك السيارة تمثل العين، وبيع الدين لغير من هو عليه بعينٍ جائزٌ على القول الراجح، وهو مذهب الشافعية، واختاره أبو العباس ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى.

ونظير ذلك من بعض الوجوه: بيع القرض لدى الصندوق العقاري، يعني بعض الناس يظهر اسمه في الصندوق العقاري، ويقول: أنا ما أحتاج إليه الآن، أنا أريد أن أتنازل لشخصٍ آخر على أن يعطيني مبلغًا نقديًّا، يعني هو ثلاثمئة ألفٍ يقول: أنا أريد أن أعطيه مثلًا شخصًا مئتين وسبعين ألفًا، ويعطيني ثلاثين ألفًا مثلًا، فهذا هل هذا يجوز؟ هذا أيضًا من المسائل المختلف فيها بين العلماء المعاصرين؛ فمنهم من أجازها، ومنهم من منع، والأقرب عندي: هو أنه إذا كان ذلك بنقدٍ؛ فإنه لا يجوز؛ لأن المسألة تؤول إلى معاوضة نقدٍ بنقدٍ مع التفاضل.

وأما إذا كانت بعوضٍ غير نقديٍّ، فالذي يظهر لي أنه يجوز، والبنك نفسه أيضًا لا يمنع منه، ولكن هم يكتبون عندهم بصيغة تنازلٍ، فإذا كان بعوضٍ غير نقديٍّ فالأقرب -والله أعلم- هو القول بالجواز، فيقول مثلًا: أتنازل عن هذا القرض بسيارةٍ، بأرضٍ، بعوضٍ غير نقديٍّ، ويوثق ذلك بكتابةٍ وبشهادة شهودٍ، يظهر لي أن هذا بهذه الطريقة لا بأس بها، أما إذا كان بنقدٍ فإنها تؤول إلى معاوضة نقدٍ بنقدٍ مع التفاضل، وهذا غير جائزٍ.

أكتفي بهذا القدر في هذا الدرس، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 2651، ومسلم: 2535.
^2 رواه البخاري: 2124، ومسلم: 1526.
^3 السفتجة بضم السين أو فتحها، وبفتح التاء فيهما، وسيأتي بيان معناها، وينظر تاج العروس: (سفتج).
^4 رواه ابن عدي في الكامل: 1/ 432، وابن الجوزي في الموضوعات: 2/ 249.
^5 رواه أبو داود: 3504، والترمذي: 1234، وأحمد: 6671، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
^6 رواه مسلم: 1564.
مواد ذات صلة