الرئيسية/دروس علمية/فقه المعاملات المالية المعاصرة (1426هـ)/(11) فقه المعاملات المالية المعاصرة- التأمين وخطاب الضمان
|categories

(11) فقه المعاملات المالية المعاصرة- التأمين وخطاب الضمان

مشاهدة من الموقع

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذا هو الدرس الأخير في هذه السلسلة من هذه الدروس في هذه الدورة المباركة إن شاء الله.

كنا بالأمس القريب في الدرس الأول، ثم إذا بهذه الأيام قد مرت سريعًا، ومضت جميعًا، وها نحن في آخر هذه الدورة.

وهكذا تمر أيام العمر، وهذه الأيام والليالي هي كالخزائن؛ نُودِع فيها الأعمال، وعما قريبٍ تُفتح هذه الخزائن: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7-8].

سنتحدث في هذا الدرس -إن شاء الله- عن موضوعين:

  • الموضوع الأول: عن التأمين.
  • والثاني: عن خطاب الضمان.

التأمين

نبدأ بالموضوع الأول: وهو التأمين.

تعريف التأمين

والتأمين معناه أو تعريفه: نظامٌ تعاقديٌّ يقوم على أساس المعاوضة أو التبرع، -يعني التأمين بأنواعه- نظامٌ تعاقديٌّ يقوم على أساس المعاوضة أو التبرع، أو مختلطًا منهما، يلتزم فيه طرفٌ لآخر بتعويضٍ نقديٍّ يدفعه له عند حصول حادثٍ ونحوه، عند تحقق حادث ونحوه.

وقد أصبح هذا المصطلح معروفًا وشائعًا، بل ومطبقًا في جميع دول العالم، وينقسم إلى قسمين:

تأمينٍ تعاونيٍّ، ويسمى “تَبَادُلي”، وتأمينٍ تجاريٍّ.

ولم يكن التأمين -بوضعه المعروف الآن- معروفًا موجودًا عند الفقهاء المتقدمين، ولهذا اعتبر من النوازل في هذا العصر، وإن كان ابن عابدين قد أشار إلى بعض أنواعه في حاشيته “رد المحتار على الدر المختار”، ولكن عند الفقهاء المتقدمين لا يوجد له ذكرٌ.

حكم التأمين

ومن هنا اختلف العلماء المعاصرون في حكمه:

  • فبعض أهل العلم ذهب إلى الجواز مطلقًا، إلى أن التأمين جائزٌ بجميع أنواعه، سواءٌ كان تجاريًّا، أو تعاونيًّا، ومن أبرز من ذهب إلى هذا الرأي: الشيخ مصطفى الزَّرْقا رحمه الله، وجميع الذين أفتوا بالجواز هم عالةٌ عليه، بل إن مصطفى الزَّرْقا هو أول من أفتى بجواز التأمين مطلقًا، وكل الذين أفتوا بعده بالجواز هم عالةٌ عليه، ويرددون فقط أدلته، وله كتابٌ مطبوعٌ ومنشورٌ، ذكر وجهته في هذا.
  • والقول الثاني: عدم جواز التأمين مطلقًا، سواءٌ كان تجاريًّا أو تعاونيًّا، قال به بعض أهل العلم، وإن كانوا قلةً، ولذلك؛ بعضهم يَعتبر أن القول بمنع “التأمين التعاوني” شاذٌّ، ويَحكي الاتفاق على جواز “التأمين التعاوني”.
  • والقول الثالث: تحريم “التأمين التجاري”، وجواز “التأمين التعاوني”، القول الثالث التفصيل؛ فيحرِّم “التأمين التجاري”، ويجوِّز “التأمين التعاوني”، وهذا القول هو قول أكثر العلماء المعاصرين، وقد اتفق على هذا القول المجامع الفقهية: مجمع الرابطة، “المجمع الفقهي” التابع لرابطة العالم الإسلامي، وكذلك أيضًا: “مجمع الفقه الإسلامي الدولي” التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، و”هيئة كبار العلماء”، و”اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء”، كلها متفقةٌ على هذا الرأي، هو التفريق بين “التأمين التجاري”، و”التأمين التعاوني”؛ فيحرم “التأمين التجاري”، ويجوز “التأمين التعاوني”.

أدلة تحريم “التأمين التجاري”

ونأتي للأدلة، نبدأ بأدلة تحريم التأمين التجاري، نبدأ بالقول الثالث، فنقول:

“التأمين التجاري” محرمٌ، وذلك لما يأتي:

  • أولًا: اشتماله على الغرر الفاحش، فهو من عقود المعاوضات المالية الاحتمالية المشتملة على الغرر، فالمستأمن لا يستطيع أن يعرف وقت العقد ما له وما عليه، ومقدار ما يأخذ ويعطي؛ فقد يدفع قسطًا أو قسطين، ثم يحصل له الحادث فيأخذ أكثر مما دفع، وقد لا يحصل له حادث أصلًا، فيدفع جميع الأقساط ولا يأخذ شيئًا.
    وكذلك أيضًا بالنسبة للمؤمِّن لا يعرف ما له وما عليه، فقد يربح كثيرًا في علاقته مع هذا المستأمِن، وقد يخسر، ولا شك أن الغرر فيه ظاهرٌ، وقد نهى النبي عن الغرر؛ كما في “صحيح مسلمٍ” [1].
  • أيضًا من أدلة تحريم “التأمين التجاري”: أنه من ضروب المقامرة؛ لما فيه من المخاطرة في معاوضاتٍ ماليةٍ؛ فإن المستأمِن قد يدفع قسطًا من التأمين، ثم يقع الحادث، فيغرم له المؤمِّن كل مبلغ التأمين، وقد لا يقع الخطر، فيغنم المؤمِّن أقساط التأمين بلا مقابلٍ، وهذا من ضروب المقامرة.
  • ثالثًا: أن عقد “التأمين التجاري” يشتمل على ربا الفضل والنسيئة؛ لأن المؤمِّن من الشركة ونحوها، إذا دفعَت للمستأمِن أكثر مما دفعوا لها من النقود، فيكون ربا فضلٍ؛ لأنه مالٌ بمالٍ مع التفاضل.
    وهذا الدفع إنما يحصل بعد مدةٍ من العقد، فيكون ربا نسيئةٍ، وإذا قُدِّر أن الشركة دفعت لهذا المستأمن مثلما دفع من غير زيادةٍ ولا نقصانٍ، فيكون فيه ربا نسيئة فقط.
  • أيضًا مما اشتمل عليه هذا العقد من المحاذير: أنه من الرهان المحرم، أن عقد “التأمين التجاري” من الرهان المحرم؛ لأن فيه جهالةً وغررًا ومقامرةً، ومعلومٌ أن الشرع لم يُبِح من الرهان إلا ما كان فيه نصرةٌ لأعلام الإسلام وأدلته وبراهينه، كما مر معنا هذا في درسٍ سابقٍ، وكذلك أيضًا إذا كان في الإبل والخيل والسهام: لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر [2].
  • أيضًا: عقد “التأمين التجاري” فيه أخذٌ للمال بغير مقابلٍ، وهو محرمٌ، أخذ المال بدون مقابلٍ محرمٌ، وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [النساء:29]، هذه وجوه تحريم “التأمين التجاري”.

“التأمين التعاوني”

وأما “التأمين التعاوني”: فإنه يُبذل على وجه التكافل والتعاون، وليس على وجه المعاوضة وطلب الربح، وما كان كذلك فإن الشريعة تجيزه، ويدل لذلك: قصة الأشعريين، أو حديث الأشعريين الذين أثنى عليهم النبي ؛ فإنهم إذا أصابتهم نائبةٌ وشدةٌ وحاجةٌ، جمعوا ما عندهم وتقاسموه، وهذا نوعٌ من أنواع…، وهذا في الحقيقة هو شبيهٌ بـ”التأمين التعاوني”.

وأيضًا العاقلة في الإسلام هي أيضًا شبيهةٌ بـ”التأمين التعاوني”، العاقلة، ما معنى العاقلة؟ يعني إذا تسبب الإنسان في قتلٍ خطأٍ أو شبه عمدٍ، فإن عاقلته -يعني: قرابته من جهة العصوبة- هي التي تدفع عنه الدية، ملزمةٌ شرعًا بأن تدفع عنه الدية، جبرًا ليس اختيارًا، فكل واحدٍ…، فإذا اجتمعت هذه العاقلة ودفعت الدية، كل واحدٍ من العاقلة قد يحتاج لمثل هذا، فيشبه أن يكون هذا مثل “التأمين التعاوني”.

ثم أيضًا إذا نظرنا إلى قاعدة الشريعة نجد أن الشريعة تتسامح فيما كان مبنيًّا على الإرفاق والإحسان، والتكافل والتعاون، وعلى سبيل المثال: القرض، فإن صورة القرض في الأصل صورةٌ ربويةٌ؛ لأنه معاوضة مالٍ بمالٍ مع عدم التقابض، ولكن الإسلام أجاز هذه الصورة إذا كانت مبنيةً على الرفاق والتكافل والإحسان، وهو القرض.

ولذلك؛ إذا أصبح القرض يراد به الربح والمنفعة والعوض، رجع لصورته في الأصل فكان محرمًا، فنعرف من هنا أن قاعدة الشريعة التسامح فيما كان مبنيًّا على التكافل والتعاون، فنجد أن الشريعة أجازت هذه الصورة، مع أنها في الأصل صورةٌ ربويةٌ، القرض في الأصل صورةٌ ربويةٌ، ولكن الشريعة أجازتها؛ تشجيعًا للمجتمع المسلم على التكافل والتعاون فيما بينهم، ولذلك؛ فهناك فرقٌ بين “التأمين التجاري” و”التأمين التعاوني”، فهذه إذنْ هي وجهة أصحاب هذا القول.

أدلة من أجاز “التأمين التجاري”

وأما من أجاز “التأمين التجاري”، فمن أبرز أدلتهم في هذا:

أولًا: أن التأمين فيه مصلحةٌ كبيرةٌ، وما يوجد فيه من الغرر مغتفرٌ بجانب المصلحة الكبيرة، فإن بعض العقود أجازتها الشريعة، مع أن فيها غررًا، لما يترتب عليها من المصالح الكبيرة؛ كالجعالة مثلًا، فإن الجعالة فيها غررٌ وجهالةٌ، ولكن الشريعة أجازتها لما فيها من المصلحة، قالوا: فكذلك التأمين فيه مصلحةٌ كبيرةٌ.

والدليل على ذلك: اتفاق جميع دول العالم على الأخذ بهذا النظام؛ ما يدل على أن جميع العقلاء يرون أن فيه مصلحةً.

وأُجيبَ عن هذا: بأن هذا الاستدلال غير صحيحٍ؛ لأن مصالح الشرع على ثلاثة أقسامٍ:

  • قسمٍ شهد الشرع باعتباره؛ فهو حجة.
  • وقسمٍ سكت عنه الشرع، فلم يشهد له باعتبارٍ ولا بإلغاءٍ، فهو مصلحةٌ مرسلةٌ، وهو محل اجتهادٍ.
  • والقسم الثالث: ما شهد الشرع بإلغائه.

وعقود التأمين فيها محاذير شرعيةٌ، ذُكرت في أدلة القول الأول، فتكون من القسم الثالث، تكون مما شهد الشرع بإلغائه؛ لغلبة جانب المفسدة على جانب المصلحة.

الدليل الثاني من أدلة القائلين بالجواز: قياس نظام “التأمين التجاري” على العاقلة، قالوا: العاقلة ضربٌ من ضروب التأمين، فإذا كانت العاقلة تجوز، فالتأمين مطلقًا يجوز، ولا نخصه بـ”التأمين التعاوني”.

وأجيبَ عن هذا الاستدلال: بأن هذا القياس قياسٌ مع الفارق؛ لأن الأصل في تحمل العاقلة للدية؛ لِمَا يكون بين أفراد العاقلة من الرحم والقرابة التي تدعو إلى النصرة والتواصل والتعاون، وإسداء وبذل المعروف، ولو بدون مقابلٍ، فهي إذنْ مبنيةٌ على التكافل والتعاون بين أفراد العاقلة، وليست مبنيةً على الربحية والمعاوضة.

بينما عقود التأمين عقودٌ تجاريةٌ استغلاليةٌ، تقوم على معاوضاتٍ ماليةٍ محضةٍ، ولا تمت إلى عاطفة الإحسان وبواعث الرحمة والمعروف بصلةٍ، فرقٌ كبيرٌ بين العاقلة وبين عقود التأمين التجارية، وبهذا لا يستقيم هذا الاستدلال.

أيضًا من أبرز أدلة القائلين بالجواز: قياس عقود “التأمين التجاري” على نظام التقاعد، قالوا: فإذا منعتم “التأمين التجاري”، فقولوا إذنْ بتحريم التقاعد، قولوا بتحريم معاشات التقاعد؛ لأن التقاعد ضربٌ من ضروب التأمين؛ فإنه يؤخذ من الموظف كل شهرٍ قسطٌ، ثم يسلم له بعد تقاعده، وقد يحصل على أكثر مما بَذَل، وقد يحصل على أقل، قالوا: فنظام التقاعد هو من ضروب التأمين، فيلزمكم أنتم إذا قلتم، يعني أيها الجمهور، إذا قلتم بتحريم “التأمين التجاري” أن تقولوا أيضًا بتحريم نظام التقاعد.

ولكن هذا الاستدلال أيضًا محل نظرٍ؛ إذ إن هذا القياس قياسٌ مع الفارق؛ لأن ما يعطَى الموظف بعد التقاعد حقٌّ التزم به ولي الأمر باعتباره مسؤولًا عن رعيته، وراعَى في صرفه ما قام به الموظف من عملٍ وخدمةٍ، ووضع فيه نظامًا راعَى فيه مصلحة أقرب الناس للموظف أيضًا، ونظر فيه إلى مظنة الحاجة.

ثم إن التقاعد أيضًا تتبرع الدولة بنصف المبلغ، يعني يستقطع من الموظف نصف المبلغ، والدولة تتبرع بنصف المبلغ الآخر، فليست معاوضةً ماليةً محضةً؛ وإنما هو حقٌّ التزمت به الدولة تجاه موظفيها، وهذا بخلاف التأمين التجاري الذي يقوم على المعاوضة المحضة، وتريد أو تقصد منه الشركات الحصول على الأرباح والكسب، ففرقٌ بينهما، ولذلك؛ لا يصح مثل هذا القياس.

ثم إن الموظف إذا أراد تصفية حقوقه قبل بلوغ سن التقاعد، تصفَّى له كل حقوقه، ويعطى ما اقتطع منه، ولكنه إذا بقي إلى انتهاء المدة النظامية، فإنه يعطَى ما اقتُطع منه، وتبرع أيضًا من الدولة لهذا الموظف، وإذا توفي فيصرف لورثته بطريقةٍ روعي فيها مسألة احتياج الورثة.

فإذنْ قياس “التأمين التجاري” على نظام التقاعد قياسٌ مع الفارق.

أيضًا من أدلة القائلين بالجواز: قياس عقود “التأمين التجاري” على عقود الحراسة، قالوا: فكما أنك إذا استأجرت لك حارسًا يحرس البيت أو الطريق، فإنك تعطيه مالًا مقابل الأمان، فإن هذا الحارس إنما فقط استفدت منه الأمان، وهكذا أيضًا في عقود “التأمين التجاري” تستفيد ببذل هذا المال الذي تدفعه للشركة الأمان عندما يحصل لك حادثٌ ونحوه، فإذا جاز بذل المال على عقود الحراسة لأجل الأمان، فيجوز بذل المال لشركات التأمين لأجل الأمان.

ولكن هذا القياس أيضًا قياسٌ مع الفارق؛ فإن الأمان ليس مَحَلًّا للعقد في المسألتين، وإنما محله في التأمين الأقساط، وهو مبلغ التأمين، ومحله في الحراسة الأجرة وعمل الحارس، هذا هو محل العقد، الأجرة وعمل الحارس، وأما الأمان فليس محلًّا للعقد، وإنما هو غايةٌ ونتيجةٌ، ولو قلنا: إن الأمان هو محل العقد، لما استحق الحارس الأجرة عند ضياع المحروس، فالواقع أن الحارس يستحق الأجرة مطلقًا، وهذا يدل على أن الأمان ليس هو محل العقد في المسألتين جميعًا، في مسألة التأمين ليس محلًّا للعقد؛ وإنما محله الأقساط ومبلغ التأمين، وفي مسألة الحراسة أيضًا محل العقد ليس هو الأمان؛ وإنما هو الأجرة وعمل الحارس.

هذه هي أبرز أدلة من قال بالجواز، وكما ترون أدلةٌ لا تستقيم، وهذه الأدلة كلها ذكرها الشيخ مصطفى الزرقا في كتابه “التأمين”، وتناقلها مَن بعده ممن قال بالجواز.

التفريق بين “التأمين التجاري” و”التعاوني”

وبهذا يتبين القول الراجح في هذه المسألة -والله أعلم- هو ما عليه جمهور العلماء المعاصرين: وهو التفريق بين “التأمين التجاري” و”التأمين التعاوني”، فيكون “التأمين التجاري” محرمًا، و”التأمين التعاوني” جائزًا.

و”التأمين التعاوني” من أبرز صوره: ما يسمى بـ”صناديق الأسر والعوائل”، فيوضع مثلًا صندوقٌ لأسرة من الأسر، ويقال: من أراد أن يتبرع لهذا الصندوق بقسطٍ شهريٍّ أو سنويٍّ، وإذا حصل لأي واحدٍ من أفراد الأسرة حادثٌ أو مثلًا حاجةٌ ملحةٌ، أو نحو ذلك أخذ منه، هذا يعتبر من صور “التأمين التعاوني”، ولا بأس به.

أما التأمين الذي تمارسه الشركات الآن فهو في جملته تأمينٌ تجاريٌّ، وليس تعاونيًّا، وإن سموه تأمينًا تعاونيًّا؛ لأنه حتى يكون تأمينًا تعاونيًّا لا بد أن يقصد به التعاون والتكافل، والواقع أن هذه الشركات ما قامت أساسًا إلا لأجل طلب الربح والكسب، ولذلك؛ فإنها بعيدةٌ عن تحقيق “التأمين التعاوني”.

ولكن وجود مثل الشركات التي تحقق “التأمين التعاوني” ليس مستحيلًا، ومع الأسف! وجد في بلاد الغرب شركاتٌ تحقق “التأمين التعاوني”، وكان الأجدر أن توجد في بلاد المسلمين، لكن الشركات الموجودة لدينا الآن هي في جملتها تقوم على “التأمين التجاري”، وليس “التأمين التعاوني”.

ويفترض إذا قامت شركة بـ”التأمين التعاوني” أن تقوم فقط بإدارة أقساط التأمين، ولذلك؛ التسمية الدقيقة لها أن نقول: شركة إدارة تأمينٍ، ليست شركة تأمينٍ، إدارة تأمينٍ، فهي تأخذ إدارة الشركة فقط الأجرة على إدارة هذه الأقساط مقابل أتعابٍ فقط، إما أجرةً ثابتةً، أو بنسبةٍ من الأقساط، لكن أنها تأخذ الأموال من هؤلاء المستأمنين، ولا تعيدها لهم، وتتملكها وتعتبرها وسيلةً من وسائل الكسب والربح فهذا هو “التأمين التجاري”.

لكن لو وجدت شركة هي فقط تأخذ مقابل أتعابها، وأما أقساط التأمين فهي تعمل فيها وتستثمرها لصالح هؤلاء المستأمنين، فهذا هو “التأمين التجاري”، فتكون إدارة الشركة إنما فقط تدير هذه الأقساط.

والأكمل في هذا والأحسن: ألا ترجع الأقساط إلى المستأمنين، وأن تخلص منها شائبة المعاوضة المالية قدر المستطاع؛ لأنها إذا أعيدت، أعيد الفائض إلى المستأمنين، أصبح فيها معاوضةٌ، فأكمل درجات صور “التأمين التعاوني” هو مثل ما ذكرت، ما تمثله صناديق الأسر والعوائل، بحيث لا تعاد الأقساط إلى المستأمنين، وإنما تستثمرها إدارة الشركة، وتخفض الأقساط في المستقبل على هؤلاء، وتكون هذه الأموال تُستثمر لهؤلاء الذين بذلوا أموالهم على سبيل التكافل والتعاون فيما بينهم، وليس على سبيل الربح والمعاوضة.

ولكن لو أعيد لهؤلاء المستأمنين بعض الأموال الفائضة، فأيضًا تكون من صور “التأمين التعاوني” إذا كانت الشركة إنما فقط تديرها إدارةً، ولكن تبقى فيها شائبة المعاوضة، ونحن نقول: إن “التأمين التعاوني” كلما تخلصنا من شائبة المعاوضة، كلما كان أكمل وأحسن؛ لأنه -كما ذكرنا- يقوم على الأرفاق والتكافل، ولا يقوم على المعاوضة وطلب الربح والكسب.

كما ذكرتُ، الشركات في جملتها الآن الموجودة تمارس “التأمين التجاري”، وليس “التأمين التعاوني”، ولكن مع الأسف! بعض الشركات مع ممارستها لـ”التأمين التجاري”، وتسميتها له بـ”التأمين التعاوني”، استغلت فتاوى العلماء للتغرير بالناس؛ فعلى سبيل المثال: شركةٌ من الشركات الكبرى في التأمين علقت فتوى “هيئة كبار العلماء” في “التأمين التعاوني” في مدخل الشركة، وقالت: إنها تسير على هذه الفتيا وقد نُقل هذا إلى مشايخنا في “دار الإفتاء” في وقت سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله، وأصدروا في هذا بيانًا، هذا البيان مُوَقَّعٌ من سماحة شيخنا عبدالعزيز بن بازٍ، وسماحة المفتي العام الآن، الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ، والشيخ عبدالله الغديان، والشيخ صالح الفوزان، والشيخ بكر أبو زيد.

وجاء في هذا البيان: “سبق أن صدر من هيئة كبار العلماء قرارٌ بتحريم “التأمين التجاري” بجميع أنواعه؛ لما فيه من الضرر… إلخ، كما صدر قرارٌ من “هيئة كبار العلماء” بجواز “التأمين التعاوني”، وهو الذي يكون من تبرعات المحسنين، ويقصد به مساعدة المحتاج والمنكوب، ولا يعود منه شيءٌ للمشتركين؛ لا رؤوس أموالٍ ولا أرباحٌ، ولا أي عائدٍ استثماريٍّ؛ لأن قصد المشترك ثواب الله سبحانه، وهذا واضحٌ لا إشكال فيه.

ولكن ظهر في الآونة الأخيرة من بعض المؤسسات والشركات تلبيسٌ على الناس، وقلب للحقائق؛ حيث سمَّوا “التأمين التجاري” المحرم تأمينًا تعاونيًّا، ونسبوا القول بإباحته إلى “هيئة كبار العلماء”؛ من أجل التغرير بالناس والدعاية لشركاتهم.

و”هيئة كبار العلماء” بريئةٌ من هذا العمل كل البراءة؛ لأن قرارها واضحٌ في التفريق بين “التأمين التجاري” و”التأمين التعاوني”، وتغيير الاسم لا يغير الحقيقة، ولأجل البيان للناس، وكشف التلبيس ودحر الكذب والافتراء صدر هذا البيان، المفتي العام سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز”، وعليه توقيع أعضاء اللجنة.

فهذا البيان صدر؛ لأجل كشف هذا التلبيس الذي مارسته هذه الشركات، تمارس “التأمين التجاري”، وتسميه “التعاوني”، وتنسبه لـ”هيئة كبار العلماء”، وتغرر بالعامة، العامة لا يفرقون، يأتي وينظر إلى هذا القرار أو الفتوى لا يفرق، ما عنده مجالٌ للتدقيق والتأكد.

فينبغي -يا إخوان- التنبه والتنبيه على هذا، ونأمل أنه توجد في المستقبل -إن شاء الله- شركاتٌ لـ”التأمين التعاوني”، وهذا يحتاج في الحقيقة إلى فقهاء يقومون بصياغة نظام الشركة من الأساس؛ حتى يكون تأمينًا تعاونيًّا.

أما أن الشركة تقوم، ثم تريد أن تحول هذا التأمين إلى تأمينٍ تعاونيٍّ، فإن هذا يكون صعبًا؛ لأنها إذا قامت الشركة قامت على أساس طلب الربح والكسب، وهذا لا يتفق مع طبيعة “التأمين التعاوني”؛ “التأمين التعاوني” قائمٌ على التكافل والإرفاق، فإذا قامت الشركة وهدفها الأساسي الكسب والربح، هنا تَرِد الإشكالية.

والواقع أن الأنظمة التي صدرت من ولي الأمر هي بـ”التأمين التعاوني؛ فمثلًا: التأمين على السيارة، الذي صدر بقرار مجلس الوزراء بتاريخ: 12/ شعبان/ 1422 هـ، جاء فيه الإلزام بـ”التأمين التعاوني” تجاه الغير على رخص السائقين، وأيضًا جاء في لائحة التأمين التي صدرت: أن التأمين يكون تأمينًا تعاونيًّا، ومتوافقًا مع الشريعة الإسلامية، فالأنظمة كلها تنص على أن التأمين تعاونيٌّ، حتى التأمين الصحي أيضًا منصوصٌ عليه أنه تأمينٌ تعاونيٌّ، فالخلل في التطبيق، وإلا، فالأنظمة كلها على “التأمين التعاوني” الذي لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية.

وهنا أؤكد على ما ذكرته سابقًا، من أن الأنظمة ليس فيها إشكاليةٌ، الأنظمة التي تصاغ ليس فيها إشكاليةٌ، مثلًا ما ذكرت بالأمس: نظام الأوراق التجارية ليس فيه إشكاليةٌ، بل في مادة كل ما يتعارض مع الشريعة الإسلامية فهو مُلغًى، فالأنظمة التي تصاغ، تصاغ بطريقةٍ جيدةٍ، ولكن الإشكالية تأتي من جهة التطبيق والتنفيذ من هذه الحيثية.

فنجد مثلًا هنا قرار مجلس الوزراء واضحًا في أن الإلزام إنما هو بـ”التأمين التعاوني” وليس التجاري، ولكن المطبَّق الآن هو “التأمين التجاري”؛ لعدم وجود شركاتٍ تطبق “التأمين التعاوني”، ولكن نأمل في المستقبل أن توجد وتقوم مثل هذه الشركات، خاصةً إذا نشر الوعي بهذا، فإن انتشار الوعي مهمٌّ جدًّا لقيام مثل هذه الشركات، فإذا حصل توعيةٌ للمجتمع بمثل هذا، فأظن أن هذه الشركات ستقوم في القريب إن شاء الله، ولكن لا بد أيضًا من نشر مثل هذا الكلام، وتوعية المجتمع بمثل هذا.

يعني كما مثلنا في دروسٍ سابقةٍ بالشركات النقية والشركات المختلطة، لمَّا حصل وعيٌ من المجتمع بهذا أصبحت الشركات النقية في تزايدٍ، هكذا أيضًا إذا أصبح وعيٌ بـ”التأمين التعاوني”، وأنه هو المتوافق مع الشريعة من خلال “التأمين التجاري”، فإن هذا الوعي ربما يتولد منه قيام هذه الشركات التعاونية.

ولكن عندما نريد أن نعالج الآن الوضع القائم، الآن التأمين أصبح إلزاميًّا، والشركات القائمة الآن تمارس “التأمين التجاري”، وإن أسمته تأمينًا تعاونيًّا، فما الحكم في هذه الحال؟

نقول: لا حرج على الإنسان في الاشتراك في هذا التأمين باعتبار أنه ملزمٌ ومجبرٌ على هذا، لا حرج عليه، ولا يُلزَم بالتهرب منه؛ لأن بعض الإخوة يحاول مثلًا أن يتهرب من هذا التأمين، هذا فيه الوقوع في الحرج، خاصةً المسألة خلافيةٌ أيضًا، وهذا مما يجعل المسألة أخف.

فنحن نقول: الدخول في هذا التأمين بهذه الطريقة مع هذا الإلزام لا حرج فيه على المكلف، باعتبار أنه مجبرٌ وملزمٌ، ويلحقه حرجٌ لو لم يفعل ذلك، ولكن إذا دخل في هذا التأمين باعتبار أنه مجبرٌ، ووقع له حادثٌ مثلًا، وألزم الطرف الآخر بأن يدفع له أو يتكفل بأن يدفع له مقابل التلف الحاصل في السيارة مثلًا، وكان ما يدفعه له عن طريق شركة التأمين أكثر مما بذله، يعني مثلًا دفع قسطين، ونفترض أنه بخمسمئة ريالٍ، بعد ما دفع قسطين حصل له حادث سيارةٍ، فالتزمت شركة التأمين بأن تدفع تكاليف التلف الحاصل من هذا الحادث، ولنفترض أنه ثلاثة آلاف ريالٍ، فهنا الآن سيأخذ أكثر مما دفع، فما حكم هذا؟

اختلف العلماء المعاصرون في هذه المسألة، فقال بعضهم: إنه ليس له أن يأخذ إلا بقدر ما دفع، إذا كان لم دفع مثلًا إلا خمسمئة ريالٍ، ليس له أن يأخذ إلا خمسمئة ريالٍ فقط، قالوا: لأنه إذا أخذ أكثر مما دفع يكون قد أخذ مالًا بغير حقٍّ، ويكون هذا من أكل أموال الناس بالباطل.

والقول الثاني في المسألة: أنه يجوز أن يأخذ ما بُذل له، ولو كان أكثر مما دفع، يجوز أن يأخذ ما بذل له، ولو كان أكثر مما دفع؛ لأنه إذا جاز الدفع جاز الأخذ، ولأن قاعدة الشريعة أن الغُنم بالغُرم، والخَراج بالضمان، ولأن هذا أقرب إلى تحقيق العدل؛ إذ إن هذا الشخص لو أنه لم يحصل له حادثٌ، لأخذت منه أموالٌ كثيرةٌ، فكيف نقول نجبره على، أو نقول له: إذا كان الحق عليك فابذله وادفعه، ولو بذلت أموالًا كثيرةً، ثم إذا كان الحق لك لا تأخذ إلا بقدر ما دفعت، هذا فيه شيءٌ من عدم العدل، وهذا القول هو الأقرب: أنه إذا جاز الدفع، جاز الأخذ، والخراج بالضمان، والغنم بالغرم، وهذا هو أقرب إلى العدل من القول الأول؛ إذ كيف نقول لهذا الشخص: ادفع لشركات التأمين ولو بأكثر مما تأخذ، أما إذا كان الحق لك، فلا تأخذ إلا بقدر ما دفعت؟ فهذا فيه شيءٌ من عدم الإنصاف، وعدم العدل، وفيه مراعاةٌ لجانبٍ دون جانبٍ، لماذا تراعي شركات التأمين، ولا تراعي هذا الفرد المسكين؟! فتقول لهذا الفرد: لا تأخذ إلا بقدر ما دفعت، طيب، وإذا لم يحصل له حادثٌ أُخذ منه المال بغير حقٍّ، فكما أنه يؤخذ منه المال، فأيضًا إذا حصل له حادثٌ ينبغي أن يأخذ المال أيضًا، هذا هو الأقرب للإنصاف وإلى تحقيق العدل، والله تعالى أعلم.

هذه نبذةٌ مختصرةٌ عن هذا الموضوع، وإلا، فالكلام فيه طويلٌ جدًّا، بل فيه رسائل علميةٌ، رسائل دكتوراه، ولكن هذه نبذةٌ مختصرةٌ.

“خطاب الضمان”

الموضوع الثاني والأخير معنا في هذه السلسلة من الدروس هو عن خطاب الضمان:

وخطاب الضمان تنشأ الحاجة إليه عند الدخول في مناقصات ونحوها؛ للقيام بأعمالٍ معينةٍ؛ كتنفيذ مشاريع مثلًا، أو تأمين أشياء، فتقوم الجهات الطالبة لذلك بطلب خطاب ضمانٍ من المتقدم للدخول في تلك المناقصات.

فمثلًا: تشترط الدوائر الحكومية على من يريد الدخول في مناقصة تنفيذ مشروعٍ معينٍ، أو تأمين أشياء معينةٍ، يقولون: من يريد الدخول في هذه المناقصة لا بد أن يأتي بخطاب ضمانٍ، خطاب الضمان هذا تصدره البنوك.

والغرض من طلب خطاب الضمان هذا للجهات الطالبة له؛ كالدوائر الحكومية مثلًا:

أولًا: يكون هذا الخطاب بمثابة التأمين، التأمين في حالة التخلف عن إنجاز هذه المشاريع، فيخصم عليه منها.

وأيضًا من فوائد خطاب الضمان هذا: ضمان جدية عرض كل من يريد الدخول في المناقصة، بأن يكون إنسانًا جادًّا، ليس إنسانًا متلاعبًا، أو يريد أن يجرب.

وأيضًا من فوائد خطاب الضمان، أو من فوائد طلب خطاب الضمان: عدم التورط في خسائر وديونٍ في حالة رُسُوِّ العملية على هذا المتقدم، فيكون هذا خطاب الضمان هذا بمثابة التأمين لهذا الشخص المتقدم للدخول في هذه المناقصة.

فكأن هذه الجهات الطالبة لخطاب الضمان؛ كالدوائر الحكومية مثلًا، تقول لمن يريد الدخول في هذه المناقصة: أعطونا تأمينًا، لكن بدل أن يطلبوا التأمين نقدًا، يطلبوه عن طريق هذا الخطاب الذي تصدره البنوك.

ولهذا يمكن أن نعرِّف “خطاب الضمان” بأنه: تعهدٌ من البنك بقبول دفع مبلغٍ معينٍ لدى الطلب إلى المستفيد في ذلك الخطاب نيابةً عن طالب الضمان، عند عدم قيام طالب الضمان بالتزاماتٍ معينةٍ تجاه المستفيد.

إذنْ هو تعهدٌ من البنك بقبول دفع مبلغٍ معينٍ لدى الطلب إلى المستفيد في ذلك الخطاب نيابةً عن طالب الضمان عند عدم قيام طالب الضمان بالتزاماتٍ معينةٍ تجاه المستفيد، يعني هو يشبه التأمين، كأن البنك يقول: نحن نلتزم بأن ندفع لهذه الجهة في حدود قيمة خطاب الضمان هذا عند مثلًا عدم تنفيذ المطلوب منه، أو عند الخصم عليه ونحو ذلك.

خطاب الضمان هذا، إما أن يكون بغطاءٍ، أو يكون بدون غطاءٍ؛ إذا كان بغطاءٍ فمعنى ذلك: أن طالب خطاب الضمان له رصيدٌ يغطي قيمة خطاب الضمان هذا، يعني لو كان خطاب الضمان هذا مثلًا مئة ألف ريالٍ قيمته، وهذا في رصيده مثلًا مئة ألف رياٍل أو يزيد، فهذا يقال: إنه له غطاءٌ.

لكن لو كان مثلًا هذا الذي يريد الدخول في المناقصة طُلب منه خطاب ضمان، وخطاب الضمان هذا قيمته مئة ألف ريالٍ، رصيده عشرة آلاف ريالٍ، لكن البنك لا مانع لديه -ثقةً منه في هذا العميل- أن يعطي خطاب ضمان بمئة ألف ريالٍ، فهذا يعتبر خطاب ضمان بدون غطاءٍ.

والتكييف الفقهي لخطاب الضمان: خطاب الضمان إذا كان بغطاءٍ فإن العلاقة بين طالب خطاب الضمان، وبين مصدره الذي هو البنك هي الوكالة، إذا كان بغطاءٍ فالعلاقة هي الوكالة؛ كأن هذا الشخص يقول للبنك: وكَّلتك في أن تصدر لي هذا الخطاب بهذه الطريقة، والوكالة تصح بأجرٍ وبدون أجرٍ.

ولذلك؛ لو أخذ البنك عمولةً على هذا الخطاب فلا إشكال فيها، أما إذا كان خطاب الضمان بدون غطاءٍ، فالتكييف الفقهي له أنه ضمانٌ أو كفالةٌ، فكأن هذا البنك يضمن هذا الشخص الذي يريد الدخول في المناقصة، يضمنه أمام الجهة الحكومية مثلًا.

والبنك عندما يصدر خطاب الضمان لا يصدره مجانًا؛ وإنما يتقاضى عمولة عليه، والإشكال هنا في هذه العمولة، يعني إصدار خطاب الضمان ليس فيه إشكالٌ إلا من جهة العمولة التي يأخذها البنك عليه.

نقول: هذه العمولة ما كان منها مصاريف يأخذها البنك مقابل خدماتٍ فعليةٍ حقيقيةٍ، فإنه لا بأس بها، ما كان مصاريف يأخذها البنك مقابل خدماتٍ فعليةٍ حقيقيةٍ، فإنه لا بأس بها، ولا إشكال فيها، أما أخذ العمولة مقابل إصدار خطاب الضمان، فإنها لا تجوز؛ لأن أخذ مقابلٍ على الضمان محرمٌ شرعًا، فالضمان من عقود الإرفاق والإحسان.

ولذلك؛ لا يجوز أخذ عوض مقابل الضمان، لو قال شخصٌ لآخر: اضمني ولك ألفٌ، هذا لا يجوز، محرمٌ، الضمان من عقود الإرفاق والإحسان؛ كالقرض، لا يجوز أخذ مقابلٍ عليه، ولا عوضٍ عليه، واتفقت المذاهب الأربعة على هذا: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة.

وبهذا نعرف أن نظرة الإسلام للضمان تختلف عن نظرة البنوك للضمان؛ فالإسلام ينظر للضمان كما ينظر للقرض على أنه من عقود الإرفاق والإحسان، بينما البنوك تنظر للضمان على أنه من وسائل الكسب والاستثمار، فهنا ترد الإشكالية.

ولذلك نقول: لا يجوز أخذ عوضٍ من البنك على خطاب الضمان هذا، أما إذا كان بدون غطاءٍ فهو ظاهرٌ؛ لأننا قلنا في التكييف الفقهي: أن العلاقة علاقة ضمانٍ، أما إذا كان بغطاءٍ، فهل يجوز أخذ عمولةٍ على خطاب الضمان؟

نقول: ما كان مقابل مصاريف إداريةٍ لا إشكال فيه، ما زاد على ذلك لا يجوز، حتى ولو كان بغطاءٍ؛ لأنه وإن كانت العلاقة بينهما علاقة وكالةٍ، إلا أنه تبقى علاقة الكفالة أيضًا، فهو وكيلٌ وكفيلٌ في نفس الوقت، البنك وكيلٌ وكفيلٌ في نفس الوقت.

ولهذا؛ ليس للبنك أن يأخذ على خطاب الضمان سوى الخدمات والمصاريف الإدارية فقط.

قد صدر في هذا قرار من “المجمع الفقهي الدولي” التابع أو المنبثق من “منظمة المؤتمر الإسلامي”، وجاء فيه: أن خطاب الضمان بأنواعه إما أن يكون بغطاءٍ أو بدون غطاءٍ؛ فإن كان بدون غطاءٍ فهو ضم ذمة الضامن إلى غيره فيما يلزم حالًا أو مآلًا، وهذه هي حقيقة ما يُعنَى في الفقه الإسلامي باسم الضمان أو الكفالة.

وإن كان خطاب الضمان بغطاءٍ فالعلاقة بين طالب خطاب الضمان، أو بين مصدره الوكالة، والوكالة تصح بأجرٍ أو بدونه، مع بقاء علاقة الكفالة لصالح المستفيد المكفول له.

ثانيًا: أن الكفالة هي عقد تبرعٍ يقصد به الإرفاق والإحسان، وقد قرر الفقهاء عدم جواز أخذ العوض عن الكفالة؛ لأنه في حالة أداء الكفيل مبلغ الضمان يشبه القرض الذي جر نفعًا على المقرض، وذلك ممنوعٌ شرعًا.

ثالثًا: خطاب الضمان لا يجوز أخذ الأجر عليه لقاء عملية الضمان، والتي يراعى فيها إعادة مبلغ الضمان ومدته، سواءٌ كان بغطاءٍ أو بدون غطاءٍ.

إذنْ لا يجوز أخذ عمولةٍ على خطاب الضمان، سواءٌ كان بغطاءٍ أو بدون غطاءٍ.

أيضًا جاء في القرار: أن المصاريف الإدارية لإصدار خطاب الضمان بنوعيه جائزةٌ شرعًا، مع مراعاة عدم الزيادة على أجر المثل، وفي حالة تقديم الغطاء كليًّا أو جزئيًّا يجوز أن يراعى في تقدير المصاريف لإصدار خطاب الضمان ما قد تتطلبه المهمة الفعلية لأداء ذلك الغطاء.

يعني: ما كان مقابل مصاريف إداريةٍ وخدماتٍ فعليةٍ حقيقيةٍ لا بأس، ما كان مقابل الضمان لا يجوز، ولكن هنا ينبغي أن يُتأكد من أن تكون المصاريف والخدمات الفعلية حقيقيةً، ولا تكون غطاءً؛ لأنها أيضًا ربما إذا قلنا مثل هذا الكلام، كل البنوك ستقول: العمولة التي نأخذها مقابل خدماتٍ ومصاريف، فلا بد أن تكون مقابل مصاريف وخدماتٍ فعليةٍ حقيقيةٍ.

فإذنْ خلاصة الكلام في خطاب الضمان: أنه لا يجوز أخذ عمولةٍ من البنك عليه، سواءٌ كان بغطاءٍ أو بدون غطاءٍ، ويجوز أخذ ما كان مقابل مصاريف وخدماتٍ فعليةٍ حقيقيةٍ.

وهذه نبذةٌ مختصرةٌ عن هذا الموضوع.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه مسلم: 1513.
^2 رواه أحمد: 10138.
مواد ذات صلة