الرئيسية/دروس علمية/فقه المعاملات المالية المعاصرة (1426هـ)/(2) فقه المعاملات المالية المعاصرة- الأسهم والسندات والشركة
|categories

(2) فقه المعاملات المالية المعاصرة- الأسهم والسندات والشركة

مشاهدة من الموقع

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه، ومَن اهتدى بهديه، واتَّبع سُنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فحديثنا في هذا الدرس عن موضوعٍ من موضوعات المعاملات المالية المعاصرة، وهو في غاية الأهمية؛ نظرًا لمُعايشته لواقع الناس، ولكثرة الأسئلة والاستفسارات حوله، ويحتاج إلى شيءٍ من التقعيد والتأصيل الذي إذا فُهم فإنه يمكن من خلاله معرفة آحاد المسائل التي تُطرح وتُعرض.

الأوراق المالية (الأسهم والسندات)

سنتحدث -إن شاء الله تعالى- عن أحكام الأوراق المالية التي هي الأسهم والسندات، ثم ننتقل للحديث عن الشركات المساهمة، وما الذي يُباح منها، وما الذي لا يُباح، ثم ننتقل للكلام عن الصناديق الاستثمارية وحكمها.

وهذا الموضوع -كما ترون- هو حديث الساعة كما يُقال؛ حيث انصرف كثيرٌ من الناس إلى التعامل بالأسهم، بل ربما أمضوا كثيرًا من أوقاتهم في هذه التعاملات، وربما اقتطعوا جزءًا من أوقات عملهم مُطالَبين به في مُتابعة الأسهم وارتفاعها أو انخفاضها، ونحو ذلك.

وقد اختلفت الفتاوى الموجودة والقائمة اختلافًا كثيرًا، وأصبح بعض العامة عنده شيءٌ من الاضطراب؛ بحيث يرى هذا الاختلاف، ولا يستطيع التمييز بينها، فمن قائلٍ بحِلٍّ، ومن قائلٍ بالحُرمة.

فمثل هذا الموضوع موضوعٌ في غاية الأهمية، يحتاج إلى تأصيلٍ، وإلى معرفة آراء العلماء المعاصرين فيه، وإلى أدلتهم، ثم مناقشة هذه الأدلة مناقشةً علميةً، ثم بيان القول الراجح في المسألة حسبما يقتضيه الدليل والقواعد الشرعية.

عندنا الأوراق المالية، والأوراق التجارية، والأوراق النقدية.

فإذا قيل: الأوراق المالية، فالمقصود بها: الأسهم والسندات؛ ولهذا إذا قيل: سوق الأوراق المالية، يعني: سوق الأسهم والسندات.

وأما الأوراق التجارية فهي: (الكمبيالات) والشيكات والسندات لإذنٍ على سبيل الحصر، وليس على سبيل المثال، وهذه -إن شاء الله- سنتكلم عنها أيضًا في درسٍ قادمٍ.

والأوراق النقدية معروفةٌ، فهي العملات النقدية، فعندنا -مثلًا- هنا في المملكة الريال، وفي غير المملكة عُملاتٌ كثيرةٌ: الدولار، واليورو، والجنيه … إلخ.

وهذه الأوراق النقدية سنتكلم عنها -إن شاء الله تعالى- في درسٍ قادمٍ.

معنى الأسهم والسندات

سنبدأ في الحديث عن الأوراق المالية التي تعني: الأسهم والسندات.

الأسهم: نريد أن نعرف ما المقصود بها؟

والسندات: ما المقصود بها؟

وما الفرق بينهما؟

تعريف الأسهم والسندات

الأسهم جمع سهمٍ، وهو حصةٌ في رأس مال شركةٍ.

هذا معنى الأسهم: جمع سهمٍ، والسهم باختصارٍ: حصةٌ في رأس مال شركةٍ، وكل سهمٍ جزءٌ من أجزاء مُتساويةٍ لرأس المال.

نوضح هذا بمثالٍ بسيطٍ: نحن معشر الموجودين في هذا المسجد لو اتَّفقنا على تكوين شركةٍ، أو إنشاء -مثلًا- مكتبةٍ، وقلنا: هذه المكتبة نريد من الجميع الاشتراك فيها على شكل أسهمٍ، والسهم -مثلًا- بخمسمئة ريالٍ.

فمنا -مثلًا- مَن ساهم بسهمٍ، ومنا مَن ساهم بسهمين، أو عشرة، أو أكثر، أو أقلّ.

فنحن بمجموع هذه الأسهم نُكوِّن هذه الشركة، وهذا هو المقصود بالأسهم؛ ولهذا -مثلًا- تجد الشركات المُساهمة هي من هذا القبيل، مثل: شركة زراعية، صناعية، لكن الأسهم فيها كثيرةٌ جدًّا؛ ولذلك يكون رأس المال ضخمًا بالملايين.

وسنعود للكلام عنها عندما نعرف الشركات المُساهمة، لكن فقط هذه نبذةٌ مُختصرةٌ حول معنى السهم.

وأما السند فمعناه أو تعريفه: هو صكٌّ يتضمن تعهدًا من المصرف أو الشركة ونحوهما لحامله بسداد مبلغٍ مُقررٍ في تاريخٍ معينٍ نظير فائدةٍ.

إذن هو صكٌّ يتضمن تعهدًا من مصرفٍ أو من شركةٍ ونحوهما لحامله بسداد مبلغٍ مُقررٍ في تاريخٍ معينٍ نظير فائدةٍ بسبب قرضٍ عقدته شركةٌ أو هيئةٌ قد تحتاج إلى مبلغٍ من المال لتوسيع أعمالها.

فالمعنى إذن: أن هذه الهيئة أو الشركة أو البنك أو المؤسسة تحتاج إلى مبالغ نقديةٍ، فتطرح سنداتٍ، وتقول: مَن دفع قيمة هذا السند نُعطيه هذا السند.

وهذا السند يتضمن فائدةً ربويةً.

يعني: يقولون -مثلًا-: أعطنا الآن عشرة آلاف ونُعطيك سندًا بأحد عشر ألفًا يحلّ بعد سنةٍ.

هذا هو المقصود بالسندات.

وتستفيد هذه المؤسسة أو الجهة أو الهيئة أنها تحصل على ما تريد من المبالغ من الجمهور، والجمهور هنا الذي يتقدم لهم يريد أن يحصل على هذه الفوائد من هذه السندات، فيُعطيهم -مثلًا- عشرة آلاف، ويُعطونه سندًا بأحد عشر ألفًا بعد سنةٍ.

وقد لا يكون أيضًا من الجمهور، فقد يكون من جهةٍ أخرى.

المقصود أن هذه هي طبيعة السندات.

وتُلاحظون أن السندات لا تنفك من الفوائد الربوية، يعني: أن الفوائد الربوية مُلازمةٌ للسندات، فلا يمكن أن يوجد سندٌ بدون فائدةٍ ربويةٍ، يعني: لو وُجد لأصبح قرضًا حسنًا، وهذا ليس من خلق البنوك: القرض الحسن.

الفرق بين الأسهم والسندات

من خلال هذين التعريفين نستطيع أن نُفرق بين الأسهم والسندات من وجوهٍ:

  • الوجه الأول: أن السهم يُمثل جزءًا من رأس مال الشركة، وحامله يُعتبر مالكًا لجزءٍ من الشركة، فأنت عندما تملك -مثلًا- جزءًا من أي شركةٍ من الشركات، فأنت -في الحقيقة- أحد مُلاك هذه الشركة، شئتَ أم أبيتَ.
    لنفترض -مثلًا- أنك امتلكتَ أسهمًا من شركة (سابك)، فأنت أحد مُلاك هذه الشركة، لكن قد تكون واحدًا من مليون -مثلًا-، أو من خمسة ملايين، أو أكثر، أو أقلّ، لكن أنت أحد مُلاك هذه الشركة.
    أما السند فهو يُمثل جزءًا من دَينٍ على الشركة، فالشركة مدينةٌ لحامله.
  • الفرق الثاني: أن السند له وقتٌ محددٌ لسداده، فيُحدد بأن هذا السند سوف تقوم الشركة بسداده بفائدةٍ في تاريخٍ معينٍ.
    وأما السهم فلا يُسدد إلا عند تصفية الشركة.
  • الفرق الثالث: أن صاحب السهم شريكٌ في الشركة، ويتعرض للربح والخسارة تبعًا لنجاح الشركة أو فشلها، وقد يربح ربحًا كثيرًا، وقد يخسر خسارةً كبيرةً، فهو يُقاسم الشركة نجاحها أو فشلها.
    وأما صاحب السند فإن له فائدةً ثابتةً مضمونةً، لا تزيد، ولا تنقص، وليس مُعرَّضًا للخسارة.
  • الفرق الرابع: عند تصفية الشركة تكون الأولوية لحامل السند؛ لأنه يُمثل جزءًا من ديون الشركة، أما حامل الأسهم فلا يكون له إلا ما فضل بعد أداء ما عليها من ديونٍ.

هذه الفروق الأربعة بين الأسهم والسندات.

حكم السندات

أما الحكم فظاهر؛ فالسندات مُحرمةٌ؛ لأنها قرضٌ بفائدةٍ، ولا إشكالَ عند جميع العلماء المُعتبرين المعاصرين في تحريم السندات؛ لكونها تُمثل قروضًا بفائدةٍ.

وانتبه: هذه السندات بعض الشركات المُساهمة ربما تلجأ إليها، وهناك شركاتٌ كبيرةٌ قائمةٌ الآن في السوق عندها سنداتٌ بمبالغ كبيرةٍ، وهذه السندات -كما قلنا- لا إشكالَ في تحريمها؛ لأنها -في الحقيقة- تُمثل قروضًا بفائدةٍ، فلا إشكال في تحريمها، ولكن الكلام عن الأسهم، فهي التي تحتاج إلى شيءٍ من البيان والتفصيل.

الشركة

عندما نتحدث عن الأسهم فهذا يُفضي بنا إلى الحديث عن الشركات المُساهمة، وقبل أن نتحدث عن الشركات المُساهمة نحتاج إلى أن نأخذ نبذةً عن أحكام الشركة وأنواعها في الفقه الإسلامي.

وقد بحث فقهاؤنا رحمهم الله هذه الأحكام على وجهٍ مُفصلٍ، فلا تكاد تجد كتاب فقهٍ إلا وقد تضمن أحكامًا كثيرةً للشركة.

والشركة كانت موجودةً من قديم الزمان عند الأمم السابقة، وقد ذكر الله تعالى ذلك في سورة “ص” في قصة داود: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ يعني: الشركاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ [ص:24].

ويُقسمها الفقهاء إلى شركة عقودٍ، وشركة أملاكٍ؛ لأنهم يُعرِّفون الشركة بأنها: اجتماعٌ في استحقاقٍ أو تصرفٍ.

فقولهم: “اجتماعٌ في استحقاقٍ” يريدون به شركة الأملاك، وهي: أن يكون بين شخصين فأكثر اشتراكٌ في ملكٍ من الأملاك، كأن يكون بينهما اشتراكٌ -مثلًا- في ميراثٍ؛ يموت شخصٌ ويترك ورثةً هم مُشتركون في هذا الميراث، ومنه قول الله ​​​​​​​ في الإخوة لأم: فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ [النساء:12].

وهذا القسم ليس هو المقصود في هذا الباب، ولا يريده الفقهاء عندما يبحثون أحكام الشركة، إنما المقصود القسم الثاني، وهو: شركة العقود، وهو المراد بقولهم في التعريف: اجتماعٌ في استحقاقٍ أو تصرفٍ.

فقولهم: “أو تصرف” يريدون به شركة العقود، ومعناها: أن يتعاقد شخصان فأكثر بعملٍ ومالٍ، أو عملٍ من أحدهما، ومالٍ من الآخر، أو العكس.

ويُقسم الفقهاء الشركة إلى أربعة أقسامٍ، ونحن الآن سنذكر هذه الأقسام، ثم ننتقل للشركات المُساهمة وننظر لنرى القسم الذي تدخل تحته من هذه الأقسام.

أقسام الشركة عند الفقهاء

  • القسم الأول: شركة العنان، ومعناها: أن يشترك كلٌّ من الشريكين أو الشركاء بمالٍ وعملٍ، فلا بد من مالٍ وعملٍ.
    مثال ذلك: اشترك اثنان في محلٍّ، ولنقل -مثلًا-: محل بيع خضارٍ، أو بيع سلعٍ، وكلٌّ منهما دفع عشرين ألفًا؛ لتكون رأس مال هذا المحل، واتَّفقا على التناوب على العمل في هذا المحل؛ أحدهما -مثلًا- في الفترة الصباحية، والآخر في الفترة المسائية.
    فهنا كلٌّ منهما بذل مالًا وعملًا، وهذه الشركة تُسمى: شركة العنان.
  • القسم الثاني: شركة المُضاربة؛ بأن يكون من أحدهما المال، ومن الآخر العمل.
    مثال ذلك: أُعطيك مئة ألف ريالٍ، وأقول: خُذْ هذا المبلغ واعمل به في كذا، والربح بيننا أنصافًا، أو لي من الربح -مثلًا- 60%، ولك 40%، فمني المال، ومنك العمل.
    هذه تُسمى: شركة مُضاربة، وهذه سنحتاج لها عندما نُكيف صناديق الاستثمار.
    إذن هذا هو القسم الثاني.
  • القسم الثالث من أقسام الشركة عند الفقهاء: شركة الوجوه، ومعناها: أن يشتركا فيما يأخذان بوجوههما عند الناس، يعني: ليس لهما مالٌ، ولكن يأخذان من الناس بوجاهتهما وثقة الناس فيهما، ويشتركان فيما يأخذان من الناس ويعملان فيه، فهذه تُسمى: شركة الوجوه.
  • والقسم الرابع: شركة الأبدان؛ وذلك بأن يشتركا بأبدانهما في عملٍ أو أعمالٍ، كأن يشتركا -مثلًا- فيما يحصلان عليه من صيدٍ، أو احتطابٍ، أو نحو ذلك، يعني: عاملين يعملان، وقالا: نحن نجمع ما نحصله من هذا العمل ونشترك فيه. فهذا يُسمى: شركة أبدان.

إذن هذه أقسام الشركة عند الفقهاء: شركة العنان، والمُضاربة، والوجوه، والأبدان.

بعض الفقهاء يُضيف قسمًا خامسًا، وهو -في الحقيقة- يرجع إلى الأقسام الأربعة السابقة، وهو: شركة المُفاوضة؛ بأن يُفوض أحدهما الآخر في أعمال الشركة، لكنها -في الحقيقة- ترجع إلى الأقسام الأربعة السابقة.

القاعدة في الشركات هي: أن الملك والربح على حسب ما اتَّفق عليه الشريكان أو الشركاء، وأما الخسارة فإنها تكون على ربِّ المال، وهذه قاعدةٌ في باب الشركة.

إذن الملك لا يُحدد بقدرٍ معينٍ، فلو أن أحدهما -مثلًا- بذل ثلاثة أرباع الشركة، والآخر الربع، فلا بأس، أو العكس، أو أحدهما النصف، والآخر النصف، أو أحدهما الثلث، والآخر الثلثان.

كذلك الربح على حسب ما اتَّفقا عليه، فلو أن أحدهما اشترط أن يكون له -مثلًا- من الربح 80%، والآخر اشترط أن يكون له 20%، أو العكس، أو أن هذا له 50%، وهذا له 50%.

المقصود أن الربح على حسب ما اتَّفقا عليه، أما الخسارة فإنها تكون على رب المال، وأما المُضارب الذي هو العامل في المُضاربة -مثلًا- فليس عليه خسارةٌ.

نعم في شركة العنان تلحق كلًّا منهما الخسارة باعتبار أن كلًّا منهما له مالٌ وعملٌ، لكن في شركة المُضاربة الخسارة على رب المال، أما المُضارب فليس عليه خسارةٌ؛ لأنه قد خسر في الحقيقة جهده.

ففي مثالنا السابق: أعطيتَ شخصًا مئة ألف ريالٍ، وقلتَ له: اعمل فيها، وشغِّلها في كذا. فخسر، فأنت الذي تتحمل الخسارة، أما هو فلا يتحمل شيئًا من الخسارة مطلقًا إلا إذا تعدَّى أو فرَّط، بل يُقبل قوله في الخسارة، فلو قال: أنا خسرتُ. يُقبل من غير بينةٍ، لكن بيمينه؛ لأن المُضارب أمينٌ.

ومعنى كونه أمينًا: أنه لا يضمن إلا إذا تعدَّى أو فرَّط.

وبهذا نعرف أن ما يفعله بعض الناس من اشتراط عدم الخسارة أنه شرطٌ غير صحيحٍ.

بعض الناس يقول: أنا عندي -مثلًا- مئة ألف ريالٍ، أُعطيك إياها تُشغِّلها وتستثمرها لي.

هذا عقد مُضاربة، لكن يقول: بشرط أن الخسارة تكون عليك أنت أيها المُضارب.

فما حكم هذا؟

نقول: هذا الشرط غير صحيحٍ، واختلف العلماء، مع اتفاقهم على أن هذا الشرط غير صحيحٍ اختلفوا: هل يُبطل الشركة، أو أن الشركة تصح مع بُطلان الشرط؟

فجمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة على أن الشركة صحيحةٌ، وأن الشرط باطلٌ.

وذهب الشافعية إلى بُطلان الشركة، فقالوا: إن هذا الشرط يُؤثر على إبطال الشركة.

والصحيح هو قول الجمهور في هذه المسألة؛ لأن الأصل في العقود والشروط والشركة هو الصحة.

فنقول: الشركة صحيحةٌ، ولكن هذا الشرط -وهو اشتراط عدم الخسارة- غير صحيحٍ، وحتى لو قال: الخسارة بيننا. فالمُضارب لا يتحمل شيئًا من الخسارة، إنما الخسارة كلها تكون على رب المال.

إذن هذه هي أقسام الشركة عند الفقهاء.

إذا أردنا أن ننتقل إلى الشركات المُساهمة فإننا نريد أولًا أن نعرف معناها، ثم نأتي للتكييف الفقهي لها.

الشركات المُساهمة

الشركة المساهمة عُرفتْ بأنها: الشركة التي يكون لها رأس مالٍ يُقسم إلى أسهمٍ متساوية القيمة، قابلةٍ للتداول، ويكون لكل شريكٍ منها بحسب ما وضع من أسهمٍ، ولا يكون مسؤولًا إلا في حدود أسهمه، فهي عقدٌ يلتزم بمقتضاه شخصان أو أكثر بأن يُساهم كلٌّ منهم في هذه الشركة.

وقد نشأت أول ما نشأت هذه الشركات المساهمة قبل خمسمئة عامٍ تقريبًا، نشأت في مدينة البندقية في إيطاليا، ثم انتقلتْ بعد ذلك إلى المجتمعات الإسلامية، وهي مُتأثرةٌ بالنزعة الرأسمالية؛ وذلك لأن الهدف الأساسي منها هو جمع المال من المُساهمين ما أمكن، فهي مُتأثرةٌ بالنظام الرأسمالي والنزعة الرأسمالية.

ولهذا من الأصول عند القائمين على هذه الشركات: أن المال يجب ألا يبقى، بل لا بد من استثماره وتحريكه، فلا يبقى ساكنًا، لا، يُستثمر؛ ولهذا عندهم أنه لا بد من أن تُؤخذ فوائد ربوية على أموال المساهمين، ويعتبرون بقاء أموال المساهمين بدون استثمارٍ -وذلك بأخذ الفوائد الربوية- يعتبرون ذلك خطأً اقتصاديًّا.

هكذا نشأتْ هذه الشركات بهذا التصور وبهذا المفهوم، وانتقلت إلى المسلمين بهذا التصور؛ ولهذا لا تعجب إذا وجدتْ أن جُلَّ الشركات المُساهمة تتعامل بالربا إقراضًا أو اقتراضًا، بل إلى وقتٍ قريبٍ لا تكاد تجد شركةً مساهمةً واحدةً لا تتعامل بالربا، ما في ولا شركة واحدة.

لكن الآن -ولله الحمد- وُجدتْ قُرابة عشرين شركة، أو إحدى وعشرين أصبحتْ لا تتعامل بالربا فيما ظهر من القوائم المالية لها.

وهذه المسألة سنتكلم عنها -إن شاء الله تعالى- إذا انتهينا من الكلام عن أحكام هذه الشركات.

أقول: هذا هو السبب في كون معظم الشركات المساهمة لا تخلو من التعاملات الربوية؛ لأن الأساس الذي قامت عليه هو هذا المفهوم الرأسمالي، وهو: أن الشركات لا بد أن تستثمر أموال المساهمين فيها، وألا تبقى ساكنةً، ومن وجوه الاستثمار عندهم: أخذ الفوائد الربوية عليها، والاقتراض بفوائد ربويةٍ عند الحاجة.

ولكن نحن -المسلمين- ينبغي ألا نتلقف هذه المفاهيم وهذه التصورات الخاطئة، والتي لا يُقرّها ديننا، ولكن -مع الأسف- بعض المسلمين يتلقفون كل ما يأتي من الغرب من غير تمحيصٍ، ومن غير تدقيقٍ، وإلا فإن الشركات المساهمة لها فائدةٌ كبيرةٌ في المجتمع، فلو أنها سلمتْ من هذه الفوائد الربوية فإن لها فوائد عظيمةً؛ وذلك لأن هذه الشركات تقوم بأعمالٍ ضخمةٍ، فإنها تجمع من المساهمين رأس مالٍ ضخمٍ.

فعندما تُطرح شركةٌ للاكتتاب تجمع رأس مالٍ ضخمٍ بالملايين، وربما بالبلايين، أو بالمليارات، وتنشأ مشاريع ضخمةٌ، مثلًا: مشاريع ألبان، أو مشاريع زراعيةٌ، أو أسمنت، أو اتصالات.

وهذه المشاريع الضخمة لا يستطيع أن يقوم بها الفرد الواحد من الناس، فلا يمكن أن يقوم بها فردٌ واحدٌ من الناس إلا ما ندر.

إذن هذه الشركات لها فائدةٌ بالنسبة لاقتصاد البلد؛ فهي تقوم بمعظم المشاريع الضخمة في البلد، فيستفيد منها اقتصاد البلد، ويستفيد منها المساهمون أيضًا بما تجنيه عليهم، وتُدرُّ عليهم من أرباحٍ.

لكن لو أنها سلمتْ من هذه التعاملات الربوية، فهي كما ذكرنا لها فائدةٌ كبيرةٌ على المجتمع، ولكن الإشكالية أنها لا تخلو -في الغالب- من هذه التعاملات المُحرمة.

إذن هذه هي الشركات المساهمة.

إذا أردنا تكييفها الفقهي، يعني: على أي قسمٍ يمكن تخريجها؟

نحن ذكرنا أقسام الشركة عند الفقهاء، وأنها تنقسم إلى شركة عنان، ومُضاربة، ووجوه، وأبدان، فعندما عرَّفنا الشركات المساهمة، وعرَّفنا المقصود بها، فهل نعتبرها قسمًا مُستقلًّا غير معروفٍ عند الفقهاء، أو يمكن أن نُرجعها إلى أحد هذه الأقسام الأربعة؟

بحث هذه المسألة عددٌ من الباحثين، ومن ذلك رسالة (دكتوراه) في جامعة أم القرى في الشركات المساهمة، وخلص الباحث إلى أن الشركات المساهمة يمكن أن تكون شركة مُضاربةٍ، أو شركة عنانٍ ومُضاربةٍ.

فتكون شركة مُضاربة إذا كان مجلس الإدارة لا يأخذ، أو لا يكون مُساهمًا، إذا كان مجلس الإدارة ليس مُساهمًا، وإنما يأخذ مكافأته من الربح، فإنها تكون مُضاربةً؛ لأن المال يكون من المساهمين، والعمل من مجلس الإدارة، فتكون مضاربةً.

أما إذا كان مجلس الإدارة مُساهمًا، فإنها تكون عنانًا ومُضاربةً.

إذن نقول: الشركات المساهمة إما أن تكون شركة مُضاربة إذا كان مجلس الإدارة ليس مُساهمًا، وإنما يأخذ مكافأته من الربح، وإما أن تكون عنانًا ومُضاربةً إذا كان مجلس الإدارة مُساهمًا.

وعلى كلا التقديرين فهي شركاتٌ الأصل فيها أنها مباحةٌ؛ لأن شركة العنان وشركة المُضاربة كلها من الشركات المباحة.

وبهذا يتبين لنا أن الأصل في الشركات المساهمة هو الحِلُّ والإباحة، هذا هو الأصل، وكما مثلتُ لكم قبل قليلٍ: أننا لو اجتمعنا -مثلًا- وأردنا تكوين مشروعٍ من المشاريع، وطرحناه على شكل أسهمٍ، فالأصل في مثل هذا الإباحة.

أقسام الشركات المساهمة

يمكن تقسيم الشركات المساهمة الموجودة اليوم إلى ثلاثة أقسامٍ:

  • القسم الأول: أن يكون العمل الذي تُمارسه مُباحًا، ولا تتعامل تلك الشركات بالربا إقراضًا ولا اقتراضًا، فتكون شركاتٍ زراعيةً، أو صناعيةً، أو في الاتصالات، أو في غير ذلك.
    وهذه لا إشكال في جواز المُساهمة فيها كما ذكرنا.
    وهذا القسم الحكم فيه واضحٌ تمامًا، وهو: أنه يجوز الدخول في هذه الشركات والمُساهمة فيها.
  • القسم الثاني: أن يكون العمل الذي تُمارسه الشركة مُحرمًا: كشركات تصنيع الخمور والتَّبغ -يعني: الدخان-، والبنوك الربوية، ونحو ذلك.
    فهذه أيضًا الحكم فيها واضحٌ، وهو: أنه تحرم المُساهمة فيها وتداول أسهمها.
    إذن هذان القسمان الحكم فيهما واضحٌ تمامًا:
    القسم الأول: شركات يكون العمل الذي تُمارسه مُباحًا، ولا تتعامل بالربا مطلقًا، فهذه مباحةٌ.
    القسم الثاني: العكس تمامًا؛ فالعمل الذي تُمارسه الشركة مُحرمًا، فهذه يحرم الدخول فيها، ويحرم تداول أسهمها.
  • القسم الثالث: أن يكون العمل الذي تقوم به الشركة مباحًا في أصله: كأن يكون في زراعةٍ، أو تجارةٍ، أو صناعةٍ، ونحو ذلك، ولكن تلك الشركة تتعامل بالربا إقراضًا أو اقتراضًا، وهذا هو حال معظم الشركات المساهمة الآن.

خلاف الفقهاء في الشركات المساهمة

تكون الشركة في أصلها مُباحةً -في الأسمنت مثلًا، أو التَّصنيع، أو الزراعة- ولكنها تقترض بالربا، أو تُقرض بالربا، فعندها قروضٌ ربويةٌ.

هذا القسم هو موضع الإشكال في الحقيقة، وقد اختلف فيه العلماء المعاصرون على قولين مشهورين:

  • القول الأول: أنه يجوز الدخول في هذه الشركات، والاكتتاب فيها، وتداول أسهمها، بشرط: أن يتخلص المُساهم من الربا بعد حصوله على الأرباح؛ وذلك بأن يتخلص من الربا إن عرف مقداره، فإن لم يعرف مقداره فأكثر ما قيل: إنه يتخلص من نصف الربح.
    وأبرز مَن قال بهذا القول: الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله، وفتواه في هذا مكتوبةٌ ومُحررةٌ، على أنه قال: الورع عدم الدخول في هذه الشركات، ولكن إذا لم يسلك المسلم سبيل الورع ودخل فيها فعليه أن يتخلص من نسبة الربا إن عرف مقداره، فإن لم يعرف مقداره تخلص من نصف الربح.
    وعلى هذا القول عامة الهيئات الشرعية في البنوك، على خلافٍ بينهم في تحديد نسبة الربا التي يجوز معها الدخول في تلك الشركات، وأكثر ما قيل: 30%، وإنما حددوا بهذا التحديد أخذًا من قول النبي e: الثلث، والثلث كثيرٌ [1]، قالوا: فالثلث 33%، وهذا هو الحد الكثير، وما كان أقلّ من 33% يُعتبر قليلًا.
    فقالوا: ما دامت القروض الربوية في الشركة لا تزيد عن 30% فيجوز الدخول فيها، مع التخلص من الربا.
    وبعضهم حددها بـ10%، وبعضهم حددها بـ5%، لكن أكثر ما قيل هو: 30%.
  • والقول الثاني في المسألة: أنه لا يجوز الدخول في هذه الشركات مطلقًا، ولو كانت نسبة التعامل بالربا 1%، فيحرم الدخول في هذه الشركات، ويحرم الاكتتاب فيها، ويحرم تداول أسهمها بيعًا، أو شراءً، أو نحو ذلك.

وهذا القول قال به أكثر العلماء المعاصرين، وإنما قلتُ: أكثر العلماء المعاصرين؛ لأن أحد إخواننا المشايخ قد عمل استبانةً لمعرفة آراء العلماء المعاصرين في هذه المسألة، فوجد أن أكثر العلماء على هذا القول.

وعلى هذا القول أيضًا: مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي، وسوف أنقل لكم نصَّ القرار بعد قليلٍ، إن شاء الله.

ومجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي برئاسة سماحة شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله، يعني: صدر هذا القرار لما كان الشيخ عبدالعزيز بن باز هو الرئيس لهذا المجمع.

وأيضًا ذهب لهذا القول: مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي.

إذن اتَّفق المجمعان على هذا القول، وأيضًا ذهبت لهذا القول: اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة سماحة شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله.

إذن هذان قولان مشهوران في هذه المسألة الشائكة في الحقيقة، وبعض العلماء المعاصرين توقف في هذه المسألة؛ نظرًا لقوة الخلاف فيها.

فنعرض الآن لأدلة كل قولٍ، ثم نُبين -إن شاء الله تعالى- القول الراجح فيها.

ينبني يا إخوان على هذه المسألة حكم الصناديق الاستثمارية، فإذا قلنا بالجواز؛ جازت الصناديق الاستثمارية التي تُسمى: الشرعية الآن، وإذا قلنا بالتحريم؛ قلنا بتحريم جميع الصناديق الاستثمارية، فهي مسألةٌ مُؤثرةٌ في مسائل أخرى، لها أثرٌ في مسائل أخرى.

فنريد الآن أن نذكر أدلة كل قولٍ ومُناقشتها، ثم نُبين القول الراجح في المسألة.

أدلة القائلين بجواز الشركات المساهمة

أدلة القول الأول: القائلون بالجواز أدلتهم ترجع إلى دليلين في الحقيقة:

الدليل الأول هو: الاستدلال ببعض القواعد التي ذكرها الفقهاء، والتي تدل على أنه يُغتفر في القليل، ويثبت تبعًا ما لا يثبت استقلالًا، وأنه إذا اختلط الحلال والحرام، وكان الحرام مُحرمًا لكسبه؛ لم يحرم الجميع.

فاستدلوا بهذه القواعد، يعني: أنه يثبت تبعًا ما لا يثبت استقلالًا، فقالوا: هذه القروض الربوية تدخل تبعًا، والحكم للأكثر، وهو أن تعاملات الشركة في الأصل مباحةٌ: زراعية، صناعية، تجارية.

وقالوا: إن عند الفقهاء قاعدةً، وهي: أنه إذا اختلط المال الحلال بالمال الحرام، وكان الحرام مُحرمًا لكسبه؛ لم يحرم الجميع.

وقالوا أيضًا: هنا قاعدةٌ أخرى عند الفقهاء، وهي: للأكثر حكم الكل، ونحو ذلك من القواعد.

فقالوا: هذه القواعد تدل على أن المعول عليه هو الأكثر، والمعول عليه هو الأغلب.

قالوا: ومما يدل لذلك: أن النبي كان يتعامل مع اليهود، وهم أكَّالون للسُّحْت، وقد اختلط مالهم الحلال بمالهم الحرام، ومع ذلك كان يقبل الهدية منهم، بل قَبِلَ دعوتهم للوليمة؛ وذلك لأنه قد اختلط المال الحلال بالمال الحرام، فيكون الحكم إذن للأكثر.

طيب، أولًا نسرد الأدلة، ثم تأتي المناقشة.

والدليل الثاني لهم هو: التَّبرير بالواقع، فقالوا: إن هذه الشركات المساهمة تقوم بأعمالٍ عظيمةٍ في المجتمعات، فمثلًا: الكهرباء تعتمد على هذه الشركات المساهمة، والأسمنت كذلك تقوم به شركاتٌ مساهمةٌ، وكثيرٌ من الصناعات التي يحتاج إليها الناس تقوم بها شركاتٌ مساهمةٌ، وكثيرٌ من أمور التجارة التي يحتاج إليها الناس تقوم بها شركاتٌ مساهمةٌ.

قالوا: فلو منعنا الناس من الدخول في هذه الشركات، وقلنا: إنه يحرم الدخول فيها؛ لتعطلتْ مصالح الناس، فالناس يحتاجون للكهرباء -مثلًا-، فإذا قلنا: إنه يحرم الدخول فيها؛ انهارت هذه الشركات، فلحق الضرر بهؤلاء الناس، وهكذا الأسمنت -مثلًا- يقوم على شركاتٍ مساهمةٍ، فإذا قلنا بتحريم الدخول فيها؛ انهارت هذه الشركات، ولحق الناسَ الضررُ.

إذن المجتمع بحاجةٍ لمثل هذه الشركات، والواقع أن هذه الشركات تتعامل في جملتها بالربا، والذي لا يتعامل بالربا منها قليلٌ جدًّا، إن لم يكن نادرًا بالنسبة لمجموع الشركات.

يعني: نظروا هذه النظرة، فقالوا: إن عموم البلوى يقتضي أن نقول بجواز الدخول فيها، مع وجوب التخلص من نسبة الربا بعد الحصول على الأرباح.

إذن هذا هو عمدة ما استدلَّ به أصحاب هذا القول:

دليلهم الأول: الاستدلال ببعض القواعد الفقهية: للأكثر حكم الكل، ويثبت تبعًا ما لا يثبت استقلالًا … إلخ.

دليلهم الثاني: التَّبرير بالواقع، وحاجة الأمة إلى هذه الشركات.

أدلة القائلين بحُرمة الشركات المساهمة

أما أصحاب القول الثاني القائلون بأنه لا يجوز الدخول في هذه الشركات مطلقًا، فقالوا: إن المساهم يُعتبر أحد مُلاك هذه الشركة، ودخوله في هذه الشركة يتضمن -في الحقيقة- مالًا وعملًا، فجميع أعمال الشركة تُنسب إليه؛ لأن السهم -في الحقيقة- يُمثل جزءًا مشاعًا من الشركة، فالمساهم أحد مُلاك هذه الشركة، فتُنسب إليه جميع أعمال الشركة، ومنها: الإقراض أو الاقتراض بالربا، فيكون هذا المساهم قد تعامل بالربا بالوكالة، صحيحٌ أنه لم يتعامل بالربا مباشرةً، لكنه تعامل بالربا بالوكالة بأن وَكَّلَ مَن يقوم عنه بجميع أعمال الشركة وهو مجلس الإدارة، ومن ذلك: الإقراض والاقتراض بالربا.

هذا هو ما استند إليه أصحاب هذا القول، وقالوا: إن جميع أعمال الشركة تُنْسب للمُساهمين، ومنها: التعاملات الربوية، فتُنْسب لك أنت أيها المساهم هذه التعاملات الربوية شئتَ أم أبيتَ.

قالوا: ونجد أن الشريعة قد شددتْ في شأن الربا، فلعن النبي آكل الربا، ومُوكله، وكاتبه، وشاهديه، قالوا: فإذا كان كاتب الربا وشاهد الربا ملعونين، فكيف بمَن يتعامل بالربا بطريق الوكالة؟!

إذن هذه وجهة أصحاب هذا القول.

مناقشة الأقوال

عند الموازنة بين هذه الأدلة نجد أن أدلة القول الأول -في الحقيقة- يُمكن أن تُناقش، فاستدلالهم بالقواعد التي ذكرها الفقهاء من أن للأكثر حكم الكل، وأنه إذا اختلط المال الحلال بالحرام، وكان الحرام حرامًا لكسبه؛ لم يحرم الجميع، وأنه يثبت تبعًا ما لا يثبت استقلالًا … إلى غير ذلك مما ذكره الفقهاء من القواعد.

وهذه القواعد لا تنطبق على هذه المسألة في الحقيقة، لماذا؟

لأن هذه القواعد إنما تنطبق على ما إذا اختلط المال الحلال بالمال الحرام، بينما الشركات المساهمة تتضمن مالًا وعملًا، ليس مالًا فقط، بل مالٌ وعملٌ، ولئن اغتفرنا في مسألة المال، فتبقى مسألة العمل.

فأنت عندما تُساهم في شركةٍ من الشركات فهناك مالٌ وعملٌ منسوبان لك، المال قد بذلته، والعمل منسوبٌ لك أيضًا لكن بالوكالة، وهو ما يقوم به مجلس الإدارة، فأنت يُنْسَب لك مالٌ وعملٌ، فلئن أخذنا بهذه القواعد وقلنا: إنه يُغتفر في القليل بالنسبة للمال، فتبقى عندنا الإشكالية بالنسبة للعمل.

إذن هذه القواعد إنما تنطبق على اختلاط مالٍ حلالٍ بمالٍ حرامٍ فقط، أما الشركات المساهمة فلا تنطبق عليها هذه القواعد؛ لأنها تتضمن مالًا وعملًا.

تنطبق هذه القواعد -مثلًا- على إنسانٍ اختلطت أمواله، فيها حلالٌ وحرامٌ، فيجوز أن تبيع وتشتري منه، وأن تقبل دعوته، وتقبل هديته، كما فعل النبي مع اليهود، لكن الشركات المساهمة ليس الأمر فيها اختلاط مالٍ بمالٍ فقط، ولكنها تتضمن مالًا وعملًا، فيكون الاستدلال بهذه القواعد غير صحيحٍ.

وأما التَّبرير بحاجة الأمة إلى مثل هذه الشركات فهو غير صحيحٍ، أرأيتَ لو تجرَّأ الناس على التعامل بالربا، هل نقول: إنه يجوز التعامل بالربا؛ لكون الناس قد احتاجوا إليه، وتجرؤوا عليه، ونحو ذلك؟!

ثم أيضًا هذه الشركات المساهمة لم تتعين -في الحقيقة- طريقةً للكسب، فهناك طرقٌ أخرى للكسب، وهناك طرقٌ أخرى للاستثمار، وطرقٌ أخرى للنهوض بالاقتصاد.

ثم أيضًا لا يُقطع بارتفاع الحاجة من جراء ارتكاب هذا المحظور، فقد يُساهم الإنسان في شركةٍ مشبوهةٍ فيخسر، ومن شروط استباحة المحظور عند الفقهاء: أن يُقطع بارتفاع الضَّرر.

ثم أيضًا: إن معظم أسهم الشركات المساهمة إنما يملكها كبار المُستثمرين، وهم المُتحكمون فيها، فتبقى نسبة مَن يزعم حاجتهم قليلةً بالنسبة لأولئك.

ثم قبل هذا كله: إن الربا مُحرمٌ: قليله وكثيره، ولا يمكن بأي حالٍ من الأحوال أن يُبرر للناس التعاملات الربوية باسم الحاجة أو الضرورة، فالتَّبرير بالحاجة أو بالواقع غير مُناسبٍ، واستدلالٌ في غير محله، بل إن هذه الفتاوى، أو هذا الرأي -في الحقيقة- هو من أسباب استمرار تلك الشركات على هذه التعاملات، فيجدون مَن يُفتي المُساهمين بجواز الدخول مع التَّخلص من الربا، فتستمر تلك الشركات في هذه التعاملات المُحرمة.

إذن عرفنا وجهة نظر أصحاب هذا القول، وهي ترجع إلى أمرين: إلى القواعد وناقشناها، وقلنا: إن هذه القواعد لا تنطبق على الشركات المساهمة.

الثاني: التَّبرير بالواقع وحاجة الأمة، وقلنا أيضًا: إن هذا استدلالٌ غير صحيحٍ؛ لأن الربا مُحرمٌ: قليله وكثيره، وحاجة الأمة أولًا أنها -يعني- غير مقطوعٍ بها، وثانيًا: حتى لو افترضنا أن هناك حاجةً، فإن الربا أمره عند الله تعالى عظيمٌ جدًّا، ولا يمكن أن تكون الحاجة مُبررةً للدخول في هذه التعاملات الربوية.

وأما أصحاب القول الثاني الذين قالوا: إنه لا يجوز الدخول في هذه الشركات، فدليلهم -في الحقيقة- قويٌّ جدًّا، وكما سمعتم هم قالوا: إن الشريك يملك جزءًا من هذه الشركة، شاء أم أبى، وتُنْسَب إليه جميع أعمال هذه الشركة، ومنها: التعاملات الربوية.

الراجح: تحريم الدخول في الشركات المساهمة

الذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن الراجح في هذه المسألة هو القول الثاني، وهو: أنه يحرم الدخول في الشركات المساهمة إذا كانت تتعامل بالربا ولو بنسبة 1%؛ وذلك لقوة ما استدلوا به، ولعدم وجود دليلٍ صحيحٍ يُبرر أو يُبيح الدخول في هذه الشركات التي تتعامل صراحةً بالربا، وتُعلن هذا صراحةً في قوائمها المالية، وتتجرأ على الربا الذي هو حربٌ لله ورسوله .

وأنقل فيما يأتي قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي برئاسة سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله، أنقل نصَّ هذا القرار، وهو -في الحقيقة- قرارٌ مهمٌّ؛ لأن هذا المجمع يُمثل كبار علماء العالم الإسلامي، وهو أقوى من مجمع منظمة المؤتمر، فهو يُمثل -في الحقيقة- كبار علماء العالم الإسلامي، وليس خاصًّا بعلماء المملكة.

وهذا القرار موجودٌ في مجلة المجمع، ولكنه لم يبرز -في الحقيقة-، بل إن القول الثاني لم يبرز؛ ولذلك فالقول المعروف الآن عند الناس هو: أنه يجوز الدخول مع التخلص من الربا، مع أن القول الثاني هو الأقرب للنصوص والقواعد الشرعية، لكنه -كما ذكرتُ- لم يبرز.

قرار المجمع الفقهي في الشركات المساهمة

القرار الرابع بشأن حكم شراء أسهم الشركات والمصارف إذا كان في بعض مُعاملاتها ربًا.

نصُّ القرار:

“الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبيَّ بعده نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه.

وبعد:

فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الرابعة عشرة المُنعقدة بمكة المكرمة، والتي بدأتْ يوم السبت في العشرين من شهر شعبان ألف وأربعمئة وخمس عشرة للهجرة قد نظر في هذا الموضوع، وقرر ما يلي:

أولًا: بما أن الأصل في المعاملات الحِلُّ والإباحة، فإن تأسيس شركةٍ مساهمةٍ ذات أغراضٍ وأنشطةٍ مُباحةٍ أمرٌ جائزٌ شرعًا، وهذا أشرنا إليه.

ثانيًا: لا خلاف في حُرمة الإسهام في شركاتٍ غرضها الأساسي مُحرمٌ في التعامل في الربا، أو تصنيع المُحرمات، أو المُتاجرة فيها، وهذا أيضًا أشرنا إليه.

ثالثًا -هذا هو القسم الثالث من الشركات الذي هو موضع الإشكال-: لا يجوز لمسلمٍ شراء أسهم الشركات والمصارف إذا كان في بعض مُعاملاتها ربًا، وكان المُشتري عالمًا بذلك.

رابعًا: إذا اشترى شخصٌ وهو لا يعلم أن الشركة تتعامل بالربا، ثم علم، فالواجب عليه الخروج منها، والتحريم في ذلك واضحٌ”.

هكذا نصّ قرار المجمع، يقول: “والتحريم في ذلك واضحٌ؛ لعموم الأدلة من الكتاب والسنة في تحريم الربا، ولأن شراء أسهم الشركات التي تتعامل بالربا مع علم المُشتري بذلك يعني اشتراك المُشتري نفسه في التعامل بالربا؛ لأن السهم يُمثل جزءًا شائعًا من رأس مال الشركة، والمُساهم يملك حصةً شائعةً في موجودات الشركة، فكل مالٍ تُقرضه الشركة بفائدةٍ، أو تقترضه بفائدةٍ، فللمساهم نصيبٌ منه؛ لأن الذين يُباشرون الإقراض والاقتراض بالفائدة يقومون بهذا العمل نيابةً عنه، وبتوكيلٍ منه، والتوكيل بعمل المُحرم لا يجوز.

وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ”.

هذا هو نصُّ قرار المجمع أيها الإخوة، وهو -كما ترون- قرارٌ قويٌّ ومُختصرٌ، وعبارةٌ مُركزةٌ، وهذا هو الذي ندين الله تعالى به، وهو الذي تقتضيه الأدلة والنصوص الشرعية؛ لأن الربا -كما ذكرنا في درس الأمس- أمره عند الله عظيمٌ جدًّا.

وقد توعد الله تعالى وآذن بالحرب مَن تعامل بالربا، حتى إنه أعظم من الزنا، وأعظم من شرب الخمر، وهو من أكبر الكبائر، ومُحرمٌ في جميع الأديان السماوية: قليله وكثيره.

وقد جاء في السنن عند أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد بسندٍ حسنٍ أو صحيحٍ عن سعد بن أبي وقاص : أن النبي سُئل عن بيع الرُّطب بالتمر، فقال عليه الصلاة والسلام: أينقص الرُّطب إذا يبس؟ قالوا: نعم، قال: فلا إذن [2].

بيع الرُّطب بالتمر -يعني- مع التقابض ومع التماثل في الكيل أو الوزن، ومع ذلك لا يجوز.

يعني: لو أردتَ أن تبيع كيلو تمرٍ بكيلو رُطبٍ مع التقابض لا يجوز، مع أنه تحقق الشرطان: التقابض والتماثل، فهذا كيلو، وهذا كيلو، ومع ذلك لا يجوز، لماذا؟

لأن هذا الرُّطب سوف ينقص إذا يبس، فهو تفاوتٌ يسيرٌ، بل يسيرٌ جدًّا، ومع ذلك منع منه النبي .

فما الذي يُبيح الدخول في شركاتٍ تصل نسبة القروض الربوية فيها إلى 30%؟

إذا كان النبي منع من بيع الرُّطب بالتمر، مع أن التفاوت يسيرٌ جدًّا، فما الذي يُبيح الدخول في شركاتٍ تتعامل بالربا إلى نسبة 30%، بل تصل القروض إلى ملايين أحيانًا، بل وصلتْ في إحدى الشركات الكبيرة إلى مليارات، وصلت القروض الربوية إلى مليارات؟!

ثم إننا إذا نظرنا إلى مقاصد الشريعة نجد أن من مقاصد الشريعة: تضييق المسالك المُفضية للربا، وسدّ جميع الذَّرائع المُفضية للربا؛ ولذلك يحرم بيع العِينة حتى لو حصل من غير مُواطأةٍ.

العِينة معناها: أن يبيع شخصٌ سلعةً بثمنٍ مُؤجلٍ، ثم يشتريها بأقلّ منه نقدًا، فلو حصل هذا من غير مُواطأةٍ نقول: حرام، لماذا؟

سدًّا للذريعة.

وأيضًا تحرم بيعتان في بيعةٍ -والصحيح أنه هو بيع العِينة- وسلفٌ وبيعٌ، والقرض الذي جرَّ نفعًا، كل هذا سدًّا لذريعة الربا.

وإذا كان الفقهاء يمنعون من الإسهام في المعصية بطريقٍ غير مباشرٍ؛ فيمنعون من بيع السلاح وقت الفتنة، ويمنعون من بيع العنب لمَن يتَّخذه خمرًا، ونحو ذلك، فلأن يُقال بمنع الإسهام في المعصية بطريقٍ مباشرٍ من باب أولى، فيُمنع من الإسهام في الشركات المساهمة المشوبة بالربا؛ لأنها -في الحقيقة- قد تجرأتْ على هذا الأمر العظيم وهو الربا، وقد استخفَّتْ بأوامر الله ورسوله ، ومُستمرةٌ على هذا العمل؛ ولذلك فإذا أُشيع مثل هذا القول: بأنه لا يجوز الدخول في هذه الشركات، فإن هذا سيكون أكبر رادعٍ لهذه الشركات لكيلا تتعامل بالربا.

ولهذا نقول: إن القول الصحيح في هذه المسألة هو: أنه يحرم الدخول في جميع الشركات التي تتعامل بالربا، ولو بنسبة 1%.

وكما ذكرتُ في بداية هذا الدرس: كان في السابق لا تكاد توجد شركةٌ واحدةٌ لا تتعامل بالربا، وهذا هو الذي دفع أصحاب القول الأول إلى أن يقولوا بالجواز، فإنهم قالوا: إن هذا الواقع المرير للأمة الإسلامية يجعلنا نُعيد النظر ونجتهد، ونقول: بجواز الدخول في هذه الشركات، مع وجوب التخلص من نسبة الربا.

وأحد أصحاب هذا القول قال: إني أقول بهذا القول لفترةٍ مؤقتةٍ لحين أن توجد شركاتٌ لا تتعامل بالربا.

وقد وجدتْ -ولله الحمد- الآن مجموعةٌ من هذه الشركات.

الشركات النَّقية

وجد الآن ما يُسمَّى بالشركات النَّقية، وهي قرابة ثنتين وعشرين شركة، وهذه الشركات يُصنفها بعض الإخوة بناءً على دراسة القوائم المالية للشركات، فوجدوا أن القوائم المالية لهذه الشركات قد خلتْ من التعامل بالربا، فسمُّوا هذه الشركات بالشركات النَّقية.

ولكن أيضًا أُشير هنا إلى أن هذه الشركات النقية التي تبلغ قرابة إحدى أو ثنتين وعشرين شركة نقاوتها نسبيةٌ، يعني: ليست شركةً نقيةً 100%، فما تجد شركةً نقيةً إلى الآن 100%، إنما هذه الشركات نقاوتها نسبيةٌ.

ومعنى ذلك: أن هذه الشركات ليست نقيةً نقاءً كاملًا؛ وذلك لأن:

أولًا: الحكم عليها بأنها نقيةٌ إنما كان من خلال دراسة قوائمها المالية لسنةٍ واحدةٍ فقط أو سنتين، وليس لجميع نشاطات الشركة من بدايتها، بل كانت -كما ذكرتُ- جميع الشركات تقريبًا تتعامل بالقروض الربوية، فالحكم عليها بأنها نقيةٌ إنما كان لدراسة قوائمها المالية لسنةٍ أو سنتين فقط.

الأمر الثاني: أن الحكم بأنها نقيةٌ إنما هو صادرٌ من قراءة هذه القوائم المُعلنة، ولا يُعلم عن تعاملاتها في الباطن، ومعلومٌ كثرة الحِيل عند الناس، خاصةً فيما يتعلق بالأمور المالية.

الأمر الثالث: أن هذه الشركات النَّقية تملك -في الحقيقة- أسهمًا لشركاتٍ غير نقيةٍ.

إذن لا نستطيع أن نقطع بأنها نقيةٌ 100%.

الأمر الرابع: أن هذه الشركات التي قيل: إنها نقيةٌ، لا نستطيع أن نضمن أنها لن تتعامل بالربا مُستقبلًا؛ لأنها تجرأتْ على الربا في الماضي، فلا يبعد أن تتجرأ على الربا في المستقبل، أو بطريقٍ غير مُعلنٍ؛ ولذلك فإن نقاوتها نسبيةٌ.

ولكن بكل حالٍ لا شك أنها أخفُّ من الشركات التي تُعلن صراحةً أنها تتعامل بالربا، ولكن ينبغي أيضًا -كما ذكرتُ- أن يُعلم بأن هذه الشركات النَّقية نقاوتها -في الحقيقة- نسبيةٌ؛ ولهذا لا تكاد تجد شركةً نقيةً 100%.

ولهذا إذا استنصحني أحد الناس وقال: إني أريد تعاملًا -يعني- بعيدًا عن الشُّبهة.

أقول له: دَعْ جميع الشركات المساهمة، فلا تكاد الآن توجد شركةٌ مساهمةٌ نقيةٌ 100%، وقد يوجد ذلك في المستقبل، ونرجو أن يتحقق ذلك، لكن نتكلم عن الوضع في الوقت الحاضر.

ولهذا مَن أراد البُعد عن الشبهة فليبتعد عن هذه الشركات، لكن مَن قال: أنا آخذ بالظاهر، وأتعامل مع هذه الشركات التي ظهر لنا الآن من خلال دراسة قوائمها المالية أنها نقيةٌ. فنرجو ألا يكون عليه حرجٌ، ولكن إذا أراد أن يبتعد عن الشبهة مطلقًا فعليه أن يبتعد عن جميع هذه الشركات؛ لأن هذه الشركات المساهمة -كما ذكرتُ- انتقلتْ إلينا في الأصل من الغرب، وهي في أصلها وفي نظرتها وجذورها تنظر نظرةً رأسماليةً، وهي: أنه لا بد من تحريك رأس المال، ولا بد من الإقراض أو الاقتراض بالربا.

وبعدما عرضنا هذه المسألة أقول -أيها الإخوة-: إن القول الثاني رغم أنه هو القول الأقرب للنصوص والقواعد إلا أنه لم يبرز للناس بشكلٍ واضحٍ؛ ولذلك لو أُبرز هذا القول وأُشيع فإن هذا -في الحقيقة- سيكون أكبر رادعٍ لمجالس إدارة الشركات التي تتعامل بالربا.

والواقع أن القائمين على تلك الشركات يفعلون ذلك إما جهلًا، أو تساهلًا، وعلى كلا التقديرين فهم مُخطئون بهذا خطأً عظيمًا، ومُرتكبون لجُرْمٍ كبيرٍ؛ ولهذا فإن الذي ينبغي أن يُفعل هو: أن تُقاطع هذه الشركات التي تتعامل بالربا حتى تُصحح الوضع القائم.

وفي ظني أن المجتمع يستطيع أن يضغط على هذه الشركات، فإذا رأت تلك الشركات أن المجتمع قد قاطعها؛ لكونها تتعامل بالربا، واتَّجه للشركات النَّقية، فإنها سوف تبدأ في مُراجعة حساباتها، وتتخلص من الربا؛ حتى تكسب الناس وتكسب المساهمين.

كما أن المجتمع لما ضغط على البنوك، فانكبَّ الناس على البنوك الإسلامية، وقلَّ إقبالهم على البنوك التقليدية أو الربوية؛ كان ذلك حافزًا ودافعًا لهذه البنوك لأن تبدأ في مراجعة حساباتها، فأنشأت هيئاتٍ شرعيةً، وبدأتْ في استبعاد كثيرٍ من التعاملات المُحرمة، بل إن بعض هذه البنوك الآن في طريقها إلى التحول لتكون بنوكًا إسلاميةً، وقال بعض العلماء: إنه ربما بعد بضع سنوات تتحول جميع البنوك الموجودة إلى بنوكٍ إسلاميةٍ.

والسبب في هذا هو: ضغط المجتمع على تلك البنوك، فالمجتمع إذا قاطع تلك الشركات التي تتعامل بالربا، فإن هذا -في الحقيقة- هو أكبر رادعٍ يردع هذه الشركات عن التعامل بالربا.

أما أن نقول: ادخلوا في هذه الشركات مع التخلص من الربا، فهذا -في الحقيقة- يجعل هذه الشركات تستمر في هذا الطريق، وتتجرأ على الربا.

هذا ما يتعلق بالشركات المساهمة.

الصناديق الاستثمارية

ننتقل بعد ذلك للصناديق الاستثمارية، والتي يرتبط الكلام فيها بهذه المسألة، ويكثر السؤال عنها.

وقد ورد إلينا في درس الأمس سؤالٌ عن هذه الصناديق، وأرجأنا الإجابة عنه إلى هذا الدرس.

فنبدأ أولًا بتعريف الصناديق الاستثمارية، وإعطاء نبذة عنها قبل أن نُبين حكمها.

عُرِّفَ الصندوق الاستثماري بأنه: وعاءٌ ماليٌّ لتجميع مُدخرات الأفراد واستثمارها من خلال جهةٍ ذات خبرةٍ.

وقيل في التعريف: إنه وعاءٌ للاستثمار له ذمةٌ ماليةٌ مُستقلةٌ يهدف إلى تجميع الأموال واستثمارها.

وعرَّفه النظام السعودي -عرَّف صندوق الاستثمار- بأنه: برنامج استثمار مُشترك يُنشئه البنك المحلي بمُوافقةٍ مُسبقةٍ من مؤسسة النقد العربي السعودي بهدف إتاحة الفرصة للمُستثمرين بالمشاركة جماعيًّا في نتائج أعمال البرنامج، وتتم إدارته من قِبَل البنك مقابل أتعابٍ محددةٍ.

فهو -في الحقيقة- بمثابة وعاءٍ استثماريٍّ يتم من خلاله …، يعني: يضع العميل ماله في هذا الوعاء، ويقوم البنك بتشغيله، ويأخذ مقابل أتعابه، ويُعطي الأرباح لهذا العميل.

مثال ذلك: تذهب للبنك، وتقول لهم: هذه عشرة آلاف ريال ضعوها في الصندوق الاستثماري الذي يعمل في كذا. وهم يأخذون مقابل أتعابهم في إدارة هذا الصندوق، ويُعطونك أرباحًا إذا ربح.

وقد انتشرت الصناديق الاستثمارية في جميع أنحاء العالم، وأول ما نشأت في إنجلترا -في بريطانيا- عام ألفٍ وثمانمئةٍ وسبعين للميلاد، ولا أدري كم يكون ذلك التاريخ بالهجري، لكن المراجع التي بين يدي ما وجدتُها إلا بالتاريخ الميلادي.

فنشأت عام ألفٍ وثمانمئةٍ وسبعين ميلاديًّا، ثم انتشرت في جميع دول العالم.

وأما في المملكة فبدأت الصناديق الاستثمارية عام ألفٍ وتسعمئةٍ وتسعةٍ وسبعين ميلاديًّا في البنك الأهلي في صندوق الدولار قصير الأجل.

وزاد اهتمام البنوك في الفترة الأخيرة بتأسيس تلك الصناديق، واتَّجه لها كثيرٌ من الناس الآن، ووُجدتْ في البنوك صناديق استثمارية قسَّموها إلى قسمين: صندوقٌ يقولون: هذا صندوقٌ شرعيٌّ، وهذا الصندوق -يعني- تقليديٌّ أو غير شرعيٍّ، ويعنون بالشرعي أنه يتعامل من خلال إشراف هيئةٍ شرعيةٍ، والآخر لا يتعامل بإشراف هيئةٍ شرعيةٍ.

وهذه الصناديق -في الحقيقة- لها أنواعٌ، وليست خاصةً بالأسهم؛ فهناك صناديق الاستثمار التي تتعامل بالأسهم، وهناك صناديق الاستثمار التي تتعامل بالعُملات، وصناديق استثمار تتعامل في أنشطةٍ أخرى ليست خاصةً بالأسهم.

ولكن المشهور الآن من هذه الصناديق والذي نعنيه بالحديث الآن هو الصناديق الاستثمارية الخاصة بالأسهم.

فكرة الصناديق الاستثمارية -في الحقيقة- هي فكرةٌ جيدةٌ لو سلمتْ من التعاملات الربوية، فهي تهدف -في الحقيقة- إلى تجميع الأموال بهدف الاستثمار الجماعي في برنامجٍ استثماريٍّ مُشتركٍ، يمتلك هذا المُستثمر حصةً مشاعةً في أصول هذا الصندوق.

وهي -كما ذكرتُ- لو أنها خلتْ من التعاملات المُحرمة تُساهم في تنمية الاقتصاد والسوق المحلية، وتُعتبر أداةً لتحريك الاستثمارات والأموال الجامدة، وتُؤدي إلى استفادة المُستثمرين -خاصةً صغار المُستثمرين- من أموالهم، فيضع المُستثمر أمواله في هذه الصناديق، وتُدِرُّ عليه أرباحًا من حينٍ لآخر، وربما تكون هذه الأرباح كبيرةً، كما عليه الحال الآن في بعض الصناديق الاستثمارية.

وأما التكييف الفقهي لها فقيل فيها: إنها مُضاربة، وقيل: وكالةٌ بأجرٍ.

العلماء المعاصرون كيَّفوها على أنها إما مُضاربة، فأنت منك المال، والبنك منه العمل، فتكون شركة مُضاربة، أو أنها وكالةٌ بأجرٍ، وكَّلْتَ البنك على أن يُدير هذه الأموال بأجرةٍ.

وعلى كلا التقديرين فإن المُضاربة والوكالة بأجرٍ جائزان شرعًا، فيكون الأصل في هذه الصناديق الاستثمارية الجواز.

ولكن إذا نظرنا إلى واقع هذه الصناديق الاستثمارية -وأعني بها الخاصة بالأسهم- نجد أن هذه الصناديق واقعها -في الحقيقة- واقعٌ مُؤسفٌ، فكما ذكرتُ هي تنقسم إلى قسمين:

  • القسم الأول: صناديق لا تُشرف عليها هيئاتٌ شرعيةٌ، وهذه الصناديق مُحرمةٌ؛ لكونها تتعامل بأسهم شركاتٍ مُحرمةٍ، وأيضًا ربما تتعامل بسنداتٍ، وتتعامل بتعاملاتٍ مُحرمةٍ، ليس المجال مجال تفصيلها.
  • أما الصناديق الأخرى التي تُشرف عليها بعض الهيئات الشرعية، مثل: صندوق الرائد والأمانة، وهذه الصناديق -في الحقيقة- تتعامل مع جميع الشركات المساهمة، ما يُسمى بالمجموعة السعودية، فمعنى ذلك: أنها تتعامل مع الشركات النَّقية والشركات غير النَّقية.

وهذه الهيئات الشرعية التي تُشرف على هذه الصناديق تتبنى القول الأول في حكم الشركات المُختلطة التي أصل تعاملها مباحٌ، لكنها تتعامل بالربا.

والهيئات الشرعية التي تُشرف على هذه الصناديق تُجيز الدخول في الشركات التي تتعامل بالربا إلى 30% من القيمة السوقية، ومعنى ذلك: أن معظم الشركات المساهمة تدخل في هذا.

وبناءً على القول الذي ترجح، أو رجحناه قبل قليلٍ وقلنا: إنه الذي عليه المجامع الفقهية، واللجنة الدائمة لبحوث العلم والإفتاء، قلنا: إنه لا يجوز الدخول في الشركات التي تتعامل بالربا ولو بنسبة 1%.

وبناءً على ذلك نقول: إن الصناديق الاستثمارية مُحرمةٌ؛ لأنها تتعامل مع شركاتٍ مساهمةٍ تتعامل بالربا، فبناءً على التأصيل السابق تكون مُحرمةً لهذا السبب.

ومَن أجازها من العلماء -فكما ذكرتُ- تبنوا القول الأول وهو: جواز الدخول في الشركات المساهمة إذا كانت تعاملاتها الربوية لا تزيد عن 30%.

وسبق أن بيَّنا أن هذا قولٌ مرجوحٌ، وأن القول الراجح الذي عليه أكثر أهل العلم -وهو الذي يقتضيه الدليل والقواعد الشرعية-: أنه لا يجوز الدخول في الشركات التي تتعامل بالربا ولو بنسبةٍ قليلةٍ.

وحينئذٍ نقول: إن الصناديق الاستثمارية الموجودة الآن بواقعها الحالي لا يجوز الدخول فيها؛ وذلك لأنها تتعامل مع شركاتٍ تتعامل بالربا، وتدخل بأسهمٍ في شركاتٍ تتعامل بالربا.

لكن نرجو في المستقبل أن توجد صناديق استثماريةٌ تختصُّ بالشركات النَّقية، ولا تدخل في الشركات التي تتعامل بالربا، نرجو أن يحصل ذلك، وأن يتحقق ذلك في المستقبل، ولكن هذا الحكم بناءً على واقع الصناديق الاستثمارية الآن.

فنقول: واقع الصناديق الاستثمارية الآن … الواقع الموجود، نقول: إنه يحرم الدخول في هذه الصناديق بناءً على القول الراجح، وهو: أنه لا يجوز الدخول في الشركات المساهمة إذا كانت تتعامل بالربا ولو بنسبةٍ قليلةٍ.

ونكتفي بهذا القدر في هذا الموضوع، ونسأل الله للجميع العلم النافع، والفقه في الدين، والتوفيق لما يُحب ويرضى.

المقدم: أحسن الله إليكم وأثابكم.

الأسئلة

فضيلة الشيخ، الأسئلة -حقيقةً- كثيرةٌ جدًّا، فلعل الشيخ -جزاه الله خيرًا- يأخذ الكثير من هذه الأسئلة، ولعله يتكرم بالنظر في أهمها والإجابة عنها إجمالًا؛ لأن عرضها جميعًا أظنه من الأمر المُحال، يعني: ربما تنتهي الدورة ولا نستطيع عرض الأسئلة كلها.

هذا سائلٌ يقول: ما معنى (الكمبيالات) بالتحديد؟

الشيخ: (الكمبيالات) هي نوعٌ من أنواع الأوراق التجارية، وسوف نشرحه -إن شاء الله- في درسٍ قادمٍ ونُبينه بالتفصيل.

وكانت رسالتي في (الدكتوراه) في الأوراق التجارية، ومنها: (الكمبيالات) بحثتها بشكلٍ مُفصلٍ، وسوف آتيكم بخلاصة الكلام فيها: في حقيقتها، والتكييف الفقهي لها، وحكمها الشرعي.

سوف نأتي بها -إن شاء الله تعالى- في درسٍ قادمٍ.

المقدم: أسئلةٌ كثيرةٌ حول شركة المراعي وجواز المساهمة فيها.

الشيخ: شركة المراعي عندها قروضٌ ربويةٌ بنسبةٍ كبيرةٍ تصل إلى 20% أو تزيد؛ ولذلك فإنه لا يجوز الدخول فيها؛ لأنها تتعامل بالربا، تتعامل بقروضٍ ربويةٍ، والنسبة فيها كبيرةٌ في الحقيقة.

وقد درس بعض الإخوة القوائم المالية ونشرة الإصدار الصادرة عنها، فوجدوا أن عندها قروضًا ربويةً تزيد عن 20%؛ ولذلك نقول: إنه لا تجوز المساهمة فيها.

المقدم: أيضًا أسئلةٌ كثيرةٌ حول بنك الراجحي، وهل هو إسلاميٌّ؟ وهل تجوز المساهمة فيه؟

الشيخ: نعم، بنك الراجحي يُعتبر بنكًا إسلاميًّا في الحقيقة، وعليه هيئةٌ شرعيةٌ من نخبةٍ من العلماء المُتخصصين في الأمور الشرعية، وهو أفضل البنوك الموجودة الآن في الحقيقة.

وقد تكون هناك بعض الإشكالات الموجودة في البنك، ومنها -مثلًا-: أن الهيئة الشرعية ترى القول الأول، وهو: جواز الدخول في جميع الشركات التي تتعامل بالربا إذا كانت النسبة لا تزيد عن 30%.

وهذا على كل حالٍ قولٌ لبعض أهل العلم، وذكرنا أنه قال به أيضًا من العلماء الكبار الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله.

فعندهم هذه الإشكالات، وقد تكون عندهم إشكالاتٌ في التعامل في الخارج، لكن وضعوا حسابًا يتخلصون فيه من الربا، لكنه بكل حالٍ يُعتبر أفضل البنوك الموجودة الآن.

وهناك بنك البلاد الذي يُعتبر أيضًا بنكًا إسلاميًّا، وقد حضرتُ لقاءً تعريفيًّا بهذا البنك، والقائمون عليه حريصون جدًّا على عدم الدخول في أي تعاملاتٍ مُحرمةٍ، ولكن -كما ذكرتُ في درسٍ سابقٍ- تبقى الإشكالية بالنسبة لأسهم بنك البلاد في أنه لا يجوز تداول أسهم بنك البلاد حتى تكون موجوداته أكثر من النقود، فلا بد أن تكون موجودات البنك أكثر من النقود.

أما إذا كانت النقود أكثر من الموجودات -أكثر من أعيان البنك- فتصبح المسألة مسألة بيع نقدٍ بنقدٍ مع التفاضل، وهذا ربًا صريحٌ؛ ولذلك نقول: لا بد من التأكد من أن موجودات البنك أكثر من النقود.

وقد سَرَّنا القرار الذي صدر عن البنك الأهلي، والقاضي بتحويل البنك الأهلي إلى بنكٍ إسلاميٍّ مع نهاية هذا العام، وجميع فروع البنك تتحول إلى فروعٍ إسلاميةٍ، ويتحول البنك بكامله إلى بنكٍ إسلاميٍّ، والبنوك الأخرى في طريقها إلى التحول، إن شاء الله تعالى.

المقدم: أحسن الله إليكم، وأثابكم، ونفع بكم.

وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 2742، ومسلم: 1628.
^2 رواه أبو داود: 3359، والترمذي: 1225، وقال: حسنٌ صحيحٌ، والنسائي: 4545، وابن ماجه: 2264، وأحمد: 1544.
مواد ذات صلة