عناصر المادة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه، ومَن اهتدى بهديه، واتَّبع سُنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
قبل أن نبدأ درسنا أخذتُ الأسئلة معي الواردة بالأمس واستعرضتُها، فوجدتُ أن بعض الإخوة يقول: إننا لا نستطيع أن نكتب.
وفي الحقيقة إن هذه الإشكالية تنجر لجميع الدروس، ولا شك أن الكتابة مهمةٌ، وتوكيد العلم مهمٌّ، ولكن أيضًا كون النقل مع كل كلمةٍ حتى تُكتب هذا صعبٌ.
ولذلك لا بد أن يتعود كل واحدٍ على سرعة الكتابة، ثم إذا لم يستطع فالمادة محفوظةٌ في موقع البث الإسلامي، فبإمكانه أن يتدارك وأن يستكمل.
الفرق بين وقت الفجر الصحيح وأذان أم القرى
الأمر الثاني: وردتْ أسئلةٌ حول وقت صلاة الفجر، ولعل الإخوة الذين سألوا سألوا باعتبار أنني عضوٌ في اللجنة المُشكلة، وقد انتهت اللجنة من دراستها للموضوع ورفعت النتائج، وقد وجدنا أنه مُتقدمٌ؛ أن أم القرى مُتقدمٌ عن الوقت الشرعي الذي هو طلوع الفجر الصادق، وأشدّ ما يكون تقدمًا هذه الأيام -فترة الصيف- التي يُؤذن فيها الفجر الساعة الثالثة والنصف، هذه أشدّ ما يكون تقدمًا؛ لأن الفرق يصل إلى إحدى وعشرين أو ثنتين وعشرين دقيقةً، ويتقلص هذا الفرق في فترة الربيع والخريف إلى ستّ عشرة دقيقةً، وهو ما بين ستّ عشرة إلى ثنتين وعشرين دقيقةً.
ولذلك فالذي نُوصي به الاحتياط في هذه المسألة، وألا يتعجل في إقامة صلاة الفجر؛ لأن العلماء متَّفقون على أن مَن صلى الصلاة وهو يشكُّ في دخول الوقت، فإن صلاته لا تصح، وهذا بإجماع العلماء، فينبغي التَّنبه لهذه المسألة.
بل إنني أقول: حتى السُّنة الراتبة للفجر ينبغي تأخيرها إلى ما بعد هذا القدر، فلو أخرت يعني …، وهناك تعليماتٌ من الوزارة بألا تُقام صلاة الفجر قبل خمسٍ وعشرين دقيقةً، فينبغي على الأقل التَّقيد بهذا، وإن جُعلتْ بعد نصف ساعةٍ فهو آكد وأكثر تيقنًا لدخول الوقت.
الشركات المساهمة
كنا تكلمنا بالأمس عن الأوراق المالية التي هي الأسهم والسندات: عن حقيقتها، وعن تكييفها الفقهي، وانتقلنا منها للكلام عن الشركات المساهمة، وذكرنا أنواعها، وفصَّلنا الكلام في الشركات المُختلطة التي أصل تعاملها مُباحٌ، لكنها تتعامل بالربا إقراضًا أو اقتراضًا.
ثم انتقلنا للكلام عن الصناديق الاستثمارية الخاصة بالأسهم، وبقيتْ جملةٌ من المسائل المتعلقة بهذا الموضوع نستكملها ثم ننتقل إلى موضوعٍ آخر.
فيما يتعلق بالشركات المساهمة نقول: إن الأنظمة في جميع دول العالم تفرض على الشركات المساهمة تخصيص جزءٍ من أرباحها ليكون احتياطيًّا لها، وهو ما يُعرف بالاحتياطي النظامي.
وعندنا هنا في المملكة نصَّ نظام الشركات السعودي المادة رقم (125) على أنه يجب على مجلس الإدارة تجنيب 10% من الأرباح الصافية كل سنةٍ لتكون احتياطيًّا، ويجوز للجمعية العمومية أن تُوقف هذا التَّجنيب متى بلغ هذا الاحتياطي نصف رأس المال.
إذن مفروضٌ على الشركات أن تجعل احتياطيًّا من الأرباح الصافية كل سنةٍ بمقدار 10% على الأقل، وهذه النسبة قد تكون كبيرةً في بعض الشركات، وهل الشركات تضع هذا المبلغ في حساباتٍ جاريةٍ ولا تأخذ عليها فوائد، أم أنها تضع هذا المبلغ في الودائع الآجلة وتأخذ عليها فوائد ربويةً؟
الواقع أن الشركات -إلا ما ندر- تضعها في حساب الودائع الآجلة وتأخذ عليها فوائد ربويةً، وهذا حال الشركات إلا ما ندر؛ لأنهم يرون أنهم لو وضعوها في حساباتٍ جاريةٍ بدون أخذ فوائد ضيَّعوا عليهم هذه الأرباح، أو يُسمونها: الفوائد، الفوائد الربوية التي يُسمونها: أرباحًا.
فهذه الشركات تضعها في حسابات الودائع الآجلة وتأخذ عليها فوائد، وهذا هو حال معظم الشركات.
ولهذا نقول: إنه يجب على المساهم أن يتحرى، وأن يسأل عن أعمال الشركة التي يريد المُساهمة فيها؛ لأن أعمال الشركات وإن كانت من حيث الأصل محمولةً على الصحة والسلامة، إلا أن هذا الأصل قد نازعه ظاهرٌ قويٌّ وهو: غلبة الإيداع والاقتراض بفوائد.
ولهذا نستطيع أن نقول: إن الأصل هو جواز الدخول في المُساهمات التي تتعامل بأمرٍ مُباحٍ، لكن مع ذلك نقول مع الواقع الذي تعيشه الشركات المساهمة الآن: إن الأصل في هذه الشركات الآن هو التعامل بالربا: الإقراض أو الاقتراض بالربا؛ ولهذا ينبغي الحذر، فلا يدخل الإنسان في شركةٍ بناءً على أن الأصل هو جواز الإسهام في الشركات؛ لأن الأصل الآن في الشركات المساهمة هو التعامل بالربا: الإقراض أو الاقتراض بالربا، هذا هو الأصل، وهذا هو حال معظم الشركات.
ولهذا يتعين على المساهم أن يتأكد قبل دخوله في أية مساهمةٍ من أن هذه الشركة لا تتعامل بالربا؛ لأن المسلم مسؤولٌ عن ماله يوم القيامة: من أين اكتسبه؟ وفيمَ أنفقه؟
وبعض الناس يقول الواحد منهم: أنا لا أدري عن واقع الشركة، أدخل فيها ولا أدري، وهم فقط يقولون: ضَعْ أموالك عندنا في البنك، ونُعطيك أرباحًا إن ربحت الشركة.
نقول: إن هذا لا يُعفيه من المسؤولية، ولا يُبرئ ذمته؛ لأن الأصل الآن في الشركات هو التعامل بالربا؛ ولذلك لا يدخل في أية مساهمةٍ حتى يتأكد من خلو هذه الشركة من التعامل بالربا؛ لأن الربا أمره عظيمٌ جدًّا عند الله ، وقد آذن الله تعالى آكل الربا بالحرب، ولعن النبي آكل الربا، ومُوكله، وكاتبه، وشاهديه، وهو أشدُّ من الخمر، وأشدُّ من الزنا؛ ولهذا فعلى المسلم أن يكون حذرًا من أن يقع في الربا من حيث لا يشعر.
وبعض الناس يقول: إن الجهة الفلانية، أو إن شخصًا يقول: أعطني مالًا، ولك في نهاية كل شهرٍ أرباحٌ. ثم يأتي ويستفتي العلماء، ومثل هذا الاستفتاء لا يمكن أن يُجاب عنه بجوابٍ صحيحٍ؛ لأنه يُطرح عليه سؤالٌ: فيمَ تُشغل أموالك؟
أما كون الإنسان يقول: أُعطي فلانًا أموالي، ولا أدري عنها كيف تُشغل هذه الأموال؟ وكيف تُستثمر؟ خاصةً في هذا الزمن الذي قد كثر فيه الربا، وعظمتْ فيه الجرأة على الربا.
إذن لا يُعفي الإنسان أن يُعطي جهةً أو مؤسسةً أو شركةً أو فردًا ماله، ولا يدري كيف يُستثمر؟ لا بد من أن يعرف كيف يُستثمر؟
وقول بعض المُستثمرين لمَن سألهم عن ذلك: هذا سِرُّ المهنة، لا تسأل، ما لك إلا الأرباح في نهاية الشهر.
هذا ليس بصحيحٍ، هذا غير مقبولٍ؛ لأنه في الوقت الحاضر انتشر الربا وكثر، وعظمت الجرأة عليه، فمن حقِّ هذا الشخص أن يعرف كيف تُستثمر أمواله؟
وقد رأيتُ شركاتٍ تُوزع الأرباح قبل تشغيلها، وقبل إنشائها، وقبل قيامها، فكيف يمكن هذا؟!
تُوزع الأرباح على المساهمين قبل أن تبدأ الشركة! وقبل أن تنهض! فهذا معناه أن أموال المساهمين وُضعتْ في بنوكٍ، وأخذتْ عليها فوائد، ثم وزعت الفوائد على المساهمين.
نحن ذكرنا بالأمس رأي العلماء في حكم الدخول في الشركات المساهمة التي أصل تعاملها مُباحٌ، لكنها تتعامل بالربا إقراضًا واقتراضًا، وذكرنا أبرز مَن قال بكل قولٍ، ورجحنا القول بعدم جواز الدخول في الشركات التي تتعامل بالربا، ولو بنسبةٍ يسيرةٍ، وذكرنا أن هذا هو رأي المجامع الفقهية، لكن لو أخذ أحد الناس بالرأي الأول -خاصةً أن من أبرز مَن قال به الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله- ثم سأل: كيف أتخلص من الربا؟
لا شكَّ أننا أيضًا مع ترجيح القول الثاني نحترم أصحاب القول الأول، وهم علماء أفاضل ومجتهدون، إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطؤوا فلهم أجرٌ واحدٌ.
لو أن أحدًا أخذ بالرأي الأول، ودخل في تلك الشركات التي أصل تعاملها مُباحٌ، لكنها تتعامل بالربا، فكيف يعرف المقدار المُحرم في تلك الشركات؟
الواقع أن تحديد مقدار الكسب المُحرم على وجهٍ دقيقٍ قد يكون مُتعذرًا؛ وذلك لأمورٍ:
الأمر الأول: أن تلك الشركات ليست فقط تُودع وتأخذ فوائد، وإنما بعضها -أو ربما كثيرٌ منها- تقترض من البنوك لتمويل أعمالها، ولإجراء توسعات في الشركة، فتدخل تلك القروض في أعمال الشركة نفسها، فيصعب تحديدها على وجهٍ دقيقٍ.
ثم إن من المُستثمرين مَن يشتري الأسهم بقصد المُضاربة، ويصعب تحديد مقدار الكسب المُحرم.
ثم أيضًا إذا خسرت الشركة، فما نصيب الكسب الحرام من هذه الخسارة؟
خاصةً إذا علمنا أن إيرادات الودائع والسندات ثابتةٌ، فهذا يعني أن الخسارة على مَن يريد التخلص من الربا ستكون مُضاعفةً.
ثم إن من المعتاد أن الشركة تستثمر جزءًا من أموالها إما في شركاتٍ تابعةٍ لها، أو في شركاتٍ زميلةٍ، أو في صناديق استثماريةٍ أو سنداتٍ، وقد تكون تلك الأسهم من شركاتٍ ذات أنشطةٍ مُحرمةٍ، أو ذات أنشطةٍ مُباحةٍ وتتعامل بالفوائد؛ وحينئذٍ يُصبح تحديد الكسب الحرام على وجهٍ دقيقٍ مُتعذرًا أو شبه مُتعذرٍ، ولكن نقول: إنه يتحرى ويحتاط، ويسأل قسم المُحاسبة في تلك الشركات عن مقدار الربا؛ مقدار الإيراد المُحرم والربا، وهم يُعطونه نسبةً ولو تقريبية، ويزيد عليها احتياطًا؛ لأن معرفتها على وجهٍ دقيقٍ قد يكون -كما ذكرنا- صعبًا أو مُتعذرًا، ولكن -كما ذكرتُ- يتحرى في هذا، ويُخرج ما يظن أنه مُبرئٌ لذمته أمام الله تعالى.
التخلص من الفوائد الربوية
إذا أخرج الكسب المُحرم أو الإيراد المُحرم على كل سهمٍ، أين يضع هذا الكسب المُحرم؟
يعني مثلًا: دخل في شركةٍ مساهمةٍ عرف أنها تُقرض أو تقترض بالربا، واستطاع أن يعرف مقدار الربا على وجه التقريب، وأراد الآن أن يتخلص من هذا الربا، فأين يضع هذا الربا؟
نقول: إن هذا له عدة احتمالاتٍ:
- الاحتمال الأول: أن هذا الشخص يأخذ هذا الربا وينتفع به، ويصبح ملكًا له.
وهذا الاحتمال احتمالٌ مرفوضٌ، وغير مقبولٍ؛ لأنه يقتضي تملك الربا الناشئ عن كسبٍ مُحرمٍ، فهذا الاحتمال إذن غير واردٍ في الحقيقة: أن الإنسان يأخذ هذا الربا ويتملكه؛ لأنه يقتضي أن يدخل مِلْكَ المسلم مالٌ نشأ عن سببٍ حرامٍ، فهذا الاحتمال إذن مرفوضٌ. - والاحتمال الثاني: أنه يترك الفوائد الربوية، والكسب الربوي، ولا يأخذه، إنما يأخذ فقط الكسب الحلال، أما الكسب الحرام فيتركه -مثلًا- في البنك.
وهذا أيضًا غير مقبولٍ، وإذا رجعنا إلى كلام الفقهاء في الكسب الناشئ عن الفعل المُحرم كالزنا، فإنهم نصُّوا على أن المال المدفوع في مقابل الزنا لا تستحقه البغي -لا تستحقه الزانية-؛ للحديث الذي رواه أبو مسعودٍ : “أن رسول الله نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن” [1] أخرجه البخاري ومسلم.
والزاني لا يُردّ عليه المال الذي بذله في الزنا، وليس ملكًا للبغي.
ثم إن ترك ذلك المال المُحرم للبنك -مثلًا- أو للشركة تترتب عليه أمورٌ، منها: الإعانة على الاستمرار في الربا، والتَّجرؤ عليه؛ لأنه -في الحقيقة- يكون كأنه قد كافأهم على هذا العمل، وترك لهم هذا المال، تصور أن مجموعةً من الناس فعلوا ذلك.
ثم إن المسلم مسؤولٌ أمام الله عما تسبب فيه من إيجاد الحرام، وتركه لهذا المال هو -في الحقيقة- تهربٌ، فهو الآن ارتكب خطأً، وحصل له مالٌ مُحرمٌ، فكونه يتركه في البنك ولا يستلمه هو -في الحقيقة- تهربٌ لا يُعفيه من المسؤولية؛ لأنه هو الذي تسبب في إيجاد هذا المال المُحرم.
ثم إن المصرف أو البنك لا يُعدُّ مالكًا لهذه الفوائد: لا على حسب قوانينه، ولا بمُقتضى الأحكام الشرعية، فبأي حقٍّ تُترك هذه الأموال؟!
إذن عرفنا الاحتمال الأول: أنه يأخذها ويتملكها وينتفع بها، وهو مرفوضٌ.
والاحتمال الثاني: أنه يتركها للبنك، وهو مرفوضٌ أيضًا.
- الاحتمال الثالث: أنه يأخذها ولا ينتفع بها، بل يُتلفها، أو يحرقها، أو يرميها بالبحر كما يُقال.
وهذا أيضًا مرفوضٌ؛ لأن هذا فيه إضاعةٌ للمال، والمسلم منهيٌّ عن إضاعة ماله، فكونه يأخذها ويُتلفها أيضًا هذا غير مقبولٍ ومرفوضٌ، خاصةً أن المبلغ ربما يكون كبيرًا، فربما يكون ملايين. - إذن لم يبقَ إلا الاحتمال الرابع، وهو: أنه يأخذها ويتصدق بها في وجوه البرِّ، وهذا هو الاحتمال الذي يتعين المصير إليه، لكن هنا لا بد أن نُقيد هذا التصدق بأن يكون بنية التخلص، لا بنية التقرب؛ لأن الله تعالى طيبٌ لا يقبل إلا طيبًا.
إذن يتصدق بها بنية التصدق في وجوه البرِّ.
إذن عندنا أربعة احتمالاتٍ:
- الاحتمال الأول: أنه يأخذها ويتملكها وينتفع بها، وقلنا: هذا مرفوضٌ.
- الاحتمال الثاني: أنه يتركها للبنك، وهذا أيضًا مرفوضٌ، وعرفنا الأسباب.
- الاحتمال الثالث: أنه يأخذها ويُتلفها: إما بحرقها، أو بإتلافها بأي صورةٍ من صور الإتلاف، وهذا أيضًا مرفوضٌ؛ لأنه إضاعةٌ للمال.
- الاحتمال الرابع: أنه يأخذها ويصرفها في وجوه البرِّ بنية التخلص، وهذا هو الذي يتعين المصير إليه.
التصدق بالفوائد الربوية على الفقراء والمساكين
هل يجوز أن يتصدق بها على الفقراء والمساكين؟
نقول: نعم، يتصدق بها على الفقراء والمساكين.
ولا يُقال: إن هذا مالٌ خبيثٌ، كيف يتصدق به على فقيرٍ أو مسكينٍ؟
نقول: لأن تبدل الملك سببٌ لتبدل الذات، وهذه قاعدةٌ فقهيةٌ: أن تبدل الملك سببٌ لتبدل الذات، ويدل لهذه القاعدة قول النبي : هو لها صدقةٌ، ولنا هديةٌ [2]، لما تُصُدِّق على بريرة، فأهدتْ للنبي ، فقيل: يا رسول الله، إنها صدقةٌ. ومعلومٌ أن النبي لا يأكل الصدقة، فقال: هو لها صدقةٌ، ولنا هديةٌ، فإذا أهدى الفقيرُ هديةً بصدقةٍ تُصُدِّق بها عليه، فإنها تُصبح هديةً، ولا تُصبح صدقةً، فإنه بمجرد تملك الفقير الصدقة أصبحتْ ملكًا له، ولم تَعد صدقةً، فله أن يتصرف فيها: إما بإهداءٍ، أو بيعٍ، أو نحو ذلك، فتبدل الملك سببٌ لتبدل الذات.
وهكذا أيضًا نقول: هذا الشخص عنده هذا المال الحرام، فإذا أعطاه لفقيرٍ هنا تبدل الملك، فيُعتبر للفقير حلالًا، بينما لهذا الشخص هو في حقِّه حرامٌ.
ومما يدل لهذا أن الإنسان يتعامل مع غيره، وربما يكون هذا المال الذي يتعامل به معه مُحرمًا، ربما يكون هذا المال -مثلًا- مسروقًا، فلو ذهبتَ واشتريتَ سلعةً من شخصٍ، أو بِعْتَ سلعةً على شخصٍ، وأخذتَ منه دراهم، ولم تعلم أن هذه الدراهم التي أعطاك إياها مغصوبةٌ -مثلًا- أو مسروقةٌ؛ فإنه لا شيء عليك، أو لو أخذها من طريقٍ ربويٍّ -مثلًا-، ولم تعلم أنت بهذا، وإلا لو قلنا: إن كل شخصٍ عليه أن يتتبع مصدر هذا المال لَلَحِقَ الناسَ حرجٌ عظيمٌ، فتبدل الملك إذن سببٌ لتبدل الذات.
إذن لا بأس بأن تُعطى الفقراء والمساكين، ومما يدل لهذا: لو أن شخصًا عنده مالٌ، وهذا المال مُحرمٌ لكسبه، ثم تُوفي، فإنه يُصبح لورثته مُباحًا، يُصبح لورثته حلالًا؛ لأن تبدل الملك سببٌ لتبدل الذات.
فلو كان شخصٌ يتعامل بالربا، ثم تُوفي، فإن أمواله تكون كلها مُباحةً للورثة، وهذا في قول عامة أهل العلم.
إذن لا بأس بأن يُعطي هذا المال الفقراء والمساكين، أو يتصدق به في أي وجهٍ من وجوه البرِّ والإحسان وما ينفع المسلمين.
وقول بعض العلماء: أنه لا يتصدق به إلا في دورات مياه المساجد ونحو ذلك، هذا محل نظرٍ؛ لأنه لا دليل على هذا القول، ولأن هذا المال -كما ذكرنا- تغير وتبدل ملكه، فتغيرت حقيقته وتكييفه.
يعني: القول بأنه لا يتصدق به إلا في مثل هذه الأمور ليس عليه دليلٌ، والصواب: أنه يتصدق به في أي وجهٍ من وجوه البرِّ، ولا بأس بأن يُعطيه الفقراء والمساكين.
هذا ما يتعلق بهذه المسألة.
زكاة الأسهم
حتى نُنهي بحث هذه المسألة -وهي الأسهم والشركات المساهمة- بقيتْ معنا مسألة زكاة الأسهم، كيف تُزكَّى؟
وهذه المسألة -أعني: زكاة الأسهم- قد بحثها مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وأصدر فيها قرارًا، وخلاصة القرار: أنه تجب زكاة الأسهم على أصحابها، وتُخرجها إدارة الشركة نيابةً عنهم إذا نصَّ نظامها الأساسي على ذلك، أو صدر به قرارٌ من الجمعية العمومية، أو كان قانون الدولة يُلزم الشركات بإخراج الزكاة، فالأصل أن هذه الشركات هي التي تُخرج الزكاة، وإذا أخرجت الزكاة لم يلزم المُساهمين أن يُخرجوها مرةً ثانيةً؛ لأن المال لا يُزكَّى مرتين.
وعندنا بالمملكة الدولة -وفَّقها الله- تُلزم الشركات بإخراج الزكاة، فإذا علمتَ بأن هذه الشركة التي ساهمتَ فيها قد أخرجت الزكاة لم يجب عليك أنت أيها المُساهم أن تُزكي هذه الأسهم؛ لأن هذا المال قد زُكِّي، ولا يُزكَّى المال مرتان.
ثانيًا: تُخرج إدارة الشركة زكاة الأسهم كما يُخرج الشخص الطبيعي زكاة أمواله، بمعنى: أن تُعتبر جميع أموال المساهمين بمثابة أموال شخصٍ واحدٍ، وتُفرض عليها الزكاة بهذا الاعتبار من حيث نوع المال، ومن حيث النِّصاب، ومن حيث المقدار.
يعني: تُعتبر أموال هؤلاء المساهمين كأنها مال شخصٍ واحدٍ، وتُخرج بناءً على هذا الاعتبار.
أما إذا لم تُخرج الشركة الزكاة لأي سببٍ من الأسباب، ساهمتَ في شركةٍ وتعلم أن الشركة لم تُخرج الزكاة، فالواجب حينئذٍ على المساهمين إخراج الزكاة، وتكون زكاة الأسهم فيها تفصيلٌ، فإذا أراد المُساهم أن يُزكي هذه الأسهم ففي ذلك تفصيلٌ: فإن كان المساهم قد اقتنى هذه الأسهم بقصد التجارة -يعني: يبيع ويشتري فيها- فإنه يُزكي رأس المال مع الأرباح -رأس مال الأسهم مع الأرباح- يعني: حكمها حكم عروض التجارة.
وطريقة ذلك: أن يعتبر نفسه كأنه يريد أن يبيع هذه الأسهم، كم قيمتها؟
فإذا قيل: قيمة هذه الأسهم أربعون ألفًا؛ أخرج رُبْع العُشْر وهو ألفٌ، والمُعتبر هنا قيمتها السوقية، وليس قيمتها الاسمية.
والمراد بقيمتها السوقية يعني: كما مثلتُ قبل قليلٍ، يعني: قيمتها في السوق؛ لأن القيمة السوقية قد تكون أضعاف القيمة الاسمية، فيعتبر نفسه كأنه يريد أن يبيع هذه الأسهم، كم قيمتها؟
هذا المقصود بالقيمة السوقية، ثم يُخرج رُبْع العُشْر، ويُزكيها زكاة عروض التجارة.
أما إذا كان المُساهم لا يريد بيع الأسهم، وإنما يريد الاستفادة من أرباحها فقط، وهذا يحصل من بعض الناس، فبعض الناس يقول: أنا ما أريد أن أبيع أسهمي في الشركة، لكن فقط أريد أن أستفيد من الأرباح، أريد من هذه الأسهم أن تُدرَّ عليَّ أرباحًا كل سنةٍ، مثلًا.
فهنا يُزكي الأرباح فقط، وأما رأس مال الأسهم فلا تجب فيه الزكاة.
ولهذا جاء في نصِّ القرار: “فإن كان قد ساهم في الشركة بقصد الاستفادة من رِيع الأسهم السنوي، وليس يقصد التجارة؛ فإنه يُزكيها زكاة المُسْتَغَلَّات، فصاحب السهم في هذه الحال لا زكاةَ عليه في أصل السهم، وإنما تجب عليه الزكاة في الرِّيع، وهو رُبْع العُشْر بعد دوران الحول …” إلخ.
إذن إذا كان لا يقصد التجارة، ولا يقصد بيع هذه الأسهم، إنما يريد فقط أن ينتفع بأرباحها؛ فإنه يُزكي الأرباح فقط عند تمام الحول، وأما أصل الأسهم فإنه لا تجب فيه الزكاة.
وهذه المسألة محل خلافٍ، لكن هذا هو أحسن ما قيل فيها.
نُلخص الكلام فيها مرةً أخرى:
أقول بالنسبة لزكاة الأسهم: إن كانت الشركة تُزكي الأسهم فيكفي ذلك، ولا حاجة لأن يُزكيها المُساهم مرةً أخرى، أما إن كانت الشركة لا تُزكي الأسهم فإنه يلزم المُساهم أن يُزكيها.
وهنا ننظر: إن كان المساهم -يعني: النية هنا لها أثرٌ- قصد باقتناء هذه الأسهم التجارة، ويبيع فيها ويشتري، فهنا يُزكي رأس المال الذي هو أصل الأسهم مع الأرباح بقيمتها السوقية.
أما إن كان المساهم لا ينوي بها التجارة ولا البيع، وإنما يريد الانتفاع برِيعها وبربحها فقط، فهنا تجب الزكاة على الأرباح فقط، ولا تجب على أصل السهم.
هذا هو أرجح ما قيل في هذه المسألة، وهو الذي -كما أشرتُ- قرره مجمع الفقه الإسلامي.
هذا ما يتعلق بالأسهم.
س: ………..؟
ج: نعم، الأرباح يُزكيها عند تمام الحول؛ لأن الأرباح لا يُشترط فيها تمام الحول، فعند الفقهاء أن نِتاج السَّائمة وربح التجارة حولهما حولي أصليهما.
فهذه الأسهم التي تَمَلَّكها ننظر إلى هذه الأرباح، متى حال عليها الحول فإنه يُزكيها، لكنها تكون تابعةً للأصل.
هذا ما يتعلق بالأسهم والسندات، والتي تُسمى بالأوراق المالية، والشركات المُساهمة، وما فرعنا عليه من الكلام عن صناديق الأسهم الاستثمارية.
شركات المُضاربة
أيضًا ما دام الحديث في الشركات نستكمل الحديث حول شركات المُضاربة.
وسبق أن ذكرنا في الدرس السابق أن الفقهاء يُقسمون الشركات إلى أقسامٍ: شركة العنان، وشركة المُضاربة، وشركة الوجوه، وشركة الأبدان.
وذكرنا بالأمس تعريف شركة المُضاربة، وهي: أن يدفع شخصٌ مالًا لمَن يتَّجر به، ويكون الربح بينهما بحسب ما اتَّفقا عليه.
هذا هو معنى شركة المُضاربة: أن يدفع شخصٌ مالًا لمَن يتَّجر به، ويكون الربح بينهما بحسب ما اتَّفقا عليه.
وهذا إما أن يكون -مثلًا- في البنوك، ومن ذلك: الصناديق الاستثمارية، فلو قُدر وجود صناديق استثمارية لا تتعامل مع شركاتٍ تتعامل بالربا، وإنما تتعامل -مثلًا- في بضائع، أو في أشياء، ولا يدخلها الربا بأي وجهٍ من الوجوه، فحينئذٍ يكون التكييف الفقهي لها أنها مُضاربةٌ، ولا بأس بها.
كذلك أيضًا بعض الناس يجمع أموالًا من آخرين، ويستثمرها لهم، إما -مثلًا- في بناء عقارٍ، أو في شراء سلعٍ -توريد سلعٍ وبيعها-، أو في غير ذلك، فهذا أيضًا يُعتبر مُضاربةً؛ لأن هذا الشخص منه العمل، ومن هؤلاء المال، فيكون هذا أيضًا مُضاربةً، وهذا كثيرٌ اليوم.
الربح والخسارة في شركة المُضاربة
هذه المُضاربة نقول: إنه لا يجوز تحديد الربح فيها بمقدارٍ معينٍ من المال، بل يجب أن يكون الربح فيها مشاعًا، أما تحديده بمقدارٍ معينٍ فهذا -في الواقع- يتنافى مع حقيقة المُضاربة، ويجعلها قرضًا بفائدةٍ.
ففي مثالنا السابق: لو أن شخصًا قال: أعطني خمسين ألفًا، ولك كل شهرٍ خمسة آلافٍ أرباحًا. فإن هذا لا يجوز؛ لأن حقيقة هذا هو أنه يقول: أقرضني خمسين ألفًا بفائدةٍ، وهذه الفائدة تكون في كل شهرٍ خمسة آلافٍ، فتُصبح المسألة تنقلب من كونها مُضاربةً إلى كونها قرضًا بفائدةٍ.
إذن ما المخرج؟
نقول: اجعل الربح مشاعًا، فتقول: لك -مثلًا- الربع، النصف، الثلث، لك 20%، 10%، 50% من الربح، بحسب ما اتَّفقا عليه.
وسبق أن ذكرنا بالأمس قاعدةً في باب الشركات، وهي: أن الملك والربح بحسب ما اتَّفقا عليه أو اتَّفقوا عليه.
إذن لا بد أن يكون الربح مشاعًا، ومعنى قولنا: مشاعًا، يعني: بالنسبة، إما الربع، أو الثلث … إلخ، أو 20%، 30%.
أما أنه يُحدد مبلغًا معينًا فإن هذا مُحرمٌ، وهذا ما تفعله بعض البنوك، يُحددون أرباحًا معينةً، فهذا يُخرج المسألة من كونها مُضاربةً إلى كونها قرضًا بالفائدة.
ثم أيضًا يجب أن تكون المُضاربة هنا قابلةً للربح والخسارة، فلا يضمن الربح، ولا يضمن عدم الخسارة، فإن ضمن الربح أو ضمن عدم الخسارة أصبحت المسألة قرضًا بفائدةٍ؛ لأن التجارة المشروعة هي ما تضمنت المُخاطرة، ومعنى قولنا: المُخاطرة، يعني: أنها تقبل الربح والخسارة، هذه هي التجارة المشروعة.
أما تجارةٌ يضمن فيها الربح، أو يضمن فيها عدم الخسارة، فهذه -في الحقيقة- ما هي إلا قرضٌ بفائدةٍ، وهذا هو الذي تُمارسه بعض البنوك، بحيث تضمن الربح، أو تضمن عدم الخسارة، وهذا مُحرمٌ، وإن كانت -خاصةً في السنوات الأخيرة- بدأت -ولله الحمد- تُصحح كثيرًا من التعاملات.
أما توقع الربح فلا بأس به، إذا كان -مثلًا- هذا الشخص المُضارب يقول: أتوقع أن يحصل لك في الشهر ألفٌ أو ألفان، مجرد توقعٍ فقط، وقد يصدق هذا التوقع، وقد لا يصدق، فهذا لا يضر؛ لأنه مجرد إخبارٍ قد يصح، وقد لا يصح، لكن كلامنا في الالتزام؛ أن يلتزم له بعدم الخسارة، أو يلتزم له بضمان ربحٍ مُعينٍ، فهذا هو الممنوع شرعًا.
وأيضًا صدر في هذا قرارٌ من مجمع الفقه الإسلامي التابع للرابطة، ونحن قلنا -يا إخوان- من أول درسٍ: منهجنا أن أية مسألةٍ فيها قراراتٌ من المجامع الفقهية أو الهيئات العلمية ننقل تلك القرارات؛ لأننا سبق أن قلنا: إن الاجتهاد الجماعي أقرب للتوفيق من الاجتهاد الفردي، فأية مسألةٍ تمر معنا فيها قراراتٌ لمجامع فقهيةٍ أو هيئاتٍ علميةٍ ننقل تلك القرارات.
المجمع الفقهي التابع للرابطة برئاسة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله أصدر في هذه المسألة قرارًا في الدورة الرابعة عشرة، قرر المجمع أنه لا يجوز في المُضاربة أن يُحدد المُضارب لرب المال مقدارًا معينًا من المال؛ لأن هذا يتنافى مع حقيقة المُضاربة، ولأنه يجعلها قرضًا بفائدةٍ، ولأن الربح قد لا يزيد عما جعل لرب المال فيستأثر به كله.
يعني: مثلًا لو قال: لك أربعة آلافٍ. قد تكون الأرباح كلها أربعة آلافٍ، وحينئذٍ يستأثر بالربح كله، وقد تخسر المُضاربة، أو يكون الربح أقلّ مما جعل لرب المال؛ فيغرم المُضارب.
قالوا: والفرق الجوهري الذي يفصل بين المُضاربة والقرض بفائدةٍ الذي تُمارسه البنوك الربوية هو: أن المال في يد المُضارب أمانةٌ، لا يضمنه إلا إذا تعدَّى أو قصَّر، يعني: فلا تضمن الخسارة، والربح يُقسم بنسبةٍ شائعةٍ متفقٍ عليها بين المُضارب ورب المال.
وقد أجمع الأئمة الأعلام على أن من شروط صحة المُضاربة: أن يكون الربح مشاعًا بين رب المال والمُضارب دون تحديد قدرٍ مُعينٍ لأحدهما.
هذا ما يتعلق بهذه المسألة.
إذن يجب ألا يُحدد مقدار الربح، ويجب أن تكون التجارة مبنيةً على الربح والخسارة، تكون قابلةً للربح والخسارة، فلا يضمن عدم الخسارة، ولا يضمن الربح، وأن يكون الربح مشاعًا.
الخسارة مَن الذي يتحملها؟
الخسارة يتحملها رب المال، وأما المُضارب -الذي هو العامل- فلا يتحمل خسارةً، ففي مثالنا السابق هذا الشخص أعطيته خمسين ألفًا، وقلت له: اتَّجر بها -ضارب بها- والربح بيننا أنصافٌ، لك 50%، ولي 50%.
لنفترض أن هذا المُضارب خسر، فهل يتحمل شيئًا من الخسارة؟
نقول: لا يتحمل، فهو -في الحقيقة- خسر جهده، فلا يتحمل شيئًا من الخسارة، وكلها عليك أنت رب المال، وقد نصَّ على هذا الفقهاء رحمهم الله، بل ذكروا أنه حتى لو شرط رب المال على المُضارب عدم الخسارة، فإن هذا الشرط غير صحيحٍ.
لو قال: أنا أُعطيك خمسين ألفًا، لكن أشترط عليك أن الخسارة عليك وليست عليَّ.
فهذا شرطٌ غير صحيحٍ، حتى لو قَبِلَ المُضارب.
واختلف العلماء: هل هذا الشرط يُبطل العقد، أو لا يُبطله؟
فالجمهور على أنه لا يُبطله، والشافعية ذهبوا إلى أنه يُبطله، والأظهر هو قول الجمهور في هذه المسألة.
إذن الخسارة يتحملها رب المال، ولا يتحملها المُضارب، حتى لو شرط ذلك عليه، وبهذا أيضًا صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي؛ فإنه قد قرر أن الخسارة في مال المُضاربة على رب المال في ماله، ولا يُسأل عنها المُضارب إلا إذا تعدَّى على المال أو قصَّر في حفظه.
نعم، إذا تعدَّى أو فرَّط فهنا يتحمل المُضارب الخسارة بسبب تعديه أو تفريطه، لكن إذا لم يتعدَّ ولم يُفرط فالخسارة إنما يتحملها رب المال؛ لأن مال المُضاربة مملوكٌ لصاحبه، والمُضارب أمينٌ عليه ما دام في يده، ووكيلٌ في التصرف فيه، والوكيل والأمين لا يضمنان إلا في حالة التعدي والتقصير.
والمسؤول عما يحدث في البنوك والمؤسسات المالية ذات شخصيةٍ اعتباريةٍ هو مجلس الإدارة؛ لأنه الوكيل عن المُساهمين في إدارة الشركة، والحالات التي يُسأل عنها مجلس الإدارة هي الحالات التي يُسأل عنها المُضارب الشخص الطبيعي، فيكون مجلس الإدارة إذن مسؤولًا أمام أرباب المال عن كل ما يحدث في مال المُضاربة من خسارةٍ بتَعَدٍّ أو تفريطٍ.
أما إذا لم يكن هناك تعدٍّ أو تفريطٌ، فإن الشركة أو البنك لا يتحمل شيئًا من الخسارة، وعلى المُساهمين مُحاسبة مجلس الإدارة على التَّعدي أو التَّقصير.
إذن عرفنا ما يتعلق بمسألة الربح والخسارة في شركة المُضاربة.
هذه هي أبرز الأحكام المتعلقة بهذا الموضوع -أعني: الشركات- وإن كان الأمر أو الكلام أوسع من هذا.
وبعض الإخوة اقترح في الأوراق التي أخذتُها بالأمس أن نتوسع في الكلام عن الشركات الموجودة في النظام السعودي وشرحها وتكييفها، وفي الواقع هذا سيأخذ منا وقتًا كثيرًا، وربما يكون على حساب موضوعاتٍ أخرى أهمّ.
ونحن ذكرنا أن منهجنا في هذا الدرس هو: أن نُركز على المسائل الواقعية التي يحتاج إليها الناس؛ ولذلك نقتصر في كل موضوعٍ على الأهم فيه، حتى نُغطي معظم الموضوعات الموجودة، والواقعية، والتي يكثر السؤال عنها.
إذن هذا ما يتعلق بالأوراق المالية، وكذلك موضوع الشركات.
الأوراق النقدية
ننتقل بعد ذلك إلى موضوعٍ آخر هو: الأوراق النقدية.
الأوراق النقدية موجودةٌ من قديم الزمان، وقد كانت في عهد النبي تُسمى بالدراهم والدنانير، فالدراهم تُمثل الفضة، والدنانير تُمثل الذهب، وأول مَن ضرب النقود في الإسلام هو عبدالملك بن مروان سنة أربعٍ وسبعين، وقد أشار إلى ذلك الطبري وغيره، وذكروا أن سبب ذلك هو: لما ساءت العلاقات بينه وبين الروم، وقام عبدالملك بن مروان في قصةٍ طويلةٍ، وأمر بأن تُضرب النقود في الدولة الإسلامية، وأمر بأن يُكتب عليها: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، بدل ما كان يُكتب من عباراتٍ خاصةٍ بالروم.
ويُقال أيضًا: إنه وضع صورته بدل صورة القيصر.
المقصود أنه أول مَن أمر بضرب النقود، فصُكَّت النقود في عهده، وأصبحت تُصَكُّ النقود وتُضرب إلى وقتنا هذا.
هذه الأوراق النقدية التي تُسمى الآن عندنا بالريالات، ما تكييفها الفقهي؟ وما الأحكام المُترتبة على ذلك التكييف؟
خلاف الفقهاء في الأوراق النقدية
اختُلف في هذه المسألة اختلافًا كثيرًا على أقوالٍ:
- ذهب بعض العلماء إلى أن الأوراق النقدية هي: سنداتٌ بدينٍ على جهة مصدرها، فمثلًا: هنا الريالات تُعتبر سنداتٍ على الجهة المصدرة التي هي مؤسسة النقد العربي السعودي، فهي تُعتبر إذن سنداتٍ بدينٍ.
ولكن اعتُرض على هذا بأن التعهد بسداد ما تُمثله هذه الأوراق النقدية أصبح الآن تعهدًا صوريًّا، وليس حقيقيًّا، وإن كان حقيقيًّا في بداية استعمالها، لكنه الآن أصبح صوريًّا، يعني: في السابق -ربما بعضكم يذكر- كان يُكتب على الأوراق النقدية: تتعهد مؤسسة النقد العربي السعودي بأن تدفع لحامل هذه الورقة قيمتها.
كان هذا يُكتب في السابق، والآن لم يعد يُكتب، فأصبح هذا التعهد تعهدًا -في الحقيقة- صوريًّا، وليس تعهدًا حقيقيًّا.
ولذلك لو أن شخصًا ذهب الآن إلى مؤسسة النقد وقال: أعطوني بدل هذا الريال، أو بدل المئة ريال، أعطوني بدلًا عنه ما يُمثله من ذهبٍ أو فضةٍ. ما أعطوه شيئًا، وربما سخروا منه.
إذن أصبح هذا تعهدًا صوريًّا، وليس تعهدًا حقيقيًّا.
هذا هو القول الأول في المسألة. - القول الثاني: أن هذه الأوراق النقدية تُعتبر عَرَضًا من العروض.
ونُسب هذا القول للشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله: أنه يرى أن الأوراق النقدية بمنزلة العروض والفلوس المعدنية، إلا أنه لا يُباع منها حاضرٌ بمُؤجلٍ، بل قد وُجد هذا من كلام الشيخ في الفتاوى السعدية (ص335): أنها بمنزلة العروض والفلوس المعدنية، إلا أنه لا يُباع منها حاضرٌ بمُؤجلٍ.
والحقيقة أن هذا القول لو قيل به لانفتح باب الربا في البنوك على مصراعيه، فيصبح ما في ربا، وتصبح هذه بمثابة العروض، كأنك تبيع عرضًا بعرضٍ، أو عرضًا بنقدٍ مثلًا، فهذا يفتح باب الربا على مصراعيه، وتفرح البنوك بمثل هذا القول.
ولذلك هذا القول فيه خطورةٌ في الحقيقة، وفيه إشكالاتٌ كثيرةٌ؛ ولذلك يُعتبر من أضعف الأقوال. - القول الثالث: أن الأوراق النقدية كالفلوس التي ذكرها الفقهاء، فما ثبت للفلوس من أحكامٍ ثبت للأوراق النقدية، والفلوس قد اختلف فيها الفقهاء؛ فمنهم مَن قال: إنها تُعتبر كعروض التجارة، ومنهم مَن قال: إنها يثبت لها ما يثبت للنقدين، ومنهم مَن قال: إنها تُلحق بالنقدين في وجوب الزكاة، وجريان ربا النَّسيئة، ولا تُلحق بالنقدين في ربا الفضل.
ولكن أيضًا إلحاق الأوراق النقدية بالفلوس محل نظرٍ؛ لأن هذه الأوراق النقدية هي عملةٌ -يعني- رائجةٌ، وليست كالفلوس التي ذكرها الفقهاء، فإن الفلوس الحديدية لا يُتعامل بها غالبًا إلا في المُحقرات والأشياء اليسيرة، بخلاف الأوراق النقدية؛ فإنها قد حلَّتْ محل الذهب والفضة، بل إنها ربما تفوق الذهب والفضة. - القول الرابع: أن الأوراق النقدية بدلٌ لما استُعيضتْ عنه، وهما النقدان: الذهب والفضة، فيكون حكمها حكم الذهب والفضة.
ولكن هذا القول مبنيٌّ على افتراض أن الأوراق النقدية مُغطاةٌ غطاءً كاملًا بذهبٍ أو فضةٍ، وهذا غير صحيحٍ، فليست الأوراق النقدية المتداولة الآن مُغطاةً جميعها بالذهب أو الفضة.
ولما بُحثتْ هذه المسألة في هيئة كبار العلماء أول ما بُحثتْ قبل أكثر من ربع قرنٍ، وأُحضر بعض الخبراء وبعض الاقتصاديين، فكان بعض العلماء يتَّجه إلى هذا القول، وهو: أن الأوراق النقدية بدلٌ عن الذهب والفضة، باعتبار أن لها غطاءً في مؤسسة النقد، فبين الخبراء أن هذا ليس بصحيحٍ، وأنه ليست جميع الأوراق النقدية مُغطاةً بذهبٍ أو فضةٍ، فقد يكون جزءٌ منها مُغطًّى، لكن جزءًا آخر غير مُغطًّى بالذهب أو الفضة؛ فيكون إذن هذا القول محل نظرٍ.
- القول الخامس: أن الأوراق النقدية نقدٌ مُستقلٌّ بذاته، فيُعتبر نقدًا قائمًا بذاته كقيام النقدية في الذهب والفضة وغيرهما من الأثمان.
إذن القول الخامس: أن الأوراق النقدية هي نقدٌ قائمٌ بذاته كقيام النقدية في الذهب والفضة، وهذا هو القول الصحيح في المسألة: أن الأوراق النقدية نقدٌ قائمٌ بذاته كقيام النقدية في الذهب والفضة، وهو الذي استقرتْ عليه الآن الفُتيا في العالم الإسلامي، واستقرتْ عليه آراء المجامع الفقهية والهيئات العلمية، بل أصبح الآن هو قول عامة العلماء.
أما الأقوال الأخرى فقد قيل بها فيما سبق، ولكن الذي استقرَّ عليه الأمر الآن هو هذا القول الأخير، وهو: أن الأوراق النقدية نقدٌ قائمٌ بذاته كقيام النقدية في الذهب والفضة.
وهذا -كما ذكرتُ- هو الذي أقرته المجامع الفقهية، أقرته أولًا هيئة كبار العلماء بالمملكة، وأقره أيضًا مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي، وجاء في قرار المجمع: “بناءً على أن الأصل في النقد هو الذهب والفضة، وأن علة جريان الربا فيهما هي مطلق الثمنية في أصح الأقوال”، قالوا: “يُعتبر الورق النقدي نقدًا قائمًا بذاته كقيام النقدية في الذهب والفضة وغيرهما من الأثمان، كما يُعتبر الورق النقدي أجناسًا مختلفةً”.
لاحظ هنا: “كما يُعتبر الورق النقدي أجناسًا مختلفةً تتعدد بتعدد جهات الإصدار”، بمعنى: أن الورق النقدي السعودي جنسٌ، والورق النقدي الأمريكي جنسٌ، والليرة جنسٌ، والجنيه جنسٌ، و(اليورو) جنسٌ … إلخ، وبذلك يجري فيها الربا بنوعيه: فضلًا ونسيئةً، كما يجري الربا بنوعيه في النقدين: الذهب والفضة.
مسائل متعلقة بالأوراق النقدية
المسائل المُترتبة على هذا القول ما يأتي:
حكم بيع الورق النقدي بعضه ببعضٍ إذا كان من جنسٍ واحدٍ
أولًا: لا يجوز بيع الورق النقدي بعضه ببعضٍ إذا كان من جنسٍ واحدٍ، فمثلًا: الريالات السعودية بالريالات السعودية لا بد من التقابض والتماثل، وعلى هذا ترد مسألةٌ في صرف العملات؛ عندما تريد أن تصرف مبلغًا، ولنفترض أنه خمسمئة ريالٍ، وذهبتَ لمَن يصرف لك هذه الخمسمئة، فقال: والله الآن ما عندي إلا أربعمئةٍ، فأُعطيك الآن أربعمئةٍ، ومئة ريالٍ أُعطيك إياها فيما بعد. فإن هذا لا يجوز؛ لأنه يُشترط التقابض والتماثل.
وهذه مسألةٌ يحصل فيها الخطأ من بعض العامة، فعند الصرف تجد أنه يصرف الفئة النقدية من جنسٍ واحدٍ، ولا يحصل التقابض والتماثل، فيصرف خمسمئةٍ -مثلًا- بأربعمئةٍ، والباقي يقول: أُعطيك إياه فيما بعد. فيكون هنا قد وقع في الربا، فلا يجوز مثل هذا التعامل، وينبغي التنبه والتنبيه على هذه المسألة.
لكن لو أنه اشترى -انتبه للفرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة- من محلٍّ -من بقالةٍ مثلًا- اشترى سلعًا وأعطاه خمسمئةٍ، وكانت قيمة ما اشتراه أربعمئة ريالٍ، وقال: الباقي فيما بعد. فهذا لا بأس به؛ لأن هذا ليس صرفًا، فليست هنا مُصارفةٌ، إنما فقط أعطاه قيمة هذه السلعة التي اشتراها، وما تبقى -يعني- بقي دَينًا في ذمة البائع، فهذا ليس صرفًا، والمسألة الممنوعة هي مسألة الصرف؛ يصرف خمسمئةٍ بأربعمئةٍ والباقي يُعطيك إياه فيما بعد، هذا هو الممنوع.
أما عند بيع الورق النقدي مع اختلاف الجنس فيُشترط التقابض؛ لأن القاعدة: إذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيدٍ.
إذن نقول: الورق النقدي لا يخلو إما أن يكون الجنس واحدًا أو مختلفًا، فإن كان واحدًا فيُشترط التقابض والتماثل، وإن كان مختلفًا اشتُرط التماثل فقط.
مثال ذلك: أردتَ أن تصرف ريالاتٍ بـ(دولاراتٍ)، فهنا يُشترط التقابض فقط، ولا يُشترط التماثل.
بيع بعضه ببعضٍ من غير جنسه مطلقًا
ثالثًا: مما يترتب على هذا، قالوا: يجوز بيع بعضه ببعضٍ من غير جنسه مطلقًا إذا كان يدًا بيدٍ، فيجوز بيع الليرة السورية واللبنانية بالريال السعودي مثلًا، وهذا أشرنا إليه؛ لأن ذلك يُعتبر بيع جنسٍ بغير جنسه، ولا أثر بمجرد الاشتراك في الاسم.
لكن ترد علينا مسألةٌ، وهي في صرف العملات: إذا أراد أن يصرف ريالاتٍ سعوديةً ورقيةً بريالاتٍ معدنيةٍ، مثلًا يقول: اصرف لي هذه العشرة الريالات بأحد عشر معدنٍ، أو العكس، فهل هذه المسألة تجوز أو لا تجوز؟
اختلف العلماء في هذه المسألة، فمنهم مَن أجازها وقال: لأن الجنس هنا مختلفٌ، فهنا ورقٌ ومعدنٌ، والقاعدة: إذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيدٍ. فيصرف عشرة ريالاتٍ ورقيةٍ بأحد عشر معدنيٍّ، أو العكس.
ومنهم مَن منع هذه المسألة، وقال: إن الجنس في الحقيقة واحدٌ، والجهة المُصدرة واحدةٌ، ففي الريالات -مثلًا- الجهة المُصدرة هي مؤسسة النقد.
ثم إن القيمة الشرائية واحدةٌ أيضًا، فقيمة هذا الريال الورقي هي قيمة هذا الريال المعدني، فكيف نعتبرهما جنسين؟
وهذا القول هو الأظهر، والله تعالى أعلم.
وحينئذٍ بناءً على هذا القول لا يجوز في صرف العملات أن تُصرف ريالاتٍ ورقيةً بأخرى معدنيةٍ مع التفاضل، هذا هو الأظهر في هذه المسألة، وإن كانت محل خلافٍ بين أهل العلم.
زكاة الأوراق النقدية
أيضًا من الأحكام المترتبة على هذا: وجوب زكاة الأوراق النقدية إذا بلغتْ قيمتها أدنى النِّصابين من ذهبٍ أو فضةٍ، أو كانت تُكمل نِصابًا مع غيرها من الأثمان والعروض المُعدة للتجارة، فيجب أن تُزكى الأوراق النقدية.
وتجب الزكاة في الأوراق النقدية إذا حال عليها الحول، بغض النظر عن الغرض الذي ادَّخرتها لأجله، فإن ادَّخرتَ أوراقًا نقديةً -مثلًا- لأجل بناء مسكنٍ، أو لزواجٍ، أو لنفقةٍ، أو لأي غرضٍ، فمتى حال عليها الحول وجبتْ فيها الزكاة.
وبعض العامة يُخطئ في فهم المسألة؛ يظن أنه لا تجب الزكاة إلا إذا قصد بها التجارة، وهذا ليس بصحيحٍ.
إذا كانت عندك أوراقٌ نقديةٌ بلغتْ نِصابًا، وحال عليها الحول؛ وجبتْ فيها الزكاة، بغض النظر عن الغرض الذي جمعتها لأجله؛ لأنها أصبحتْ نقدًا بذاتها، والعلة فيها الثمنية، فتجب فيها الزكاة متى حال عليها الحول.
وهذا يقودنا إلى مسألة نِصاب الأوراق النقدية.
نِصاب الأوراق النقدية
معلومٌ أن نِصاب الزكاة في الذهب عشرون مثقالًا، وهي تُعادل خمسةً وثمانين جرامًا، ونِصاب الفضة مئتا درهمٍ، وهي تُعادل خمسمئةٍ وخمسةً وتسعين جرامًا، لكن نِصاب الأوراق النقدية؛ لأننا اعتبرناها نقدًا قائمًا بذاته، فمثلًا: مَن كانت عنده خمسمئة ريالٍ، هل بلغت النِّصاب؟ هل تجب فيها الزكاة؟ بل ربما لو عنده مئة ريالٍ، وحال عليها الحول، أو عنده ألف ريالٍ، وحال عليها الحول.
إذن كيف نعرف نِصاب الأوراق النقدية؟
نِصاب الأوراق النقدية كما نقلتُ قبل قليلٍ قرار المجمع، وهو أيضًا قرار هيئة كبار العلماء: إذا بلغتْ قيمتها أدنى النِّصابين من الذهب أو الفضة، يعني: أن نِصاب الأوراق النقدية هو أدنى النِّصابين من الذهب أو الفضة.
وفي الوقت الحاضر الفضة أرخص بكثيرٍ من الذهب، بل إن الجرام من الفضة لا تصل قيمته إلى ريالٍ، بينما الجرام من الذهب تصل قيمته إلى عشرات الريالات، فالفضة إذن أرخص بكثيرٍ من الذهب في وقتنا الحاضر.
وحينئذٍ نستطيع أن نقول: إن نِصاب الأوراق النقدية في الوقت الحاضر هو نِصاب الفضة، فكم نِصاب الفضة؟
نِصاب الفضة هو خمسمئةٍ وخمسةٌ وتسعون جرامًا، فننظر كم تُعادل خمسمئةٍ وخمسةٌ وتسعون جرامًا من الريالات؟ فيكون هذا هو نِصاب الأوراق النقدية.
طيب، كم تحديدًا؟
هذا يختلف، يعني: لا نستطيع أن نضع رقمًا معينًا.
وأنا حسبتُها بالأمس من واقع سعر الفضة المشهور في الصحف، فطلع نِصاب الأوراق النقدية بتاريخ أمس الموافق للتاسع عشر من جمادى الأولى سنة ألفٍ وأربعمئةٍ وستٍّ وعشرين للهجرة، النِّصاب: خمسمئةٍ واثنان وعشرون ريالًا بتاريخ أمس.
وكنا قد حسبناها قبل سنتين، وكانت الفضة رخيصةً، أرخص من الآن، فكانت ثلاثمئةٍ وستة عشر ريالًا قبل سنتين، والآن خمسمئةٍ واثنان وعشرون ريالًا.
فهي إذن تتراوح بين ثلاثمئةٍ إلى خمسمئةٍ.
ولكن ينبغي أن أُنبه على مسألةٍ: السعر الموجود المكتوب في الصحف، والذي يُنشر عبر وسائل الإعلام ليس هو سعر الفضة بالجرام، وإنما هو سعرها بالأونصة، فتحتاج إلى تحويلها إلى جراماتٍ.
ثم أيضًا هو ليس سعر الفضة بالريالات، هو سعرها بـ(الدولارات)، فتحتاج إلى تحويلها بالريالات، فهي تحتاج إلى عمليةٍ حسابيةٍ تستطيع من خلالها تحويلها إلى جراماتٍ، ثم تحويلها إلى ريالاتٍ، فإن أردتم أن نشرح هذه العملية، أو ما يحتاج.
على كل حالٍ هي تحتاج إلى سبورةٍ إذا أردتم أن نشرح هذه العملية، ولعل ذلك يكون في درسٍ قادمٍ: كيف تستطيع من خلال إلقاء نظرةٍ على سعر الفضة في الصحف وعبر وسائل الإعلام معرفة نِصاب الأوراق النقدية؟
وهذه الطريقة استفدتُها من أهل الخبرة، وهم -في الحقيقة- قِلةٌ.
ولو ذهبتَ الآن لكثيرٍ من أصحاب محلات الذهب ما يعرفون، تقول: كم سعر الفضة بالجرام؟ يعني: أكثر المحلات ما تبيع فضةً، يبيعون ذهبًا، وأيضًا قد لا يُفيدونك.
ثم إن المقصود هنا الفضة الخالصة، لكن هناك مجموعةٌ من المحلات، أو مَن يملكون الخبرة أفادوني بهذه الطريقة، فهذه الطريقة لا تجدها في كتابٍ، لكن عند أهل الخبرة فقط.
فعلى كل حالٍ لعلنا -إن شاء الله تعالى- نشرح هذه المعادلة، وتستطيع من خلالها تحويل الأونصة إلى جراماتٍ، وأيضًا تحويل (الدولارات) إلى ريالاتٍ، ويمكن من خلالها إذا ضبطتَ هذه المعادلة الحسابية أن تعرف نِصاب الأوراق النقدية يوميًّا؛ لأن سعر الذهب والفضة يُنشر يوميًّا في الصحف، لكن -كما ذكرتُ- هو بالأونصة، وأيضًا بـ(الدولارات)، وتحتاج إلى عملية تحويلٍ.
المقصود أن نِصاب يوم أمس خمسمئةٍ واثنان وعشرون ريالًا، فمَن كانت عنده -مثلًا- خمسمئة ريالٍ، وحال عليها الحول، بناءً على هذا ليس فيها زكاةٌ، ومَن كانت عنده أربعمئة ريالٍ فليس فيها زكاةٌ، ومَن كانت عنده ثلاثمئة ريالٍ فليس فيها زكاةٌ.
لكن قد ترخص الفضة، وقد يقلُّ سعرها؛ فلذلك نقول: إن النِّصاب يتراوح بين ثلاثمئةٍ إلى خمسمئةٍ، وفي الغالب لا يقلُّ عن ثلاثمئة ريالٍ؛ لأننا قبل سنتين حسبنا النِّصاب فكان ثلاثمئةٍ وستة عشر، وكانت الفضة رخيصةً في ذلك الوقت، ولا أظنها -يعني- تقلُّ عن هذا، لكن قد توجد بعض الأسباب التي تجعل الفضة -مثلًا- يهبط سعرها؛ ولذلك لا بد من مُتابعة هذا السعر، وبالتالي تحديد نِصاب الأوراق النقدية.
بعض الإخوة تلتبس عليهم هذه المسألة، فيجدون أنه يُكتب: إن نِصاب …، أو في بعض الكتب وبعض الفتاوى لبعض مشايخنا: نِصاب الأوراق النقدية هو ستمئةٍ وخمسون بالريال العربي الفضي السعودي. وهو لا يقصد به هذه الريالات الموجودة الآن، إنما يقصد به الريالات الفضية، وهي الآن غير شائعةٍ وغير مُنتشرةٍ؛ ولذلك فهذا الحساب ما دام أنه غير معروفٍ للناس، وغير شائعٍ، وغير مُنتشرٍ، فلا يُذكر الآن.
الناس الآن لا يعرفون إلا الجرام في الذهب والفضة، فلا يعرفون إلا التعامل بالجرام؛ ولذلك ينبغي أن يُذكر لهم سعر الفضة بالجرام، فيضربوه في نِصاب الفضة وهو خمسمئةٍ وخمسةٌ وتسعون جرامًا، فيخرج نِصاب الأوراق النقدية.
وكما ذكرتُ: هذا النِّصاب مختلفٌ، فهو يختلف من يومٍ لآخر، لكن الغالب أن التفاوت بين يومٍ ويومٍ يسيرٌ، وأحيانًا يثبت أسبوعًا أو أسبوعين، أو ربما أكثر من هذا، فالتفاوت يكون كلما طالت المدة، يعني: يكون بين شهرٍ وشهرٍ تفاوتٌ أكثر، وبين كل ستة أشهرٍ يكون التفاوت أكثر أيضًا، وهكذا، فيتغير نِصاب الأوراق النقدية بناءً على هذا.
إذن مَن ملك ألف ريالٍ تجب عليه الزكاة بكل حالٍ، ومَن ملك تسعمئة ريالٍ، أو ثمانمئة ريالٍ، أو سبعمئة ريالٍ إلى ستمئة ريالٍ تجب عليه الزكاة بكل حالٍ.
ومَن ملك ما بين الثلاثمئة والأربعمئة فهذا محل نظرٍ، فربما نقول: تجب عليه الزكاة، وربما نقول: لا تجب؛ تبعًا لحساب نِصاب الأوراق النقدية.
قال: “أو كانت تُكمل نِصابًا مع غيرها من الأثمان والعروض المُعدة للتجارة”، يعني: هذه أيضًا مسألةٌ مهمةٌ.
لو كانت عند شخصٍ عروض تجارةٍ، كأن يكون عنده محلٌّ -مثلًا- وعنده نقودٌ، فإن هذه النقود -الأوراق النقدية- تُضم إلى عروض التجارة فيُزكي الجميع.
مثالٌ آخر: باع شخصٌ محلًّا له، أو قام بتصفيته، وكان يحول عليه الحول في واحد رمضان، فقام بتصفيته في واحد شعبان، وهذا المبلغ الذي حصل عليه من تصفية هذا المحل أو من بيع هذا المحل -مثلًا- بقي عنده.
فنقول: تجب عليه الزكاة، فيُزكي هذا المبلغ، ولا يقول: أستأنف بهذا المبلغ حولًا جديدًا؛ لأن الأوراق النقدية يكمل بها نِصاب عروض التجارة.
فنقول: حتى لو ما مضى عليك إلا شهرٌ واحدٌ، وهذا المبلغ عندك تُزكيه، ولا تقول: أنتظر إلى شعبان العام المقبل؛ لأن عروض التجارة -في الحقيقة- بمثابة النقد، فالمقصود منها النقود، وهذه مسألةٌ يحصل فيها لبسٌ من بعض الناس؛ فتجد -مثلًا- أنه يبيع عروض تجارةٍ، أو تكون عنده أثمانٌ لعروض تجارةٍ، ويبقى المبلغ الذي باع به عروض التجارة عنده، ويستأنف به حولًا جديدًا، وهذا خطأٌ، فيُفترض هنا أن يُكمل حول عروض التجارة بهذا المبلغ.
صحيحٌ لو أنه تصرف بهذا المبلغ انقطع الحول، فلو أنه لما باع هذا المحل -مثلًا- تصرف في هذا المبلغ فبنى به عقارًا، أو نحو ذلك، هنا ينقطع الحول، أما أن هذا المبلغ باقٍ عنده فهنا يُكمل به نِصاب عروض التجارة.
رابعًا: جواز جعل الأوراق النقدية رأس مالٍ في بيع السلم والشركات؛ لأن رأس المال في السلم لا بد أن يكون من النقدين، أو ما في معنى النقدين وهو: الأوراق النقدية، وهكذا أيضًا في الشركات على قول بعض الفقهاء، والشركات فيها تفصيلٌ على قول بعض الفقهاء؛ فهم يشترطون أن يكون رأس المال من النقدين المضروبين، على أن المسألة فيها خلافٌ.
لكن بكل حالٍ الأوراق النقدية تقوم مقام الذهب والفضة في كونها رأس مالٍ في السلم، وفي الشركات كذلك.
ونكتفي بهذا القدر، ونسأل الله للجميع الفقه في الدين، والعلم النافع، والعمل الصالح، والتوفيق لما يُحب ويرضى.
المقدم: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ.
هذا يقول: بعد أن يقوم بنك البلاد بالعمل، ويتم اكتشاف أن موجودات البنك أقلّ من الأموال، ما هو المخرج؟
الشيخ: نعم، لا يجوز تداول أسهم شركة أو بنك إلا بعد التحقق من كون الموجودات أكثر من النقود، وإلا أصبحت المسألة من قبيل بيع نقدٍ بنقدٍ مع التفاضل، وبيع نقدٍ بنقدٍ مع التفاضل ربا صريح، وهذا يقودنا للحديث عن أسهم بنك البلاد.
بنك البلاد أُسس على أنه بنكٌ إسلاميٌّ، وأموره -يعني- طيبةٌ، وقد وقفتُ على أمور هذا البنك، ولكن الإشكالية هنا هي: أنه يشترط أن تكون موجودات البنك أكثر من النقود، وإلا لم يجز تداول أسهمه، فهل الآن موجودات البنك أكثر من النقود؟
يعني: هذه المسألة تحتاج إلى تحقيق المناط في الحقيقة، يعني: الحكم الشرعي فيها واضحٌ؛ أنه لا بد أن تكون الموجودات أكثر من النقود، لكن تحتاج إلى أن نحقق مناط هذه المسألة، فهل بالفعل الآن الموجودات أكثر من النقود؟ تحتاج إلى تحقيقٍ.
وإن كان الإخوة في الهيئة الشرعية للبنك يذكرون أن الموجودات أكثر، ويقولون: إن تصريح البنك بحد ذاته له قيمةٌ كبيرةٌ، وأيضًا فروع البنك، والعقود التي قام بها البنك، وهي -يعني- عقودٌ بمبالغ كبيرةٍ، إلى غير ذلك مما ذكروه.
ولكن مع ذلك تبقى المسألة محل نظرٍ، فالأموال التي حصلوا عليها من المُساهمين أموالٌ بالمليارات، وليست بالملايين فقط.
وأما بالنسبة لفروع البنك التي تكاد تكون فروعًا للمصارف الثمانية الموجودة من قبل، فهي -في الحقيقة- كانت محلات صرافة، والموجود فيها نقودٌ، أو أكثرها نقودٌ، وهنا تبقى المسألة فيها إشكاليةٌ.
ولذلك نقول: إذا أراد مَن يتملك أسهمًا في هذا البنك أن يحتاط فلا يتعجل في البيع حتى ينهض البنك ويقوم، وتكون له مشاريع، ويغلب على ظنه أن موجودات البنك أكثر من النقود.
لكن لو احتاج إلى البيع -كما ورد في السؤال- ما المخرج؟
المخرج هو: أن يبيع الأسهم بعملةٍ أخرى، أو بعرضٍ من العروض، يعني: لا يبيعها بنقدٍ؛ حتى لا تُصبح المسألة بيع نقدٍ بنقدٍ، وإنما يبيعها بعرضٍ من العروض، أو بعملةٍ أخرى.
فيقول: يا فلان، أنا أملك -مثلًا- كذا سهمٍ في البنك الفلاني، أبيعك إياها بهذه السلعة، أو بهذه السيارة -مثلًا-، أو بعملةٍ أخرى كالجنيه -مثلًا-، أو الليرة، أو (الدولار)، أو (اليورو)؛ لأنه عند اختلاف العملة كما قال عليه الصلاة والسلام: فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيدٍ [3].
المقدم: أحسن الله إليكم.
وهذا يقول: سبق أن ساهمتُ في شركة اتحاد الاتصالات، وبعتُ الأسهم وأخذتُ أموالها، ولكن في نفسي منها شيءٌ، فما توجيهكم؟
الشيخ: نعم، إذا شكَّ المسلم في أية معاملةٍ، فإن النبي وضع لنا قاعدةً عظيمةً، قال: إن الحلال بَيِّنٌ، وإن الحرام بَيِّنٌ، وبينهما مُشتبهاتٌ لا يعلمهن كثيرٌ من الناس، فمَن اتَّقى الشبهات استبرأ لدينه وعِرْضِه، ومَن وقع في الشبهات وقع في الحرام [4]، وقال: دَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك [5]، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك [6].
إذا كان الإنسان يشك في معاملةٍ من المعاملات يترك هذه المعاملة، وهذا هو المطلوب من المسلم: أن يكون ورعًا، وأن يدع المُشتبهات؛ لأن مَن تجرأ على الوقوع في المُشتبهات فإنه يوشك أن يتجرأ على الوقوع في الحرام، كما قال عليه الصلاة والسلام: ومَن وقع في الشبهات وقع في الحرام.
الأخ سأل عن هذه الشركة، وظاهر حال هذه الشركة السلامة، هذا هو الظاهر؛ لأنه لم يظهر في قوائمها المالية حتى الآن أي شيءٍ فيه إشكالاتٌ، أو قروضٌ ربويةٌ حتى الآن، وقد تكون هناك أشياء أخرى لا نعلم بها في الباطن، أو أشياء ستظهر في المستقبل، الله تعالى أعلم.
لكن المقصود أن الأخ ما دام عنده شيءٌ -يعني- لم تَطِبْ نفسه بهذا، فنقول له: تصدق بما تطيب به نفسك من الأرباح، تصدق بما طابتْ به نفسك، أو ما جادتْ به نفسك، وهذا يكون -إن شاء الله- مُبرئًا للذمة.
المقدم: أحسن الله إليكم.
يقول: لو أن شخصًا تعمد الدخول في بنكٍ ربويٍّ؛ ليُخرج النَّصيب الربوي لينتفع به المسلمون، فهل له ذلك؟
الشيخ: لا يجوز للإنسان أن يدخل في بنكٍ ربويٍّ بنية التخلص من الربا؛ لأن دخوله -في الحقيقة- في البنك الربوي يُوجب غضب الله ولعنته: “لعن رسول الله آكل الربا، ومُؤكله، وكاتبه، وشاهديه” [7]، فهو سببٌ للعنة الله وغضبه، ولا يُبرئ الذمة أن ينوي التخلص من الربا.
نعم، لو وقع من غير علمٍ، لو وقع جاهلًا -مثلًا- فالله تعالى يقول: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ [البقرة:279]، هذا في المال الربوي الذي لم يُقبض، والذي تاب الإنسان منه، أما ما قد قبضه وانتهى فقد قال الله تعالى: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ [البقرة:275]، لا شيء عليه، لكن المال الربوي الذي لم يُقبض هذا هو الذي يضع الإنسان الربا، ويكتفي برأس المال.
فحينئذٍ نقول: لا يجوز الدخول في الربا أصلًا، فإذا علمت بأن هذا بنكٌ ربويٌّ لا يجوز لك أن تدخل وتُساهم فيه؛ لأن الإشكالية هنا في المساهمة في البنوك الربوية، يعني: إشكاليةً كبيرةً جدًّا، فجميع أعمال البنك -ومنها التعاملات الربوية- تُنْسب إليك أنت أيها المساهم، شئتَ أم أبيتَ؛ لأن هذا البنك مَن الذي يُمثله؟
هؤلاء المُساهمون.
مَن الذي يملك هذا البنك؟
هؤلاء المساهمون، فأنت أحد مُلاك هذا البنك، وتُنْسب لك جميع أعمال هذا البنك، ومنها التعاملات الربوية، شئتَ أم أبيتَ.
وإذا كان النبي لعن شاهد الربا وكاتبه، فكيف بمَن يُمارس الربا بالوكالة؟!
فالربا أمره عند الله عظيمٌ جدًّا؛ ولذلك لا يجوز الدخول في مثل هذه البنوك الربوية.
المقدم: أحسن الله إليكم وأثابكم، ونفعنا بعلمكم.
وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.