logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح أبواب من صحيح مسلم/(82) باب إثبات الحساب- من حديث: «مَن حُوسِبَ يوم القيامة عُذِّبَ»

(82) باب إثبات الحساب- من حديث: «مَن حُوسِبَ يوم القيامة عُذِّبَ»

مشاهدة من الموقع

تأملوا -أيها الإخوة- هذا الحديث العظيم: مَن يُرد الله به خيرًا يُفقهه في الدين [1] يعني: إذا رأيتَ من نفسك الحرص على التَّفقه في دين الله ​​​​​​​ فهذه أمارةٌ -إن شاء الله- على أنه أُريد بك الخير.

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه واتَّبع سُنته إلى يوم الدين.

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.

ربنا آتنا من لدنك رحمةً، وهيِّئ لنا من أمرنا رشدًا.

هذا هو الدرس الثاني والثمانون في شرح “صحيح مسلم” في هذا اليوم الثلاثاء الثالث من شهر ذي القعدة من عام 1444 للهجرة.

وسيكون هذا الدرس هو آخر درسٍ، ونتوقف بعده -إن شاء الله- مُراعاةً لظروف الإخوة الطلاب، حيث لم يتبقَّ على الاختبارات سوى -تقريبًا- أسبوعين، فتتوقف عادةً الدروس؛ حتى لا يفوت الطلاب الجامعيين على وجه الخصوص متابعة هذا الدرس.

فكالمعتاد سنتوقف، وسيكون هذا هو آخر درسٍ، وإن شاء الله يُستأنف الدرس في أول ثلاثاء مع بداية الدراسة في شهر صفر من العام الهجري القادم، إن شاء الله تعالى.

كنا قد وصلنا إلى باب “إثبات الحساب”، وستكون -إن شاء الله تعالى- عبر وسائل التواصل مقاطع من الدروس مُنتقاة تُنْشَر تباعًا؛ لأن هذه الدروس مُسجلةٌ، ثم تُقطع مقاطع وتُنْشَر -إن شاء الله تعالى- عبر وسائل التواصل، فكل هذه الدروس محفوظةٌ ومُسجلةٌ، ولله الحمد.

كنا قد وصلنا إلى باب “إثبات الحساب”، ومَن لم تكن معه مُذكرةٌ من “صحيح مسلم” فهي موجودةٌ في قناة (التليجرام)؛ لأن بعض الإخوة انتهت المُذكرة معهم، لكن استُكْمِلَتْ إلكترونيًّا في قناة (التليجرام).

وقفنا عند باب “إثبات الحساب”، نعم.

القارئ: الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمُستمعين.

باب إثبات الحساب

قال المصنف رحمه الله تعالى:

باب إثبات الحساب.

قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وعليُّ بن حُجْرٍ -جميعًا- عن إسماعيل، قال أبو بكرٍ: حدثنا ابن عُلَيَّة، عن أيوب، عن عبدالله بن أبي مُلَيْكَة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : مَن حُوسِبَ يوم القيامة عُذِّبَ، فقلتُ: أليس قد قال الله ​​​​​​​: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [الانشقاق:8]؟ فقال: ليس ذاكِ الحساب، إنما ذاكِ العَرْض، مَن نُوقِشَ الحساب يوم القيامة عُذِّبَ [2].

قال: حدثني أبو الربيع العَتَكِيُّ، وأبو كاملٍ، قالا: حدثنا حماد بن زيدٍ، قال: حدثنا أيوب، بهذا الإسناد نحوه [3].

قال: وحدثني عبدالرحمن بن بشر بن الحَكَم العَبْدِيُّ، قال: حدثنا يحيى -يعني: ابن سعيدٍ القَطَّان- قال: حدثنا أبو يونس القُشَيْرِيُّ، قال: حدثنا ابن أبي مُلَيْكَة، عن القاسم، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي قال: ليس أحدٌ يُحَاسَب إلا هلك، قلتُ: يا رسول الله، أليس الله يقول: حِسَابًا يَسِيرًا؟ قال: ذاكِ العَرْضُ، ولكن مَن نُوقِشَ الحساب هلك [4].

قال: وحدثني عبدالرحمن بن بشرٍ، قال: حدثني يحيى -وهو القَطَّان- عن عثمان بن الأسود، عن ابن أبي مُلَيْكَة، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي قال: مَن نُوقِشَ الحساب هلك. ثم ذكر بمثل حديث أبي يونس [5].

الشرح:

يقول عليه الصلاة والسلام: مَن حُوسِبَ يوم القيامة عُذِّبَ، وبيَّن عليه الصلاة والسلام المراد بالمُحاسبة، وأنها ليست العرض، وإنما المراد بالمُحاسبة: أنه يُناقَش وتُعْرَض عليه أعماله؛ يُقال: فعلتَ كذا، وفعلتَ كذا، ويُناقَش في كل ما عَمِلَ، هذا هو الحساب، وليس مجرد العرض، أي: المناقشة في أعماله.

ومعنى قوله: عُذِّب، للعلماء معنيان كما قال النووي:

  • المعنى الأول: أن نفس المُناقشة وعرض الذنوب والتَّوقيف عليها يُعتبر تعذيبًا.
  • والمعنى الثاني: أن هذه المناقشة مُفضيةٌ إلى العذاب بالنار.
    وهذا هو القول الراجح؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في الرواية الأخرى: هلك بدل عُذِّب، مَن نُوقِشَ فقد هلك. وقد رجَّح هذا المعنى النوويُّ، قال: وهو الصحيح.

فيكون معنى: مَن نُوقِشَ فقد عُذِّب يعني: أن هذه المناقشة مُفضيةٌ إلى العذاب بالنار؛ وذلك لأن التقصير هو الغالب على العباد، فعندهم تقصيرٌ في شكر النِّعَم، فلو أخذتَ فقط نعمةً من النعم لوجدتَ العباد مُقصِّرين كثيرًا في شُكرها، وعندهم أيضًا جرأةٌ على الوقوع في المُحرمات، ونحو ذلك.

فمَن لم يُسامَح واستُقْصِي عليه ونُوقِشَ عُذِّب وهلك، ولكن الله يعفو ويغفر لمَن يشاء.

ولَمَّا قال عليه الصلاة والسلام: مَن حُوسِبَ يوم القيامة عُذِّبَ قالت له عائشة رضي الله عنها: أليس قد قال الله: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [الانشقاق:8]؟ قال: ليس ذاكِ الحساب، إنما ذاكِ العرض.

ففسَّر عليه الصلاة والسلام قول الله تعالى: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا بأن المراد بذلك العرض؛ أنه فقط تُعْرَض عليه أعماله من غير مُناقشةٍ، وهذا هو المؤمن، فالمؤمن تُعْرَض عليه أعماله من غير مُناقشةٍ، ولكن الذي يُناقَش فهذا يُعَذَّب.

وفي هذا الحديث من الفوائد: أنه ينبغي عند الاستشكال المراجعةُ في العلم؛ فهذه عائشة رضي الله عنها راجعت النبيَّ وأفادت الأُمة فائدةً عظيمةً؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال: مَن حُوسِبَ يوم القيامة عُذِّب، فراجعت النبيَّ وقالت: أليس قد قال الله: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا؟ قال: ليس ذاكِ الحساب، إنما ذاكِ العرض، فهذا يدل على أهمية المُراجعة، وأن الإنسان ينبغي إذا استشكل شيئًا أن يُراجع وأن يسأل.

والسؤال أحد مفاتيح العلم؛ ولهذا لما سُئل ابن عباسٍ رضي الله عنهما: بِمَ نلتَ هذا العلم؟ قال: “بقلبٍ عقولٍ، ولسانٍ سَؤُولٍ”.

فالسؤال أحد مفاتيح العلم، بل ينبغي إذا كنتَ ترى أن السؤال تَعْلَم أنت إجابتَه، لكن في الإجابة فائدةٌ للحاضرين: أن تسأل؛ ويدل لذلك قصة جبريل  لمَّا أتى النبيَّ على صورة رجلٍ شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرَى عليه أثر السفر، ولا يعرفه أحدٌ من الصحابة، فأسند رُكبتيه إلى رُكبتيه، ووضع يديه على فخذيه، وسأل النبيَّ عدة أسئلةٍ؛ قال: ما الإسلام؟ ما الإيمان؟ ما الإحسان؟ متى الساعة؟ ما أشراطها؟ والنبي عليه الصلاة والسلام يُجيب، ولمَّا فرغ قال عليه الصلاة والسلام: هذا جبريل أتاكم يُعلمكم أمر دينكم [6].

طيب، المُعلِّم في القصة مَن هو؟

مَن الذي قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتُقيم الصلاة؟

المعلم هو النبي عليه الصلاة والسلام.

فلماذا أَسْنَد عليه الصلاة والسلام التعليم إلى جبريل مع أن جبريل مجرد سائلٍ فقط؟ قال: ما الإسلام؟ ما الإيمان؟ ما الإحسان؟

لأن جبريل بهذه الأسئلة تسبَّب في تعليم الصحابة وتعليم الأُمَّة، فدلَّ هذا على أنه لا بأس أن يطرح الإنسانُ سؤالًا يعرف إجابته؛ لتعليم الحاضرين.

كما لو كنتَ في مجلسٍ وتطرح سؤالًا أنت تعرف إجابته، لكن تريد أن تُعلِّم أهلَ المجلس، فهذا أمرٌ حسنٌ، ويكون لك الأجر والثواب؛ إذ إن النبي عليه الصلاة والسلام اعتَبَرَ مَن سأل سؤالًا فتسبَّب في التعليم اعتبره مُعلِّمًا؛ قال: هذا جبريل أتاكم يُعلمكم أمر دينكم، مع أن المُعلِّم هو النبي عليه الصلاة والسلام، لكن جبريل سأل هذه الأسئلة العظيمة فتسبَّب في تعليم الأُمة بطرح هذه الأسئلة.

وهذا يدل على أهمية العناية بطرح السؤال، وأن يكون السؤال عما ينفع وعما يُفيد، وأن السائل إذا سأل وأُجيب عن سؤاله وانتفع الحاضرون يُعتبر كالمُعلِّم لهم.

باب الأمر بحُسْن الظنِّ بالله تعالى عند الموت

القارئ: أحسن الله إليكم.

قال رحمه الله:

باب الأمر بحُسْن الظنِّ بالله تعالى عند الموت.

قال: حدثنا يحيى بن يحيى، قال: أخبرنا يحيى بن زكرياء، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابرٍ قال: سمعتُ النبيَّ قبل وفاته بثلاثٍ يقول: لا يَمُوتَنَّ أحدُكم إلا وهو يُحْسِن بالله الظَّنَّ [7].

قال: وحدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا جريرٌ. ح، قال: وحدثنا أبو كُرَيْبٍ، قال: حدثنا أبو معاوية. ح، قال: وحدثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أخبرنا عيسى بن يونس، وأبو معاوية -كلهم- عن الأعمش، بهذا الإسناد مثله [8].

قال: وحدثني أبو داود سليمان بن مَعْبَدٍ، قال: حدثنا أبو النعمان عارمٌ، قال: حدثنا مهدي بن مَيْمُونٍ، قال: حدثنا واصلٌ، عن أبي الزُّبير، عن جابر بن عبدالله الأنصاري قال: سمعتُ رسول الله قبل موته بثلاثة أيامٍ يقول: لا يَمُوتَنَّ أحدُكم إلا وهو يُحْسِن الظَّنَّ بالله  [9].

الشرح:

في حال الصحة ينبغي أن يكون هناك توازنٌ بين الرجاء والخوف، بحيث لا يُغلَّب أحدهما على الآخر؛ لأن الإنسان إذا غلَّب جانبَ الرجاء وقع في الأمن من مكر الله، وإذا غلَّب جانب الخوف وقع في القنوط من رحمة الله.

ولذلك قال أهل العلم: ينبغي ألا يُغلِّب جانبَ الخوف إلى درجة أنه يَقْنَط من رحمة الله، ولا يُغلِّب جانبَ الرجاء إلى درجة أنه يأمن من مكر الله، وإنما يكون بين الخوف والرجاء، كجناحي الطائر.

أما عند الموت وعند الاحتضار فينبغي تغليب جانب الرجاء على جانب الخوف، لماذا؟

لهذا الحديث؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: لا يَمُوتَنَّ أحدُكم إلا وهو يُحْسِن الظنَّ بالله، والله تعالى يقول: أنا عند ظنِّ عبدي بي [10].

والحكمة من ذلك: أن تغليب جانب الخوف لأجل الانكفاف عن المعاصي، وهو الآن قد حضرتْه الوفاة، فسينقطع عن الدنيا؛ ولذلك ينبغي أن يُغلِّب جانب الرجاء ويُحْسِن الظنَّ بالله وبعفوه ورحمته وكرمه وجوده.

وكان بعض السلف عندما يأتون للمُحْتَضَر يُذَكِّرونه بأَرْجَى أعماله التي عَمِلها: ألستَ عَمِلْتَ كذا؟ ألستَ فعلتَ كذا؟ ألستَ فعلتَ كذا؟ حتى يُغلِّب جانبَ حُسن الظنِّ بالله .

ولهذا نقول: إن الإنسان عند الاحتضار ينبغي أن يُغلِّب جانب الرجاء وجانب حُسن الظنِّ بالله ؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: لا يَمُوتَنَّ أحدُكم إلا وهو يُحْسِن الظَّنَّ بالله .

القارئ: أحسن الله إليكم.

قال رحمه الله:

وحدثنا قُتيبة بن سعيدٍ، وعثمان بن أبي شيبة، قالا: حدثنا جريرٌ، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابرٍ قال: سمعتُ النبيَّ يقول: يُبْعَثُ كلُّ عبدٍ على ما مات عليه [11].

الشرح:

يُبْعَثُ كلُّ عبدٍ على ما مات عليه، فإن مات على الطاعة بُعِثَ كذلك، وإن مات على المعصية بُعِثَ كذلك.

ولذلك لمَّا وَقَصَتْ ناقةٌ رجلًا مُحْرِمًا قال عليه الصلاة والسلام: كَفِّنوه في ثَوْبَيْهِ يعني: في إحرامه، ولا تَمَسُّوه بِطِيبٍ، ولا تُخَمِّروا رأسَه؛ فإنه يُبْعَث يوم القيامة مُلَبِّيًا [12]، فيُبْعَث على حاله التي مات عليها.

وهكذا مَن مات على أيِّ عملٍ؛ إن مات على معصيةٍ بُعِثَ كذلك، وإن مات على طاعةٍ بُعِثَ كذلك، يُبْعَث الإنسان على ما مات عليه، ولكن ظاهر الأدلة أنه لا يستمر على ذلك طوال الموقف؛ لأن الناس وقوفهم يوم القيامة في يومٍ ثقيلٍ، طويلٍ، مقداره خمسون ألف سنةٍ، فيظهر أن هذا وقت القيام من القبور، ثم بعد ذلك تتغير الأحوال.

القارئ: أحسن الله إليكم.

قال رحمه الله:

حدثنا أبو بكر بن نافعٍ، قال: حدثنا عبدالرحمن بن مهديٍّ، عن سفيان، عن الأعمش، بهذا الإسناد مثله، وقال: عن النبي . ولم يَقُلْ: سمعتُ [13].

قال: وحدثني حَرْمَلَة بن يحيى التُّجِيبِيُّ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهابٍ قال: أخبرني حمزة بن عبدالله بن عمر: أنَّ عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله يقول: إذا أراد الله بقومٍ عذابًا أصاب العذابُ مَن كان فيهم، ثم بُعِثُوا على أعمالهم [14].

الشرح:

عقوبات الدنيا تَعُمّ الصالح والطالح، تعمّ الجميع، ولكن عقوبات الآخرة تختص بمَن يستحقها، وتختص بمَن عصى الله ، أما عقوبات الدنيا فإنها تعمّ، لكن يُبْعَثون على نيَّاتهم، وعلى أعمالهم.

وهذا يدل على خطورة مُقاربة أهل الفساد والظلم؛ لأن العقوبة تعمّ، فالعقوبة تعمّ المجتمع كله بمَن فيهم من أهل الصلاح والتقوى.

وهذا يدل على شُؤم المعصية، وشُؤم السيئة، وهذا سيأتي -إن شاء الله تعالى- بيانه في الأحاديث الأخرى، وأن الناس عندما يريد الله إنزال عقوبةٍ في الدنيا تَعُمّ الناس كلهم بمَن فيهم أهل الصلاح، لكنهم يوم القيامة يُبْعَثون على نيَّاتهم، وعلى أعمالهم.

كتاب الفتن وأشراط الساعة

القارئ: أحسن الله إليكم.

قال رحمه الله تعالى:

كتاب الفتن وأشراط الساعة.

الشرح:

“كتاب الفتن وأشراط الساعة” ننتقل لهذا الكتاب، بعد “كتاب أحوال الجنة والنار” ننتقل إلى “كتاب الفتن وأشراط الساعة”.

وهذا كتابٌ عظيمٌ ومهمٌّ، فإننا في هذا الزمن في زمنٍ قد كثُرتْ فيه الفتن: فتن الشبهات، وفتن الشهوات، وانفتح العالم بعضه على بعضٍ، وأصبح العالم -كما يُقال- مثل القرية الصغيرة، وانفتحتْ على الناس أبوابٌ عظيمةٌ عبر وسائل التواصل، وعبر وسائل التقنية الحديثة؛ ولذلك فعلى المسلم أن يتفقه في النصوص الواردة في شأن الفتن، وموقف المسلم منها، وكذلك أيضًا أشراط الساعة، فإن أشراط الساعة قد وردت الإشارة إليها في القرآن: فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا [محمد:18].

والنبي بيَّن أشراط الساعة الصغرى والوسطى والكبرى؛ لأجل أن يكون المسلم على بينةٍ، خاصةً ونحن في آخر الزمان وآخر الدنيا، فنحن في آخر الدنيا، فإذا كان الله يقول: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1] وقتَ نزول القرآن، واقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ [الأنبياء:1]، فكيف بوقتنا الحاضر؟

فنحن أكثر قُرْبًا للساعة، وأكثر قُرْبًا لأشراط الساعة الكبرى؛ ولهذا ينبغي أن يتفقه المسلم في النصوص الواردة حتى إذا وقع شيءٌ من هذه الأشراط يكون المسلم على علمٍ بها، ويقف منها الموقف الشرعي.

والفتن: جمع فتنةٍ، وهي الابتلاء والاختبار، يُقال: فَتَنَ الحدَّادُ والصانعُ الذهبَ، إذا أدخله النارَ ليختبر جودته.

وقد وردت الفتنة في القرآن الكريم في ستةٍ وخمسين موضعًا، وهذا يدل على خطورة شأنها، وشدة تأثيرها على الأفراد، وعلى الجماعات.

وفي السُّنة ورد ذكرها في أحاديث كثيرةٍ، وسنقف على جملةٍ منها في هذه الأبواب.

وقد جاء في حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما: أن النبيَّ قال: إن أُمَّتكم هذه جُعِلَتْ عافيتها في أولها، وإن آخرهم يُصيبهم بلاءٌ وأمورٌ تُنْكِرونها، ثم تجيء فتنٌ يُرَقِّق بعضها بعضًا، فيقول المؤمن: هذه مُهْلِكَتي. ثم تنكشف، ثم تجيء فتنةٌ فيقول المؤمن: هذه مُهْلِكَتي. ثم تنكشف، أخرجه ابن ماجه [15].

وأيضًا جاء في حديث أبي موسى : إن بين يدي الساعة فتنًا كقِطَع الليل المُظلم، يُصبح الرجلُ فيها مؤمنًا ويُمْسِي كافرًا، ويُمْسِي مؤمنًا ويُصبح كافرًا [16]، يبيع دِينَه بِعَرَضٍ من الدنيا [17].

باب اقتراب الفتن وفتح رَدْم يأجوج ومأجوج

القارئ: أحسن الله إليكم.

قال رحمه الله:

باب اقتراب الفتن وفتح رَدْم يأجوج ومأجوج.

قال: حدثنا عمرٌو النَّاقِد، قال: حدثنا سفيان بن عُيَينة، عن الزُّهري، عن عُروة، عن زينب بنت أم سلمة، عن أم حبيبة، عن زينب بنت جَحْشٍ رضي الله عنها: أن النبي استيقظ من نومه وهو يقول: لا إله إلا الله، وَيْلٌ للعرب من شرٍّ قد اقترب؛ فُتِحَ اليوم من رَدْم يأجوج ومأجوج مثل هذه وعَقَدَ سفيانُ بيده عشرةً، قلتُ: يا رسول الله، أَنَهْلِك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثُر الخَبَثُ [18].

قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وسعيد بن عمرٍو الأَشْعَثِيُّ، وزُهَير بن حربٍ، وابن أبي عمر، قالوا: حدثنا سفيان، عن الزُّهري، بهذا الإسناد، وزادوا في الإسناد عن سفيان فقالوا: عن زينب بنت أبي سلمة، عن حبيبة، عن أم حبيبة، عن زينب بنت جَحْشٍ [19].

قال: حدثني حَرْمَلَة بن يحيى، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهابٍ قال: أخبرني عُروة بن الزبير: أن زينب بنت أبي سلمة أخبرتْه: أن أم حبيبة بنت أبي سفيان أخبرتْها: أن زينب بنت جحشٍ رضي الله عنها -زوج النبي – قالت: خرج رسول الله يومًا فَزِعًا مُحْمَرًّا وجهه، يقول: لا إله إلا الله، ويلٌ للعرب من شَرٍّ قد اقترب؛ فُتِحَ اليوم من رَدْم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحَلَّقَ بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت: فقلتُ: يا رسول الله، أَنَهْلِك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثُر الخَبَثُ [20].

قال: وحدثني عبدالملك بن شعيب بن اللَّيث، قال: حدثني أبي، عن جدِّي قال: حدثني عُقيل بن خالدٍ. ح، قال: وحدثنا عمرٌو النَّاقد، قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعدٍ، قال: حدثنا أبي، عن صالحٍ -كلاهما- عن ابن شهابٍ، بمثل حديث يونس، عن الزهري بإسناده [21].

قال: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا وُهَيبٌ، قال: حدثنا عبدالله بن طاوسٍ، عن أبيه، عن أبي هريرة ، عن النبي قال: فُتِحَ اليوم من رَدْم يأجوج ومأجوج مثل هذه وعَقَدَ وُهَيْبٌ بيده تسعين [22].

الشرح:

هذا الحديث ورد في إسناده ذِكْرُ أربعِ صحابيات: زوجتان لرسول الله  وربيبتان له؛ قال:

  • عن زينب بنت أبي سلمة، وهذه ربيبة النبي عليه الصلاة والسلام.
  • عن حبيبة، وهي أيضًا ربيبةٌ.
  • عن أم حبيبة، يعني: زوجة النبي عليه الصلاة والسلام.
  • عن زينب بنت جحشٍ زوجة النبي عليه الصلاة والسلام.

فهذا الإسناد إسنادٌ عجيبٌ، لا يُعْلَم له نظيرٌ، ورد فيه أربع صحابيات: زوجتان وربيبتان للنبي عليه الصلاة والسلام، فهذا من لطائف الإسناد.

قال: “أن النبي استيقظ من نومه”، وفي الرواية الأخرى: “فَزِعًا، مُحْمَرًّا وجهه، يقول: لا إله إلا الله“.

وهذا يدل على مشروعية قول: “لا إله إلا الله” عند التَّعجب، أو عند تهويل أمرٍ من الأمور، ويُشْرَع كذلك أن يقول: “الله أكبر”، أو يقول: “سبحان الله”.

فهذه ألفاظٌ تُقال عند هذه الأمور، وغالب ما يقوله النبي عليه الصلاة والسلام: “سبحان الله”، وأحيانًا يقول: “الله أكبر”، وهنا قال: لا إله إلا الله.

ويلٌ للعرب من شَرٍّ قد اقترب خصَّ العرب بالذكر لأنهم حينئذٍ معظم مَن أسلم، والمراد بالشر: ما وقع لهم بعد مقتل عثمان ، فإن الأمور كانت مُستقرةً في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، وعهد أبي بكر الصديق، وعهد عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وأيضًا ثماني سنوات من عهد عثمان ، ثم بعد ذلك اتَّسعتْ رُقعة الدولة الإسلامية، وكثُرت الغنائم، وكثُرت الأموال بأيدي الناس، وبدأ الناس يكثر فيهم التَّرف.

انظر: إذا كثُر التَّرَف تكون له آثارٌ، ولما كان الناس في فقرٍ وفي شدةٍ كانت أحوالهم أحسن، لكن بدأت الغنائم تكثر، والأموال تكثر، وبدأ التَّرف يكثر.

وكان هناك أيضًا مَن يقود الفتنة: عبدالله بن سبأ، يقود الفتنة في الأمصار التي يقلّ فيها العلماء، فإذا أتى لبلدٍ فيه علماء طُرِدَ ولم يُسْمَع له، لكن ذهب لبعض البلدان وبعض الأطراف التي يقلّ فيها العلماء، وأصبح يُحَرِّض على الخليفة عثمان بن عفان ، فاستَمَعوا له؛ استَمَعَ له مَن استمع من بعض الأعراب والعامة، وشحنهم حتى أتوا إلى قصر الخليفة وقتلوا عثمان ونحروه باسم الدين، وانفتحتْ بعد ذلك على الناس أبوابُ شَرٍّ عظيمٍ وفتنٌ كثيرةٌ.

ثم حصلتْ معركة الجَمَل وصفِّين، ثم قُتِلَ عليٌّ ، يعني: وقعتْ فتنٌ عظيمةٌ قُتِلَ فيها مسلمون كثيرون، وأوقد هؤلاء هذه الفتن، وإلا فقد كان الصحابة بينهم تقاربٌ، ولم يقصدوا ذلك، لكن هناك مَن أوقد الفتنة وحصل ما حصل، ولله تعالى الحكمة في ذلك.

فهذا من الشر الذي أشار إليه النبي عليه الصلاة والسلام في قوله: ويلٌ للعرب من شَرٍّ قد اقترب، وهذا فيه مُعجزةٌ وآيةٌ من آياته عليه الصلاة والسلام؛ إذ إنه قد وقع ما أخبر به.

ثم ذكر أمرًا آخر، وهو من أشراط الساعة الكبرى: فُتِحَ اليوم من رَدْم يأجوج ومأجوج.

يأجوج ومأجوج، بالهمز، يقال: يأجوج ومأجوج، وبغير همزٍ: ياجوج وماجوج.

وهاتان قراءتان سبعيتان، لكن قراءة الجمهور بترك الهمز: يَاجُوجُ وَمَاجُوجُ [الأنبياء:96]، وقراءة حفصٍ: يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وقد وردتْ في سورة الأنبياء.

ويأجوج ومأجوج من بني آدم، هم من بني آدم، ويدل لذلك ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة : أن النبي قال: إن الله يقول: يا آدم، أَخْرِجْ بَعْثَ النار. قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألفٍ تسعمئةٍ وتسعةٌ وتسعون، فشقَّ ذلك على الصحابة، فقال: أبشروا، إنكم لمع خليقتين ما كانتا مع شيءٍ إلا كثَّرتاه: يأجوج ومأجوج [23]، وهذا يدل على أنهم من بني آدم.

وأما ما يوجد في بعض الكتب: أن بعضهم طول المُدِّ، وبعضهم قصيرٌ، وبعضهم يلتحف أذنه، وبعضهم .. هذا كله لا أصل له، إنما هم من جنس الإنسان ومن بني آدم، ويخرجون بعد خروج المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، فخروجهم من أشراط الساعة الكبرى.

وهنا في هذا الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: فُتِحَ اليوم من رَدْم يأجوج ومأجوج هكذا، وفي الرواية الأخرى قال: فُتِحَ اليوم من رَدْم يأجوج ومأجوج مثل هذه.

ومقصود النبي عليه الصلاة والسلام بذلك السدّ الذي بناه ذو القرنين، فإن ذا القرنين أعطاه الله تعالى مُلْكَ الأرض، مَلَّكَه الأرض، وذكر اللهُ قصته في سورة الكهف: أنه ذهب إلى مغرب الشمس، ثم مشرق الشمس، ثم بعد ذلك ذهب بين السدين: وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا ۝ قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا [الكهف:93- 94]، فبنى ذو القرنين هذا السدَّ العظيم الذي حجز يأجوج ومأجوج عن البشر، ولا يزالون يحفرون هذا السدَّ حتى ينهدم، وبعد هدمه يأتون للناس ويخرجون الخروج العظيم الكبير الذي وردت الإشارة إليه في القرآن وفي السُّنة، وهذا إنما يكون بعد خروج المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام.

فهم الآن محجوزون بهذا السدّ، لكن في عهد النبي عليه الصلاة والسلام فُتِحَ شيءٌ من رَدْم هذا السدّ، شيءٌ يسيرٌ.

أين هم؟

الله أعلم، لا ندري، لكن نؤمن بأن ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام حقٌّ، وأنهم الآن محجوزون، يعني: من عهد النبي عليه الصلاة والسلام وهم محجوزون، بل من ذي القرنين وهم محجوزون بهذا السدّ.

ذهب بعض العلماء المعاصرين، واشتُهِرَ ذلك عن الشيخ عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله، ذهب إلى أن يأجوج ومأجوج هم الكفار من الغرب والأمريكان والصينيين وغيرهم، وألَّف في هذا رسالةً، وقال: إن السدَّ فُتِحَ من عهد النبي عليه الصلاة والسلام، وأنهم خرجوا، لكنهم في آخر الزمان سيتكالبون على المسلمين، فسيُقَدِّر اللهُ عليهم شيئًا -الله أعلم- بحيث لا تكون بلادهم صالحةً، فيأتون للمسلمين ويحصل خروجهم الكبير.

ولمَّا قال هذه المقولة، كان وقت المشايخ الكبار، ومنهم الشيخ: محمد بن إبراهيم، في وقت الملك عبدالعزيز رحمه الله، فاستُدْعِيَ الشيخ من القصيم، فأتى للرياض واجتمع بالمشايخ، وطُلِبَ منه ألا يُثير هذه المسألة؛ لأن المشايخ استنكروا عليه، يعني: أنكروا عليه هذا الرأي؛ لأن يأجوج ومأجوج محجوزون بالسد، فكيف يُقال: إنهم هؤلاء؟! هم محجوزون بالسدِّ، فقبل الشيخ ذلك؛ ولهذا لم يُشِر لهذا الرأي في تفسيره، لكنه ما زال مُعتقدًا له، ورسالته موجودةٌ، فأنت لو بحثتَ عنها في (الإنترنت) تجد رسالة الشيخ، وله أدلةٌ في هذا.

والذي يظهر: أن قوله مرجوحٌ رحمه الله؛ لأن ظاهر الأحاديث أنهم محجوزون بسدٍّ؛ ولهذا فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: فُتِحَ اليوم من رَدْم يأجوج ومأجوج هكذا، فكيف يُقال: إنهم الآن موجودون، وأنهم هؤلاء، ويُحددهم بأسمائهم؟!

وكان من الأدلة التي ذكرها، يقول: إن الطائرات اكتَشفتْ جميع أنحاء الكرة الأرضية، فأين هم؟!

وهؤلاء بشرٌ كثيرٌ، وأُمةٌ عظيمةٌ: ما كانتا مع شيءٍ إلا كثَّرتاه، وهم من بني الإنسان، فأين هم؟!

فالكرة الأرضية كلها الآن مُكْتَشَفَةٌ ومعروفةٌ بالأقمار الصناعية وبالطائرات، فأين هؤلاء؟!

فذكر أن هؤلاء هم هؤلاء؛ يعني: هم الكفار من الغرب والشرق، لكن يُشْكِل على هذا ظاهرُ النصوص، فظاهر النصوص أنهم محجوزون بسدٍّ عظيمٍ، وأن ذا القرنين وضع هذا السدَّ، والله تعالى قال: فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا [الكهف:97]، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: فُتِحَ اليوم من رَدْم يأجوج ومأجوج هكذا، فهذا يُشْكِل على هذا القول.

وأما القول بأنه قد اكتُشِفَت الكرة الأرضية كلها، فهذا لا يُسلَّم، فهناك أشياء كثيرةٌ خافيةٌ عن الناس وعن البشر، فيحتمل أنهم محجوزون في مكانٍ لا نعرفه، والله أعلم.

فهذا رأيٌ انفرد به الشيخ رحمه الله، ولم يُوافقه عليه بقية العلماء.

إذن خروج يأجوج ومأجوج من أشراط الساعة الكبرى، يخرجون بعد خروج المسيح الدجال، أولًا: يخرج المسيح الدجال، ثم ينزل عيسى ابن مريم ويقتل المسيح الدجال، ثم يخرج يأجوج ومأجوج.

كلُّ هذه من أشراط الساعة الكبرى، ولاحِظْ أنها مُتواليةٌ، فأشراط الساعة الكبرى مُتواليةٌ مثل العِقْد، إذا انقطع حَبْلُ الخَرَز فإن حبَّات العقد تتوالى، هكذا أشراط الساعة الكبرى تكون مُتواليةً وسريعةً.

فالذي يظهر -والله أعلم- أن يأجوج ومأجوج موجودون الآن، لكن محجوزون في مكانٍ اللهُ أعلم به، محجوزون بهذا السدِّ، وأنه يُؤْذَن لهم في الخروج بعد نزول المسيح عيسى ابن مريم .

أورد بعضُ العلماء سؤالًا: إذا كانوا محجوزين بالسدِّ، فلماذا لم يُحاولوا الرُّقِيَّ عليه بِسُلَّمٍ؟

يعني: هذا سَدٌّ يمكن أن يصعدوا عليه بسلالم.

قال بعضهم في الجواب عن هذا: إن الله لم يُلهمهم أن يصعدوا على هذا السدِّ بسلمٍ.

وانتقد هذا الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله، وقال: إن الصعود على السدِّ بسلمٍ أمرٌ معروفٌ، وعندهم أخشابٌ، لكن السبب الحقيقي -ذكر الحافظ ابن حجرٍ السبب الحقيقي- أن الله منعهم من أن يُواصلوا الحفر ليلًا ونهارًا؛ ويدل لذلك رواية الترمذي: أن يأجوج ومأجوج يحفرون كلَّ يومٍ، حتى إذا كادوا يخرقونه يعني: يخرقون السدَّ قال الذي عليهم يعني: قائدهم ارجعوا فستخرقونه غدًا، ولم يقل: إن شاء الله، فإذا جاؤوا من الغد وجدوه كأشدّ ما كان، ثم كذلك في اليوم الثاني، ثم كذلك في الأيام التي بعده، قال: حتى إذا بلغ مدّتهم، وأراد الله أن يبعثهم على الناس، قال الذي عليهم يعني: قائدهم ارجعوا فستخرقونه غدًا إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله، فإذا قال ذلك واستثنى فإنهم يرجعون فيجدونه كهيئته حين تركوه، فيخرقونه، فيخرجون على الناس [24].

وهذا -كما قلنا- إنما يكون بعد خروج المسيح الدجال، وبعد نزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام.

وسيأتي -إن شاء الله- الكلامُ عن الأحاديث الواردة في يأجوج ومأجوج، وماذا يفعلون، وكيف يَهْلَكون، هذا كله سيأتي -إن شاء الله- في أحاديث أخرى في دروسٍ قادمةٍ، بإذن الله.

هنا بقي التعليق على قوله عليه الصلاة والسلام لما قالت أم سلمة رضي الله عنها: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثُر الخَبَث.

وهذا يدل على شُؤم المعصية، وعلى أنه إذا كَثُر الخَبَث يعني: الفساد والمعاصي، فإن العقوبة تَعُمّ بسببهم حتى وإن كان فيهم صالحون، بل حتى وإن كان فيهم آمِرُون بالمعروف وناهون عن المنكر، إذا كثُر الخَبَث وأصبح هو الغالب وهو الطاغي، ثم يُعامَل كلُّ واحدٍ بحَسَبِ قصده وأعماله.

وهذا فيه التحذير من كثرة الخَبَث في المجتمع؛ لأن الخَبَث إذا كثُر في المجتمع كان هذا مُؤْذِنًا بعقوبة الله ​​​​​​​، وعقوبةُ الله تعالى تكون بحسب حكمته سبحانه.

والعقوبة كانت في الأمم السابقة بالهلاك الذي هو الاستئصال، مثل: قوم عاد، وثمود، والأمم السابقة، لكن بعد نزول التوراة لم يُهلك الله تعالى قومًا باستئصالهم، وإنما تُقَدَّر عليهم عقوباتٌ بحسب ما تقتضيه حكمة الله ​​​​​​​، فقد تكون العقوبة -مثلًا- أن يجعل الله بَأْسَهم بينهم، وقد تكون العقوبة بالخوف والاضطراب وانفلات الأمن، وقد تكون العقوبة بالفقر والجوع، وقد تكون العقوبة بِفُشُوِّ الأوبئة والأمراض، وقد تكون العقوبة بالغلاء، وقد تكون العقوبة بأمورٍ كثيرةٍ، ولله تعالى الحكمة في ذلك.

هذا إذا كثُر الخَبَث؛ ولهذا لما قالت أم سلمة: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثُر الخَبَث.

باب الخسف بالجيش الذي يَؤُمُّ البيت

القارئ: أحسن الله إليكم.

قال رحمه الله:

باب الخَسْف بالجيش الذي يَؤُمُّ البيت.

قال: حدثنا قُتيبة بن سعيدٍ، وأبو بكر بن أبي شيبة، وإسحاق بن إبراهيم -واللفظ لقُتيبة- قال إسحاق: أخبرنا، وقال الآخَران: حدثنا جريرٌ، عن عبدالعزيز بن رُفَيْعٍ، عن عبيدالله ابن القِبْطِيَّة قال: دخل الحارث بن أبي ربيعة وعبدالله بن صفوان وأنا معهما على أم سلمة -أم المؤمنين- فَسَأَلَاها عن الجيش الذي يُخْسَف به، وكان ذلك في أيام ابن الزبير، فقالت: قال رسول الله : يعوذ عائذٌ بالبيت، فَيُبْعَث إليه بَعْثٌ، فإذا كانوا بِبَيْدَاءَ من الأرض خُسِفَ بهم، فقلتُ: يا رسول الله، فكيف بمَن كان كارهًا؟ قال: يُخْسَفُ به معهم، ولكنه يُبْعَث يوم القيامة على نِيَّته.

وقال أبو جعفرٍ: هي بَيْدَاء المدينة [25].

قال: حدثناه أحمد بن يونس، قال: حدثنا زُهيرٌ، قال: حدثنا عبدالعزيز بن رُفَيْعٍ، بهذا الإسناد، وفي حديثه قال: فَلَقِيتُ أبا جعفرٍ فقلتُ: إنها إنما قالتْ: بِبَيْدَاء من الأرض. فقال أبو جعفرٍ: كلَّا والله، إنها لَبَيْدَاء المدينة [26].

قال: حدثنا عمرٌو النَّاقِد، وابن أبي عمر -واللفظ لعمرٍو- قالا: حدثنا سفيان بن عُيينة، عن أُمَيَّة بن صفوان: أنه سمع جدَّه عبدالله بن صفوان يقول: أخبرتني حفصةُ رضي الله عنها: أنها سمعت النبيَّ يقول: لَيَؤُمَّنَّ هذا البيتَ جيشٌ يغزونه، حتى إذا كانوا ببَيْدَاء من الأرض يُخْسَف بأوسطهم، ويُنادي أولُهم آخرَهم، ثم يُخْسَف بهم، فلا يبقى إلا الشَّرِيد الذي يُخْبِر عنهم، فقال رجلٌ: أشهد عليك أنك لم تكذب على حفصة، وأشهد على حفصة أنها لم تكذب على النبي  [27].

قال: وحدثني محمد بن حاتم بن ميمون، قال: حدثنا الوليد بن صالحٍ، قال: حدثنا عبيدالله بن عمرٍو، قال: حدثنا زيد بن أبي أُنَيْسَةَ، عن عبدالملك العامريِّ، عن يوسف بن مَاهَكَ قال: أخبرني عبدالله بن صفوان، عن أم المؤمنين: أن رسول الله قال: سيعوذ بهذا البيت يعني: الكعبة قومٌ ليست لهم مَنَعَةٌ ولا عَدَدٌ ولا عُدَّةٌ، يُبْعَث إليهم جيشٌ، حتى إذا كانوا ببَيْدَاء من الأرض خُسِفَ بهم.

قال يوسف: وأهل الشأم يومئذٍ يسيرون إلى مكة، فقال عبدالله بن صفوان: أما والله، ما هو بهذا الجيش.

قال زيدٌ: وحدثني عبدالملك العامريُّ، عن عبدالرحمن بن سَابِطٍ، عن الحارث بن أبي ربيعة، عن أم المؤمنين، بمثل حديث يوسف بن مَاهَكَ، غير أنه لم يذكر فيه الجيش الذي ذكره عبدُالله بن صفوان [28].

قال: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا يونس بن محمدٍ، قال: حدثنا القاسم بن الفضل الحُدَّانِيُّ، عن محمد بن زيادٍ، عن عبدالله بن الزبير: أن عائشة رضي الله عنها قالت: عبث رسول الله في منامه، فقلنا: يا رسول الله، صنعتَ شيئًا في منامك لم تكن تفعله. فقال: العجب، إن ناسًا من أُمَّتي يَؤُمُّون بالبيت برجلٍ من قريشٍ قد لَجَأَ بالبيت، حتى إذا كانوا بالبَيْدَاء خُسِفَ بهم، فقلنا: يا رسول الله، إن الطريق قد يجمع الناس. قال: نعم، فيهم المُسْتَبْصِر والمجبور وابن السَّبيل، يَهْلِكُون مَهْلَكًا واحدًا، ويَصْدُرُون مصادر شتَّى، يَبْعَثُهم الله على نِيَّاتهم [29].

الشرح:

هذا من أشراط الساعة، ويظهر -والله أعلم- أنه من أشراط الساعة الوسطى: أن أناسًا ليست لهم عُدَّةٌ ولا عددٌ، وليست لهم مَنَعَةٌ، قومٌ ليست لهم مَنَعَةٌ ولا عددٌ ولا عُدَّةٌ يلوذون بالكعبة، فيتوجه إليهم جيشٌ عظيمٌ، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض -قيل: إنها بيداء المدينة، وقيل غير ذلك- يُخْسَف بهذا الجيش أولهم وآخرهم، حتى لا يبقى منهم إلا الشريد الذي يُخْبِر عنهم.

وهذا الجيش كله عن بَكْرَة أبيه يحصل لهم خسفٌ، ويذهبون كلهم، ولا يبقى منهم إلا هذا الذي يُخْبِر عنهم، فهذا من أشراط الساعة.

وكان الناس يتحدثون به وقت ابن الزبير، وابن الزبير كان خليفة المسلمين في الحجاز، بقي ثماني سنوات خليفةً، ولكن لم يَرْتَضِه بنو أُمية؛ فأرسلوا له الحجاج بن يوسف الثقفي، وكان الحجاج بن يوسف أقوى منه عددًا وعُدَّةً.

والحجاج معروفٌ أمره وظلمه وبطشه، فضرب الكعبة بالمنجنيق، وحاصر ابن الزبير حتى قتله، ولم يَكْتَفِ بقتله، وإنما صلبه على خشبةٍ بعد قتله أيامًا، مع أنه صحابيٌّ، فَمَرَّ به عبدالله بن عمر رضي الله عنهما -وهذا في “صحيح مسلم”- مَرَّ بعبدالله بن الزبير وقال: “السلام عليك أبا خبيب، أَمَا والله لقد كنتُ أنهاك عن هذا؟” يعني: لا تدخل في السياسة وهذه الأمور، أنت صحابيٌّ وعابدٌ، ما لك وهذه الأمور؟! “أَمَا والله لقد كنتُ أنهاك عن هذا؟”.

“أَمَا والله لَأُمَّةٌ أنت أَشَرُّها لَأُمَّة خيرٍ”؛ لأن الحجاج يقول: هذا شرُّ الأُمَّة.

فمباشرةً أُبْلِغَ الحجاج بكلام ابن عمر رضي الله عنهما، فَهَابَ أن يتعرض لابن عمر، وقال: ارموه، فرموا عبدالله بن الزبير [30]، وكان قد بقي أيامًا مصلوبًا، وإذا به يتقطع لحمه قطعةً قطعةً، فأخذوه وجمعوه وغسَّلوه وكفَّنوه وصلّوا عليه.

وكان عابدًا، صَوَّامًا، قَوَّامًا، قيل: إنه كان يصوم الدهر ولا يُفطر أبدًا، ولم يبلغه النَّهي عن صيام الدهر، وكان يقوم الليل.

والحجاج بطش وظلم وفعل ما فعل، ولكن لما تعرض لأحد الصالحين -لسعيد بن جبير- دعا عليه وقال: اللهم لا تُسلِّطه على أحدٍ بعدي.

سبحان الله!

بعدها لم يُسلِّطه الله على أحدٍ، بل بقي لم يَذُقْ طعم النوم بعده، كلما أراد أن ينام أتاه سعيد بن جُبيرٍ في المنام ففزع، وبقي شهرًا كاملًا لم يَنَمْ، وكان يقول: ما لي ولابن جُبيرٍ؟! فذهب للحسن وقال: ادعُ الله ألا يُطيل عذابي، فقط أن أموت. فأصبح يتمنى الموت، فهلك، وأراح الله المسلمين منه.

الشاهد: أن الناس تناقلوا هذا الحديث في وقت ابن الزبير، وقال عبدالله بن صفوان -أحد رواة الحديث-: “أما والله، ما هو بهذا الجيش”.

قال الأُبِّيُّ شارح “صحيح مسلم”: “الأظهر أن هذا الخسف لم يقع، وأنه لا بد منه؛ لوجوب صدق خبره “.

قال: “وحاول بعضهم أن يحمل هذا الحديث على مَن غزا عبدالله بن الزبير وهو مُستعيذٌ بمكة.

وقد ردَّ عليهم عبدالله بن صفوان راوي الحديث، قال: “أما والله، ما هو بهذا الجيش”، وقد صدق؛ لأن الجيش الذي غزا ابن الزبير لم يُخْسَف بهم”، فجيش الحجاج لم يُخْسَف به.

وهذا يدل على أنه ليس هو المقصود، بل إن جيش الحجاج انتصر على ابن الزبير ولم يُخْسَف به، فليس هو المقصود.

وهذا يدل على أنه سيكون فيما بعد، ولا يُعلم على مَرِّ التاريخ الإسلامي أن هذا حصل.

لا يُعْلَم أن أناسًا لَاذُوا بالبيت، وأنه أتاهم جيشٌ، وخُسِفَ بهذا الجيش عن بكرة أبيهم، لا يُعْلَم هذا على مَرِّ التاريخ الإسلامي.

وهذا يدل على أن هذا من أشراط الساعة، وأنه سيقع، ولم يقع بعدُ، وهناك بعض أشراط الساعة الوسطى لم تقع، مثل: الملحمة الكبرى التي بين المسلمين والروم: يأتونكم تحت ثمانين غايةً، تحت كل غايةٍ اثنا عشر ألفًا [31]، هذه أيضًا لم تقع، مع أن الحديث في “البخاري”.

هناك بعض أشراط الساعة الوسطى التي لم تقع بعدُ، والله تعالى يقول: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47] يعني: الزمن عند الله ​​​​​​​ غير الزمن عند البشر، لكن المقصود بقُرب الساعة: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [القمر:1]، اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ [الأنبياء:1] القُرب النِّسبي، فلو كنتَ -مثلًا- قادمًا من أقصى الغرب، من أمريكا -مثلًا- إلى هنا، عندما تصل -مثلًا- إلى جدة تقول: أنا قريبٌ، أنا اقتربتُ الآن من الوصول. مع أنك في جدة، بعيدٌ، لكنَّ هذا قُرْبٌ نسبيٌّ مُقارنةً بما قطعتَ من المسافة.

وهكذا أيضًا ما بقي من الدنيا أقلُّ بكثيرٍ مما ذهب منها، فهذا هو المقصود بالقُرب، وإلا فهناك أشراطٌ وسطى لم تقع، ومنها هذا المذكور في هذا الحديث، فهو لم يقع بعدُ كما قال الأُبِّيُّ.

ولا يُعلم على مَرِّ التاريخ الإسلامي أن هذا قد وقع، ومثل هذا لو وقع لاستفاض واشتهر في كتب السير والأخبار، ونُقِلَ وتَواتَر النَّقل؛ كون جيشٍ بأكمله يُخْسَف به، لو أن هذا وقع لاشتهر ولاستفاض، وقد اشتُهر واستفاض ما هو دونه بكثيرٍ، فهذا يدل على أنه لم يقع.

وقوله عليه الصلاة والسلام لما قيل: يا رسول الله، إن الطريق قد يجمع الناس. قال: نعم، فيهم المُسْتَبْصِر يعني: المُسْتَبْصِر المُسْتَبِين لذلك، القاصدُ عمدًا، والمجبور يعني: المُكْرَه، وابن السَّبيل يعني: سالِكُ الطريق معهم وليس منهم، يَهْلِكُون مَهْلَكًا واحدًا كلهم يُخْسَف بهم، ويَصْدُرُون مصادر شتَّى، يَبْعَثُهم الله على نِيَّاتهم، فهؤلاء تشملهم العقوبة، لكن يبعثهم الله على نيَّاتهم.

وفي هذا خطورة مُصاحبة أهل الظلم ومُجالستهم وتكثير سوادهم، وأن الإنسان قد تَعُمُّه العقوبة معهم.

وأيضًا هذا الحديث يدل على شُؤم الأشرار، وأن العقوبة تعمُّ بسببهم، ثم يُعامل كل واحدٍ بحسب نيته، وحسب قصده وعمله.

باب نزول الفتن كمواقع القَطْر

القارئ: أحسن الله إليكم.

قال رحمه الله:

باب نزول الفتن كمواقع القَطْر.

قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وعمرٌو النَّاقِد، وإسحاق بن إبراهيم، وابن أبي عمر -واللفظ لابن أبي شيبة- قال إسحاق: أخبرنا، وقال الآخرون: حدثنا سفيان بن عُيينة، عن الزهري، عن عروة، عن أسامة : أن النبي أشرف على أُطُمٍ من آطَام المدينة، ثم قال: هل ترون ما أرى؟ إني لَأَرَى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمَوَاقِع القَطْر [32].

قال: وحدثنا عبد بن حُمَيدٍ، قال: أخبرنا عبدالرزاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن الزهري، بهذا الإسناد نحوه [33].

الشرح:

قال: “أشرف النبي على أُطُمٍ من آطام المدينة”، “أشرف” يعني: علا وارتفع، “على أُطُمٍ من آطام المدينة”، الأُطُم هو: القصر والحِصْن.

فقال: هل ترون ما أرى؟ إني لَأَرَى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمَوَاقِع القَطْر، وهذا فيه إشارةٌ إلى الفتن التي وقعتْ بعد مقتل عثمان ، وهي فتنٌ عظيمةٌ جدًّا، قُتِلَ فيها خلقٌ كثيرٌ، وحذَّر النبي من هذه الفتن، وقد وقعتْ كما أخبر عليه الصلاة والسلام.

القارئ: أحسن الله إليكم.

قال: حدثني عمرٌو النَّاقِد، والحسن الحُلْوَانِيُّ، وعبد بن حُمَيْدٍ، قال عبدٌ: أخبرني، وقال الآخَرَان: حدثنا يعقوب -وهو ابن إبراهيم بن سعدٍ- قال: حدثنا أبي، عن صالحٍ، عن ابن شهابٍ قال: حدثني ابن المُسَيّب، وأبو سلمة بن عبدالرحمن: أن أبا هريرة قال: قال رسول الله : ستكون فِتَنٌ القاعد فيها خيرٌ من القائم، والقائم فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من السَّاعِي، مَن تَشَرَّفَ لها تَسْتَشْرِفُه، ومَن وجد فيها مَلْجَأً فَلْيَعُذْ به [34].

الشرح:

أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنها ستكون فتنٌ بين يدي الساعة، وأن هذه الفتن فتنٌ عظيمةٌ، القاعد فيها خيرٌ من القائم، والقائم فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من السَّاعِي يعني: كلما سعى فيها الإنسان كان ذلك شرًّا، وكلما ابتعد عنها كان خيرًا.

مَن تَشَرَّفَ لها تَسْتَشْرِفُه، معنى مَن تَشَرَّفَ يعني: تطلَّع لها وتعرَّض لها وانتَصَبَ لها فإنها تَسْتَشْرِفُه يعني: تقلبه وتصرعه.

وهذا يدل على مشروعية البُعد عن الفتن قدر المُستطاع، وألا يتطلع المسلم لها، وألا يتعرض لها، وإنما يجتنبها ويبتعد عنها، ويدعو الله أن يُعيذه منها.

وبهذا نأخذ فائدةً عظيمةً، وهي: أن المسلم ينبغي له أن يبتعد عن الفتن، وأن يبتعد عن مواقع الفتن، ومن ذلك: المواقع على الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) التي تَبُثُّ فتنًا كثيرةً من فتن الشبهات وفتن الشهوات.

وبعض الناس يدخل لهذه المواقع بدافع الفضول، ثم تدخل الشُّبهة لقلبه؛ فيصعب خلاص قلبه منها، فالقلوب ضعيفةٌ، والشُّبَهُ خَطَّافةٌ؛ ولذلك فعلى المسلم أن يبتعد عنها.

هذا إذا كان الموقع يعرض شُبهًا لا تَدْخُله، ابتَعِدْ عنه، فإنك لا تدري، أنت بشرٌ وضعيفٌ، ربما تدخل بدافع الفضول فتقع الشُّبهة في قلبك.

وكم من إنسانٍ كان صالحًا مُستقيمًا، فدخل هذه المواقع؛ فأثَّرتْ عليه هذه الشُّبَه حتى فُتِنَ، وحتى انحرف وأصبحت عنده لَوْثَةٌ، وانحرف عن الصراط المستقيم.

ولهذا اجعل هذا مبدأً لك: ابتَعِدْ عن مواقع الفتن، ابتَعِدْ عن أي موقعٍ يعرض شُبَهًا، ويعرض فتنًا، ابتَعِدْ عنه.

ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: مَن وجد فيها مَلْجَأً فَلْيَعُذْ به، وقال عن الدجال: مَن سمع بالدجال فَلْيَنْأَ عنه [35] يعني: ليبتعد عنه، ولا يَقُل: “عندي من الإيمان ما أعرف أن هذا الدجال، وأن هذه فتنة الدجال”، لا، أنت بشرٌ يَرِد عليك ما يَرِد على البشر.

فهذا مبدأٌ عظيمٌ ينبغي أن يحرص عليه المسلم، وهو: أن يبتعد عن الفتن، وأن يستعيذ بالله تعالى من الفتن، ينبغي أن يُكْثِر من هذا الدعاء، يقول: اللهم أَعِذْنِي من مُضِلَّات الفتن، ما ظهر منها وما بطن، اللهم ثَبِّتْنِي بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة، يا مُقلِّب القلوب، ثَبِّتْ قلبي على دينك، يا مُصَرِّف القلوب، صَرِّفْ قلبي على طاعتك، ربِّ لا تُزِغْ قلبي بعد إذ هديتَنِي، وهَبْ لي من لدنك رحمةً، إنك أنت الوهاب.

القارئ: أحسن الله إليكم.

قال رحمه الله:

حدثنا عمرٌو النَّاقِد، والحسن الحُلْوَانِيُّ، وعبد بن حُمَيْدٍ، قال عبدٌ: أخبرني، وقال الآخران: حدثنا يعقوب، قال: حدثني أبي، عن صالحٍ، عن ابن شهابٍ قال: حدثني أبو بكر بن عبدالرحمن، عن عبدالرحمن بن مُطِيع بن الأسود، عن نَوْفَل بن معاوية، مثل حديث أبي هريرة هذا إلا أن أبا بكرٍ يزيد: من الصلاة صلاةٌ مَن فاتته فكأنما وُتِرَ أهله وماله [36].

الشرح:

وهي صلاة العصر كما جاء ذلك في الأحاديث الأخرى.

القارئ: قال رحمه الله:

حدثني إسحاق بن منصورٍ، قال: أخبرنا أبو داود الطَّيَالِسِيُّ، قال: حدثنا إبراهيم بن سعدٍ، عن أبيه، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال النبي : تكون فتنةٌ النائم فيها خيرٌ من اليَقْظَان، واليَقْظَان فيها خيرٌ من القائم، والقائم فيها خيرٌ من السَّاعِي، فمَن وجد مَلْجَأً أو مَعَاذًا فَلْيَسْتَعِذْ [37].

قال: حدثني أبو كاملٍ الجَحْدَرِيُّ فُضَيل بن حسين، قال: حدثنا حماد بن زيدٍ، قال: حدثنا عثمان الشَّحَّام، قال: انطلقتُ أنا وفَرْقَدٌ السَّبَخِيُّ إلى مسلم بن أبي بَكْرَةَ وهو في أرضه، فدخلنا عليه فقلنا: هل سمعتَ أباك يُحَدِّث في الفتن حديثًا؟ قال: نعم، سمعتُ أبا بَكْرَةَ يُحَدِّث، قال: قال رسول الله : إنها ستكون فتنٌ، أَلَا ثم تكون فتنةٌ القاعد فيها خيرٌ من الماشي فيها، والماشي فيها خيرٌ من السَّاعي إليها، أَلَا فإذا نزلتْ -أو وقعتْ- فمَن كان له إبلٌ فَلْيَلْحَقْ بإبله، ومَن كانت له غنمٌ فَلْيَلْحَقْ بغنمه، ومَن كانت له أرضٌ فَلْيَلْحَقْ بأرضه.

قال: فقال رجلٌ: يا رسول الله، أرأيتَ مَن لم يكن له إبلٌ ولا غنمٌ ولا أرضٌ؟ قال: يعمد إلى سيفه فَيَدُقُّ على حدِّه بحجرٍ، ثم لِيَنْجُ إن استطاع النَّجَاءَ، اللهم هل بَلَّغْتُ؟ اللهم هل بَلَّغْتُ؟ اللهم هل بَلَّغْتُ؟.

قال: فقال رجلٌ: يا رسول الله، أرأيتَ إنْ أُكْرِهْتُ حتى يُنْطَلَقَ بي إلى أحد الصَّفَّيْن، أو إحدى الفِئَتَيْن، فضربني رجلٌ بسيفه، أو يجيء سهمٌ فيقتلني؟ قال: يَبُوءُ بإثمه وإثمك، ويكون من أصحاب النار [38].

قال: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو كُرَيْبٍ، قالا: حدثنا وكيعٌ. ح، قال: وحدثني محمد بن المُثَنَّى، قال: حدثنا ابن أبي عديٍّ -كلاهما- عن عثمان الشَّحَّام، بهذا الإسناد.

حديث ابن أبي عديٍّ نحو حديث حمادٍ إلى آخره، وانتهى حديث وكيعٍ عند قوله: إن استطاع النَّجَاءَ، ولم يذكر ما بعده [39].

الشرح:

هذا فيه إشارةٌ للفتن التي تقع، والتي وصفها النبي بقوله: القاعد فيها خيرٌ من الماشي فيها، والماشي فيها خيرٌ من السَّاعي إليها، وعظَّم النبي عليه الصلاة والسلام شأن هذا الأمر فقال: اللهم هل بلغتُ؟ اللهم هل بلغتُ؟ اللهم هل بلغتُ؟.

موقف المسلم إذا وقعت الفتن

الفتن عند الاشتباه وعدم وضوح الحقِّ فيها ينبغي أن يأخذ المسلم بما أرشد إليه النبي بقوله: فإذا نزلتْ -أو وقعتْ- فمَن كان له إبلٌ فَلْيَلْحَقْ بإبله، ومَن كانت له غنمٌ فَلْيَلْحَقْ بغنمه، ومَن كانت له أرضٌ فَلْيَلْحَقْ بأرضه يعني: أنه يعتزل هذه الفتن كلَّها.

قال رجلٌ: يا رسول الله، أرأيتَ مَن لم يكن له إبلٌ ولا غنمٌ ولا أرضٌ؟ قال: يعمد إلى سيفه فَيَدُقُّ على حدِّه بحجرٍ، ثم لِيَنْجُ إن استطاع النَّجَاءَ.

قيل: إن المراد كسرُ السيف حقيقةً، والتَّخلص من السلاح الذي عنده؛ لِيَسُدَّ على نفسه باب الاشتراك في الفتنة.

وقيل: إنه مَجَازٌ، والمراد تَرْك القتال.

قال النووي: والراجح الأول، والأول أصحّ.

يعني: أنه عند حصول الفتن مع الاشتباه ينبغي أن يتخلص من سلاحه؛ حتى لا يقتل مسلمًا بهذا السلاح، ولكن هذا إنما يكون عند الاشتباه وعدم وضوح الحقِّ، أما إذا اتَّضح الحقُّ من الباطل، وكانت فتنة، فما حكم الدخول فيها؟

للعلماء في هذا ثلاثة أقوالٍ:

  • القول الأول: أنه لا يدخل فيها، حتى وإن دخلوا عليه بيته وطلبوا قتله فلا يُدافع عن نفسه.
    وهذا مذهب الصحابي أبي بَكْرَة .
  • والقول الثاني مذهب عمران بن حُصين وغيره: أنه لا يدخل فيها، لكن يُدافع عن نفسه إذا أُريد.
    يعني: يرى أصحاب هذين المذهبين تَرْك الدخول في جميع الفتن.
  • المذهب الثالث: قال النووي: “وقال معظم الصحابة والتابعين وعامة علماء الإسلام: يجب نصر المُحقّ في الفتن، والقيام معه بمُقاتلة الباغي، كما قال تعالى: فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات:9].
    وهذا هو الصحيح، وتُتَأَوَّل الأحاديث على مَن لم يَظْهَر له المُحقّ، أو على طائفتين ظالمتين لا تأويل لواحدةٍ منهما، ولو كان كما قال الأولون لظهر الفساد واستطال أهل البغي والمُبطلون”.

وهذا القول الثالث هو الراجح: أنه إذا تبيَّن الحقُّ من الباطل فيجب الوقوفُ مع المُحِقِّ ورَدْع المُبْطِل، ولا يُقال: هذه فتنةٌ؛ لأنه لو قيل: هذه فتنةٌ، وقيل: اتركوا مُناصرة المُحقّ؛ لَعَمَّ الشرُّ -كما قال النووي- وعَمَّ الفساد، وظهر المُبْطِلون، وإنما عندما يتبين الحقُّ من الباطل تجب نُصرة أهل الحقِّ، ودفع أهل البغي والظلم والطغيان.

هذا هو الموقف الشرعي الصحيح، ونسبه النووي لعامة علماء الإسلام.

يعني: قول معظم الصحابة والتابعين: إنه يجب الوقوف مع المُحقِّ ودفع المُبْطِل، وألا يعتزل الإنسان ذلك ويقول: إنها فتنةٌ. إنما الاعتزال يكون عند الاشتباه وعدم تبيُّن الحقِّ من الباطل.

فهذا هو الذي تجتمع به النصوص الواردة في هذه المسألة.

نسأل الله تعالى أن يُعيذنا، وأن يُجنبنا الفتن، ما ظهر منها وما بطن.

ونكتفي بهذا القدر.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الآن نُجيب عما تيسر من الأسئلة.

السؤال: ما أفضل كتابٍ للفتن حذَّر منها، وأشراط الساعة؟

الجواب: هناك كتابٌ للشيخ حمود التويجري عن الفتن وأشراط الساعة، وهو من أجود الكتب، وهناك أيضًا كتبٌ مُصنفةٌ في هذا: في الفتن والملاحم وأشراط الساعة.

وابنُ كثيرٍ ذكر أيضًا في “البداية والنهاية” شيئًا من هذا، وأيضًا كُتُب الأحاديث وشروح الأحاديث لا تخلو من هذا، كثيرةٌ، يعني: معظم كتب الأحاديث تَذْكُر الفتن وأشراط الساعة.

السؤال: لدينا بعض الطلاب يُقيمون الصلاة قبل دخول الوقت بدقيقةٍ، ما حكم صلاتهم؟

الجواب: صلاتهم لا تصحّ، وهذا بالإجماع.

مَن صلَّى قبل دخول الوقت ولو بدقيقةٍ لم تصحّ صلاته بإجماع العلماء: إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103].

فلو أنك كبَّرتَ تكبيرة الإحرام قبل أذان الظهر بدقيقةٍ لم تصحّ صلاتك، أو قبل أذان العصر بدقيقةٍ لم تصحّ؛ فشرط الوقت آكَدُ شروط الصلاة، لكن العشاء -خاصةً العشاء- جَعَل تقويمُ أمِّ القرى ساعةً ونصفًا على مدار العام من باب التوسعة، وإلا فوقتُ العشاء يدخل قبل ذلك.

يعني: العِشاء الأمر فيها أوسع؛ لأنه أُخِّرَ دخول وقت العشاء من باب التوسعة على الناس، وإلا فوقت العشاء يدخل قبل ذلك، لكنَّ غيره من الأوقات: لو صلَّى أناسٌ قبل الأذان، قبل دخول الوقت ولو بدقيقةٍ؛ لم تصحّ صلاتهم بالإجماع.

السؤال: ما حكم شراء البطاقات الصحية التي تحتوي على عروضٍ تُتيح لك تخفيضاتٍ في بعض المراكز الصحية؟

الجواب: هذه البطاقات لو كانت مجانيةً فلا بأس، أما إذا كان لها ثمنٌ فلا يجوز؛ لأن مَن يشتري هذه البطاقة يكون مُترددًا بين الغُنْم والغُرْم، فإما أن يربح ويستفيد من هذه التَّخفيضات، وإما أن يخسر.

وقد لا يحتاج في ذلك العام إلى المستشفيات والمراكز الصحية، ولا يمرض، ولا يحتاج إليها، فيذهب عليه ثمن هذه البطاقة، ويدخل تحت قاعدة المَيْسِر: إما غانمٌ، وإما غارمٌ، فالذي يظهر -والله أعلم- أن هذه لا تجوز.

السؤال: هل يجوز فصل العقيقة بحيث يَذْبح شاةً في وقتٍ وشاةً في وقتٍ آخر؟

الجواب: لا بأس بذلك، فالغلام يُعَقُّ عنه شاتان، والأفضل أن يجمعهما، لكن لو أراد أن يفصلهما فلا بأس، الأمر في هذا واسعٌ.

السؤال: ما الذي يُسَنُّ فعله إذا رُزِقَ الإنسان بمولودٍ؟

الجواب: الذي يُسَنُّ:

أولًا: يحمد الله تعالى ويشكره على أن وهبه هذا المولود.

ثانيًا: يُسميه ويختار له أحسن الأسماء.

ثالثًا: يعقّ عنه عقيقةً، والأفضل أن تكون في اليوم السابع.

هذه هي الأمور التي تُشرع.

وأما حلقُ رأسِه والتَّصدُّقُ بوزنه فهذا لم يثبت، والحديث المرويُّ في ذلك حديثٌ ضعيفٌ، بالنسبة للتَّصدق بوزن شعره، لكن بالنسبة لحلق الرأس فيُحلق رأسه إذا كان ذكرًا، أما الأنثى فلا يُحلق رأسها.

السؤال: ما رأيكم في التَّفقه عن طريق الدروس المُسجلة لأهل العلم، خاصةً إذا كنتُ أسكن في مكانٍ يقلّ فيه العلماء؟

الجواب: لا بأس بذلك، ولا شكَّ أن الحضور أفضل، والذي يحضر الدروس يتعرض لمغفرة الله : إن لله ملائكةً سيَّارةً يتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلس ذكرٍ قالوا: هَلُمُّوا إلى حاجتكم، وفي آخر الحديث: أن الله تعالى يقول: أُشهدكم أني قد غفرتُ لهم، فتقول الملائكة: فيهم فلانٌ ليس منهم، إنما جاء لحاجةٍ، فيقول الله: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم [40]، فالحضور أفضل، لكن مَن لم يتيسر له الحضور يُتابع الدروس عن طريق البَثِّ، وعن طريق الدروس المُسجلة، ففيها خيرٌ كثيرٌ، وهي من وسائل طلب العلم، وهي من نِعَم الله تعالى علينا في هذا الزمان.

السؤال: كيف أكون من الذين حققوا الإيمان المذكور في سورة الأنفال؟

الجواب: الله تعالى يقول: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]، أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:4]، هذه درجة كمال الإيمان: وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ يعني: خافتْ، وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا.

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ يعني: توجل وتخاف عند ذكر الله ، وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا يتدبرون القرآن ويزيد إيمانهم، ويتوكلون على الله سبحانه، فهذه درجة كمال الإيمان، فيُجاهد المسلم نفسه على تحقيق هذه الخِصَال حتى يكون من هؤلاء.

السؤال: إذا فاتتني السنن القبلية لصلاة الظهر، فهل يُشرع قضاؤها بعد صلاة الظهر؟

الجواب: نعم، يُشرع قضاؤها بعد صلاة الظهر، فلو ضاق الوقت ولم تتمكن من الإتيان بالسنة الراتبة قبل صلاة الظهر فإنك تُصليها بعد صلاة الظهر.

السؤال: ما صفةُ رَفْعِ السَّبابة في التَّشهد؟

الجواب: القول الراجح في هذه المسألة هو رفع إصبع السبابة من أول التَّشهد إلى آخره، سواء كان التَّشهد الأول أو الأخير، مع حَنْيه قليلًا هكذا، ويُحرِّكه عند ذكر اسم الله، فإذا قال: “التَّحيات لله” حرَّكه، وإذا قال: “أشهد أن لا إله إلا الله” حرَّكه، وإذا قال: “اللهم صلِّ على محمدٍ” حرَّكه.

هذا هو أرجح ما قيل في هذه المسألة: أن يرفع السبابة من أول التَّشهد إلى آخره، مع إحنائه قليلًا، يعني: لا ينصبه هكذا، وإنما يحنيه قليلًا، وتحريكه عند ذكر اسم الله.

وأما بقية الأصابع فقد ورد في السنة لها صفتان:

الصفة الأولى: قبض جميع الأصابع هكذا ورفع السبابة.

والصفة الثانية: قبض الخِنْصِر والبِنْصِر هكذا، وتحليق الإبهام مع الوسطى، وتحريك السبابة هكذا.

والأفضل التنويع بينهما، تارةً يأتي بهذه، وتارةً يأتي بهذه؛ حتى يأتي بالسنة على جميع وجوهها.

السؤال: أنا طالب علمٍ، ولديَّ أصدقاء، لكنني فقدتُ الكثير منهم، وأحسّ بغُربةٍ قويةٍ، فأرجو التَّوجيه، مع أنهم يريدونني أن أَغُضَّ الطَّرْف عن المُنكرات، ولكنني أرفض.

الجواب: إذا كنتَ مع هؤلاء تشعر بنقصٍ في إيمانك فابتَعِدْ عنهم، أما إذا كان الإنسان مع أصحابٍ له يشعر بزيادةٍ في إيمانه فينبغي أن يتمسك بهم، هذه العلامة.

الأصدقاء الذين يُساعدونك ويُعينونك على الخير وتشعر معهم بزيادة الإيمان تمسَّك بهم، أما الذين تشعر معهم بنقص الإيمان فابتَعِدْ عنهم، والنبي يقول: مَثَلُ الجليس الصالح والجليس السُّوء كحامل المسك ونافخ الكِير، فحامل المسك إما أن يُحْذِيَك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبةً، ونافخ الكير إما أن يُحْرِق ثيابك، وإما أن تجد ريحًا خبيثةً [41].

السؤال: هذا يسأل عن الأعمال العلمية، هل هناك أشياء علمية بعد الحج؟

الجواب: إن شاء الله يُعْلَن عنه في حينه، لم يتأكد الآن شيءٌ، لكن -إن شاء الله- يُعلن عنه في حينه.

السؤال: هل يدخل في الاستشراف للفتن: قراءة الأخبار والبحث عنها؟

الجواب: إذا كانت هذه الأخبار مُرتبطةً بأمورٍ تُثير الفتنة فينبغي الابتعاد عنها، أو إذا كانت فيها إثارةُ شُبَهٍ أو نحو ذلك يبتعد عنها، أما إذا كانت أخبارًا مُجردةً، ولا تُثير الفتنة، وليس لها علاقةٌ بإثارة الشُّبَه؛ فتبقى على الأصل وهو الإباحة.

السؤال: هل يُسَنُّ تغيير المكان لأداء السُّنة الراتبة بعد الفريضة؟

الجواب: قال بهذا بعض الفقهاء، ولكن ليس عليه دليلٌ ظاهرٌ، لكن جاء في “صحيح مسلم” من حديث معاوية : أن النبي أمر ألا تُوصَل صلاةٌ بصلاةٍ حتى يتكلَّم أو يخرج [42].

وعلى ذلك لا يَصِلُ النافلة بالفريضة إلا إذا غيَّر مكانه أو إذا تكلَّم، ومن ذلك الكلامُ بالأذكار، فإذا أتى بالأذكار التي تُقال بعد صلاة الفريضة فلا بأس أن يأتي بالسنة أو النافلة في مكانه، لكن الذي ورد النَّهي عنه: أن يصل النافلة بالفريضة مباشرةً في نفس المكان، ولم يفصل ذلك بكلامٍ، فهذا ورد النَّهي عنه.

وقول بعض العلماء: إنه يُستحب تغيير المكان لأجل أن يشهد له المكان الآخر، محلُّ نظرٍ؛ إذ إن المكان نفسه إذا صُلِّيتْ فيه نافلةٌ سيشهد لك مرتين، سيشهد لك أنك صليتَ فيه الفريضة، وصليت فيه النافلة، فلا فرق بين أن يشهد لك هذا المكان مرتين، أو أن يشهد لك هذا المكان ويشهد لك مكانٌ آخر.

السؤال: ما الذي يُسَنُّ عند سماع الأذان؟

الجواب: أولًا: يُسن مُتابعة المُؤذن، وأن يقول مثلما يقول المُؤذن إلا عند الحيعلتين، عند قول: “حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح” يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وعند قول المُؤذن: “الصلاة خيرٌ من النوم” يقول المُتابع: الصلاة خيرٌ من النوم.

ثم بعد فراغ المُؤذن يقول: “اللهم صلِّ وسلم على رسولك محمدٍ”، ثم يأتي بالذكر الوارد: اللهم ربَّ هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آتِ محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدتَه [43]، من غير زيادة: “إنك لا تُخلف الميعاد”؛ لأن “إنك لا تُخلف الميعاد” غير محفوظةٍ.

وورد أيضًا في “صحيح مسلم” أنه يُقال: رضيتُ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ نبيًّا ورسولًا [44]، والراجح أنها تُقال بعد قول المُؤذن: “أشهد أن محمدًا رسول الله” في المرة الثانية، ففي المرة الثانية عندما يقول: “أشهد أن محمدًا رسول الله”، تقول: أشهد أن محمدًا رسول الله، رضيتُ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ نبيًّا ورسولًا.

السؤال: ما حكم تأخير سداد القرض للمُقتدر؟

الجواب: لا يجوز تأخير الدَّين عمومًا، سواء أكان قرضًا أو غير قرضٍ للمُقتدر؛ يقول النبي : مَطْلُ الغني ظلمٌ [45]، وإذا كان ظلمًا فإنه يأثم بهذا الظلم، فالذي يُؤخِّر السداد من غير عذرٍ يُعتبر مُماطلًا فيأثم بذلك.

فالواجب على الإنسان المَدِين أن يُبادر بسداد الدَّين، وألا يتأخر على الدائن إلا إذا كان معذورًا فإنه يستسمح منه ويقول مثلًا: عندي ظروفٌ، أريد أن أتأخر. أما أنه قادرٌ على السداد ولا يُسدد؛ فإنه يأثم بذلك: مَطْل الغني ظلمٌ.

السؤال: ما الذي يُقال في سجود التلاوة؟

الجواب: الذي يُقال في سجود التلاوة ما يُقال في سجود الصلاة، فيُشرع أن يقول: “سبحان ربي الأعلى” يُكررها عدة مراتٍ، ثم يقول: “سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي”، ثم بعد ذلك يقول: “اللهم لك سجدتُ، وبك آمنتُ، وعليك توكلتُ، سجد وجهي لله الذي خلقه وصوَّره وشَقَّ له سمعه وبصره بحوله وقوته، اللهم اكتب لي بها أجرًا، وارفع لي بها ذِكْرًا، وَضَعْ عني بها وِزْرًا، وتقبَّلها مني كما تقبَّلتها من عبدك داود “.

المهم أن يقول: “سبحان ربي الأعلى”، وما زاد على ذلك نافلة، لكن المهم أن يقول: “سبحان ربي الأعلى”، فهذا أهم ما يُقال في سجود التلاوة.

السؤال: ما حكم تحية المسجد؟ وهل هي واجبةٌ؟

الجواب: تحية المسجد مُستحبةٌ استحبابًا مُؤكدًا، وليست واجبةً، لم يقل بوجوبها سوى الظاهرية، وقولهم مرجوحٌ، وبعض العلماء اعتبره شاذًّا، وعامة العلماء على أنها مُستحبةٌ.

ومما يدل لذلك: أن النبي كان يأتي خطبة الجمعة ويجلس [46]، ولا يأتي بتحية المسجد، فلو كانت واجبةً لأتى بتحية المسجد أولًا.

لكن أيضًا لما رأى النبي رجلًا دخل المسجد وجلس وهو يخطب الجمعة عليه الصلاة والسلام قطع خطبته وقال: أصلَّيتَ يا فلان؟ قال: لا. قال: قُمْ فَصَلِّ ركعتين [47].

فكون النبي عليه الصلاة والسلام يقطع خطبته ويأمر هذا الرجل علنًا أمام الناس، فهذا يدل على تأكدها، لكن ذلك لا يرتقي إلى الوجوب.

قد يُقال: إنه عليه الصلاة والسلام أراد أن يُبين مشروعية ذلك للصحابة ، لكن لا يصل إلى درجة الوجوب، لم يقل أحدٌ بالوجوب سوى الظاهرية.

وعلى هذا نقول: إن تحية المسجد مُستحبةٌ استحبابًا مُؤكدًا.

ونكتفي بهذا القدر، وأُذَكِّر بما قلتُ في أول الدرس من أن هذا هو الدرس الأخير، وسيتوقف الدرس، وإن شاء الله يُستأنف في أول ثلاثاء في بداية الدراسة في شهر صفر، إن شاء الله تعالى.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 71، ومسلم: 1037.
^2, ^3, ^4, ^5 رواه مسلم: 2876.
^6 رواه مسلم: 8.
^7, ^8, ^9 رواه مسلم: 2877.
^10 رواه البخاري: 7405، ومسلم: 2675.
^11, ^13 رواه مسلم: 2878.
^12 رواه البخاري: 1851، ومسلم: 1206.
^14 رواه مسلم: 2879.
^15 رواه ابن ماجه: 3956.
^16 رواه أبو داود: 4259، وابن ماجه: 3961.
^17 رواه مسلم: 118 من حديث أبي هريرة .
^18, ^19, ^20, ^21 رواه مسلم: 2880.
^22 رواه مسلم: 2881.
^23 رواه الترمذي: 3169 وقال: حسنٌ صحيحٌ، وأحمد: 19901.
^24 رواه الترمذي: 3153 وقال: حسنٌ، وابن ماجه: 4080.
^25, ^26 رواه مسلم: 2882.
^27, ^28 رواه مسلم: 2883.
^29 رواه مسلم: 2884.
^30 رواه مسلم: 2545.
^31 رواه البخاري: 3176.
^32, ^33 رواه مسلم: 2885.
^34, ^36, ^37 رواه مسلم: 2886.
^35 رواه أبو داود: 4319، وأحمد: 19875.
^38, ^39 رواه مسلم: 2887.
^40 رواه البخاري: 6408، ومسلم: 2689.
^41 رواه البخاري: 5534، ومسلم: 2628.
^42 رواه مسلم: 883.
^43 رواه البخاري: 614.
^44 رواه مسلم: 386.
^45 رواه البخاري: 2287، ومسلم: 1564.
^46 رواه أبو داود: 1092.
^47 رواه البخاري: 931، ومسلم: 875.
zh