logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح أبواب من صحيح مسلم/(81) باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه- من حديث: «إن أحدكم إذا ..»

(81) باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه- من حديث: «إن أحدكم إذا ..»

مشاهدة من الموقع

تأملوا -أيها الإخوة- هذا الحديث العظيم: مَن يُرد الله به خيرًا يُفقهه في الدين [1] يعني: إذا رأيتَ من نفسك الحرص على التَّفقه في دين الله ​​​​​​​ فهذه أمارةٌ -إن شاء الله- على أنه أُريد بك الخير.

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

اللهم لا علمَ لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.

ربنا آتنا من لدنك رحمةً، وهيِّئ لنا من أمرنا رشدًا.

هذا هو الدرس الحادي والثمانون في شرح “صحيح مسلم” في هذا اليوم الثلاثاء السادس والعشرين من شهر شوال من عام 1444 للهجرة.

ونستكمل الأحاديث الواردة في أحوال البرزخ، وقد وصلنا إلى باب “عَرْض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه”.

القارئ: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمُستمعين.

عَرْض مَقْعَد الميت من الجنة أو النار عليه

قال المُصنف رحمه الله تعالى:

باب عَرْض مَقْعَد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر والتَّعوذ منه.

حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأتُ على مالكٍ، عن نافعٍ، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله قال: إنَّ أحدكم إذا مات عُرِضَ عليه مَقْعَده بالغَدَاة والعَشِيِّ، إنْ كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإنْ كان من أهل النار فمن أهل النار، يُقال: هذا مَقْعَدك حتى يَبْعَثَك الله إليه يوم القيامة [2].

حدثنا عبد بن حُمَيدٍ: أخبرنا عبدالرزاق: أخبرنا معمرٌ، عن الزُّهري، عن سالمٍ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي : إذا مات الرجل عُرِضَ عليه مَقْعَده بالغَدَاة والعَشِيِّ، إنْ كان من أهل الجنة فالجنة، وإنْ كان من أهل النار فالنار، قال: ثم يُقال: هذا مَقْعَدك الذي تُبْعَث إليه يوم القيامة [3].

الشرح:

هذا الحديث يُبين فيه النبي أن الميت يُعْرَض عليه في قبره مقعده بالغداة والعَشِي، ومن المعلوم أن الميت ليس عنده ليلٌ ولا نهارٌ، ولكن المراد وقت الغَدَاة والعَشِي عند الأحياء، يعني: أول النهار وآخره، يُعْرَض عليه مقعده مرتان: مرة في أول النهار، وهو الغَدَاة، ومرة في آخر النهار، وهو العَشِي.

إنْ كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة يرى مقعده من الجنة، يُقال: هذا مقعدك من الجنة، وإن كان من أهل النار فيرى مقعده من النار.

وجاء في بعض الروايات: أن المؤمن يقول: ربِّ، أَقِمِ الساعة؛ لأنه يريد أن ينتقل إلى نعيم الجنة العظيم الذي يراه، وأما مَن كان من أهل النار فيقول: ربِّ، لا تُقِمِ السَّاعة [4]، مع ما هو فيه من العذاب؛ لأنه يعلم أنه سينتقل إلى عذابٍ أشدّ؛ لأنه يرى مقعده من النار.

وعالَمُ البرزخ عالَمٌ آخر مُختلفٌ عن الدنيا تمامًا، والعذاب والنعيم في البرزخ يكون على الروح، وله تعلقٌ بالبدن، والبدن يَفْنَى بعد موت الميت، كما قال عليه الصلاة والسلام: كل ابن آدم يأكله التراب إلا عَجْبُ الذَّنَب [5].

“عَجْب الذَّنَب” هو العُصْعُص، آخِر العمود الفقري، وإلا فبدنه يَبْلَى ويُصبح تُرابًا.

لو أننا الآن فتحنا قبر إنسانٍ مات من مئة سنةٍ -مثلًا- أو أكثر، تجده تُرابًا، ما بقي منه إلا العُصْعُص، عَجْب الذَّنَب.

عَجْب الذَّنَب صغيرٌ، لا يُرَى بالعين المُجردة، ومنه يُركَّب الخلق يوم القيامة، ويُستثنى من ذلك الأنبياء ومَن شاء الله من الصديقين والشهداء والصالحين، فلا تأكل الأرض أجسادهم، ليس جميع الصالحين، وإنما بعضهم، والصديقون والشهداء.

الأنبياء والصديقون والشهداء ومَن شاء الله تعالى من الصالحين، فهؤلاء يُكرمهم الله ​​​​​​​، فلا تأكل الأرض أجسادهم.

إثبات عذاب القبر ونعيمه

هذا الحديث استدلَّ به العلماء مع أدلةٍ كثيرةٍ على إثبات عذاب القبر ونعيمه، وهذا قد دلَّت له الأدلة المُتواترة.

ومن أدلة ذلك من القرآن: قول الله عن آل فرعون: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، فالنار يُعْرَضون عليها غُدُوًّا وعَشِيًّا، والمقصود بذلك عذاب القبر، فَيُعَذَّبون عذابَ القبر، ثم يأتيهم العذاب الشديد يوم القيامة.

وأدلةٌ كثيرةٌ تدل على إثبات نعيم القبر وعذابه.

والمؤمن يُنَعَّم في قبره، والكافر يُعَذَّب في قبره، وستأتي في هذا أحاديثُ ذكرها المصنف في بيان شيءٍ من أوصاف ذلك.

ومن فوائد هذا الحديث: أن الجنة والنار مخلوقتان؛ لقوله: هذا مقعدك من الجنة، أو يُقال: هذا مقعدك من النار، وهذا يدل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، وليستا ستُخلقان، وإنما هما مخلوقتان، لكن قد يُزاد فيهما؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: مَن قال: سبحان الله وبحمده، غُرِسَتْ له نخلةٌ في الجنة [6].

ولما رأى إبراهيمُ محمدًا عليهما الصلاة والسلام ليلةَ المعراج قال: أَقْرِئ أُمَّتَكَ مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التُّربة، عذبة الماء، وأنها قِيعانٌ، وأن غِرَاسَها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر [7].

هذا يدل على أن الجنة مخلوقةٌ، وأنه يُزاد فيها، ومَن قال: “سبحان الله وبحمده” غُرِسَتْ له نخلةٌ في الجنة.

معتقد أهل السنة والجماعة: أن الجنة والنار مخلوقتان الآن.

وأيضًا من فوائد هذا الحديث: أن الرُّوح لا تَفْنَى بفناء الجسد؛ لأن العَرْضَ لا يكون إلا على الحيِّ، ومن المعلوم أن الجسد يَفْنَى.

قال القرطبي: “هذا الحديث وما في معناه يدل على أن الموت ليس بعدمٍ، وإنما هو انتقالٌ من حالٍ إلى حالٍ، ومُفارقة الروح للبدن”.

ما الموت؟

الموتُ: مُفارقةُ الرُّوح البدنَ، وليس عَدَمًا، إنما مُفارقة الروح البدن، فعندما تُفارق الروحُ البدنَ فهذا هو الموت، فهو ليس عَدَمًا؛ ولهذا يُعْرَض عليه مقعده من الجنة، أو مقعده من النار، وهذا يدل على أن الروح باقيةٌ، وأنها لا تَفْنَى بفناء الجسد.

وفي هذا الحديث ذكر عَرْض المقعد على المؤمن من الجنة، وعَرْض المقعد على الكافر من النار، وهذا واضحٌ في المؤمن والكافر، لكن ماذا عن المُخَلِّط الذي له ذنوبٌ هو مُؤاخَذٌ بها، لكنه مؤمنٌ؟

قال القرطبي: “له مقعدان: مقعدٌ في النار زَمَنَ تعذيبه، ومقعدٌ في الجنة بعد إخراجه”.

وهذا أحسن ما قيل في هذه المسألة؛ يكون له مقعدان: مقعدٌ في النار زمن تعذيبه؛ لأنه سيدخل النار ويُعذَّب فيها بقدر ذنوبه، فله مقعدٌ في النار زمن تعذيبه، ومقعدٌ في الجنة بعد إخراجه منها، يعني: بعد إخراجه من النار وإدخاله الجنة، فهذا يقتضي أن يُعْرَض عليه مقعداه بالغَدَاة والعَشِي.

والمؤمن أول ما يموت ويُوضَع في قبره تُرَدُّ رُوحه إلى بدنه، ويسمع صوت قَرْع نِعَال المُشَيِّعين، يسمع صوت قَرْع نعالهم، ثم يُسْأَل، يُمْتَحَن: مَن ربك؟ وما دينك؟ وما هذا النبي الذي بُعِثَ فيكم؟ كما سيأتي في الأحاديث.

ثم بعد ذلك المؤمن تكون روحه على شكل نَسَمَة طائرٍ تسرح في الجنة، وتَعْلَق بأشجار الجنة حتى يبعثه الله تعالى، فَتُرَدّ إلى جسده.

وأما الكافر فتكون روحه في النار تُعذَّب، فيكون النعيم والعذاب في البَرْزَخ في الأصل على الروح، وهو عالمٌ آخر مُختلفٌ تمامًا عن عالم الدنيا، لكن دلَّت الأدلة على إثبات نعيم القبر وعذابه.

عدم شعور الميت بمرور الزمن

هل الميت يشعر بمرور الزمن؟

ظاهر الأدلة أن الميت لا يشعر بمرور الزمن؛ لقول الله : أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ، لاحظ كلمة “أماته”، فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ [البقرة:259].

لاحظ هنا: أنه موتٌ، وليس نومًا، وإنما موتٌ، ومع ذلك قال: لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ.

وأصحاب الكهف لبثوا ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا [الكهف:25]، ومع ذلك يقولون: لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الكهف:19].

والشعور بمرور الزمن يستدعي أحداثًا، والميت ليس عنده أحداثٌ، لا توجد أحداثٌ، فلا يشعر بمرور الزمن، فتكون حاله كحال النائم الذي يرى ما يَسُرُّه وما يُحْزِنه في منامه، ثم يستيقظ.

النائم لو نام أربعًا وعشرين ساعةً أو أكثر هل يشعر بمرور الزمن؟

لا يشعر، لكنه يرى في منامه ما يَسُرُّه وما يُحْزِنه.

هكذا الميت، فالنوم أخو الموت، ويُسمى: المَوتة الصُّغْرَى.

يعني: هذا الأمر يجعل الساعة قريبةً منا جدًّا، وأنه لا يفصلنا عن الساعة إلا الموت، والموتُ لا يُدْرَى متى يَفْجَأ الإنسان، لا يدري الإنسان متى يَفْجَؤه الموت؛ معنى ذلك: أنه من حين أن يموت سيتفاجأ بقيام الساعة، وإن كان سينعم أو يُعذَّب في قبره.

وهذا يستدعي من المسلم الاستعداد لليوم الآخر، فهو قريبٌ جدًّا؛ ولهذا سمَّاه الله تعالى غدًا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18]، فهو قريبٌ جدًّا، كما أن اليوم الثلاثاء وغدًا الأربعاء، فهكذا أيضًا الساعة قريبةٌ جدًّا، ولا يفصل بين الإنسان وبينها إلا الموت، والموت -كما قلنا- لا يشعر الإنسان معه بمرور الزمن، وإن كان يُنَعَّم أو يُعذَّب، فيتفاجأ الإنسان بقيام الساعة، فالذي له الآن ألف سنة، مات من ألف سنة، هل يشعر بألف سنة؟

لا يشعر بها، لا يشعر بمرور الزمن، وإن كان يُنَعَّم أو يُعذَّب في قبره.

فهذا المعنى تُؤكده النصوص التي تدل على قُرب قيام الساعة: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1]، اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء:1]، فالساعة قريبةٌ جدًّا منا.

قال: عُرِضَ عليه مَقْعَده بالغَدَاة والعَشِي، إن كان من أهل الجنة فالجنة.

الحكمة من هذا العَرْض: أنه إذا كان من أهل الجنة فإنه يتنعم بذلك؛ بحيث يرى مقعده من الجنة فينشرح صدره ويفرح فرحًا عظيمًا وهو يرى مقعده من الجنة، ويُسَرّ بذلك ويَغْتَبط ويقول: يا ربِّ، أَقِم الساعة.

وأما إذا كان من أهل النار فهذا من شدة العذاب يُقال: هذا مقعدك من النار الذي ستنتقل إليه إذا قامت الساعة. فيزداد حسرةً وألمًا وأَسَفًا وعذابًا وكَمَدًا.

فهذا من حكمة الله في عَرْض مقعد الميت عليه من الجنة أو من النار.

حديث: «إنَّ هذه الأُمَّة تُبْتَلَى في قبورها»

القارئ: أحسن الله إليكم.

قال رحمه الله:

حدثنا يحيى بن أيوب، وأبو بكر بن أبي شيبة -جميعًا- عن ابن عُلَيَّة -قال ابن أيوب: حدثنا ابن عُلَيَّة- قال: وأخبرنا سعيدٌ الجُرَيْرِي، عن أبي نَضْرَة، عن أبي سعيدٍ الخدري، عن زيد بن ثابتٍ، قال أبو سعيدٍ: ولم أشهده من النبي ، ولكن حدَّثنيه زيد بن ثابتٍ، قال: بينما النبي في حائطٍ لبني النَّجار على بغلةٍ له، ونحن معه، إذْ حَادَتْ به فكادتْ تُلْقِيه، وإذا أَقْبُرٌ ستةٌ أو خمسةٌ أو أربعةٌ -قال: كذا كان يقول الجُرَيْرِي- فقال: مَن يعرف أصحاب هذه الأَقْبُر؟ فقال رجلٌ: أنا. قال: فمتى مات هؤلاء؟ قال: ماتوا في الإشراك. فقال: إنَّ هذه الأُمَّة تُبْتَلَى في قبورها، فلولا ألَّا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ الله أنْ يُسْمِعَكم من عذاب القبر الذي أسمع منه، ثم أَقْبَلَ علينا بوجهه فقال: تَعَوَّذُوا بالله من عذاب النار، قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار. فقال: تَعَوَّذُوا بالله من عذاب القبر، قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر. قال: تَعَوَّذُوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. قال: تَعَوَّذُوا بالله من فتنة الدَّجَّال، قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدَّجَّال [8].

حدثنا محمد بن المُثَنَّى، وابن بَشَّارٍ، قالا: حدثنا محمد بن جعفرٍ: حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أنسٍ: أن النبي قال: لولا ألَّا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ الله أنْ يُسْمِعَكم من عذاب القبر [9].

الشرح:

قال أبو سعيدٍ: ولم أشهده من النبي ، ولكن حدَّثَنِيه زيد بن ثابتٍ.

وهذا يُسمَّى “مُرسل الصحابي”، و”مُرسل الصحابي” حُجَّةٌ، أي: أن الصحابي لا يسمع الحديث من النبي ، وإنما يرويه عن صحابيٍّ آخر عن النبي .

والصحابة كلهم عدولٌ بتعديل الله لهم؛ ولهذا فإن “مُرسل الصحابي” حُجَّةٌ، فلا يضرّ أن الصحابي لم يسمعه من النبي ما دام أنه سمعه من صحابيٍّ آخر.

فهذا الحديث من هذا النوع، ومعظم أحاديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما مراسيل عن الصحابة؛ لأن ابن عباسٍ لما تُوفي النبي كان صغيرًا، كان عمره ثلاث عشرة سنةً، فلم يسمع من النبي عليه الصلاة والسلام مباشرةً إلا أحاديث قليلةً، وأكثر الأحاديث التي سمعها بواسطة صحابةٍ آخرين.

قال: “بينما النبي في حائطٍ” يعني: بستان “لبني النَّجار، على بغلةٍ له”، وهذا يدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام كان أحيانًا يركب البغلة، وأحيانًا يركب الحمار، وأحيانًا يركب الناقة، وهذا من تواضعه عليه الصلاة والسلام، فكان أكثر ما يركب الناقة، لكن كانت عنده بغلةٌ، وعنده حمارٌ أيضًا.

قال: “ونحن معه، إذ حَادَتْ به” يعني: مَالَتْ عن الطريق ونَفَرَتْ، “فكادتْ تُلْقِيه”، وهذا يدل على أن نفرتها كانت شديدةً، وأن شيئًا روَّعها وأفزعها.

قال: “وإذا أَقْبُرٌ ستةٌ أو خمسةٌ أو أربعةٌ، كذا كان يقول الجُريري” يعني: مجموعة قبورٍ أمامهم، وجدوا أمامهم مجموعة قبورٍ، والبغلة نَفَرَتْ نفورًا شديدًا حتى كادتْ تُلْقِي النبي عليه الصلاة والسلام.

فقال عليه الصلاة والسلام: مَن يعرف أصحاب هذه الأَقْبُر؟ قال رجلٌ: أنا. قال: فمتى مات هؤلاء؟ قال: ماتوا في الإشراك. يعني: ماتوا وهم مُشركون، قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام.

قال: إن هذه الأُمَّة تُبْتَلَى يعني: تُمْتَحن في قبورها، فلولا ألَّا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ الله أنْ يُسْمِعَكم من عذاب القبر الذي أسمع منه.

وهذا يدل على أن النبي سمع تعذيب هؤلاء المقبورين، سمع تعذيبهم، وأنه عليه الصلاة والسلام كان يُسْمِعه الله ​​​​​​​ أصوات عذاب المُعذَّبين في قبورهم.

وقال: لولا ألَّا تَدَافَنُوا يعني: ألا يدفن بعضُكم بعضًا عندما تسمعون أصوات المُعذَّبين في قبورهم من شدة الخوف والهلع وانخلاع القلب، لولا ألَّا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ الله أنْ يُسْمِعَكم من عذاب القبر الذي أسمع منه.

وجاء في أحاديث أخرى: أن الكافر إذا سُئل في قبره: مَن ربك؟ وما دينك؟ وما هذا النبي؟ ولم يُجِب، ويقول: هاه، هاه، لا أدري. أنه يُضْرَب بمطرقةٍ من حديدٍ؛ فيصيح صيحةً يسمعها كل شيءٍ إلا الثَّقلين [10]، أي: إلا الجنّ والإنس.

وهذا يدل على أن الحيوانات تسمع أصوات هؤلاء المُعذَّبين، فهذه البغلة سمعتْ صوت هؤلاء الذين يُعذَّبون في قبورهم؛ فلذلك حادتْ بالنبي عليه الصلاة والسلام ونَفَرَتْ نفرةً شديدةً.

فالحيوانات قد تسمع أشياء لا يسمعها الإنسان، وتنظر إلى أشياء لا ينظر لها الإنسان، فالإنسان سمعه محدودٌ، وبصره محدودٌ، وعقله محدودٌ، والإنسان ضعيفٌ، وهناك ذبذباتٌ معينةٌ لا يتجاوزها، إذا صارتْ فوق هذه أو أقلّ منها فإنه لا يسمع، وهذا أصبح الآن معروفًا عند الأطباء: الموجات فوق الصوتية، والأشعة فوق الحمراء، هذا أصبح معروفًا، يعني: اكتُشف علميًّا أن هناك أنواعًا من الأشعة لا يراها الإنسان، وأصواتًا لا يسمعها الإنسان.

وهذا نراه في الحيوانات، فالحيوانات تسمع أشياء لا يسمعها الإنسان، وترى أشياء لا يراها الإنسان، فمن الأشياء التي تسمعها الحيوانات ولا يسمعها الإنسان: أصوات المُعذَّبين في قبورهم، فهذه لا يسمعها الجنّ ولا الإنس، وهذا من رحمة الله بعباده؛ حيث حجب أسماع الثَّقلين عن سماع ما يلقاه الموتى في قبورهم؛ لأن الناس لو سمعوا أصوات المُعذَّبين في قبورهم لأصابهم الهلع والفزع والخوف، وربما لا يتدافنون، ربما يبقى الميت ولا أحد يدفنه من شدة الخوف والهلع.

قال: فلولا ألَّا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ الله أنْ يُسْمِعَكم من عذاب القبر الذي أسمع منه، وهذا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام خُصَّ بسماع أصوات مَن يُعذَّبون، لكن هل هذا دائمٌ أو في بعض الأحيان؟

الظاهر أنه في بعض الأحيان، وليس دائمًا؛ لأنه لو كان دائمًا لَنَكَّدَ على النبي عليه الصلاة والسلام حياته، لكن الظاهر أنه في بعض الأحيان يُسْمِعُه الله أصوات بعض المُعذَّبين في قبورهم كما في هذا الحديث.

قال: “ثم أقبل علينا بوجهه فقال: تَعَوَّذوا بالله من عذاب النار، قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار”، وهذا يدل على أن الدعاء بالتَّعوذ بالله من عذاب النار من الأدعية العظيمة، وقد أثنى الله على مَن يستعيذون به من النار: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا۝ إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان:65- 66]، رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران:192]، إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ [الطور:26].

ويقول عليه الصلاة والسلام: مَن سأل الله الجنةَ ثلاث مراتٍ قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة، ومَن استعاذ بالله من النار ثلاث مراتٍ قالت النار: اللهم أَعِذْهُ من النار، أخرجه الترمذي بسندٍ صحيحٍ [11]؛ ولذلك ينبغي ألا يمرَّ عليك يومٌ إلا سألتَ الله الجنة، واستعذتَ بالله من النار، وهكذا أيضًا عذاب القبر؛ قال: تَعَوَّذوا بالله من عذاب القبر، قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر.

وكذلك أيضًا التَّعوذ بالله من المسيح الدجال؛ لأنها أعظم فتنةٍ: ما بين خَلْقِ آدم إلى قيام الساعة أمرٌ أكبر من الدجال [12]، وما من نبيٍّ إلا حذَّر أُمَّته من المسيح الدجال، حتى نوح حذَّر أُمته منه؛ لأن فتنة المسيح الدجال فتنةٌ عظيمةٌ، حيث يأتي معه بخوارق؛ يقول للسماء: أَمْطِري. فَتُمْطِر، ويقول للأرض: أخرجي كنوزك. فتُخرج كنوزها، ويأتي لإنسانٍ ويقتله، ثم يقول: قُم. فيقوم، فهو يأتي بخوارق، فيفتن الناسَ فتنةً عظيمةً؛ ولهذا لما خطب النبي عليه الصلاة والسلام وحذَّر من المسيح الدجال ظنَّ الصحابة أنه في نخل المدينة من شدة تحذير النبي عليه الصلاة والسلام، فذهبوا يبحثون عنه، فقال: إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولستُ فيكم فامرؤٌ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلمٍ [13].

وهذا التَّعوذ بالله تعالى من هذه الأمور أرشد إليه النبي عليه الصلاة والسلام في كل صلاةٍ في التَّشهد الأخير، فقال: إذا تَشَهَّد أحدكم فَلْيَسْتَعِذْ بالله من أربعٍ: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المَحْيَا والممات، ومن شَرِّ فتنة المسيح الدَّجال [14].

وقال هنا: تَعَوَّذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. قال: تَعَوَّذوا بالله من فتنة الدجال، قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال.

الفتن التي تفتن الإنسان: فتن الشبهات، وفتن الشهوات، هذه هي سبب الانحراف، وسبب الانتكاسة.

فتن الشبهات: بأن تعرض للإنسان شبهةٌ في دينه، وما أكثر الشُّبَهَ التي تعرض في وقتنا الحاضر مع انفتاح العالم بعضه على بعضٍ! وأصبح العالم -كما يُقال- كالقرية الصغيرة، ومع وجود وسائل التواصل فُتِحَتْ على الناس أبوابٌ عظيمةٌ من فتن الشبهات، وكذلك أيضًا فتن الشهوات، فما أكثر الفتن في وقتنا الحاضر وفي زمننا!

ومن هنا تبرز أهمية هذا الدعاء، فهذه الأمور الأربعة أُرْشِدَ المسلم إلى أن يستعيذ بالله تعالى منها في كل صلاةٍ يُصليها، فريضةً كانت أو نافلةً: إذا تَشَهَّد أحدكم فَلْيَسْتَعِذْ بالله من أربعٍ: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المَحْيَا والممات، ومن شَرِّ فتنة المسيح الدَّجال، فبعد التَّشهد الأخير -بعدما تُصلي على النبي عليه الصلاة والسلام- يُشْرَع أن تقول: “اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال”.

هذه الأربع حافِظْ عليها في كلِّ صلاةٍ تُصليها، فريضةً كانت أو نافلةً، سفرًا كان أو حضرًا، حافِظْ عليها طوال عمرك: “اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال”.

وقد أخرج مسلمٌ هذا الحديث من طريق طاوس: أن رسول الله كان يُعلمهم هذا الدعاء كما يُعلمهم السورة من القرآن، يقول: قولوا: اللهم إنَّا نعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، ثم لما صلَّى طاوس سأل ابنه: أدعوتَ بها في صلاتك؟ فقال: لا. قال: أَعِدْ صلاتك [15].

وهذا يحتمل أنه يرى وجوبها، ويحتمل أنه لا يرى وجوبها، لكن من باب التربية لابنه؛ لأن هذه الدعوات دعواتٌ عظيمةٌ، فينبغي أن يحرص عليها المسلم، وأن يستعيذ بالله تعالى من هذه الأربع في كل صلاةٍ يُصليها.

حديث: يهود تُعَذَّب في قبورها

القارئ: أحسن الله إليكم.

قال رحمه الله:

حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيعٌ. ح، قال: وحدثنا عبيدالله بن معاذٍ، قال: حدثنا أبي. ح، قال: وحدثنا محمد بن المُثَنَّى، وابن بَشَّارٍ، قالا: حدثنا محمد بن جعفرٍ -كلهم- عن شعبة، عن عَوْن بن أبي جُحَيْفَة. ح، قال: وحدثني زُهَير بن حربٍ، ومحمد بن المُثَنَّى، وابن بَشَّارٍ -جميعًا- عن يحيى القَطَّان -واللفظ لزُهَيرٍ- قال: حدثنا يحيى بن سعيدٍ، قال: حدثنا شعبةُ، قال: حدثني عَوْن بن أبي جُحَيْفَة، عن أبيه، عن البراء، عن أبي أيوب قال: خرج رسول الله بعدما غَرَبَت الشمس، فسمع صوتًا، فقال: يهود تُعَذَّب في قبورها [16].

الشرح:

خرج النبي بعدما غربت الشمس فسمع صوتًا، فقال: يهود تُعَذَّب في قبورها، أسمعه الله صوت هؤلاء اليهود الذين يُعَذَّبون في قبورهم، وهذا -كما ذكرنا- من خصائص النبي عليه الصلاة والسلام: أن الله ​​​​​​​ قد يُسْمِعُه أصوات بعض المُعذَّبين، لكن هل يمكن أن يحصل هذا لغير النبي عليه الصلاة والسلام: أنه يسمع أصوات مُعذَّبين في قبورهم؟

نقول: قد يحصل، لكنها حالاتٌ قليلةٌ أو نادرةٌ؛ لأنه وردتْ في هذا قصصٌ صحيحةٌ عن أناسٍ سمعوا أصواتًا تخرج من قبورٍ، أناسٌ ثِقَاتٌ سمعوا أصواتًا تخرج من قبورٍ، لكنها حالاتٌ قليلةٌ، فقد يُرِيَ اللهُ بعضَ عباده بعضَ الآيات، لكن الأعم الأغلب أن غير النبي عليه الصلاة والسلام لا يسمع صوت المُعذَّب، لكن أحيانًا قد يحصل هذا، قد يمرُّ الإنسان بقبرٍ ويسمع أصواتًا: أصوات صُرَاخٍ، أو بكاءٍ، أو نحو ذلك، فهذا قد يقع أحيانًا.

كما أن هناك أيضًا بعض الأمور؛ فالله تعالى يقول عن الجنِّ: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27]، لكن بعض البشر قد يرون أحيانًا الجنَّ على صورٍ مختلفةٍ، لكن في حالاتٍ قليلةٍ قد يُرَى الجني يتشكل بأيةٍ صورةٍ، لكنها حالاتٌ قليلةٌ.

إذن عندنا -يعني- الأعم الأغلب هو هذا الشيء، لكن في حالاتٍ قليلةٍ قد يُقَدِّر اللهُ مُخالفة هذا الشيء الغالب، يعني: ما يُروى من بعض الثقات أنهم سمعوا أصواتًا عند القبور، أصوات مُعذَّبين عند قبورٍ، فهذا قد يقع.

وقد ذكر شيخُنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله عن بعض الثقات: أنهم سمعوا أصوات عذابٍ عند أحد القبور، فهذا قد يقع، لكنها حالاتٌ قليلةٌ، والله تعالى له الحكمة في هذا، قد يُرِيَ اللهُ بعضَ عباده هذه الآيات، لكن في الأعم الأغلب أن الناس لا يسمعون أصوات المُعذَّبين في قبورهم.

حديث: إن العبد إذا وُضِعَ في قبره ..

القارئ: أحسن الله إليكم.

قال رحمه الله:

حدثنا عَبْدُ بن حُمَيدٍ، قال: حدثنا يونس بن محمدٍ، قال: حدثنا شَيبان بن عبدالرحمن، عن قتادة قال: حدثنا أنس بن مالكٍ ، قال: قال نبيُّ الله : إن العبد إذا وُضِعَ في قبره، وتَوَلَّى عنه أصحابه، إنَّه لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالهم، قال: يأتيه مَلَكَان فَيُقْعِدَانه، فيقولان له: ما كنتَ تقول في هذا الرجل؟ قال: فأمَّا المؤمنُ فيقول: أشهد أنَّه عبدالله ورسوله، قال: فيُقال له: انظرْ إلى مقعدك من النار، قد أَبْدَلَكَ اللهُ به مقعدًا من الجنة، قال نبيُّ الله : فَيَرَاهُما جميعًا.

قال قتادة: وذُكِرَ لنا أنَّه يُفْسَحُ له في قبره سبعون ذِرَاعًا، ويُمْلَأ عليه خَضِرًا إلى يوم يُبْعَثون [17].

قال: وحدثنا محمد بن مِنْهَالٍ الضَّرير، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيْعٍ، قال: حدثنا سعيد بن أبي عَرُوبَةَ، عن قتادة، عن أنس بن مالكٍ قال: قال رسول الله : إنَّ الميت إذا وُضِعَ في قبره، إنَّه لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالهم إذا انصرفوا [18].

قال: حدثني عمرو بن زُرَارَة، قال: أخبرنا عبدالوهاب -يعني: ابن عطاءٍ- عن سعيدٍ، عن قتادة، عن أنس بن مالكٍ : أن نبيَّ الله قال: إن العبد إذا وُضِعَ في قبره، وتَوَلَّى عنه أصحابه فَذَكَرَ بمثل حديث شيبان، عن قتادة [19].

الشرح:

قال: إنَّ العبد إذا وُضِعَ في قبره، وتَوَلَّى عنه أصحابه يعني: مُشَيِّعُوه إنه لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالهم.

وهذا يدل على أن الروح تُعاد للبدن بعد الدَّفْن، وحتى لو لم يُدْفَن الإنسان، فهذا لا ينفي نعيم القبر وعذابه، فإن عذاب القبر هو عذاب البرزخ، فكلُّ مَن مات وهو مُستحقٌّ للعذاب ناله نصيبُه منه، دُفِنَ أو لم يُدْفَن، حتى وإن أكلته السِّباع، أو احترق فصار رمادًا، أو غرق في البحر، فَيَصِل لروحه من العذاب أو من النعيم ما يصل المَدْفُون، والله على كل شيءٍ قديرٌ.

قال: إنَّه لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالهم، سبحان الله!

الإنسان يُوضَع في هذه الحُفرة، والذي يدفنه ويضع التراب عليه أحبُّ الناس إليه، ثم يُغادرون هذا المكان، ويسمع صوت قَرْع نعالهم، ولا يبقى معه إلا عمله الصالح، كما قال عليه الصلاة والسلام: يتبع الميتَ ثلاثةٌ، فيرجع اثنان، ويبقى واحدٌ؛يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله [20]، فلا يبقى له إلا عمله فقط.

قال: يأتيه مَلَكَان يعني: بعدما تُعاد روحه إلى بدنه يأتيه مَلَكَان في القبر: فَيُقْعِدَانه، الله أعلم بصفة هذا القعود، هل هو قعودٌ للروح فقط؟

هذا هو الظاهر؛ لأن الميت يكون على هيئةٍ واحدةٍ، لو حفرنا قبره لوجدناه على هيئته، فالظاهر أن هذا للروح.

فيقولان له: ما كنتَ تقول في هذا الرجل؟ لأن هذا امتحانٌ، ولا يقولان: ما تقول في محمدٍ؟ لأن هذا اختبارٌ.

قال: فأمَّا المؤمنُ فيقول: أشهد أنَّه عبدالله ورسوله، فيُقال له: انظرْ إلى مقعدك من النار، وفي الرواية الأخرى: أنهما يسألانه ثلاثة أسئلةٍ: مَن ربك؟ وما دينك؟ وما هذا الرجل الذي بُعِثَ فيكم؟ فأما المؤمن فيقول: ربي الله، ونبيي محمد، وديني الإسلام. وأما الكافر -أو المنافق- فيقول: هاه، هاه، لا أدري. فَيُضْرَب بمِطْرَقَةٍ من حديدٍ؛ فيصيح صيحةً يسمعها كلُّ شيءٍ إلا الثقلين [21].

قال: فيُقال له: انظر إلى مقعدك من النار، قد أَبْدَلَك الله به مقعدًا من الجنة، فيراهما جميعًا.

قال: وذُكِرَ لنا أنَّه يُفْسَحُ له في قبره سبعون ذِرَاعًا، ويُمْلَأ عليه خَضِرًا إلى يوم يُبْعَثون.

قوله: “ويُمْلَأ عليه خَضِرًا” يعني: يُمْلَأ نِعَمًا غَضَّةً، ناعمةً، واصلةً، من خُضْرَة الشجر.

وجاء في رواية أحمد: فيُنادي مُنَادٍ من السماء: أنْ صَدَقَ عبدي، فأفرشوه في الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة. فيأتيه من رَوْحِها وطِيبها، ويُفْسَح له في قبره مَدَّ بصره، ويأتيه رجلٌ حسن الوجه .. فيقول له: مَن أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح، ويقول له: أَبْشِر بالذي يَسُرُّك، وأما الكافر -أو المنافق- فيأتيه رجلٌ كَرِيه المنظر، فيقول: مَن أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر. فيقول: أنا عملك الخبيث، وأَبْشِر بالعذاب الذي يَسُوؤكَ [22].

وجاء عند ابن حبان: أن رُوح المؤمن تكون بعد ذلك على شكل نَسَمَة طائرٍ تَعْلَق في شجر الجنة حيث شاءتْ [23].

والدُّور ثلاثةٌ: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار.

وجُعِلَتْ أحكام الدنيا على الأبدان، والأرواحُ تَبَعٌ لها، وجُعِلَتْ أحكام البرزخ على الأرواح، والأبدانُ تَبَعٌ لها، وجُعِلَتْ أحكام يوم القيامة على الأرواح والأبدان جميعًا.

انتبه لهذه الفائدة.

إذن جُعِلَتْ أحكام الدنيا على الأبدان، والأرواحُ تَبَعٌ لها، وجُعِلَتْ أحكام البرزخ على الأرواح، والأبدانُ تَبَعٌ لها، وجُعِلَتْ أحكام يوم القيامة على الأرواح والأجساد جميعًا.

القارئ: أحسن الله إليكم.

قال رحمه الله:

حدثنا محمد بن بشار بن عثمان العَبْدِيُّ، قال: حدثنا محمد بن جعفرٍ، قال: حدثنا شعبة، عن علقمة بن مَرْثَدٍ، عن سعد بن عُبَيدة، عن البراء بن عازبٍ، عن النبي قال: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ [إبراهيم:27] قال: نزلتْ في عذاب القبر، فيُقال له: مَن ربُّك؟ فيقول: ربي الله، ونبيِّي محمدٌ ، فذلك قوله : يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ [24].

قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن المُثَنَّى، وأبو بكر بن نافعٍ، قالوا: حدثنا عبدالرحمن -يعنون: ابن مهدي- عن سفيان، عن أبيه، عن خَيْثَمَة، عن البراء بن عازبٍ: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ قال: نزلتْ في عذاب القبر [25].

الشرح:

يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، الثبات الذي في الآخرة عند سؤال المَلَكَين في القبر، وأما الثبات الذي في الدنيا فهو على ظاهره، فالله تعالى يُثبت المؤمنين في الدنيا وفي الآخرة.

المقصود بالثبات في الآخرة فسَّره النبي بعذاب القبر، يعني: عند سؤال المَلَكَين؛ لأن هذا اختبارٌ عظيمٌ للإنسان، يأتيه المَلَكَان ويسألانه هذه الأسئلة، فيُثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت، ويُوفق الله المؤمنين للجواب الصحيح، فالمؤمن يقول: ربي الله، ونبيي محمدٌ، وديني الإسلام.

هذا معنى الثبات في الآخرة، وإلا فالآخرة ليست بدار تكليفٍ، لكن هذا إنما يكون عند سؤال المَلَكَين.

إذن هذا هو تفسير الآية في تثبيت الله للمؤمنين في الآخرة، وأما تثبيت الله للمؤمنين في الدنيا فهذا على ظاهره: أن الله يُثبت المؤمن على إيمانه، ويُبْعِد عنه مُضِلَّات الفتن، ويُثبِّت قلبَه على دينه، ويُصرِّف قلبَه على طاعته.

ولهذا فمن أعظم الأدعية التي ينبغي أن يحرص عليها المسلم: أن يسأل الله ​​​​​​​ أن يُثبِّته بالقول الثابت في الدنيا والآخرة، فيقول: اللهم ثَبِّتني بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

من أعظم الأدعية التي ينبغي أن يحرص عليها المسلم أن يقول: اللهم إني أسألك أن تُثَبِّتني في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فإن هذه دعوةٌ عظيمةٌ.

الثبات في الحياة الدنيا: أن الله تعالى يُثَبِّته على الاستقامة، فلا ينحرف، ولا يقع في الفتن.

والثبات في الآخرة: أن الله تعالى يُثَبِّته عند سؤال المَلَكَين.

وكذلك أيضًا يُضيف لهذا الدعاء: اللهم يا مُقلِّب القلوب، ثَبِّت قلبي على دينك، يا مُصرِّف القلوب، صَرِّف قلبي على طاعتك، ربِّ لا تُزِغْ قلبي بعد إذ هديتني، وهَبْ لي من لدنك رحمةً، إنك أنت الوهاب.

فهذه الأدعية ينبغي أن يحرص عليها المسلم، يقول: اللهم إني أسألك أن تُثَبِّتني بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، يا مُقلِّب القلوب، ثَبِّت قلبي على دينك، يا مُصرِّف القلوب، صَرِّف قلبي على طاعتك، ربِّ لا تُزِغْ قلبي بعد إذ هديتني، وهَبْ لي من لدنك رحمةً، إنك أنت الوهاب.

والمسلم إذا حافظ على هذه الأدعية كلَّ يومٍ فإن الله أكرمُ من ألا يستجيب له، والعبد إذا أَلَحَّ على الله في الدعاء فإن الله تعالى يُجيب دعاءه ويُثَبِّته بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

فسؤال الله الثبات هذا دعاءٌ عظيمٌ يغفل عنه كثيرٌ من الناس، فهذا من أعظم الأدعية التي ينبغي أن يحرص عليها المسلم: أن يسأل الله الثبات، يقول: يا ربِّ، ثَبِّتني بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

وهذا نوعٌ من التفسير، وهو من أعلى أنواع التفسير: أن يكون التفسير من النبي عليه الصلاة والسلام، فالتفسير أعظم ما يكون: تفسير النصوص بالنصوص، وأعلاه تفسير القرآن بالقرآن.

تفسير القرآن بالقرآن مثل قول الله : فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [النساء:15]، ثم فسَّر النبي عليه الصلاة والسلام السَّبيل بما جاء في سورة النور: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ .. إلخ [النور:2].

فتفسير القرآن بالقرآن هذا من أعلى أنواع التفسير، ثم تفسير القرآن بالسُّنة، ومثاله هذا الحديث، فالنبي عليه الصلاة والسلام فسَّر قوله: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ [إبراهيم:27] بعذاب القبر؛ يعني: التَّثبيت الذي في الآخرة عند سؤال المَلَكَين، فهذا نوعٌ من التفسير: تفسير القرآن بالسُّنة.

حديث: إذا خرجتْ روحُ المؤمن تَلَقَّاها مَلَكَان يُصْعِدَانها

القارئ: أحسن الله إليكم.

قال رحمه الله:

حدثني عبيدالله بن عمر القَوَارِيرِيُّ، قال: حدثنا حماد بن زيدٍ، قال: حدثنا بُدَيْلٌ، عن عبدالله بن شقيقٍ، عن أبي هريرة قال: إذا خرجتْ روحُ المؤمن تَلَقَّاها مَلَكَان يُصْعِدَانِهَا، قال حماد: فذَكَرَ من طِيب ريحها وذَكَرَ المِسْكَ، قال: ويقول أهل السماء: روحٌ طيبةٌ جاءتْ من قِبَل الأرض، صلَّى الله عليكِ وعلى جسدٍ كنتِ تَعْمُرِينَه. فيُنْطَلَق به إلى ربه ، ثم يقول: انْطَلِقُوا به إلى آخر الأَجَل.

قال: وإن الكافر إذا خرجتْ روحُه قال حمادٌ: وذَكَرَ من نَتْنِها، وذَكَرَ لَعْنًا ويقول أهل السماء: روحٌ خبيثةٌ جاءتْ من قِبَل الأرض، قال: فيُقال: انْطَلِقُوا به إلى آخر الأجل.

قال أبو هريرة : فَرَدَّ رسول الله رَيْطَةً كانت عليه على أنفه هكذا [26].

الشرح:

قال: إذا خرجتْ روحُ المؤمن تَلَقَّاها مَلَكَان يُصْعِدَانها، المؤمن عندما تحضره الوفاة، وتبلغ الروحُ الحلقومَ، تأتيه الملائكة، فإن كان من أهل الجنة أتته ملائكة الرحمة ومعهم ملك الموت، فتقبض روحه، فيُصاب الإنسان بخوفٍ وبحزنٍ؛ بخوفٍ مما أمامه، لا يدري ماذا سيكون له؟ وحزنٍ على ما ترك من أهلٍ وأولادٍ ومالٍ، فمن رحمة الله بعباده المؤمنين أن الملائكة تُطَمْئِنهم وتُبَشِّرهم، كما قال ربنا سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ يعني: عند الموت أَلَّا تَخَافُوا تقول لهم: لا تخافوا؛ لأن الإنسان يُصاب بخوفٍ شديدٍ، فتقول: أَلَّا تَخَافُوا لا تخافوا مما أمامكم وَلَا تَحْزَنُوا على ما تركتم من أهلٍ وأموالٍ وأولادٍ، فالله يَخْلُفكم فيها، ثم تُبَشِّرهم البشارة العظيمة: وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ۝ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ۝ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:30- 32].

وعندما يكون الإنسان في ذلك الوقت العصيب عند مُعالجة الروح وخروج الروح من البدن، هذا موقفٌ شديدٌ، وموقفٌ عصيبٌ، فعندما تأتيه البشارة بالجنة يفرح فرحًا عظيمًا.

أرأيت الإنسان في الدنيا إذا كان في شدةٍ ثم أتته بشارةٌ يفرح بها؟ هكذا أيضًا المؤمن تُبَشِّره الملائكة في تلك اللحظات.

ومعنى ذلك: أن الإنسان يعرف مصيره، هل هو من أهل الجنة أو من أهل النار عند الموت؟

عند الموت يعرف الإنسان مصيره: هل هو من أهل الجنة أو من أهل النار؟ فالملائكة تُبَشِّر المؤمنين: وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ، ثم تقبض الملائكةُ رُوحَ المؤمن كما جاء هنا في الحديث: تَلَقَّاها مَلَكَان يُصْعِدَانها يأخذها مَلَكُ الموت، ثم يُسَلِّمها لملكين يُصْعِدَانها إلى السماء.

ويقول أهل السماء: روحٌ طيبةٌ جاءتْ من قِبَل الأرض، صلَّى الله عليكِ وعلى جسدٍ كنتِ تَعْمُرِينَه، ويُنادَى بأحبِّ أسمائه إليه، ويُرَحَّب به في السماء، فَيُنْطَلَق به إلى ربِّه جلَّ وعلا، ثم يقول: انطلقوا به إلى آخر الأجل.

قال القاضي عياض: “المراد: انطلقوا بروح المؤمن إلى سِدْرَة المُنْتَهى”.

ثم بعد ذلك تُعاد رُوحه إلى بدنه حتى يُسْأَل، حتى يسأله المَلَكَان، ثم بعد ذلك تكون روحه على شكل نسمة طائرٍ تَعْلَق بأشجار الجنة، ويُنَعَّم في فترة البرزخ إلى قيام الساعة.

قال: وإن الكافر إذا خرجتْ روحه وذكر من نَتْنِها، وتقول الملائكة لصاحب هذه الروح الخبيثة: “اخرجي أيتها الروح الخبيثة”، فترتدّ الروح في الجسد، لا تريد أن تخرج، فتنتزعها الملائكة انتزاعًا: وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ يعني: بالضرب أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ [الأنعام:93]، وتنتزع الملائكةُ الروحَ من الجسد، وهذا معنى قول الله : وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا [النازعات:1]، ثم يُقال: “اخرجي أيتها الروح الخبيثة”.

قال: ويقول أهل السماء: روحٌ خبيثةٌ جاءتْ من قِبَل الأرض، فيُقال: انطلقوا به إلى آخر الأجل يعني: إلى سِجِّين.

قال أبو هريرة: “فردَّ رسول الله رَيْطَةً كانت عليه”، رَيْطَة يعني: ثوبًا رقيقًا، وقيل: الملاءة، يعني: جعل هذا الثوب أو هذا الكساء على أنفه هكذا.

وسبب ذلك: أن النبي عليه الصلاة والسلام ذكر نتن تلك الريح، فأراد أن يُوضِّح ذلك للصحابة، فقال بالكساء الذي معه هكذا لمَّا ذَكَر روح الكافر.

وهذا من حُسن تعليم النبي عليه الصلاة والسلام، حيث يستخدم المثال، ويستخدم التَّشبيه، وأحيانًا الخطوط، وهنا وضع الكساء الذي معه هكذا على أنفه، فيُعذَّب الكافر في قبره عذابًا عظيمًا إلى قيام الساعة.

وكما ذكرنا أن أهل السُّنة والجماعة على إثبات نعيم القبر وعذابه.

تعلق الروح بالبدن

قال أهل العلم: تعلُّق الروح بالبدن له خمسة أقسامٍ:

  • القسم الأول: تعلقها به في بطن الأم جنينًا.
  • القسم الثاني: تعلقها به بعد خروجه إلى الأرض.
    تعلق الروح بالبدن في بطن الأم هذه مرحلةٌ كلنا لا نذكرها، لكن نحن جميعًا مررنا بها، أما تعلقها به بعد خروجه إلى الأرض فهذه المرحلة التي نعيشها الآن.
  • القسم الثالث: تعلقها به حال النوم، فلها به تعلقٌ من وجهٍ، ومُفارقةٌ من وجهٍ.
  • القسم الرابع: تعلقها به في حال البرزخ، فإنها وإن فارقته إلا أنها لا تُفارقه كُليًّا، بل تُردّ إليه حين سؤال المَلَكَين، وهذا الردُّ إعادةٌ خاصةٌ لا تُوجب حياة البدن إلى يوم القيامة، بل إن البدن يَفْنَى كما قال عليه الصلاة والسلام، ولا يبقى منه إلا عَجْبُ الذَّنَب.
  • القسم الخامس: تعلق الروح بالبدن بعد بعث الأجساد، وهذا أكمل أنواع تعلقها بالبدن، وهو تعلقٌ لا يقبل البدن معه موتًا، ولا نومًا، ولا فسادًا.

فهذه أقسام تعلق الروح بالبدن.

مُخاطبة النبي لقتلى المشركين يوم بدر

القارئ: أحسن الله إليكم.

قال رحمه الله:

حدثني إسحاق بن عمر بن سَلِيطٍ الهُذَلِيُّ، قال: حدثنا سليمان بن المُغِيرة، عن ثابتٍ قال: قال أنسٌ: كنتُ مع عمر . ح، قال: وحدثنا شيبان بن فَرُّوخَ -واللفظ له- قال: حدثنا سليمان بن المُغِيرة، عن ثابتٍ، عن أنس بن مالكٍ قال: كنَّا مع عمر بين مكة والمدينة، فَتَرَاءَيْنَا الهلالَ، وكنتُ رجلًا حديد البصر فرأيتُه، وليس أحدٌ يزعم أنَّه رآه غيري، قال: فجعلتُ أقول لعمر : أما تراه؟ فجعل لا يراه، قال: يقول عمر: سأراه وأنا مُسْتَلْقٍ على فراشي، ثم أنشأ يُحدِّثنا عن أهل بدرٍ فقال: إن رسول الله كان يُرِينَا مصارعَ أهل بدرٍ بالأمس، يقول: هذا مَصْرَعُ فلانٍ غدًا، إن شاء الله.

قال: فقال عمر : فوالَّذي بَعَثَه بالحقِّ، ما أَخْطَؤوا الحدود التي حَدَّ رسولُ الله .

قال: فَجُعِلُوا في بئرٍ بعضهم على بعضٍ، فانطَلَقَ رسولُ الله حتى انتهى إليهم، فقال: يا فلان ابن فلان، ويا فلان ابن فلان، هل وجدتُم ما وعدكم الله ورسوله حقًّا؟ فإنِّي قد وجدتُ ما وعدني الله حقًّا، قال عمر : يا رسول الله، كيف تُكَلِّم أجسادًا لا أرواح فيها؟! قال: ما أنتم بأَسْمَعَ لما أقول منهم، غير أنَّهم لا يستطيعون أنْ يَرُدُّوا عليَّ شيئًا [27].

قال: حدثنا هَدَّاب بن خالدٍ، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابتٍ البُنَانِيِّ، عن أنس بن مالكٍ : أن رسول الله ترك قتلى بدرٍ ثلاثًا، ثم أتاهم، فقام عليهم فناداهم فقال: يا أبا جهل بن هشامٍ، يا أُمَيَّة بن خَلَفٍ، يا عُتْبَة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، أليس قد وجدتُم ما وعد ربُّكم حقًّا؟ فإنِّي قد وجدتُ ما وعدني ربي حقًّا، فسمع عمر قول النبي ، فقال: يا رسول الله، كيف يسمعوا؟! وأَنَّى يُجِيبُوا وقد جَيَّفُوا؟! قال: والذي نفسي بيده، ما أنتم بأَسْمَعَ لما أقول منهم، ولكنهم لا يقدرون أن يُجِيبوا، ثم أمر بهم فَسُحِبُوا فَأُلْقُوا في قَلِيب بدرٍ [28].

قال: حدثني يوسف بن حمادٍ المَعْنِيّ، قال: حدثنا عبدالأعلى، عن سعيدٍ، عن قتادة، عن أنس بن مالكٍ، عن أبي طلحة. ح، قال: وحدَّثنيه محمد بن حاتمٍ، قال: حدثنا رَوْحُ بن عُبَادَة، قال: حدثنا سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة قال: ذَكَرَ لنا أنسُ بن مالكٍ، عن أبي طلحة قال: لمَّا كان يوم بدرٍ، وظَهَرَ عليهم نبيُّ الله أَمَرَ ببضعةٍ وعشرين رجلًا -وفي حديث رَوْحٍ: بأربعةٍ وعشرين رجلًا- من صناديد قريشٍ، فَأُلْقُوا في طَوِيٍّ من أَطْوَاءِ بدرٍ. وساق الحديث بمعنى حديث ثابتٍ، عن أنسٍ [29].

الشرح:

هذا الحديث حديث أنسٍ ، قال: “كنا مع عمر بين مكة والمدينة” يعني: في سفرٍ، “فَتَرَاءَيْنَا الهلال، وكنتُ رجلًا حديد البصر” يعني: حادَّ البصر.

وأنسٌ بارك اللهُ له في بدنه، وفي عمره، وفي ماله، وفي ولده ببركة دعوة النبي ، وعاش أكثر من مئة سنةٍ.

قال: “فرأيتُه” يعني: رأيتُ الهلال، “وليس أحدٌ يزعم أنه رآه غيري، فجعلتُ أقول لعمر: أما تراه؟ فجعل لا يراه”.

قال: “يقول عمر: سأراه وأنا مُسْتَلْقٍ على فراشي” يعني: كان بعضهم إذا أراد أن يرى الهلال يستلقي على ظهره؛ لكي يراه جيدًا.

وهذا يدل على أن رؤية الهلال في آخر الشهر قد يختص بها مَن كانت عنده حِدَّةٌ في البصر، ولا يلزم أن يراه عموم الناس، وإنما يراه أفرادٌ ممن كانت عندهم حِدَّةٌ في البصر، ففي هذه القصة لم يَرَ الهلال إلا أنس بن مالكٍ فقط .

ثم بعد ذلك قال: “فأنشأ يُحدِّثنا عن أهل بدرٍ” يعني: عمر “فقال: إن رسول الله كان يُرِينا مصارع أهل بدرٍ بالأمس، يقول: هذا مصرع فلانٍ غدًا، إن شاء الله، قال عمر: فوالذي بعثه بالحقِّ، ما أخطؤوا الحدود التي حدَّ رسول الله “.

وهذا فيه معجزةٌ للنبي عليه الصلاة والسلام، حيث أشار قال: “هذا مصرع فلانٍ -إن شاء الله- وهذا مصرع فلانٍ، وهذا مصرع فلانٍ، وهذا مصرع فلانٍ، إن شاء الله”، يقولون: فكان مصرعهم في تلك الأماكن التي أشار إليها النبي آيةً من آيات الله ​​​​​​​.

ثم بعد ذلك حصلتْ معركة بدرٍ، وانتصر المسلمون، وقتلوا من المشركين سبعين، وأسروا سبعين.

قال: “فانطلق رسول الله حتى انتهى إليهم” يعني: انتهى إلى قتلى بدرٍ، وفي الرواية الأخرى: أنه ذهب لهم بعد ثلاثة أيامٍ، فقال: يا فلان ابن فلان، ويا فلان ابن فلان، هل وجدتُم ما وعدكم الله ورسوله حقًّا؟ فإنِّي قد وجدتُ ما وعدني الله حقًّا.

وفي الرواية الأخرى: أنه ترك قتلى بدرٍ ثلاثًا، ثم أتاهم فناداهم فقال: يا أبا جهل بن هشامٍ، يا أُمَيَّة بن خَلَفٍ، يا عُتْبَة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، أليس قد وجدتُم ما وعد ربُّكم حقًّا؟ فإنِّي قد وجدتُ ما وعدني ربي حقًّا، فقال عمر: “كيف تُكلم أجسادًا لا أرواح فيها؟!” وفي الرواية الأخرى: “كيف يسمعوا؟! وأنَّى يُجِيبوا وقد جَيَّفُوا؟!” يعني: أنتنوا وصاروا جِيَفًا، فقال عليه الصلاة والسلام: ما أنتم بأَسْمَعَ لما أقول منهم، غير أنَّهم لا يستطيعون أنْ يَرُدُّوا عليَّ شيئًا، ثم أمر بهم فَسُحِبُوا فَأُلْقُوا في قَلِيب بدرٍ.

وفي الرواية الأخرى: “أَمَر ببضعةٍ وعشرين رجلًا”، وفي حديثٍ: “بأربعةٍ وعشرين”، فكيف نجمع بين هذا وما هو معروفٌ من أن القتلى سبعون؟

الجواب: إن هؤلاء البضعة والعشرين هم رؤساء قريشٍ وصناديدهم، هؤلاء هم صناديد قريشٍ؛ ولذلك ناداهم بأسمائهم: يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، يا أبا جهل بن هشامٍ، ويُؤيد ذلك قوله: “رجلًا من صناديد قريشٍ، فَأُلْقُوا في طَوِيٍّ من أَطْوَاءِ بدرٍ”.

والطَّوِيّ: هو البئر المطوية بالحجارة.

واستدلَّ بعض العلماء بهذا الحديث على أن الموتى يسمعون كلام الأحياء، ولكن هذا محل نظرٍ، فإن الله يقول: وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر:22]، ويقول: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى [النمل:80].

هل الأموات يسمعون كلام الأحياء؟

هذه المسألة اختلف فيها العلماء:

  • فمنهم مَن قال: إن الموتى يسمعون كلام الأحياء غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا ولا يتكلموا.
    واستدلوا بهذا الحديث وما جاء في معناه.
  • والقول الثاني -وهو قول أكثر العلماء-: أن الموتى لا يسمعون كلام الأحياء، كما قال الله تعالى: وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ، وقال: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى، ولكن قد يُسْمِعهم الله في أحوالٍ خاصةٍ، ومن ذلك: سماع الميت قَرْع نِعَال مُشَيِّعيه بعد الدفن، فهذه حالٌ خاصةٌ، ومن ذلك هذه القصة التي حصلتْ، فهي خاصةٌ بالنبي عليه الصلاة والسلام وقتلى بدرٍ.

هذا هو القول الأظهر في المسألة: أن الأصل أن الموتى لا يسمعون كلام الأحياء إلا في أحوالٍ خاصةٍ: بعد الدفن يسمعون قَرْع مُشَيِّعيهم، وأيضًا قتلى بدرٍ، أسمع اللهُ قتلى بدرٍ كلامَ النبي عليه الصلاة والسلام، وإلا فمن حيث الأصل: الموتى لا يسمعون كلام الأحياء.

وتتفرع عن هذا مسألةٌ، وهي: زيارة الحيِّ لقبر الميت، هل الحي إذا زار قبر الميت يعلم به الميت ويسمع كلامه أو لا؟

الأظهر -والله أعلم- أن الميت لا يعلم به، والحديث المروي: أن الميت يعلم به ويستأنس به؛ حديثٌ ضعيفٌ، لا يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام.

وهذه أمورٌ غيبيةٌ لا تُعْلَم إلا عن طريق الوحي؛ ولذلك لم يُنْقَل عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان يزور قبور أقاربه، لم يُنْقَل عنه أنه زار قبر خديجة رضي الله عنها، ولا قبر عمِّه حمزة ، ولا قبر أولاده، وقد مات جميع أولاده من بنين وبناتٍ إلا فاطمة رضي الله عنها، ولا قبر أقاربه إلا فقط أمه، أُذِنَ له أن يزور قبرها فزارها، ولم يُؤْذَن له في أن يستغفر لها، وهذه زيارةٌ خاصةٌ لقبر أمه.

فالأظهر -والله أعلم- أن الموتى لا يسمعون كلام الأحياء، هذا الأقرب، وأن الغرض من زيارة الحيِّ للمقبرة هو ما أشار إليه النبي عليه الصلاة والسلام في قوله: زوروا القبور؛ فإنها تُذَكِّركم الآخرة [30]، فالغرض هو تذكر الآخرة.

وإذا أراد الإنسانُ الإحسانَ لقريبه المُتوفَّى فليفعل ما جاءتْ به السُّنة؛ من الدعاء له، ومن الصدقة عنه، وأفضل ما تكون الصدقة الجارية: العمرة، والحج، يصل ثوابها للميت، هذه هي التي تنفعه، ولا فرق بين أن يدعو له عند قبره، أو يدعو له في أي مكانٍ، لا فرق، يعني: عندما يذهب الإنسان لقبر قريبه، وأعرف أن هناك أُناسًا عندهم اهتمامٌ شديدٌ بهذه المسألة، حتى ذُكِرَ لي أن من الناس مَن يزور قبر والديه كلَّ يومٍ، ومنهم مَن يزور قبر والديه كلَّ أسبوعٍ، بل يُنكر على إخوانه: لماذا لا يزورون قبر أبيهم أو أمهم؟ وهو يعتقد أن أباه يعلم به كما لو كان حيًّا.

والذي يظهر -والله أعلم- أن الغرض من زيارة القبور تذكير الآخرة: زوروا القبور؛ فإنها تُذكِّركم الآخرة، وأنه لا فرق بين أن تدعو للميت عند قبره، أو في أي مكانٍ، وأن هذا الجهد الذي تبذله فتذهب للمقبرة كلَّ يومٍ أو -مثلًا- كلَّ أسبوعٍ، اجعله في الدعاء له، اجعل هذا الجهد في الدعاء له، فالدعاء ينفع الميت بالإجماع.

أما أن تذهب وأنت لا تدري، فالميت يمكن أنه لا يدري عنك أصلًا، وقد أصبح الآن تُرابًا، وهو يُنَعَّم أو يُعَذَّب في قبره، لكن هذا الجهد الذي تبذله، وليس عليه دليلٌ، اجعله في الدعاء له؛ فينفعه، والصدقة عنه، والحج والعمرة، ونحو ذلك مما ينفع الميت.

هذا هو الأظهر -والله أعلم-: أن الميت لا يسمع كلام الحيِّ إلا في أحوالٍ خاصةٍ.

ونكتفي بهذا القدر، ونقف عند باب “إثبات الحساب”.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.

الأسئلة

الآن نُجيب عما تيسر من الأسئلة:

السؤال: هل -يا شيخ- من أنواع الابتلاء: الابتلاء بالزيارات الممنوعة؟

الجواب: لا، المقصود بـتُبْتَلَى في قبورها المقصود بذلك: سؤال المَلَكَين؛ لأنه ورد تفسيره في الرواية الأخرى، فالمقصود بذلك: سؤال المَلَكَين.

السؤال: ما حكم الجهر بالتكبير بعد الصلاة؟

الجواب: الأذكار التي تكون بعد السلام مباشرةً يُسَنُّ الجهر بها، كما قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: “كان رَفْعُ الصوت بالذكر حين انقضاء المكتوبة على عهد النبي [31]، وقال: “ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله إلا بالتكبير” [32] يعني: بالذكر.

فالأذكار التي تكون بعد السلام مباشرةً يُشْرَع رَفْعُ الصوت بها، مثل: “أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركتَ يا ذا الجلال والإكرام ..” إلخ.

أما ما بعد ذلك من التَّسبيح والتَّحميد والتَّكبير وقراءة آية الكرسي والمعوذتين والإخلاص، فالسنة الإسرار بها، وليس الجهر، وهذا هو الذي عليه المذاهب الأربعة: مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، ولم يقل أحدٌ بالجهر بها إلا قِلةٌ من أهل العلم.

فالأقرب -والله أعلم- ما عليه أكثر العلماء من أن السنة الإسرار بها؛ لأن الأصل في الذكر الإسرار، وليس الجهر، هذا هو الأصل، لكن ما ورد فيه النص وهو: ما كان دُبُر الصلاة المكتوبة يُجْهَر به.

فهذا هو الأقرب في هذه المسألة: أنك تجهر بالذكر الذي يلي السلام مباشرةً، وأما التَّسبيح والتَّحميد والتَّكبير فَتُسِرّ به، وهكذا أيضًا قراءة آية الكرسي والإخلاص والمعوذتين، تُسِرّ بذلك ولا تجهر به، هذا هو الأظهر في هذه المسألة، وهو الذي عليه المذاهب الأربعة.

السؤال: ………؟

الجواب: الأمر فيها واسعٌ، يعني: بعض العلماء يُلْحِقها بالأذكار التي تلي الصلاة، وبعضهم يجعلها مع التَّسبيح، والأمر فيها واسعٌ.

السؤال: ما توجيهكم لمَن ابتُلِيَ بالنظر للنساء وسماع المعازف؟

الجواب: عليه أن يُجاهد نفسه، هذه معاصٍ، عليه أن يُجاهد نفسه في ذلك، والله تعالى يقول: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، وإذا وقع في معصيةٍ يقوم ويتوضأ ويُصلي ركعتين ويستغفر الله، يجعل هذا مبدأً له في الحياة في أية معصيةٍ، يقول عليه الصلاة والسلام: ما من عبدٍ يُذْنِب ذنبًا، ثم يقوم فيتوضأ، ثم يُصلي ركعتين ويستغفر الله إلا غفر الله له [33].

السؤال: ما الواجب على المسلم إذا اختلف العلماء في مسألةٍ؟

الجواب: إذا اختلف العلماء في مسألةٍ فكما لو اختلف الأطباء، وإذا اختلف الأطباء تأخذ برأي أيِّ الأطباء؟

الجواب: أنك تأخذ برأي مَن ترى أنه الأعلم والأكثر حِذْقًا وخبرةً ودرايةً، فتأخذ برأيه.

هكذا أيضًا إذا اختلف العلماء تأخذ برأي مَن ترى أنه الأعلم والأقرب للحقِّ، والأوثق في علمه ودينه وأمانته.

ومعنى ذلك: أن المُستفتي يُطلب منه نوع اجتهادٍ، يجتهد، لكن يلزمه أن يأخذ برأي الأعلم والأوثق لديه، وليس له أن يتخير، فإن بعض الناس يتخير ويتتبع الرُّخَص، وليس له ذلك، إنما يلزمه أن يأخذ برأي مَن يرى أنه الأقرب للحق.

السؤال: ما حكم التَّنظف ببعض الأطعمة، كتنظيف الوجه بالليمون؟

الجواب: لا بأس بذلك، ما دام أن فيه مصلحةً فلا بأس بذلك، وهذا ليس فيه امتهانٌ للنعمة، وإنما فيه استخدامٌ لهذه الأطعمة في مصلحة الإنسان، وهذا الأصل فيه الحِلُّ والإباحة.

السؤال: أيام البيض هل تُصام في غير اليوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر؟

الجواب: الذي وردتْ به أكثر الأحاديث: صيام ثلاثة أيامٍ من كل شهرٍ، سواء كانت في أول الشهر، أو في وسطه، أو في آخره، كما في حديث أبي هريرة : “أوصاني خليلي بثلاثٍ”، وذكر: “صوم ثلاثة أيامٍ من كل شهرٍ” [34]، وكما في حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما: صُمْ من الشهر ثلاثة أيامٍ، فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر [35].

فأكثر الأحاديث على صيام ثلاثة أيامٍ من الشهر، لكن جاء في حديث أبي ذرٍّ صيامُ أيام البيض، وهي: اليوم الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر [36]، وفي سنده مقالٌ، لكن عليه العمل عند كثيرٍ من أهل العلم.

فالأمر واسعٌ؛ إن تيسر أن يصوم ثلاثة أيامٍ هي: الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، فهذا حَسَنٌ، وإلا فيصومها في أي وقتٍ من الشهر، المهم أنه يصوم ثلاثة أيامٍ من الشهر.

وهناك طريقةٌ يفعلها بعض الإخوة، وهي: أنه يجعل صيام ثلاثة أيامٍ من الشهر في أيام الاثنين، يعني: في الاثنين الأول من الأسبوع، والثاني، والثالث -مثلًا- يجمع بذلك بين فضل صيام يوم الاثنين وصيام ثلاثة أيامٍ من الشهر، وهذا حسنٌ.

السؤال: كم عدد المرات التي تُشْرَع فيها زيارة قبر الميت، خاصةً الأب والأم؟

الجواب: الغرض من زيارة القبور هو تذكر الآخرة: زوروا القبور؛ فإنها تُذكِّركم الآخرة [37]، أما الإحسان للميت فيكون بالدعاء له، ولا فرق في الدعاء له بين أن يدعو له عند قبره، أو أن يدعو له في أي مكانٍ؛ ولذلك إذا أراد أن يُحسن لقريبه يُكثر من الدعاء له والصدقة عنه، خاصةً الصدقة الجارية، والعمرة، والحج، ونحو ذلك.

السؤال: رأيتُ مُتصدِّقًا تصدَّق بتمرٍ رديءٍ ما يُقدَّم إلا للغنم، فهل يجوز لي أن أرمي هذا التمر؛ لأنه لا يُؤكَل؟

الجواب: ربما يوجد مَن يأكل هذا التمر، لا داعي لرميه، لكن إن بقي مدةً طويلةً ولم يأكله أحدٌ فيُمكن أن يُعطى البهائم، يكون عَلَفًا للبهائم، لكن ربما أن لك نظرًا، وغيرك له نظرٌ، فربما يوجد مَن يأكله، فاترك هذا التمر، اتركه ربما يأكله بعض الناس، لكن لو بقي مدةً طويلةً ولم يُؤكَل فيُعطى للبهائم ونحوها.

السؤال: هل إذا نشرتُ علمًا بين الناس عن طريق وسائل التواصل أنال بذلك أجرَ كلِّ مَن فَعَل السُّنة حتى لو لم أفعلها؟

الجواب: نعم، يقول عليه الصلاة والسلام: مَن دعا إلى هُدًى كان له من الأجر مثل أجور مَن تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا [38].

فلو أرسلتَ مقطعًا يحثُّ على فضيلةٍ من الفضائل، وتسبَّبْتَ في أنَّ مَن أرسلتَ له فَعَل تلك الفضيلة؛ فيكون لك مثل أجره حتى لو لم تعمل تلك الفضيلة، وهذا من بركة نشر العلم، ومن بركة الدعوة إلى الله ، وفي هذا يقول الله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا [فصلت:33].

السؤال: أُحِسُّ بثِقَلٍ كبيرٍ عند صلاة الوتر، ولم أجد حلًّا مع أنني حريصٌ؟

الجواب: لو كنتَ حريصًا ما أحسستَ بالثِّقل، فإحساسك بالثِّقل يدل على قِلة الاهتمام وقِلة الحرص، لكن مع ذلك إذا كنت تحسّ بالثِّقل فمعنى ذلك: أن الوقت الذي تريد أن تُصلي فيه صلاة الوتر وقتٌ غير مناسبٍ لك؛ فاستبدله بوقتٍ آخر تكون فيه نشيطًا، لكن صلاة الوتر سُنةٌ مُؤكدةٌ، حتى إن الحنفية قالوا بوجوبها، وإن كان الراجح قول الجمهور: أنها لا تجب، لكنها سُنةٌ مُؤكدةٌ جدًّا، كان النبي لا يدعها سفرًا ولا حضرًا.

السؤال: ما حكم إهداء ثواب تلاوة القرآن للميت؟

الجواب: لا بأس بإهداء ثواب تلاوة القرآن للميت عند جمهور الفقهاء، وهو مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة، خلافًا للشافعية، وهذا هو الذي عليه أكثر أهل العلم، وجمهور السلف على جواز إهداء ثواب التلاوة، وأن الميت يصله ثواب التلاوة، واختار هذا القول ابن تيمية وابن القيم وجمعٌ من المُحققين من أهل العلم.

ولكن هذا من قبيل الجائز غير المشروع، يعني: مَن فعله لا يُنْكَر عليه، لكن لا يُحثّ الناس على ذلك؛ لأنه لم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان يفعل هذا، ولم يرد عن الصحابة أنهم كانوا يُهدون ثواب التلاوة لأقاربهم الأموات.

وإنما ينبغي بالنسبة للأقارب الأموات أن يُدْعَى لهم ويُتصدق عنهم، وكذلك أيضًا لا بأس بالعمرة والحج، ولو أهدى لهم ثواب التلاوة أحيانًا أيضًا فالأمر واسعٌ، لكن لا يُكْثِر من ذلك؛ لأن بعض الناس مُولَعٌ بإهداء الثواب، فإذا قرأ قرآنًا أهدى الثواب، وإذا اعتمر أهدى الثواب، مُولَعٌ!

ورأيتُ في الحرم -مرةً كنتُ في درسٍ من دروس الحرم- رجلًا يقول: إنني لا أعتمر عمرةً إلا وأُهدي ثوابها.

طيب، أنت تنسى نفسك!

فقال: يكون لي مثل أجرها.

ما الدليل على أنه يكون لك مثل أجرها؟

أنت تقول: يا ربِّ، أنا أهديتُ ثواب هذه العمرة لفلانٍ.

أنت مأجورٌ على نيتك، لكن أجر العمرة انصرف لهذا الذي أهديتَ له العمرة.

قال: طوال عمري وأنا على ذلك.

فبعض الناس عنده وَلَعٌ بقضية إهداء الثواب، وكأنه سيُعَمَّر!

كما أن الميت بحاجةٍ للثواب، فأنت أيضًا في حاجةٍ للثواب، فينبغي عدم المُبالغة في هذا.

صحيحٌ أن الإحسان للأموات -خاصةً الأقارب وخاصةً الوالدين- أمرٌ مطلوبٌ، لكن لا يغلو الإنسان في ذلك، إنما يدعو لهم، خاصةً الوالدين يدعو لهما كلَّ يومٍ: وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24]، ويتصدق عنهما، وأيضًا يُهدي -إن أراد أن يُهدي- ثواب العمرة والحج.

وكذلك أيضًا من أنواع البرِّ بالأموات: إكرام أصدقائهم؛ يقول عليه الصلاة والسلام: إن من أَبَرِّ البرِّ صِلة الرجل أهل وُدِّ أبيه [39]، فتنظر لأصدقاء والدك وصديقات والدتك وتُحْسِن إليهم، فهذا من أعظم البرِّ، فسمَّاه النبي عليه الصلاة والسلام: من أَبَرِّ البِرِّ، وهذا الأمر يغفل عنه كثيرٌ من الناس.

فمَن كان له والدان توفيا أو أحدهما، وأراد البِرَّ بهما، فمن وجوه البرِّ: أن يُكْرِم أصدقاءهما ومَن كانا يُحِبَّانه في حياتهما، يصلهم، ويُكرمهم، ويزورهم؛ يصل أصدقاء والديه، ويُكرمهم، ويزورهم، ويُهْدِي لهم، ويُحْسِن إليهم، فإن هذا من أَبَرِّ البِرِّ كما أخبر بذلك النبي .

السؤال: يقول: الكتب التي لديكم، هل كلُّ الأحاديث فيها صحيحةٌ؟

الجواب: نعم، “صحيح مسلم” الأحاديث التي فيه صحيحةٌ، وهكذا “البخاري”، فالبخاري ومسلمٌ تلقَّت الأمةُ أحاديثهما بالقبول.

السؤال: هل يجوز أن أُصلي ركعتين تطوعًا وأُهدي ثوابهما لأمي وأبي؟

الجواب: نعم، عند الجمهور يصح، يجوز ذلك: ثواب الصلاة، ثواب الصيام، ثواب التلاوة، هذه عند جمهور العلماء: أنه يصح ذلك، ويصل ثوابها للميت.

السؤال: عندي مَتْجَرٌ إلكتروني، هل يجوز أن أضع فيه بعض الشركات الوسيطة للزبائن؟

الجواب: أولًا: التعامل مع هذه الشركات الوسيطة:

مَن كان يضمن أنه سيُسدد من غير تأخرٍ، ووَضَع لذلك ضماناتٍ، ويقول: حتى لو حصلتْ لي ظروفٌ فأنا على استعدادٍ بأن أستلف ولا أتأخر؛ حتى لا أدفع غرامة التأخير، فهذا يجوز له أن يتعامل مع تلك الشركات ولا بأس.

أما مَن كان قد يتأخر في السداد، وقد يدفع غرامة التأخير؛ فهذا لا يجوز له أن يتعامل معها.

وبالنسبة لأصحاب المحلات: لا بأس أن يتعاملوا مع هذه الشركات؛ لأن هذه الشركات لا تأخذ غرامة التأخير، وإنما تدفعها في وجوه البرِّ، وهي أيضًا مُعتمدةٌ على فتوى بعض العلماء، فبعض العلماء المعاصرين أفتوها بالجواز وقالوا: إذا كانت الشركة لا تأخذ الغرامة، وإنما تدفعها في وجوه البرِّ، فهو من باب الالتزام بالتَّصدق أو بالتَّبرع عند التَّأخر، وأجازه بعض العلماء المعاصرين.

وهذه المسألة ليست محل إجماعٍ في تحريمها، إنما المسألة المُجْمَع على تحريمها: لو كان الدائن يأخذ غرامة التأخير، هذا هو ربا الجاهلية: إما أن تقضي، وإما أن تُرْبِي، لكن هذه الشركات الوسيطة لا تأخذ غرامة التأخير، وإنما تدفعها في وجوه البرِّ، وهي مسألةٌ اجتهاديةٌ خلافيةٌ.

وعلى هذا فأصحاب المحلات لا بأس أن يتعاملوا مع هذه الشركات الوسيطة.

السؤال: هل المُستيقظ من الليل يكفيه الاستنثار، أو لا بد من الاستنشاق والاستنثار؟

الجواب: المُستيقظ من الليل يَنْثر أنفه ثلاثًا كما قال عليه الصلاة والسلام: إذا استيقظ أحدكم من منامه فَلْيَسْتَنْثِر ثلاثًا؛ فإن الشيطان يبيت على خَيْشُومه [40]، والذي ورد هو الاستنثار فقط.

وأيضًا يُسَنُّ له أن يغسل يديه ثلاث مراتٍ؛ فإنه لا يدري أين باتت يده [41]، فهذه من السنن التي ينبغي أن يحرص عليها المسلم.

السؤال: كنتُ مسبوقًا في الصلاة وسهوتُ قبل أن أنفرد عن الإمام، فهل يلزمني سجود السهو؟

الجواب: نعم، إذا كنتَ قد سهوتَ وأنت مع الإمام فيُنْظَر لهذا السهو ما هو؟

إن كان تَرْك واجبٍ فيتحمله الإمام عنك، وإن كان ترك ركنٍ بطلتْ تلك الركعة، وقامتْ التي بعدها مقامها، ويلزمك بعد سلام الإمام أن تقضي ركعةً، وإن كان سهوك بعد انفرادك عن الإمام فيلزمك سجود السهو.

السؤال: ما حكم لبس الكمامة للمُحْرِمة؟

الجواب: لبس الكمامة -أولًا- للمُحْرِم لا بأس به؛ لأن المُحْرِم ليس ممنوعًا من تغطية وجهه على القول الراجح.

وأما بالنسبة للمرأة المُحْرِمة فإن كانت الكمامة ستُغطي الفم والأنف فقط فلا بأس بها، أما إذا كانت الكمامة ستُجْعَل كهيئة النقاب بحيث تُغطي الوجه ما عدا العينين فهذه حكمها حكم النِّقاب، والمُحْرِمة ممنوعةٌ من النقاب، فليس للمُحْرِمة أن تجعل الكمامة بهذه الطريقة؛ لأنها حينئذٍ لا فرق بينها وبين النقاب.

وعلى ذلك فالمُحْرِمة إذا أرادتْ أن تستخدم الكمامة فينبغي أن تكتفي بوضعها على الفم والأنف فقط، ولا تجعلها كهيئة النقاب.

ونكتفي بهذا القدر.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 71، ومسلم: 1037.
^2, ^3 رواه مسلم: 2866.
^4, ^22 رواه أحمد: 18534.
^5 رواه البخاري: 4814، ومسلم: 2955.
^6 رواه البزار في “مسنده”: 2468.
^7 رواه الترمذي: 3462 وقال: حسنٌ.
^8 رواه مسلم: 2867.
^9 رواه مسلم: 2868.
^10, ^21 رواه أبو داود: 4753.
^11 رواه الترمذي: 2572، وأحمد: 13173.
^12 رواه مسلم: 2946.
^13 رواه مسلم: 2937.
^14 رواه مسلم: 588.
^15 رواه مسلم: 590.
^16 رواه مسلم: 2869.
^17, ^18, ^19 رواه مسلم: 2870.
^20 رواه البخاري: 6514، ومسلم: 2960.
^23 رواه ابن حبان: 375.
^24, ^25 رواه مسلم: 2871.
^26 رواه مسلم: 2872.
^27 رواه مسلم: 2873.
^28 رواه مسلم: 2874.
^29 رواه مسلم: 2875.
^30, ^37 رواه ابن ماجه: 1569.
^31 رواه البخاري: 841، ومسلم: 583.
^32 رواه البخاري: 842، ومسلم: 583.
^33 رواه أبو داود: 1521، والترمذي: 406 وقال: حسنٌ، وابن ماجه: 1395.
^34 رواه البخاري: 1178، ومسلم: 721.
^35 رواه البخاري: 1975، ومسلم: 1159.
^36 رواه النسائي: 2422، وأحمد: 21350.
^38 رواه مسلم: 2674.
^39 رواه مسلم: 2552.
^40 رواه البخاري: 3295، ومسلم: 238.
^41 رواه البخاري: 162، ومسلم: 278.
zh