عناصر المادة
تأملوا -أيها الإخوة- هذا الحديث العظيم: مَن يُرد الله به خيرًا يُفقهه في الدين [1] يعني: إذا رأيتَ من نفسك الحرص على التَّفقه في دين الله فهذه أمارةٌ -إن شاء الله- على أنه أُريد بك الخير.
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه واتَّبع سُنته إلى يوم الدين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.
ربنا آتنا من لدنك رحمةً، وهيِّئ لنا من أمرنا رشدًا.
نستأنف هذا الدرس بعد فترة التَّوقف في الإجازة، ونسأل الله تعالى للجميع الإعانة والتوفيق والفقه في الدين.
أهمية طلب العلم
قبل أن أبدأ أُذَكِّر بأهمية طلب العلم، وأن طلب العلم لا يعدله شيءٌ لمَن صحَّتْ نيته -كما قال الإمام أحمد- وأن الاشتغال به أفضل من الاشتغال بنوافل العبادات، فعندما تأتي لهذا الدرس ولحلقة علمٍ فأنت تأتي لعملٍ صالحٍ؛ لذلك ينبغي استحضار النية، وقد قال عليه الصلاة والسلام: مَن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة [2].
وأخبر عليه الصلاة والسلام بأن لله ملائكةً سيَّارةً تلتمس مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلس ذكرٍ قالوا: هَلُمُّوا إلى حاجتكم، ومجالس العلم من مجالس الذكر، وفي آخر الحديث أن الله يقول: أُشهدكم أني قد غفرتُ لهم، فتقول الملائكة: فيهم فلانٌ ليس منهم، إنما جاء لحاجةٍ، فيقول الله : هم القوم لا يشقى بهم جليسهم [3].
فلو لم يحصل للمسلم من مجلس العلم إلا هذا لكفى، كيف وهو يُحَصِّل علمًا، ويتفقه في دين الله ، ويستنير في أمور دينه؟!
ولذلك ينبغي الحرص على مجالس العلم، وعلى حِلَق الذكر، وينبغي الصبر على ذلك، فإن من آداب طالب العلم: الصبر، كما قال يحيى بن أبي كثيرٍ: “لا يُستطاع العلم براحة الجسد”، وقد كان السلف الصالح يرتحلون في سبيل طلب العلم.
وبعض الإخوة لمَّا تغير الدرس من العشاء إلى المغرب قال: إنه قد لا يُناسب وكذا .. لا بد من الصبر، فقد لا يكون هناك وقتٌ مناسبٌ للجميع، فلا بد من الصبر، فقد يكون المكان بعيدًا، وقد يكون أحيانًا الزمن ليس مُلائمًا بدرجةٍ كافيةٍ، لكن لا بد من التَّحمل والصبر.
والسلف الصالح كانوا يرتحلون من أجل طلب العلم رحلةً ليست مثل رحلاتنا في الوقت الحاضر، رحلة يغترب فيها المسلم طالب العلم، وينقطع عن أهله وأسرته انقطاعًا تامًّا، فليست هناك (تليفونات)، وليست هناك وسائل تواصل، وينقطع مدةً طويلةً بالسنوات، ويذهب إما على بعيرٍ، وإما ماشيًا، كل ذلك لأجل تحصيل العلم وطلب العلم.
وعندما تقرأ في سِيَر العلماء السابقين تجد أن معظمهم قد رحل لأجل تحصيل العلم؛ ولذلك ينبغي -أيها الإخوة- الصبر والتَّحمل لأجل تحصيل العلم.
نعود بعد ذلك لشرح “صحيح مسلم”، وما زلنا في كتاب “الفتن وأشراط الساعة”، وقد بدأنا في آخر درس في ذكر بعض هذه الفتن، ووقفنا عند حديث الأحنف بن قيس.
القارئ: الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمُستمعين.
باب: إذا تواجه المسلمان بسيفيهما
قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب: إذا تواجه المسلمان بسيفيهما.
قال: حدثني أبو كاملٍ فُضَيل بن حسين الجَحْدَرِيُّ، قال: حدثنا حماد بن زيدٍ، عن أيوب، ويونس، عن الحسن، عن الأحنف بن قيسٍ قال: خرجتُ وأنا أريد هذا الرجل، فلقيني أبو بَكْرَة ، فقال: أين تريد يا أحنف؟ قال: قلتُ: أريد نصر ابن عمِّ رسول الله -يعني: عليًّا- قال: فقال لي: يا أحنف، ارجعْ؛ فإنِّي سمعتُ رسول الله يقول: إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قال: فقلتُ -أو قيل-: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟! قال: إنه قد أراد قتل صاحبه [4].
قال: وحدثناه أحمد بن عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ، قال: حدثنا حمادٌ، عن أيوب، ويونس، والمُعَلَّى بن زيادٍ، عن الحسن، عن الأحنف بن قيسٍ، عن أبي بَكْرَة قال: قال رسول الله : إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار [5].
قال: وحدثني حجاج بن الشاعر، قال: حدثنا عبدالرزاق من كتابه، قال: أخبرنا معمرٌ، عن أيوب، بهذا الإسناد نحو حديث أبي كاملٍ، عن حمادٍ .. إلى آخره [6].
الشرح:
الأحنف بن قيس وُلِدَ في عهد النبي ، لكنه لم يَرَهُ؛ ولذلك يُعتبر من التابعين؛ لأنه لم يَرَ النبي .
قال: “خرجتُ وأنا أريد هذا الرجل” يعني: علي بن أبي طالبٍ ، “فلقيني أبو بكرة” يعني: أبا بكرة الثقفي الصحابي الجليل، فقال: “أين تريد يا أحنف؟ قال: قلتُ: أريد نصر ابن عمِّ رسول الله ” يعني: علي بن أبي طالبٍ ، “فقال لي: يا أحنف، ارجع؛ فإني سمعتُ رسول الله يقول: إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قلتُ: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟! قال: إنه قد أراد قتل صاحبه“، وفي الرواية الأخرى: إنه كان حريصًا على قتل صاحبه [7].
مذهب أبي بكرة الثقفي في الفتن
هذا هو مذهب أبي بكرة الثقفي في الفتن: عدم الدخول فيها مطلقًا، حتى ولو على سبيل المُدافعة عن نفسه، وأنه لا يُقاتل في هذه الفتن، وإن دخلوا عليه لا يُدافع عن نفسه، وأخذ بظاهر هذا الحديث.
وذهب بعض الصحابة -كابن عمر وعمران بن حُصينٍ – إلى أنه لا يدخل في هذه الفتن، لكن إن قُصِدَ دافع عن نفسه.
هذا هو الفرق بين هذا القول والقول الأول، فكلاهما -القول الأول والثاني- يُترك فيه الدخول في الفتن، لكن القول الأول يقول: حتى ولو على سبيل الدفاع عن النفس. وأما القول الثاني فيستثنون الدفاع عن النفس، فيجوز.
القول الثالث -وهو الذي قال به معظم الصحابة والتابعين وعامة علماء الإسلام-: أنه تجب نُصرة المُحِقّ في الفتن، والقيام معه بمُقاتلة الباغي في الفتن التي اتَّضح فيها الحقُّ من الباطل، فتجب نُصرة الحقِّ، والقيام مع المُحقِّ، وقتال الباغين؛ لقول الله : وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات:9].
وأما هذه الأحاديث وما جاء في معناها فهي محمولةٌ على الفتن التي لم يظهر فيها الحقُّ، أو على طائفتين ظالمتين لا تأويل لواحدةٍ منهما.
وهذا هو القول الراجح الذي قال به معظم الصحابة والتابعين: أنه إذا اتَّضح الحقُّ من الباطل فتجب نُصرة المُحقِّ ورَدْع الباغي، وإلا لو كان الأمر كما ذَكَر أصحاب القول الأول والثاني؛ لظهر الفساد واستطال أهل البغي والمُبطلون.
إذن هناك فتنٌ مُلْتَبِسَةٌ، لا يظهر فيها الحقُّ من الباطل، فهذه يجب اجتنابها، أما التي يظهر فيها الحقُّ من الباطل فتجب نُصرة المُحقِّ والوقوف معه، ودفع هذا الباغي: فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ.
الدماء التي جرتْ بين الصحابة
في هذا الحديث من الفوائد: أن الدماء التي جرتْ بين الصحابة ليست داخلةً في هذا الحديث، كما قال أهل العلم، وذكر هذا النووي وغيره، قالوا: الدماء التي جرتْ بين الصحابة ليست بداخلةٍ في هذا الحديث: إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار؛ وذلك لأنهم مُتأولون ومُجتهدون، لم يقصدوا المعصية، ولم يقصدوا مَحْضَ الدنيا، بل اعتقد كل فريقٍ منهم أنه المُحقّ، وأن مُخالفَه باغٍ، وكان بعضهم مُصيبًا، وبعضهم مُخطئًا معذورًا في الخطأ، فالواجب إحسان الظنِّ بهم، والإمساك عما شجر بينهم.
وكان عليٌّ هو المُحقّ المُصيب في تلك الحروب، وهذا هو مذهب معظم أهل السنة والجماعة؛ لأن النبي قال عن عمار : تقتله الفئة الباغية [8]، وقتله أصحاب معاوية، فدلَّ هذا على أن الحقَّ كان مع عليٍّ .
لكن بكل حالٍ هذا الحديث وإن كان قد اجتهد أبو بكرة وحمله على ما جرى بين الصحابة ، لكن هذا اجتهادٌ خاصٌّ بأبي بكرة، وإلا فهو لا يُحْمَل على ما جرى بين الصحابة.
ومن فوائد هذا الحديث: تحريم قتال المسلم لأخيه المسلم، والقتل من أعظم الذنوب، وقد قال الله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، ويقول عليه الصلاة والسلام: لن يزال المؤمن في فُسْحَةٍ من دينه ما لم يُصِبْ دمًا حرامًا، أخرجه البخاري في “صحيحه” [9].
ما معنى هذا الحديث: لن يزال المؤمن في فُسْحَةٍ من دينه ما لم يُصِبْ دمًا حرامًا؟
يعني: إذا أصاب دمًا حرامًا يُضيق عليه دينه -نسأل الله العافية- وربما لا يُوفَّق للتوبة، فالدم شأنه عظيمٌ، ولكن مع ذلك مُعتقد أهل السنة والجماعة: أنه يبقى كبيرةً، والكبيرة لا يَكْفُر مُرتكبها بها، ولا يُخَلَّد في النار، بل مُرتكب الكبيرة في الدنيا مؤمنٌ بإيمانه، فاسقٌ بكبيرته، وفي الآخرة تحت المشيئة، لكنه إن دخل النار لا يُخلَّد فيها.
هذا مُعتقد أهل السنة والجماعة في مُرتكب الكبيرة، فاحفَظْ هذا الكلام: مُرتكب الكبيرة في الدنيا مؤمنٌ بإيمانه، فاسقٌ بكبيرته، وفي الآخرة تحت مشيئة الله: إن شاء الله عذَّبه، وإن شاء عفا عنه، لكنه إن دخل النار لا يُخلَّد فيها.
معنى قوله: فالقاتل والمقتول في النار
جعل الله القاتل أخًا للمقتول؛ قال: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [البقرة:178]، فجعل الله القاتل أخًا للمقتول.
إذن يُحْمَل قوله عليه الصلاة والسلام: فالقاتل والمقتول في النار على أن هذا من باب الوعيد، وإلا فهما تحت المشيئة.
وأيضًا من فوائد هذا الحديث: دلَّ هذا الحديث على الوعيد لمَن قُتِلَ في مواجهة المسلم، مع كونه مقتولًا؛ لكونه كان حريصًا على قتل صاحبه.
وأيضًا من فوائد هذا الحديث: قال النووي رحمه الله: “في هذا الحديث دلالةٌ للمذهب الصحيح الذي عليه الجمهور، وهو: أنَّ مَن نوى المعصية وأصرَّ على النية يكون آثِمًا وإن لم يفعلها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: فالقاتل والمقتول في النار، وقال عن المقتول: إنه كان حريصًا على قتل صاحبه“.
يعني: مَن عزم على معصيةٍ وتَرَكها عجزًا عنها، وكان مُصرًّا عليها، لكن تركها عجزًا عنها؛ فإنه يأثم بذلك، أما إذا تركها لله فَتُكتب له حسنةٌ، كما جاء في الحديث الآخر: إنما تركها من جَرَّايَ [10] يعني: لأجلي، وإذا تركها ليس لله سبحانه، وليس عجزًا عنها، وإنما رغبةً عنها ونحو ذلك؛ لا تُكتب: لا له، ولا عليه.
فتكون الأقسام ثلاثةٌ:
- إن نوى المعصية، وأصرَّ عليها، وتركها عجزًا عنها؛ تُكْتَب عليه.
- والقسم الثاني: إن نوى المعصية، وتركها لله سبحانه؛ تُكْتَب له حسنةٌ.
- القسم الثالث: إن نوى المعصية، وتركها ليس لله، وليس عجزًا عنها؛ فلا تُكْتَب: لا له، ولا عليه.
القارئ: أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله:
وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا غُنْدَرٌ، عن شعبة. ح، قال: وحدثنا محمد بن المُثَنَّى، وابن بشارٍ، قالا: حدثنا محمد بن جعفرٍ، قال: حدثنا شعبة، عن منصورٍ، عن رِبْعِيِّ بن حِرَاشٍ، عن أبي بكرة ، عن النبي قال: إذا المسلمان حَمَلَ أحدُهما على أخيه السلاحَ فهما في جُرُفِ جهنم، فإذا قتل أحدُهما صاحبَه دخلاها جميعًا [11].
الشرح:
هذا بمعنى الحديث السابق.
وقوله: فهما في جُرُف جهنم معناه: على طرفها، قريبًا من السقوط فيها، بالجيم وضم الراء: “جُرُف”، وأيضًا جاء في بعض النُّسخ: “جُرْف” بإسكان الراء، والأول أظهر: “جُرُف جهنم”، والمقصود: على طرفها، قريبًا من السقوط فيها.
وهو بمعنى الحديث السابق: إنه كان حريصًا على قتل صاحبه [12]، وفي الرواية الأخرى: إنه قد أراد قتل صاحبه [13].
القارئ: أحسن الله إليكم.
قال: وحدثنا محمد بن رافعٍ، قال: حدثنا عبدالرزاق، قال: حدثنا معمرٌ، عن هَمَّام بن مُنَبِّهٍ قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة، عن رسول الله . فَذَكَرَ أحاديثَ، منها: وقال رسول الله : لا تقوم الساعة حتى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عظيمتان، وتكون بينهما مَقْتَلَةٌ عظيمةٌ، ودعواهما واحدةٌ [14].
الشرح:
وهذا قد حصل، والمقصود بالفئتين العظيمتين في هذا الحديث على ما ذَكَر كثيرٌ من أهل العلم: مَن كان مع عليٍّ ومعاوية حينما تحاربوا بِصِفِّين، فكانت طائفتان عظيمتان، يعني: كان معهم عددٌ كثيرٌ من الصحابة.
قال: وتكون بينهما مَقْتَلَةٌ عظيمةٌ، وهذا هو الذي حصل بالفعل، فقد ذكر ابن الجوزي في “المنتظم”: أنه قُتِلَ بِصِفِّين سبعون ألفًا، فحصلتْ مقتلةٌ عظيمةٌ، وكثيرٌ منهم من خيار الصحابة، فهذه فتنةٌ عظيمةٌ حصلتْ.
قال: ودعواهما واحدةٌ، قيل: المعنى: دينهما واحدٌ وهو الإسلام.
وقيل: المعنى: أن كلًّا منهما يدَّعي أنه على الحقِّ، وهذا هو الأقرب؛ لأن كلًّا من الطائفتين -مَن كان مع عليٍّ ومَن كان مع معاوية- يدَّعي أنه على الحقِّ، ولكن دلَّ حديث: تقتل عمارًا الفئة الباغية [15] على أن عليًّا كان هو المُحقّ، وكان المُصيب؛ لأن أصحاب معاوية قتلوا عمارًا، وكان عمارٌ يتبعه الناس، كلما رأوه ذهب إلى مكانٍ تبعوه، حتى تبين فيما بعد أنه قد قتله أصحاب معاوية، فَعُلِمَ أن الحقَّ كان مع عليٍّ .
وفيه معجزةٌ ظاهرةٌ للنبي ؛ حيث أخبر بهذه المقتلة العظيمة التي تكون بعده، ووقعتْ كما أخبر.
وينبغي للمسلم ألا يخوض في شأن هاتين الطائفتين، وجميع حروب الصحابة، بل يُحْسِن الظنَّ بالصحابة ، وكما قال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: “تلك دماءٌ طَهَّرَ الله سيوفنا منها، فَلْنُطَهِّر ألسنتنا منها”، خاصةً أن معظمهم من الصحابة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: لا تَسُبُّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثلَ أُحُدٍ ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفه [16].
جاء رجلٌ إلى أحد السلف وقال: إني أُبْغِض معاوية؛ لأنه قاتل عليًّا بغير حقٍّ. فقال له: ربُّ معاوية ربٌّ رحيمٌ، وخَصْم معاوية خصمٌ كريمٌ، فما دخولك بينهما؟!
ولهذا ينبغي الكفُّ عن الحديث فيما شجر بين الصحابة، وأن يُحْسَن الظنُّ بهم، وأن يُعتقد أنهم مُجتهدون، مُتأولون، منهم المُصيب، ومنهم المُخطئ المُتأول، وهذا هو الواجب، ولا تجوز الإساءة لأحدٍ من الصحابة بسبب تلك الحروب أو غيرها؛ لأنهم مجتهدون، كلٌّ منهم يريد الحقَّ وقتال الباغي.
وكان الصحابة يريدون الاصطلاح فيما بينهم، لكن كان بعض الأتباع هم الذين أوقدوا نار الحروب، وتسبَّبوا في هذه الفتن، وهذه المقتلة العظيمة، لكن المهم هو معرفة موقف المسلم من هذه الحروب التي جرتْ بين الصحابة، وهو: الإمساك عما شجر بينهم، وإحسان الظنِّ بهم، واعتقاد أنهم مجتهدون، مُتأولون، وأن منهم المُصيب، ومنهم المُخطئ المغفور له -إن شاء الله-؛ لأنه مُتأولٌ في هذا.
القارئ: أحسن الله إليكم.
قال: حدثنا قتيبة بن سعيدٍ، قال: حدثنا يعقوب -يعني: ابن عبدالرحمن- عن سُهيلٍ، عن أبيه، عن أبي هريرة : أن رسول الله قال: لا تقوم الساعة حتى يكثُر الهَرْجُ، قالوا: وما الهَرْجُ يا رسول الله؟ قال: القتل، القتل [17].
الشرح:
وهذا من مُعجزات النبي ، حيث كَثُرَ القتل؛ أولًا بعد مقتل عثمان ، وأيضًا فيما تلاه من العصور حصلتْ مقاتل عظيمةٌ ومجازر، وحتى في وقتنا الحاضر كما ترون، وأيضًا ربما مع الفتن وأشراط الساعة يكون هناك كثرة القتل.
فما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام قد وقع كثيرٌ منه، وربما أيضًا يقع في مستقبل الزمان؛ لأننا في آخر الزمان، وفي آخر الدنيا، وقد ظهرتْ أشراطٌ كثيرةٌ من أشراط الساعة.
وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: بُعِثْتُ أنا والساعة كهاتين وأشار بإصبعيه السَّبابة والوسطى [18]، فما بالك بوقتنا الحاضر ونحن في القرن الخامس عشر الهجري؟
فنحن في آخر الدنيا، وفي آخر الزمان؛ ولذلك على طالب العلم أن يتفقه في مسائل الفتن وأشراط الساعة، وأن يعرف موقف المسلم منها؛ لأننا في زمنٍ قد انفتح فيه العالم بعضه على بعضٍ، وكثُرتْ فيه الفتن: فتن الشبهات، وفتن الشهوات.
باب: هلاك هذه الأُمة بعضهم ببعضٍ
القارئ: أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله:
باب: هلاك هذه الأُمَّة بعضهم ببعضٍ.
قال: حدثنا أبو الربيع العَتَكِيُّ، وقُتيبة بن سعيدٍ -كلاهما- عن حماد بن زيدٍ، واللفظ لقتيبة قال: حدثنا حمادٌ، عن أيوب، عن أبي قِلَابَةَ، عن أبي أسماء، عن ثوبان قال: قال رسول الله : إن الله زَوَى لي الأرض فرأيتُ مشارقها ومغاربها، وإن أُمَّتي سيبلغ مُلْكُها ما زُوِيَ لي منها، وأُعْطِيتُ الكنزين: الأحمر والأبيض، وإني سألتُ ربي لأُمَّتي ألَّا يُهْلِكَها بِسَنَةٍ بعامَّةٍ، وألَّا يُسَلِّطَ عليهم عدوًّا من سِوَى أنفسهم فَيَسْتَبِيحَ بيضَتهم، وإن ربي قال: يا محمد، إني إذا قضيتُ قضاءً فإنه لا يُرَدُّ، وإني أعطيتُك لأُمَّتك ألَّا أُهْلِكَهم بِسَنَةٍ بعامَّةٍ، وألَّا أُسَلِّطَ عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم يستبيح بيضَتهم، ولو اجتمع عليهم مَن بأقطارها -أو قال: مَن بين أقطارها- حتى يكون بعضُهم يُهْلِكُ بعضًا، ويَسْبِي بعضُهم بعضًا [19].
قال: وحدثني زُهَير بن حربٍ، وإسحاق بن إبراهيم، ومحمد بن المُثَنَّى، وابن بشارٍ، قال إسحاق: أخبرنا، وقال الآخَرون: حدثنا معاذ بن هشامٍ، قال: حدثني أبي، عن قتادة، عن أبي قِلَابَةَ، عن أبي أسماء الرَّحَبِيِّ، عن ثوبان : أن نبيَّ الله قال: إن الله تعالى زَوَى لي الأرض حتى رأيتُ مشارقها ومغاربها، وأعطاني الكنزين: الأحمر والأبيض، ثم ذكر نحو حديث أيوب، عن أبي قِلَابَةَ [20].
الشرح:
يقول عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث العظيم: إن الله زَوَى لي الأرض، ومعنى: زَوَى لي الأرض أي: جمع الأرض وطواها للنبي عليه الصلاة والسلام، وجعلها مجموعةً كهيئة كَفٍّ في مِرْآةٍ، حيث رأى النبي عليه الصلاة والسلام الأرض كلها، وهذا من عظيم قُدرة الله سبحانه.
قال: فرأيتُ مشارقها ومغاربها، وإن أُمَّتي سيبلغ مُلْكُها ما زُوِيَ لي منها، وهذا يدل على أن مُلْكَ هذه الأُمة يكون امتداده في جهتي الشرق والغرب، وليس في الجنوب والشمال، وهذا هو الذي وقع بالفعل، فالفتوحات الإسلامية اتَّجهتْ من جهة الشرق؛ من جهة الهند والسند حتى بلغوا قريبًا من الصين، ومن جهة الغرب حتى بلغوا بحر طَنْجَة الذي يُسمى الآن: البحر الأطلسي، وكان بعض الصحابة يقول: “والله لو أعلم خلف هذا البحر أناسًا لذهبتُ إليهم”، يعني: لأجل فتح تلك البلدان؛ لأنهم ما كانوا يعتقدون أن وراء البحر الأطلسي هناك أرضًا.
فاتَّسع مُلْك الدولة الإسلامية من جهة الشرق والغرب، ولم يتَّسع من جهة الشمال والجنوب، وإنما من جهة الشرق والغرب، وتحقق ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام؛ ولهذا قال: إن الله زَوَى لي الأرض فرأيتُ مشارقها ومغاربها، ولم يقل: “فرأيتُ شمالها وجنوبها”؛ لأن مُلْك هذه الأُمة اتَّسع من جهة الشرق، ومن جهة الغرب.
وسوف يعمُّ هذا الدِّين -دين الإسلام- الكرة الأرضية كلها، لكن بعد نزول المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، فإنه بعد نزول المسيح عيسى ابن مريم يحكم بالإسلام، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويعمُّ الإسلام الأرض كلها حتى لا يبقى بيتُ شجرٍ ولا حجرٍ ولا مَدَرٍ إلا أدخله الله تعالى هذا الدين بِعِزِّ عزيزٍ أو ذُلِّ ذليلٍ، وذلك بعد خروج أشراط الساعة الكبرى، والمسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام هو الذي يقتل المسيح الدجال.
قال: وأُعْطِيتُ الكنزين: الأحمر والأبيض، والمراد بالكنزين الأحمر والأبيض: الذهب والفضة، وعبَّر عن الذهب بالأحمر؛ لأن الغالب على كنز قيصر الذهب، وعبَّر عن كنز كسرى بالأبيض؛ لأن الغالب على كنز كسرى الفضة.
فمعنى قوله: وأُعْطِيتُ الكنزين: الأحمر والأبيض يعني: مُلْك كِسْرَى وقَيْصَر، وهذا هو الذي قد وقع بالفعل.
وكان كسرى وقيصر ملكوا بلاد فارس والعراق والشام ونحوها، وبعد ذلك أصبحت بلادًا إسلاميةً.
قال: وإني سألتُ ربي لأُمَّتي ألَّا يُهْلِكَها بِسَنَةٍ بعامَّةٍ أي: بقحطٍ وجدبٍ عامٍّ، وقد استجاب الله له، فيكون القحطُ في جهةٍ من جهات بلاد المسلمين، لكن لا يكون في جميع بلاد المسلمين، ولم يُعرف على مَرِّ التاريخ الإسلامي أن القحط عمَّ جميع بلاد المسلمين، بل يكون في نواحٍ دون نواحٍ، فقد استجاب الله دعوة نبيه هذه.
قال: وألَّا يُسَلِّطَ عليهم عدوًّا من سِوَى أنفسهم فَيَسْتَبِيحَ بيضَتهم يعني: جماعتهم أو مجتمعهم، وأيضًا استجاب الله تعالى له؛ ولذلك على مَرِّ التاريخ الإسلامي لم يَأْتِ عدوٌّ ويستبيح جميع بيضة المسلمين ويستأصل جميع المسلمين، إنما يكون في نواحٍ دون نواحٍ، مثل: التتر، لم يكونوا في جميع بلاد المسلمين، وإنما في أجزاء منها، وهكذا الصليبيون، وهكذا ما جرى للمسلمين في الأعصار السابقة، لكن لا تجد أن عدوًّا استأصل جميع المسلمين، فاستجاب الله أيضًا للنبي عليه الصلاة والسلام هذه الدعوة.
قال: قال: يا محمد، إني إذا قضيتُ قضاءً فإنه لا يُرَدُّ، القضاء ينقسم إلى قسمين:
- قضاءٌ مُبْرَمٌ.
- وقضاءٌ مُعَلَّقٌ.
أما القضاء المُبْرَم فهو القضاء الذي لا يَرُدُّه دعاءٌ ولا غيره، وهو الذي سبق في علم الله أنه لا بد من وقوعه، وهو المقصود في هذا الحديث، هذا يُسمى: قضاءً مُبْرَمًا.
وهناك قضاءٌ مُعَلَّقٌ يُرَدُّ بالدعاء، ويُردُّ بصِلة الرحم، وبالصدقة، ونحو ذلك، كما قال عليه الصلاة والسلام: مَن أحبَّ أن يُبْسَط له في رزقه، ويُنْسَأَ له في أثره؛ فَلْيَصِل رحمه [21]، وكذلك: الدعاء يَرُدُّ القضاء [22]، وكذلك الصدقة تدفع البلاء.
وهو المقصود في قول الله : يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39]، فالمحو والإثبات إنما يدخلان في القضاء المُعلَّق.
ومعنى المحو والإثبات، يعني: المحو والإثبات في الصحف التي بأيدي الملائكة، ولكن الذي في اللوح المحفوظ هو ما يستقر عليه هذا القضاء؛ ولذلك قال سبحانه: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ.
أُمُّ الْكِتَابِ هو اللوح المحفوظ، فالذي في اللوح المحفوظ لا يدخله المحو ولا الإثبات، إنما يدخل المحو والإثبات الصحف التي بأيدي الملائكة.
وبهذا يرتفع الإشكال الذي قد يُورد على هذا الحديث، وقد ذكره بعضُ أهل العلم، يقولون: كيف يقول الله : إني إذا قضيتُ قضاءً فإنه لا يُرَدُّ، وما ورد في الأحاديث من أن الدعاء يرد القضاء، وأن صِلة الرحم تُطيل العمر، وتكون سببًا لبسط الرزق، وأن الصدقة تدفع البلاء، ونحو ذلك؟
فبهذا التفصيل يرتفع هذا الإشكال، فنقول: إن المقصود بالقضاء الذي لا يُردُّ هو القضاء المُبرم، وأما ما ورد من صِلة الرحم ومن الدعاء والصدقة ونحو ذلك، فهذا القضاء المُعلق.
قال: وإني أعطيتُك لأُمَّتك ألَّا أُهْلِكَهم بِسَنَةٍ بعامَّةٍ يعني: بقحطٍ عامٍّ كما ذكرنا.
وألَّا أُسَلِّطَ عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم يستبيح بيضَتهم، ولو اجتمع عليهم مَن بأقطارها، أو قال: من بين أقطارها، وهذه أيضًا استجابها الله تعالى له.
حتى يكون بعضُهم يُهْلِكُ بعضًا، ويَسْبِي بعضُهم بعضًا، هذه -كما سيأتي في الروايات التي بعد هذا- مُنِعَها النبي ، وهي: سأل النبي عليه الصلاة والسلام، سأل الله ألا يجعل بأس أُمته بينهم، فهذه مُنِعَها النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: إني إذا قضيتُ قضاءً فإنه لا يُرَدُّ.
إذن النبي عليه الصلاة والسلام سأل اللهَ ثلاثًا، قال: فأعطاني ثِنْتَين ومنعني واحدةً [23]، أعطاه ألا يُهلكها بجدبٍ، بقحطٍ عامٍّ، وألا يُسلط عليها عدوًّا يستبيح بيضتها، لكن منعه الثالثة، وهي: أن يجعل بأسهم بينهم، وأن يقتل بعضهم بعضًا، ويسبي بعضهم بعضًا.
وفي هذا الحديث معجزةٌ للنبي ؛ حيث أخبر بذلك، وكان الواقع كما أخبر، فلم يُعرف على مَرِّ التاريخ الإسلامي أن قحطًا عامًّا عمَّ جميع المسلمين، وإنما كان في نواحٍ دون نواحٍ، ولم يُعرف أيضًا أن عدوًّا استأصل جميع بيضة المسلمين، إنما يكون في أطرافٍ وفي نواحٍ دون نواحٍ، لكن الواقع أنه من بعد مقتل عثمان إلى وقتنا هذا: أن بأس الناس بينهم؛ يعني: الاختلاف والتنازع بين المسلمين حاصلٌ من بعد مقتل عثمان إلى الآن، وما زالت آثار الفتن التي حصلتْ بعد مقتل عثمان قائمةً إلى وقتنا هذا، فبعض الطوائف والفرق نشأتْ بسبب تلك الفتن والحروب التي حصلتْ، فهذا فيه بيانٌ لمعجزة النبي عليه الصلاة والسلام.
وأيضًا من فوائد هذا الحديث: عظمة النبي عليه الصلاة والسلام، وعظيم منزلته عند ربه، حيث استجاب الله تعالى له بألا يُهْلِك هذه الأُمة بقحطٍ، وألا يُسلِّط عليها عدوًّا يستبيح بيضتها.
والغالب في دعوات الأنبياء أنها مُستجابةٌ، لكن قد لا تُستجاب -كما في الدعوة الثالثة هنا- لحكمةٍ، وإلا فالغالب على دعوات الأنبياء أنها مُستجابةٌ.
القارئ: أحسن الله إليكم.
قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا عبدالله بن نُمَيْرٍ. ح، قال: وحدثنا ابن نُمَيْرٍ -واللفظ له- قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا عثمان بن حكيمٍ، قال: أخبرني عامر بن سعدٍ، عن أبيه: أن رسول الله أقبل ذات يومٍ من العالية حتى إذا مَرَّ بمسجد بني معاوية دخل فَرَكَعَ فيه ركعتين، وصَلَّيْنا معه، ودعا ربَّه طويلًا، ثم انصرف إلينا، فقال : سألتُ ربي ثلاثًا، فأعطاني ثِنْتَيْن ومَنَعَني واحدةً؛ سألتُ ربي ألَّا يُهْلِكَ أُمَّتي بالسَّنَةِ فأَعْطَانِيهَا، وسألتُه ألَّا يُهْلِكَ أُمَّتي بالغَرَق فَأَعْطَانِيها، وسألتُه ألَّا يجعل بأسهم بينهم فَمَنَعَنِيها [24].
قال: وحدثناه ابن أبي عمر، قال: حدثنا مروان بن معاوية، قال: حدثنا عثمان بن حكيمٍ الأنصاريُّ، قال: أخبرني عامر بن سعدٍ، عن أبيه: أنه أقبل مع رسول الله في طائفةٍ من أصحابه، فَمَرَّ بمسجد بني معاوية، بمثل حديث ابن نُمَيْرٍ [25].
الشرح:
هذا الحديث بمعنى الحديث السابق، لكن فيه زيادةُ توضيحٍ، وأن هذا الدعاء حصل لمَّا أقبل النبيُّ عليه الصلاة والسلام يومًا من جهة العالية، ومَرَّ بمسجد بني معاوية، فدخل وصلَّى فيه ركعتين، ودعا ربه طويلًا، ثم أخبر الصحابة بما دعا به، وأنه دعا بهذه الدعوات الثلاث، وأن الله استجاب له في ألَّا يُهلك الأُمة بسَنَةٍ عامةٍ، يعني: بقحطٍ عامٍّ، قال: فأَعْطَانِيهَا، وسألتُه ألَّا يُهْلِكَ أُمَّتي بالغَرَق، لكن في الرواية السابقة: ألَّا يُسَلِّطَ عليهم عدوًّا من سِوَى أنفسهم فَيَسْتَبِيحَ بيضَتهم، فهذا من اختلاف الروايات، فهل يُحْمَل هذا على تعدُّد القصة أو يُرجح؟
في هذا مسلكان لأهل العلم، والأقرب هو التَّرجيح، وأن أكثر الروايات على الرواية الأولى: ألَّا يُسَلِّطَ عليهم عدوًّا من سِوَى أنفسهم فَيَسْتَبِيحَ بيضَتهم؛ ولأن الغرق بمعنى: القحط ونحوه، فتكون بمعنى الدعوة الأولى.
وأما الثالثة: قال: سألتُه ألَّا يجعل بأسهم بينهم فَمَنَعَنِيها، فهذه الدعوات الثلاث استُجيب منها اثنتان، وأما الثالثة فمنعها الرب لحكمته البالغة.
وسبحان الله! تحقق الأمر كما أخبر عليه الصلاة والسلام، كما أخبر تمامًا، وهذا فيه معجزةٌ للنبي عليه الصلاة والسلام؛ حيث أخبر بهذا الأمر وتحقق الأمر كما أخبر.
باب: إخبار النبي فيما يكون إلى قيام الساعة
القارئ: أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله:
باب: إخبار النبي فيما يكون إلى قيام الساعة.
قال: حدثني حَرْمَلَة بن يحيى التُّجِيبِيُّ، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهابٍ: أن أبا إدريس الخَوْلَانِيَّ كان يقول: قال حذيفة بن اليمان : والله إني لَأَعْلَم الناسِ بكل فتنةٍ هي كائنةٌ فيما بيني وبين الساعة، وما بي إلَّا أن يكون رسول الله أَسَرَّ إليَّ في ذلك شيئًا لم يُحَدِّثْه غيري، ولكن رسول الله قال وهو يُحَدِّث مجلسًا أنا فيه عن الفتن، فقال رسول الله وهو يَعُدُّ الفتن: منهنَّ ثلاثٌ لا يَكَدْنَ يَذَرْنَ شيئًا، ومنهنَّ فتنٌ كرياح الصيف، منها صغارٌ، ومنها كبارٌ.
قال حذيفة: فذهب أولئك الرَّهْطُ كلهم غيري [26].
الشرح:
حذيفة بن اليمان صحابيٌّ جليلٌ، وهو صاحب سِرِّ رسول الله ؛ فقد أَسَرَّ إليه بأسماء المنافقين، وأيضًا حذيفة اهتمَّ بحفظ الأحاديث الواردة في الفتن وأشراط الساعة، وكان يقول: “كان الناس يسألون رسول الله عن الخير، وكنتُ أسأله عن الشر مخافة أن يُدركني” [27]، فكان اهتمامه بحفظ هذه الأحاديث؛ ولهذا أَسَرَّ له النبي بأمورٍ لم يُسِرها لغيره.
وبعض الصحابة تجد لهم اهتماماتٍ بأحاديث معينةٍ، مثلًا: حذيفة قلنا: الفتن وأشراط الساعة.
عدي بن حاتم أحاديث الصيد؛ لأنه كان يُحب الصيد ويصيد، فتجد أنه روى عدة أحاديث في الصيد.
جابر بن عبدالله رضي الله عنهما اهتمَّ بضبط حجة النبي عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك عند اختلاف الروايات في الحج كثيرٌ من المُحققين يُرجح رواية جابرٍ؛ لأن جابرًا اعتنى بضبط حجة النبي عليه الصلاة والسلام.
فتجد أن بعض الصحابة لهم اهتماماتٌ برواياتٍ معينةٍ، فحذيفة كان مُهتمًّا بحفظ الأحاديث في الفتن وأشراط الساعة.
قال: “إني لَأَعْلَم الناسِ بكل فتنةٍ هي كائنةٌ فيما بيني وبين الساعة”، وصدق ، كان أعلم الصحابة بالفتن.
“وما بي إلَّا أن يكون رسول الله أَسَرَّ إليَّ في ذلك شيئًا لم يُحَدِّثْه غيري” يقول: السبب أن النبي عليه الصلاة والسلام خَصَّني وأَسَرَّ لي بذلك.
قال: “ولكن رسول الله قال وهو يُحَدِّث مجلسًا أنا فيه عن الفتن، فقال رسول الله وهو يَعُدُّ الفتن: منهنَّ ثلاثٌ لا يَكَدْنَ يَذَرْنَ شيئًا” يعني: ثلاث فتنٍ لا يَكَدْنَ يَذَرْنَ شيئًا مما على الأرض إلا أهلكنه.
ما هذه الفتن الثلاث التي لا تكاد تَذَر شيئًا إلا أهلكته؟ وهل وقعتْ أو ستقع؟
الله أعلم؛ ولهذا كثيرٌ من الشُّراح يقول: “إنه لا يُعرف عينها”، ولكن لو كانت وقعتْ كما ورد في الحديث: لا يَكَدْنَ يَذَرْنَ شيئًا لنُقِلَتْ، الله أعلم، إلا أن تكون فتنة التتر -مثلًا-؛ لأن فتنة التتر كانت فتنةً عظيمةً، حتى إن ابن الأثير قال: “يا ليت أمي لم تلدني وأرى ما رأيتُ” من أهوال ما فعل التتر.
وقال: “لا أظن أنه ما بين خلق آدم إلى الآن فتنة أشدّ من فتنة التتر”، وذكر كلامًا طويلًا عنها؛ لأنهم قتلوا خلقًا عظيمًا.
فالله تعالى أعلم، لا نستطيع أن نُحدد هذه الفتن الثلاث المذكورة في هذا الحديث، وهل وقعتْ بالفعل، أو وقع بعضها، أو ستقع في مستقبل الزمان؟ الله أعلم؛ ولهذا كثيرٌ من الشُّراح توقَّف فيها وقال: هذه الفتن الثلاث لا يُعرف عينها.
قال: ومنهنَّ فتنٌ كرياح الصيف، يقولون: رياح الصيف، الرياح التي تأتي في الصيف في الغالب تكون مُؤذيةً ومُزعجةً، تحمل معها الحصى والتراب، وتكون مُزعجةً، فهذه الفتن كرياح الصيف في أذيتها.
منها صغارٌ، ومنها كبارٌ، والله تعالى أعلم أيضًا بتحديد هذه الفتن، وما الذي وقع منها، وما الذي لم يقع.
قال حذيفة : “فذهب أولئك الرَّهْطُ كلهم غيري” يعني: ذهب الجماعة من الصحابة الذين سمعوا هذا الحديث، ولم يَبْقَ إلا أنا، هذا معنى قوله: “فذهب أولئك الرَّهْطُ كلهم غيري”.
القارئ: أحسن الله إليكم.
قال: وحدثنا عثمان بن أبي شيبة، وإسحاق بن إبراهيم، قال عثمان: حدثنا، وقال إسحاق: أخبرنا جريرٌ، عن الأعمش، عن شقيقٍ، عن حذيفة قال: قام فينا رسول الله مقامًا ما ترك شيئًا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدَّث به، حفظه مَن حفظه، ونسيه مَن نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء، وإنه لَيَكُون منه الشيء قد نسيتُه فأراه فأذكره، كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه [28].
قال: وحدثناه أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيعٌ، عن سفيان، عن الأعمش، بهذا الإسناد إلى قوله: ونسيه مَن نسيه. ولم يذكر ما بعده [29].
قال: وحدثنا محمد بن بشارٍ، قال: حدثنا محمد بن جعفرٍ، قال: حدثنا شعبة. ح، قال: وحدثني أبو بكر بن نافعٍ، قال: حدثنا غُنْدَرٌ، قال: حدثنا شعبة، عن عدي بن ثابتٍ، عن عبدالله بن يزيد، عن حذيفة أنه قال: أخبرني رسول الله بما هو كائنٌ إلى أن تقوم الساعة، فما منه شيءٌ إلا قد سألتُه، إلَّا أني لم أسأله: ما يُخْرِج أهلَ المدينة من المدينة [30]؟
قال: حدثنا محمد بن المُثَنَّى، قال: حدثني وهب بن جريرٍ، قال: أخبرنا شعبة. بهذا الإسناد نحوه [31].
قال: وحدثني يعقوب بن إبراهيم الدَّوْرَقِيُّ، وحجاج بن الشاعر -جميعًا- عن أبي عاصمٍ، قال حجاجٌ: حدثنا أبو عاصمٍ، قال: أخبرنا عَزْرَة بن ثابتٍ، قال: أخبرنا عِلْبَاء بن أَحْمَرَ، قال: حدثني أبو زيدٍ -يعني: عمرو بن أخطب- قال: صلَّى بنا رسول الله الفجر، وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل فصلَّى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلَّى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما كان وبما هو كائنٌ، فأَعْلَمُنا أَحْفَظُنا [32].
الشرح:
هذه الأحاديث فيها: أن النبي قام وخطب الناس خطبةً طويلةً، وجاء في حديث عمرو بن أخطب: أنه من بعد صلاة الفجر إلى غروب الشمس، يعني: يومًا كاملًا، وإنما كان يتوقف فقط أوقات الصلوات.
وجاء في حديث أبي سعيدٍ : أنه من بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس [33]، لكن في حديث عمرو بن أخطب زيادةٌ.
وهذا يدل على أنها خطبةٌ طويلةٌ، أخبر فيها النبي عليه الصلاة والسلام بما هو كائنٌ إلى قيام الساعة؛ ولهذا قال حذيفة: “قام فينا رسول الله مقامًا ما ترك شيئًا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدَّث به، حفظه مَن حفظه، ونسيه مَن نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء”.
والمراد أنه حدَّث بعموم ما سيكون، وإلا فالتفاصيل لا يمكن .. لكن حدَّث بعموم ما سيكون وما سيقع.
قال حذيفة: “وإنه لَيَكُون منه الشيء قد نسيتُه فأراه فأذكره، كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه”، يعني: إذا غاب عنك إنسانٌ ثم رأيتَه ولم تعرفه، ثم عرَّف بنفسه، أو عرفته بعد ذلك، يقول: هكذا أيضًا تقع أمورٌ وفتنٌ أكون قد نسيتُها، ثم بعد ذلك أتذكر أن النبي أخبر بها فأعرفها.
وفي الحديث الآخر قال: “أخبرني رسول الله بما هو كائنٌ إلى أن تقوم الساعة، فما منه شيءٌ إلا قد سألتُه” يعني: هذا يدل على أن هناك إخبارًا خاصًّا لحذيفة بما سيكون إلى قيام الساعة.
“إلَّا أني لم أسأله: ما يُخْرِج أهلَ المدينة من المدينة؟” فإن النبي عليه الصلاة والسلام ذكر أن من أشراط الساعة: أن أهل المدينة يخرجون منها، كما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلمٌ عن أبي هريرة : أن النبي قال: يتركون المدينة على خير ما كانت، لا يغشاها إلا العوافي، يريد عوافي السباع والطير.
يعني: يخرج أهل المدينة من المدينة، ما يبقى فيها إلا السباع والطير فقط، تُصبح خاليةً، ما فيها أحدٌ.
ثم يخرج راعيان من مُزَينة يريدان المدينة، فيجدانها وَحْشًا، حتى إذا بلغا ثنية الوداع خَرَّا على وجوههما [34]، يعني: لقيام الساعة.
وهذا يدل على أن خُلُوَّ المدينة يكون قُبيل قيام الساعة، فقُبيل قيام الساعة يخرج أهل المدينة من المدينة، وما يبقى فيها أحدٌ إلا السباع والطير.
يقول حذيفة : نسيتُ أن أسأل النبي عليه الصلاة والسلام: ما السبب؟ لماذا؟
الله أعلم، يحتمل -مثلًا- أن يكون هناك وباءٌ حصل، أو يحصل، أو غير ذلك، الله أعلم.
لكن قوله عليه الصلاة والسلام: يتركون المدينة على خير ما كانت، قوله: على خير ما كانت ربما أيضًا يدفع هذا، فالله تعالى أعلم بالسبب الذي يجعل أهل المدينة يخرجون منها، فلا يبقى فيها إنسانٌ، ولا يبقى فيها إلا الطير والسباع.
فكان حذيفة يتمنى أنه سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن السبب.
وفي حديث عمرو بن أخطب قال: “صلَّى بنا رسول الله الفجر، وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر” يعني: خطبةً طويلةً من بعد صلاة الفجر إلى الظهر.
“فنزل فصلَّى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلَّى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس”.
وهذا يدل على أنه لا بأس بتطويل الخطبة إذا اقتضى الأمر ذلك، أو اقتضت المصلحة ذلك، وإلا فهذه الخطبة خطبةٌ عظيمةٌ من النبي .
قال: “فأخبرنا بما كان وبما هو كائنٌ، فأَعْلَمُنا أَحْفَظُنا” يعني: أخبر الصحابة وأخبر أُمته بما أوحى الله إليه مما سيكون في المستقبل إلى قيام الساعة.
بابٌ في الفتنة التي تَمُوج كَمَوج البحر
القارئ: أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله:
بابٌ في الفتنة التي تَمُوج كَمَوْجِ البحر.
قال: حدثنا محمد بن عبدالله بن نُمَيْرٍ، ومحمد بن العلاء أبو كُرَيْبٍ -جميعًا- عن أبي معاوية، قال ابن العلاء: حدثنا أبو معاوية، قال: حدثنا الأعمش، عن شقيقٍ، عن حذيفة قال: كنَّا عند عمر فقال: أيُّكم يحفظ حديث رسول الله في الفتنة كما قال؟ قال: فقلتُ: أنا. قال: إنك لَجَرِيءٌ، وكيف قال؟ قال: قلتُ: سمعتُ رسول الله يقول: فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره يُكَفِّرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، فقال عمر: ليس هذا أريد، إنما أريد التي تموج كَمَوْجِ البحر. قال: فقلتُ: ما لك ولها يا أمير المؤمنين؟ إنَّ بينك وبينها بابًا مُغلقًا. قال: أَفَيُكْسَرُ الباب أم يُفتح؟ قال: قلتُ: لا، بل يُكْسَر. قال: ذلك أَحْرَى ألَّا يُغلق أبدًا. قال: فقلنا لحذيفة: هل كان عمر يعلم مَن الباب؟ قال: نعم، كما يعلم أنَّ دون غَدٍ الليلة، إنِّي حدَّثْتُه حديثًا ليس بالأَغَالِيط. قال: فَهِبْنَا أن نسأل حذيفة: مَن الباب؟ فقلنا لمسروقٍ: سَلْهُ. فسأله، فقال: عمر [35].
قال: وحدثناه أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو سعيدٍ الأَشَجُّ، قالا: حدثنا وكيعٌ. ح، قال: وحدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا جريرٌ. ح، قال: وحدثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أخبرنا عيسى بن يونس. ح، قال: وحدثنا ابن أبي عمر، قال: حدثنا يحيى بن عيسى -كلهم- عن الأعمش بهذا الإسناد نحو حديث أبي معاوية، وفي حديث عيسى، عن الأعمش، عن شقيقٍ قال: سمعتُ حذيفة يقول [36].
قال: وحدثنا ابن أبي عمر، قال: حدثنا سفيان، عن جامع بن أبي راشدٍ، والأعمش، عن أبي وائلٍ، عن حذيفة قال: قال عمر: مَن يُحَدِّثُنا عن الفتنة؟ واقْتَصَّ الحديثَ بنحو حديثهم [37].
الشرح:
هذا الحديث رواه حذيفة ، والذي -كما ذكرنا- كان مُهتمًّا بأحاديث الفتن.
قال حذيفة : “كنَّا عند عمر ” ابن الخطاب “فقال” عمر “أيُّكم يحفظ حديث رسول الله في الفتنة كما قال؟ قال: فقلتُ: أنا. قال: إنك لَجَرِيءٌ” يعني: تحفظه كما قال، إنك لجريءٌ.
وحذيفة يَحِقُّ له أن يقول: أنا؛ لأنه كان أعلم الصحابة بأحاديث الفتن، وأَسَرَّ له النبي بأحاديث لم يُسرها لغيره.
قال: “وكيف قال؟ قال: قلتُ: سمعتُ رسول الله يقول: فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره يُكَفِّرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر“.
المقصود بفتنة الرجل في أهله وماله وولده: ما يَعْرِض للإنسان من الالتهاء بهم، أو فِعْل ما لا يحلّ لأجلهم، أو ترك ما يجب لأجلهم.
يعني: من فَرْط محبَّته للمال أو الولد يقع في مُخالفاتٍ شرعيةٍ من التقصير في حقوقهم، أو فِعْل ما لا يجوز، كما قال الله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [الأنفال:28]، ومن ذلك أيضًا: التَّفريط فيما يلزم من القيام بحقوقهم.
وكذلك أيضًا فتنة الرجل في نفسه؛ فقد يُفتن الإنسان في نفسه: إما فتنة شبهات، أو فتنة شهوات، لكن تكون فتنةً ليست كبيرةً؛ ولذلك تُكَفِّرها الصلاة والصيام والصدقة.
وجاره قد يُفتن الإنسان في جاره بأن يرتكب أمرًا مُحرمًا بسبب الجار، أو يترك أمرًا واجبًا بسبب الجار، فبعض الناس -مثلًا- يشهد شهادة زورٍ مُجاملةً لجاره، فهذا نوعٌ من الفتنة بالجار، أو أنه يُجامل جاره -مثلًا- إذا تكلم في غيبةٍ أو نحو ذلك، فهذه من الفتنة بالجار.
فذكر النبي عليه الصلاة والسلام أنواعًا من الفتن: فتنة الرجل في نفسه، وفي أهله، وفي ماله، وفي جاره.
قال: يُكَفِّرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، هذه تُكَفِّر ما قد يقع من هذه الفتن ما لم تصل لحد الكبيرة؛ فإن الكبيرة لا بد لها من التوبة، أما الصغائر فتُكفِّرها الصلوات الخمس، وصيام رمضان، وأيضًا الصدقة، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، كما قال عليه الصلاة والسلام: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مُكفِّراتٌ ما بينهن إذا اجتنب الكبائر [38].
إذن هذه الفتن التي لا تبلغ حدَّ الكبيرة تُكفِّرها الصلاة، والصيام، والصدقة، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر.
قال عمر : “ليس هذا أريد، إنما أريد التي تموج كَمَوْجِ البحر”، فقال حذيفة : “ما لك ولها يا أمير المؤمنين؟ إنَّ بينك وبينها بابًا مُغلقًا”، وعنى بالباب عمر نفسه، فكان عمر بابًا أغلق اللهُ به أبواب الفتن، فكان هناك استقرارٌ للمسلمين في عهد عمر ، وقاد الناسَ وسار بهم سيرًا حسنًا كما قال عليٌّ ، يقول: في عهد عمر نرى كل يومٍ الزيادة في أمور الدين والدنيا.
فقال: “إنَّ بينك وبينها بابًا مُغلقًا” ويقصد بذلك الباب: عمر .
قال: “أَفَيُكْسَرُ الباب أم يُفتح؟ قال: قلتُ: لا، بل يُكْسَر” وهذا فيه إشارةٌ إلى قتل عمر ؛ لأن كسر الباب معناه: قتل عمر .
قال: “ذلك أَحْرَى ألَّا يُغلق أبدًا” يعني: إذا كُسِرَ الباب يصعب إصلاحه، وفيه إشارةٌ إلى أن الفتنة ستستمر وتطول، وهذا هو الذي وقع، لكن لو قال: “يُفتح الباب” لكان هذا أيسر؛ لأنه إذا فُتِحَ الباب يُغْلَق، لكن قوله: “يُكْسَر” الباب فيه إشارةٌ إلى أن هذه الفتنة سيطول أمدها.
“فقلنا لحذيفة: هل كان عمر يعلم مَن الباب؟” يعني: المقصود في هذا الحديث، “قال: نعم، كما يعلم أنَّ دون غَدٍ الليلة” أي: كما يعلم أن ليلةَ غدٍ أقربُ إلى اليوم من غدٍ، يعني: أنه يعلم ذلك علمًا يقينيًّا.
وعمر من أعظم الناس فراسةً، ومن أعظمهم أيضًا علمًا بشريعة الله، فإن أفضل الصحابة وأعلم الصحابة: أبو بكر، ثم عمر رضي الله عنهما.
“إنِّي حدَّثْتُه حديثًا ليس بالأَغَالِيط” أي: حدَّثتُه حديثًا صِدْقًا، حَقًّا، لا اجتهاد فيه ولا رأي، إنما أخبرتُ به عن النبي .
قال: “فَهِبْنَا أن نسأل حذيفة: مَن الباب؟” المقصود في الحديث، “فقلنا لمسروقٍ: سَلْهُ. فسأله، فقال: عمر” يعني: أن الباب هو عمر ، وهذا هو الذي حصل؛ فبعد مقتل عمر حصلت الفتنة، إلا أنه قد يُستثنى من ذلك الثماني السنوات في خلافة عثمان ، فإنها أيضًا حصل فيها استقرارٌ عظيمٌ، وحصل فيها رخاء ورغدٌ، ولكن بعد مُضي ثماني سنوات بدأت الفتن، وكان أساسها ابن سبأ الذي كان يذهب ويُحَرِّض الناس على الخليفة عثمان، وكان إذا أتى إلى بلدٍ فيه علماء طُرِدَ ولم يُسْمَع له، فذهب للبلدان التي ليس فيها علماء؛ فسمع له العوام، وحصل ما حصل من هذه الفتن العظيمة.
هذا يدل على أهمية وجود العلماء في البلد، وأنهم -بإذن الله تعالى- يكونون مَأْمَنًا للناس من الوقوع في الفتن، بإذن الله.
القارئ: أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله:
وحدثنا محمد بن المُثَنَّى، ومحمد بن حاتمٍ، قالا: حدثنا معاذ بن معاذٍ، قال: حدثنا ابنُ عَوْنٍ، عن محمدٍ قال: قال جُنْدُبٌ : جئتُ يوم الجَرَعَة، فإذا رجلٌ جالسٌ، فقلتُ: لَيُهْرَاقَنَّ اليوم هاهنا دماء. فقال ذاك الرجل: كلا والله. فقلتُ: بلى والله. قال: كلا والله. قلتُ: بلى والله. قال: كلا والله، إنَّه لحديث رسول الله حدَّثنيه. قلتُ: بئس الجليس لي أنت منذ اليوم، تسمعني أُخالفُكَ وقد سمعتَه من رسول الله فلا تَنْهَانِي! ثم قلتُ: ما هذا الغضب؟ فأقبلتُ عليه وأسأله، فإذا الرجل حذيفة [39].
الشرح:
قال جُندبٌ: “جئتُ يوم الجَرَعَة”، الجَرَعَة: بفتح الجيم والراء على المشهور، موضعٌ بقُرب الكوفة على طريق الحيرة، ويوم الجَرَعَة: يومٌ خرج فيه أهل الكوفة يتلقون واليًا ولَّاه عليهم عثمان ، لكن كان عندهم بأسٌ شديدٌ، فرفضوا هذا الوالي، قالوا: ما نريده. فخشي حذيفة .
قال جُندبٌ: “فإذا رجلٌ جالسٌ” يريد حذيفة، “فقلتُ: لَيُهْرَاقَنَّ اليوم هاهنا دماء. فقال ذاك الرجل: كلا والله. فقلتُ: بلى والله. قال: كلا والله. قلتُ: بلى والله. قال: كلا والله، إنَّه لحديث رسول الله حدَّثنيه. قلتُ: بئس الجليس لي أنت منذ اليوم، تسمعني أُخالفُكَ وقد سمعتَه من رسول الله فلا تَنْهَانِي!” يعني: هذا الرجل لمَّا قال جُندبٌ: “لَيُهْرَاقَنَّ اليوم هاهنا دماء”، فقال هذا الرجل -يعني: حذيفة-: “كلا”؛ لأن حذيفة كان يحفظ أحاديث الفتن وأشراط الساعة، فحصل بينه وبين جندب هذه المُجادلة، ولم يكن يعلم أنه حذيفة، ثم لما علم أنه حذيفة عاتبه فقال: كيف ما أخبرتني أنك سمعتَ ذلك من النبي عليه الصلاة والسلام؟!
قال: “بئس الجليس لي أنت منذ اليوم، تسمعني أُخالفُكَ” يعني: ولا تُخبرني أنك سمعتَ ذلك من النبي عليه الصلاة والسلام، ولا تَنْهَاني، ولا تُنْكِر عليَّ؟!
وهذا يدل على تعظيم السلف لكلام النبي عليه الصلاة والسلام.
“ثم قلتُ: ما هذا الغضب؟ فأقبلتُ عليه وأسأله، فإذا الرجل حذيفة”، لكن عثمان عالج الموقف؛ لمَّا رأى أهل الكوفة لا يريدون هذا الوالي استبدله، قال: مَن تريدون؟ قالوا: نريد أبا موسى الأشعري. فولَّى عليهم أبا موسى الأشعري، وعالج الموقف، ولم تقع فتنةٌ.
فهذا هو المقصود بيوم الجَرَعَة، وهذا من حكمة عثمان ؛ يعني: قال: نبدل هذا الوالي بِوَالٍ آخر وتزول الفتنة. وهذا هو الذي حصل، وحذيفة أَصَرَّ على هذا أنه هو الذي سيكون؛ لأنه حَفِظ أحاديث الفتن وأشراط الساعة.
ونكتفي بهذا القدر، ونقف عند حديث أبي هريرة : لا تقوم الساعة حتى يَحْسِر الفرات عن جبلٍ من ذهبٍ [40].
الأسئلة
نُجيب -إن شاء الله- عن الأسئلة والاستفسارات بين الأذان والإقامة.
السؤال: هذا سائلٌ يقول: كنتُ في الطائرة، وحضر وقت صلاة الفجر، وخشيتُ خروج الوقت، ولم أستطع أن أتوضأ؛ لعدم وجود ماءٍ في الطائرة، وتَيَمَّمتُ بضرب اليدين، وصلَّيتُ، فهل فِعْلي صحيحٌ؟
الجواب: نعم، فعلك صحيحٌ؛ لأنك اتَّقيتَ الله ما استطعتَ، والواجب هو أن تتوضأ بالماء، فإذا لم يكن الماء موجودًا تتيمم، لكن لا تترك الصلاة حتى يخرج وقتها: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، فهذا الذي فعلتَ صحيحٌ.
ولذلك نقول لمَن يكون في الطائرة ويخشى خروج الوقت، والصلاة مما لا تُجْمَع مع غيرها -كصلاة الفجر- ويخشى أن تطلع عليه الشمس والطائرة لم تهبط بعدُ: يجب عليك أن تُصلي وأنت في الطائرة على حسب حالك: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، ولو أن تُصلي وأنت في مقعد الطائرة وتُومئ بالركوع والسجود.
ومع الأسف! تجد أحيانًا الطائرة فيها عددٌ كبيرٌ من الركاب، ويَحِين وقت الصلاة، وهم يعلمون أن الطائرة لن تهبط إلا بعد خروج الوقت، ولا يُصلي منهم إلا القليل، وربما أن بعضهم يعتقد أنه يجوز تأخير الصلاة حتى تهبط الطائرة، وهذا غير صحيحٍ، فلا يجوز تأخير الصلاة حتى يخرج وقتها إلا أن تكون مما يُجْمَع مع غيرها: كالظهر مع العصر، فتُؤخّر الظهر -مثلًا- مع العصر، لا بأس، أو المغرب مع العشاء، لكن الفجر لا تُجْمَع مع غيرها؛ فيجب أن تُصلَّى في وقتها، وكذلك -مثلًا- العصر، إذا لم يُصَلِّ العصر، وخشي غروب الشمس؛ فيُصلي على حسب حاله.
السؤال: ما صحة حديث: اقضوا حوائجكم بالكتمان [41]؟
الجواب: الحديث ضعيفٌ من جهة الإسناد، ولا يصحّ عن النبي ، لكن معناه في الجملة صحيحٌ، من حيث المعنى: أن الإنسان ينبغي أن يقضي حوائجه بالكتمان، لكن تكتُّمٌ غير مُبالغٍ فيه إلا إذا كان في الإظهار مصلحةٌ.
السؤال: ورد أن النبي لمَّا علمتْ إحدى زوجاته بطلاقه لها لكِبَر سِنِّها وَهَبَتْ ليلتها لعائشة رضي الله عنها، فهل هذا يدل على جواز طلاق الكبيرة؟
الجواب: إذا كانت إحدى زوجاته كبيرةً فيجب عليه العدل مع بقية الزوجات في المبيت، ولو كانت كبيرةً، لكن إذا كان لا يريد ذلك فَيُخَيِّرها: إما أن تتنازل عن حقِّها وتبقى في عصمته، أو إذا تمسَّكتْ بحقِّها يُطلقها، كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام مع سودة رضي الله عنها [42].
أما أنه لا يقوم بحقِّها فهذا لا يجوز، لا بد من العدل بين الزوجات حتى لو كانت كبيرةً في السنِّ، لكن إذا تمسَّكتْ بحقِّها: فإما أن يقوم بحقِّها، أو يُطلقها، أو تتنازل عن حقِّها وتبقى في عصمته كما فعلتْ سودة رضي الله عنها.
وهذا معنى قول الله : وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء:128] يعني: تتنازل هي عن بعض حقوقها، وتبقى في عصمته، هذا خيرٌ من الطلاق.
السؤال: ما السنة في تحديد الشارب؟
الجواب: السنة أن يُحَفَّ الشارب، يُحَفّ حفًّا، أو يُقَصّ، ولا يُحلق؛ لأن جميع الروايات الواردة إما بِحَفِّ الشارب أو بِقَصِّه، ولم ترد بحلق الشارب؛ ولذلك اختلف العلماء في كراهة حَلْق الشارب، فقال بعضهم بأنه مكروهٌ، وكان الإمام مالكٌ يُشدِّد في المسألة ويقول: وَدِدْتُ أن يُؤدَّب مَن يحلق شاربه.
وإن كان حَلْق الشارب -يعني- الذي يظهر أن المسألة ترجع إلى فاضلٍ ومفضولٍ: هل الأفضل حَلْقُه، أو الأفضل حَفُّه؟ لكن لا تصل إلى درجة المُخالفة، فقول الإمام مالكٍ محمولٌ على المُبالغة في هذه المسألة.
وتبقى المسألة: هل الأفضل حَلْق الشارب أم حَفّه وقَصُّه؟
الجواب: إن الأفضل حَفُّ الشارب وقَصُّه دون حلقه، يعني: تُبْقِي شيئًا من شعر الشارب، ولا تحلقه كله، هذا هو الأفضل، وهو الأقرب للسُّنة.
السؤال: ما نصيحتكم لمَن يتعلَّم فقه المذهب ويرى بعض الأقوال تتعارض مع أقوال علماء معاصرين هم من كبار العلماء، لكن خالفوا المذهب؟ هل الأخذ بأقوالهم أحيانًا وبقول المذهب أحيانًا يُعتبر من اتِّباع الرُّخَص؟
الجواب: لا يُعتبر من اتِّباعِ الرُّخَص، أو من تتبع الرُّخَص، لا يُعتبر من تتبع الرُّخَص، فهذه المذاهب والكتب كلها وسيلةٌ للوصول لحكم الله ورسوله ؛ ولذلك ينبغي أن يَنْشُد المسلمُ الحقَّ، ويطلب حكم الله ورسوله ، ولا يتعصب لمذهبٍ مُعينٍ، ولا يتعصب لعالِمٍ مُعينٍ، إنما يتعصب للحقِّ، لكن من حيث التَّفقُّه ينبغي أن ينطلق من مدرسةٍ فقهيةٍ؛ حتى يكون مُؤَصَّلًا، ومن حيث التَّرجيح لا يتقيد بترجيحات هذا المذهب أو هذه المدرسة، إنما إذا رأى الدليل مع مذهبٍ آخر يُرَجِّحه ويعمل به.
وهذا هو الذي عليه مشايخنا، مثلًا: شيخنا ابن باز، وابن عثيمين رحمهما الله تعالى على هذا، لكن لا بد لأجل تأصيل طالب العلم أن ينطلق من مدرسةٍ فقهيةٍ، ولا يمكن أن يكون مُؤَصَّلًا إلا إذا انطلق من مدرسةٍ فقهيةٍ، كأن ينطلق -مثلًا- من مدرسة فقه الحنابلة، أو الشافعية، أو المالكية، أو الحنفية، لكنه لا يتقيد بها، ينطلق من أصولها، يضبط المذهب، لكن لا يتقيد به.
فمثلًا: لو أنه انطلق من مدرسة الشافعية، وإذا أتى إلى أكل لحم الإبل: هل ينقض الوضوء؟
السنة قد دلَّتْ على أنه ينقض؛ فَيُرَجِّح مذهب الحنابلة في أن أكل لحم الإبل ينقض الوضوء، لكن من حيث الانطلاقة انطلق من هذه المدرسة.
أما أن يتقيد الإنسان بمذهبٍ معينٍ فهذا يُعتبر تقليدًا، والتقليد ليس علمًا.
قال ابن عبدالبر: “أجمع العلماء على أن المُقَلِّد ليس معدودًا من العلماء”، لكن الطريقة الأفضل في التَّفقه: أن ينطلق من مدرسةٍ فقهيةٍ، لكن لا يتقيد بها في التَّرجيح.
السؤال: ورد أنَّ مَن قرأ آخر آيتين من سورة البقرة في ليلةٍ كفتاه [43]، متى أفضل وقتٍ لقراءتهما؟
الجواب: أفضل وقتٍ لقراءتهما بعد غروب الشمس، وذلك بأن يقرأ هاتين الآيتين في أول الليل؛ حتى يكون الحفظُ طويلًا، فيقرأهما بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب، أو بعد صلاة المغرب، الأمر واسعٌ، فمَن قرأ هاتين الآيتين: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ [البقرة:285]، ولَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] كَفَتَاه يعني: كفتاه من كل مكروهٍ، فهما من أسباب الحفظ؛ ولذلك ينبغي أن يحرص المسلم على قراءة هاتين الآيتين كلَّ ليلةٍ، والأفضل أن يكون ذلك في أول الليل.
السؤال: ما حكم القصر في الصلاة إذا كان السفر محتومًا؛ كموعد طائرةٍ أو غيره، ونوى السفر؟ هل يجوز له القصر من بيته قبل الذهاب للمطار؟
الجواب: لا يجوز التَّرخص بِرُخَص السفر حتى يُفارق العمران، أما إذا كان ما زال في البيت فليس له التَّرخص بِرُخَص السفر: لا القصر، ولا الجمع، ولا غيره، ولا يصدق عليه وصف السفر أصلًا، ليس له التَّرخص حتى يُفارق العمران.
ولذلك فالنبي في حجة الوداع كان قد تهيأ للسفر، ولبس لباس السفر، وصلَّى صلاة الظهر في مسجده أربع ركعاتٍ، ولم يقصرها، ووصل إلى ذي الحُلَيفة قبل صلاة العصر، فلما حان وقت صلاة العصر صلاها ركعتين [44]؛ لأنه فارق عمران المدينة وأنشأ السفر، فقبل مُفارقة العمران لا يجوز التَّرخص بِرُخَص السفر.
السؤال: التَّسبيح والتَّحميد والتَّكبير، هل تُستخدم فيه اليد اليمنى أو اليُسرى؟
الجواب: التَّسبيح والتَّحميد والتَّكبير الأفضلُ أن يكون باليد اليمنى؛ لأن هذا هو هَدْي النبي ، وقد رُوِيَ في ذلك حديث: اعقدن بالأنامل [45]، وإن كان في سنده مقالٌ، لكن الأحاديث تدلُّ على استحباب استخدام اليد اليمنى في كلِّ ما كان بابه التَّكريم، وعلى ذلك فالأفضل أن يكون التَّسبيح باليد اليمنى.
وبالنسبة للتَّسبيحات الثلاثة والثلاثين: في كل إصبعٍ ثلاث أنامل إلا الإبهام فيه أُنْمُلَتَان، فلو أنه جعل “سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر” لكل أُنْمُلَةٍ، وأضاف أيضًا للإبهام، يعني: اعتبر الإبهام كأن له ثلاث أنامل؛ معنى ذلك: 3 × 5 = 15، ثم مرة ثانية 15؛ أصبح 30، ثم ثلاث مراتٍ أصبحت 33.
إذن الأفضل التَّسبيح باليد اليمنى، لكن لو سبَّح باليد اليمنى واليسرى فلا بأس، الأمر واسعٌ، لكن من حيث الأفضلية فالأفضل أن يقتصر في التَّسبيح على اليد اليمنى.
السؤال: ما حكم القصر للصلاة في المطارات؟
الجواب: المطارات تختلف، بعضها يكون خارج المدينة، وبعضها داخل المدينة، فما كان داخل المدينة ومُتَّصلًا بالعمران لا يُتَرَخَّص فيه بِرُخَص السفر، وما كان خارج المدينة يُتَرَخَّص فيه بِرُخَص السفر.
السؤال: ما حكم الحسابات الادخارية في البنوك؟ وما التَّكييف الفقهي لها؟
الجواب: الحسابات الادخارية الاستثمارية التي تكون على شكل حسابٍ جارٍ استثماريٍّ -كالحسابات الموجودة في المصارف الإسلامية- لا بأس بها، والتَّكييف الفقهي لها أنها مُضارَبةٌ، وتُودَع في الغالب الأرباحُ في أول كلِّ شهرٍ.
والأرباح تكون بحسب تحقُّقِها؛ يعني: تارةً تزيد، وتارةً تنقص، وليست مضمونةً أيضًا، لكن يتوقَّع البنك أن تكون الأرباح كذا وكذا. فهذه مُضاربةٌ، وجائزةٌ، ولا بأس بها، لكن المقصود بها الحسابات الادخارية الاستثمارية، يعني: الحساب الجاري الاستثماري، وهذه أصبحتْ موجودةً الآن في البنوك، والمُنضبطة بالضوابط الشرعية لا بأس بها؛ كالموجودة في المصارف الإسلامية.
السؤال: ما حكم بطاقة (الفيزا) من بنك كذا؟
الجواب: لا نُحب أن نُسمي بنوكًا مُعينةً، إنما نذكرها بشكلٍ مُجملٍ.
السؤال: ما حكم بطاقة (الفيزا) من بنك كذا؟ مع العلم بأنه في حالة التَّأخر يأخذون 2% ويقولون: هذا تَوَرُّقٌ مُجازٌ من الهيئة الشرعية.
الجواب: بطاقات (الفيزا) والبطاقات الائتمانية تنقسم إلى قسمين: بطاقات مُرابحة ائتمانية، وبطاقات إقراضية.
أما البطاقات الإقراضية التي يُودَع في (الفيزا) -مثلًا- أو في (الماستر كارد) مبلغٌ معينٌ، إن سَدَّدتَ خلال فترة السماح المجانية لم يأخذوا عليك غرامة تأخيرٍ، وإن تأخَّرتَ أخذوا عليك غرامة تأخيرٍ، فهنا الإشكال في غرامة التأخير، فغرامة التأخير هذه لا تجوز؛ لأنها من جنس ربا الجاهلية: إما أن تقضي، وإما أن تُرْبِي، لكن البنوك الإسلامية لا تحسب غرامة تأخيرٍ، لكن غيرها يحسب غرامة تأخيرٍ، هذا في البطاقات الإقراضية.
القسم الثاني: بطاقات المُرابحة الائتمانية، وهذه أكثر مَن يستخدمها البنوك الإسلامية، وهذه فكرتها: أن هذه البطاقة ..، يُعطونك بموجب هذه البطاقة مُرابحةً، يعني: بيع سلعةٍ، تُوكلهم في شرائها، ثم يبيعونها عليك، ثم تُوكلهم في بيعها، والثمن يُوضع في هذه البطاقة، يعني: على شكل مُرابحة.
والبنك يطلب منك مقدار هذه المُرابحة: رأس المال والربح، لكن يقول لك البنك: إن سَدَّدتَ خلال فترة السماح المجانية فَأَعِدُك بإسقاط الأرباح، أما إن لم تُسدد خلال فترة السماح المجانية فإنني آخذ الأرباح، وهذه لا بأس بها، غاية ما في الأمر أن البنك أخذ حقَّه وهو هذه الأرباح.
وهذه الآن أصبحت هي الغالبة على البنوك الإسلامية؛ ولهذا فبعض الناس يطرح إشكالًا، يقول: لماذا هذا البنك -وهو بنكٌ إسلاميٌّ- يأخذ عليَّ غرامة تأخيرٍ على بطاقةٍ ائتمانيةٍ؟
نقول: لأنها بطاقة مُرابحةٍ، وليست بطاقةً إقراضيةً، فلو كانت بطاقةً إقراضيةً لم يَجُزْ له أن يأخذ عليك غرامةً، لكن جعلها بطاقة مُرابحةٍ، فالبنك يقول لك: إن سَدَّدتَ خلال فترة السماح المجانية أسقطتُ عنك الربح، وإن لم تُسدد فإنني أحتسب عليك الأرباح. فهذه لا بأس بها.
السؤال: هناك بعض الأدعية تأتي بلفظ الجمع في القرآن أو السنة، مثل: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201]، هل الداعي عندما يدعو وحده يأتي بصيغة الجمع أو بصيغة الإفراد؟
الجواب: يأتي بصيغة الإفراد، فتقول: ربِّ آتِني في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقِنِي عذاب النار.
إنما الذي يأتي بصيغة الجمع إذا كان يدعو لجماعةٍ؛ كالإمام -مثلًا- يدعو في دعاء القنوت فيأتي بصيغة الجمع: ربنا آتنا في الدنيا حسنةً، ربنا اغفر لنا ذنوبنا.
أما إذا كان مُفردًا يدعو وحده فيأتي بصيغة المُفرد: ربِّ آتِني في الدنيا حسنةً، ربِّ اغفر لي، ربِّ ارحمني، وهكذا، حتى لو وردت في السنة بلفظ الجمع، مثل: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ يأتي بها عندما يدعو وحده بصيغة الإفراد.
ونكتفي بهذا القدر.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 71، ومسلم: 1037. |
---|---|
^2 | رواه مسلم: 2699. |
^3 | رواه البخاري: 6408، ومسلم: 2689. |
^4, ^5, ^6, ^11, ^13 | رواه مسلم: 2888. |
^7, ^12 | رواه البخاري: 31. |
^8 | رواه البخاري: 2812. |
^9 | رواه البخاري: 6862. |
^10 | رواه مسلم: 129. |
^14, ^17 | رواه مسلم: 157. |
^15 | رواه مسلم: 2916. |
^16 | رواه البخاري: 3673، ومسلم: 2540. |
^18 | رواه البخاري: 4936، ومسلم: 867. |
^19, ^20 | رواه مسلم: 2889. |
^21 | رواه البخاري: 5986، ومسلم: 2557. |
^22 | رواه الطبراني في “الدعاء”: 29. |
^23, ^24, ^25 | رواه مسلم: 2890. |
^26, ^28, ^29, ^30, ^31 | رواه مسلم: 2891. |
^27 | رواه البخاري: 3606، ومسلم: 1847. |
^32 | رواه مسلم: 2892. |
^33 | رواه أحمد: 11143. |
^34 | رواه البخاري: 1874، ومسلم: 1389. |
^35, ^36, ^37 | رواه مسلم: 144. |
^38 | رواه مسلم: 233. |
^39 | رواه مسلم: 2893. |
^40 | رواه مسلم: 2894. |
^41 | رواه الطبراني في “المعجم الكبير”: 183 بلفظ: اسْتَعِينُوا على إنجاح الحوائج بالكتمان، فإنَّ كل ذي نعمةٍ محسودٌ. |
^42 | روى الترمذي عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أنه قال: “خشيتْ سودةُ أن يُطلقها النبيُّ ، فقالت: لا تُطلقني، وأمسكني، واجعل يومي لعائشة. ففعل”: 3040 وقال: حسنٌ صحيحٌ. |
^43 | رواه البخاري: 4008، ومسلم: 807. |
^44 | رواه البخاري: 1089، ومسلم: 690. |
^45 | رواه أبو داود: 1501، والترمذي: 3583. |