logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح أبواب من صحيح مسلم/(80) باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة- من حديث “يحشر الناس..”

(80) باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة- من حديث “يحشر الناس..”

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.

ربنا آتنا من لدنك رحمةً وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.

هذا هو الدرس الثمانون في شرح “صحيح مسلمٍ”، في هذا اليوم الثلاثاء، التاسع عشر من شهر شوالٍ من عام (1444هـ).

وما زلنا في باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة، ووصلنا إلى حديث عائشة رضي الله عنها: يُحشر الناس يوم القيامة [1].

وفي هذا الحديث وما بعده وصفٌ لأهوال يوم القيامة، ذلك اليوم العظيم المَهيب الذي تشيب لأهواله الولدان، أرأيت الطفل؟ يشيب من أهواله: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ [الحج:2]، تذهل كل مرضعةٍ، وليس: مرضِعٍ.

والفرق بين المرضعة والمرضِع: أن المرضعة هي التي ألقمت الطفل ثديها، فهي تباشر الإرضاع.

أما المرضِع: أي أن مَن وَصْفُها أنها تُرضع، لكن لا يلزم أن تكون ألقمت ثديها الطفل.

فكونها تَذهل المرضعة، وليست المرضِع، هذا أبلغ، تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ، يعني: تذهل عن طفلها الذي ترضعه.

وقَدِّرْ في الدنيا أي حدثٍ، وافتَرِضْ: أن امرأةً تُرضع طفلها، قَدِّرْ مثلًا: أنها في مكانٍ حصل فيه انفجارٌ هائلٌ، هل تذهل المرضعة عن طفلها، أو تضمه وتذهب به؟ الجواب: تضمه وتذهب به؛ معنى ذلك: أن أهوال يوم القيامة أشد من ذلك، لدرجة أن المرضعة تذهل عما أرضعت: وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا؛ مِن شدة الهول، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى أي: سُكْرَ الدهشة، وليس سكر الخمر؛ ولهذا قال: وَمَا هُمْ بِسُكَارَى، يعني: سكر الخمر، وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2].

فهو يومٌ عظيمٌ، فيه أهوالٌ عظيمةٌ، وقد حذر ربنا وأنذر وأعذر: إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ [النبأ:40]، فهو يومٌ عظيمٌ.

وسنأخذ في هذه الأحاديث بعض الأوصاف لذلك اليوم، وبعض ما يكون فيه:

بيان الحشر يوم القيامة

الطالب: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.

قال الإمام مسلمٌ رحمه الله:

وحدثني زُهير بن حربٍ: حدثنا يحيى بن سعيدٍ، عن حاتم بن أبي صغيرة: حدثني ابن أبي مليكة، عن القاسم بن محمدٍ، عن عائشة قالت: سمعت رسول الله  يقول: يحشر الناس يوم القيامة حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا، قلت: يا رسول الله، النساء والرجال جميعًا ينظر بعضهم إلى بعضٍ؟! قال : يا عائشة، الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعضٍ [2].

وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وابن نُميرٍ قالا: حدثنا أبو خالدٍ الأحمر، عن حاتم بن أبي صغيرة بهذا الإسناد، ولم يذكر في حديثه: غُرْلًا‌‌.

حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حربٍ وإسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر -قال إسحاق: أخبرنا، وقال الآخرون: حدثنا- سفيان بن عيينة، عن عمرٍو، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ: سمع النبي  يخطب وهو يقول: إنكم ملاقو الله مشاةً حفاةً عراةً غُرْلًا، ولم يذكر زُهيرٌ في حديثه: “يخطب” [3].

نعم، حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله يقول: يُحشر الناس يوم القيامة..، قال القرطبي رحمه الله: الحشرُ: الجمع، وهو أربعةٌ: حَشْران في الدنيا، وحشران في الآخرة.

فاللذان في الدنيا:

  • أحدهما المذكور في سورة الحشر في قول الله : هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ [الحشر:2].
  • والثاني المذكور في أشراط الساعة، وأنه تخرج نارٌ من قعر عَدَن تحشر الناس إلى الشام [4]، وهذا في آخر الدنيا قبل يوم القيامة.

وأما الحشران اللذان في الآخرة:

  • فحشر الأموات بعد البعث من قبورهم إلى الموقف، والموقف يكون في أرض الشام: وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [الكهف:47].
  • والحشر الثاني حشرهم من الموقف إلى الجنة أو النار، فهذه أنواع الحشر، إذا فهمتها؛ فهمت النصوص الواردة في ذلك.

فقوله عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: يُحشر الناس يوم القيامة، المراد به: الحشر الأول من حشري الآخرة بعدما يُبعث الناس من قبورهم، فإن الناس في هذه الدنيا يموتون، ويفنى بدن الإنسان، يأكله الدود، ويصبح ترابًا، ولا يبقى منه إلا عُجْب الذَّنَب، وعجب الذنب: هو الذي يسمى: العُصْعُص، آخر العمود الفقري، وهو صغيرٌ جدًّا لا يُرى حتى بالعين المجردة، ومنه يُركَّب الخلق يوم القيامة.

ويُستثنى من ذلك: الأنبياء، ومَن شاء الله من الصِّدِّيقين والشهداء والصالحين، فلا تأكل الأرض أجسادهم، لكن أكثر الناس تأكل الأرض أجسادهم.

ثم بعد ذلك تكون نفخة الصعق في آخر الدنيا: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر:68]، ثم تكون نفخة البعث، وبين نفخة الصعق والبعث أربعون، ولا ندري عن هذه الأربعين، أربعون وحدةً زمنيةً، الله أعلم بمقدارها.

وقبل نفخة البعث: تُجمع الأرواح في الصُّوْر، وقبل ذلك: يُنزِل الله تعالى من السماء ماءً كمنيِّ الرجال على الأرض، فتَنبت الأجساد من عَجْب الذَّنَب، تَنبت -سبحان الله!- حتى إذا تكامل نموُّها، وتكاملت هذه الأجساد؛ أمر الله إسرافيل بالنفخ في الصور، فتتطاير الأرواح من الصُّوْر، وكل روحٍ تذهب لجسدها بقدرة العزيز الحكيم، انظر إلى هذه القدرة العظيمة من الرب سبحانه! فيقوم الناس من قبورهم حفاةً عراةً كما ولدتهم أمهاتهم.

حُفَاةً يعني: غير مُنتعِلين، عُراةً: ليس عليهم لباسٌ، غُرْلًا يعني: غير مختونين؛ لأن الله يبعثهم كما خلقهم أول مرةٍ: حفاةً عراةً غُرْلًا.

قالت عائشة رضي الله عنها: قلت: يا رسول الله، النساء والرجال ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال : يا عائشة، الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعضٍ: أي أن شدة هول ذلك اليوم تجعل الإنسان لا يشعر بانكشاف عورته ولا عورة غيره، بل هو مشغولٌ بنفسه ومهتمٌّ بها، أينجو من النار أم لا؟

فلا ينشغل الإنسان أصلًا بأن ينظر لعورة الآخرين، أو أن هذه الأمور تعني له شيئًا؛ الأمر أشد: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ [الحج:2]، إلى هذه الحال الشديدة! فكيف سينظر بعضهم إلى بعض؟! الأمر أشد من أن يهمهم ذلك، أو أن ينظر بعضهم إلى بعضٍ، فالموقف شديدٌ.

فبيَّن عليه الصلاة والسلام أن الناس يُبعَثون من قبورهم على هذه الحال وهذه الهيئة، حفاةً عراةً كما ولدتهم أمهاتهم، غُرْلًا أي: غير مختونين.

حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا وكيعٌ، ح، وحدثنا عبيدالله بن معاذٍ: حدثنا أبي، كلاهما عن شعبة، ح، وحدثنا محمد بن المُثَنَّى ومحمد بن بشارٍ -واللفظ لابن المثنى- قالا: حدثنا محمد بن جعفرٍ: حدثنا شعبة، عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ قال: قام فينا رسول الله  خطيبًا بموعظةٍ فقال: يا أيها الناس، إنكم تُحشرون إلى الله حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا، كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:104]، ألا وإن أول الخلائق يُكسى يوم القيامة: إبراهيم ، ألا وإنه سيجاء برجالٍ من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ۝ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:117]، قال: فيقال لي: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم، وفي حديث وكيعٍ ومعاذٍ: فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك [5].

نعم، حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: قام فينا رسول الله خطيبًا بموعظةٍ فقال: يا أيها الناس، إنكم تُحشرون..، في هذا دلالةٌ على أنه ينبغي للخطباء تذكير الناس بأحوال الآخرة؛ لأن النفوس تَغفُل وتَذهل؛ فينبغي للخطباء ولأهل العلم ولطلاب العلم والدعاة إلى الله أن يُذكِّروا الناس بأحوال الآخرة وأهوال الآخرة كما كان النبي يُذَكِّر أصحابه بذلك.

قال: إنكم تُحشرون إلى الله حفاةً عراةً غُرْلًا: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ: أي أن الله ​​​​​​​ يبعثهم كما خلقهم، كما ولدتهم أمهاتهم حفاةً عراةً غُرلًا.

قال: ألا إن أول الخلائق يُكسى يوم القيامة: إبراهيم ، والحكمة من كون إبراهيم أول من يُكسى من الخلائق: أنه حين أُلقي في النار جُرِّد من ملابسه، فجُوزي بأن يكون أول من يُكسى يوم القيامة؛ لأنه حين ألقي في النار جُرِّد من ملابسه، فيكون يوم القيامة أول من يُكسى من الخلائق.

ولا يلزم من كونه أول من يكسى أن يكون أفضل من محمدٍ ، بل محمدٌ أفضل الأنبياء والرسل بالإجماع؛ لأن المفضول قد يمتاز بشيءٍ يختص به، ولا يلزم منه الفضيلة المطلقة، فالفضيلة المطلقة هي لمحمدٍ ، لكن قد يوجد لدى بعض الأنبياء والرسل فضائل يختصون بها.

قال: ألا وإنه سيُجاء برجالٍ من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب، أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، قال قَبيصة: هم الذين ارتدوا على عهد أبي بكرٍ الصديق ، فإنه بعد وفاة النبي ارتدَّ مَن ارتد مِن قبائل العرب، وحاربهم الصحابة  في عهد الصديق.

فالمقصود بالمذكورين في الحديث: الذين ارتدوا وقُتلوا مرتدين؛ لأن هناك مَن ارتد ورجع إلى الإسلام وحسن إسلامه، ولكن المقصود بهم في هذا الحديث: من ارتدوا وقُتلوا مرتدين.

قال الخطابي رحمه الله: لم يرتد أحدٌ من الصحابة، وإنما ارتد قومٌ من جفاة الأعراب ممن لا نصرة له في الدين، وذلك لا يوجب قدحًا في الصحابة ، ومع ذلك هم قلةٌ؛ ويدل لذلك أنه جاء في بعض الروايات: فأقول: أصيحابي [6]، وهذا فيه إشارةٌ لقلة عددهم.

فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، يعني: بعد وفاتك؛ وهذا يدل على أن النبي بعد وفاته لا يعلم الغيب، والوحي قد انقطع بوفاته عليه الصلاة والسلام، وهو لا يدري ماذا يحصل بعده؛ ولذلك ما يذكره بعض الطوائف من أن النبي عليه الصلاة والسلام يحضر، وأنه ربما يتحدث، وأنه ربما يقول كذا وكذا، وينكر واقع الناس، كل هذه من الخرافات؛ فالنبي لا يدري ماذا حصل بعده، هو بشرٌ كسائر البشر، مات ولا يدري ماذا يحصل بعده.

ولهذا فهؤلاء الذين ارتدوا لم يعلم بهم النبي عليه الصلاة والسلام، ويقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، وهو عليه الصلاة والسلام لا يعلم الغيب ولا يدري ماذا حصل بعده.

وهذا فيه ردٌّ على أولئك الخرافيين الذين يزعمون أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول كذا، وأنه يحضر، وأنه يفعل كذا، وما يسمونه بالحضرة، وحضرة النبي عليه الصلاة والسلام في بعض المجالس وبعض الموالد، كل هذا من الخرافات التي يضحكون بها على السذج من الناس، وإلا فالنبي عليه الصلاة والسلام قد انقطع الوحي بوفاته، ومات كما مات سائر البشر، ولا يدري ماذا يحصل بعده ولا يعلم الغيب؛ ولذلك يقول: يقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، قال: فأقول كما قال العبد الصالح: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ، يريد: عيسى عليه الصلاة والسلام، وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ۝ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:117-118]، قال: فيقال لي: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم، يعني: هؤلاء الذين ارتدوا في زمن أبي بكرٍ الصديق .

حدثني زُهير بن حربٍ: حدثنا أحمد بن إسحاق، ح، وحدثني محمد بن حاتمٍ: حدثنا بَهْزٌ، قالا جميعًا: حدثنا وهيبٌ: حدثنا عبدالله بن طاوسٍ، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي قال: «يُحشر الناس على ثلاث طرائق: راغبين راهبين، واثنان على بعيرٍ، وثلاثةٌ على بعيرٍ، وأربعةٌ على بعيرٍ، وعشرةٌ على بعيرٍ، وتَحشر بقيتَهم النار، تبيت معهم حيث باتوا، وتَقيل معهم حيث قالوا، وتُصبِح معهم حيث أصبحوا، وتُمسي معهم حيث أمسوا [7].

قال : يُحشر الناس على ثلاث طرائق، المراد: بهذا الحشر: الحشر في آخر الدنيا؛ لأننا ذكرنا أن الحشر على أربعة أنواعٍ: حشران في الدنيا، وحشران في الآخرة:

  • الحشر الأول: الذي ذُكر في سورة الحشر: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ [الحشر:2].
  • الحشر الثاني: هو الذي يكون في آخر الدنيا، حيث تخرج نارٌ من قعر عَدَن، تسوق الناس إلى أرض المحشر في الشام، وهذه النار تبيت معهم حيث باتوا، وتَقيل معهم حيث قالوا، يعني: تسوقهم سوقًا إلى أرض المحشر.

قال : ويحشر الناس على ثلاث طرائق: راغبين، يعني: فيما عند الله من الرحمة والثواب، راهبين يعني: خائفين،

واثنان على بعيرٍ، وثلاثةٌ على بعيرٍ، وأربعةٌ على بعيرٍ، وعشرةٌ على بعيرٍ، أي: أنهم يركبون هذه الدواب لكي تنقلهم إلى أرض المحشر، وهذا في آخر الدنيا قبل قيام الساعة.

وقوله : اثنان على بعيرٍ يدل على أن أول مَن خرج استطاعوا أن يجدوا من المراكب أفضل ممن أتى بعدهم، ربما أيضًا واحد على بعير لكن لم يُذكَر في الحديث، فاثنان على بعيرٍ أفضلُ من ثلاثة على بعير، وأفضل من أربعة على بعير، وأفضل من عشرة. وهذا يدل على أن الذين تأخَّروا يجتمع عشرة على بعير. وهذه أحوال الله أعلم كيف تكون وكيف تقع.

وفي قوله : على بعيرٍ، إشارةٌ إلى أن الناس سيعودون في آخر الدنيا لركوب الدواب؛ لأنه لم يذكر وسائل أخرى، إنما قال: على بعيرٍ، معنى ذلك: أن الأحوال ستتغير، وسيعود الناس إلى ركوب الدواب، ركوب الإبل، وهذا يدل على التغير الكبير الذي سيكون في الدنيا -والله تعالى أعلم وأحكم- وإن كان بعض العلماء يقول: إن هذا من باب التقريب، وأن المقصود: دابةٌ من الدواب، لكن النبي يخاطب الناس في زمن التنزيل بقدر ما يفهمون وما يعرفون، ويحتمل أن يكون بدل البعير مثلًا آلةٌ، مركوبٌ من المركوبات الحديثة؛ كسيارة مثلًا؛ بدليل أنه قال: عشرةٌ على بعيرٍ، والعشرة لا يركبون بعيرًا، والله تعالى أعلم، هذا محتملٌ، والأول أيضًا هو ظاهر الحديث، الأول: وهو أن أحوال الناس ستتغير ويعود الناس للإبل، هذا هو ظاهر الحديث، لكن ما قاله بعض أهل العلم محتملٌ، أن النبي خاطب الناس بما يفهمون؛ لأنه لو قال لهم: “على سيارةٍ”، فكيف! الناس لن تفهم “السيارة” في ذلك الوقت، فالله تعالى أعلم وأحكم.

المهم أن الناس ستحشرهم هذه النار إلى أرض المحشر في آخر الدنيا.

باب صفة يوم القيامة

‌‌بابٌ في صفة يوم القيامة أعاننا الله على أهوالها

حدثنا زُهير بن حربٍ ومحمد بن المُثَنَّى وعبيدالله بن سعيدٍ قالوا: حدثنا يحيى -يعنون ابن سعيدٍ- عن عبيدالله: أخبرني نافعٌ، عن ابن عمر، عن النبي : يَوۡمَ ‌يَقُومُ ‌ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ [المطففين:6]، قال: يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه، وفي رواية ابن المُثَّنَّى قال: يقوم الناس، لم يذكر: يَوْمَ  [8].

حدثنا محمد بن إسحاق المُسَيَّبي: حدثنا أنسٌ، يعني: ابن عياض، ح، وحدثني سويد بن سعيدٍ: حدثنا حفص بن ميسرة، كلاهما عن موسى بن عقبة، ح، وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا أبو خالدٍ الأحمر وعيسى بن يونس، عن ابن عونٍ، ح، وحدثني عبدالله بن جعفر بن يحيى: حدثنا معنٌ: حدثنا مالكٌ، ح، وحدثني أبو نصرٍ التَّمَّار: حدثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، ح، وحدثنا الحُلْواني وعبد بن حميدٍ عن يعقوب بن إبراهيم بن سعدٍ: حدثنا أبي، عن صالحٍ، كل هؤلاء عن نافعٍ، عن ابن عمر، عن النبي ، بمعنى حديث عبيدالله، عن نافعٍ، غير أن في حديث موسى بن عقبة وصالحٍ: حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه [9].

حدثنا قتيبة بن سعيدٍ: حدثنا عبدالعزيز -يعني ابن محمدٍ- عن ثورٍ، عن أبي الغيث، عن أبي هريرة أن رسول الله  قال: إن العرق يوم القيامة ليذهب في الأرض سبعين باعا، وإنه ليبلغ إلى أفواه الناس، أو إلى آذانهم، يشك ثورٌ أيَّهما قال [10].

حدثنا الحكم بن موسى أبو صالحٍ: حدثنا يحيى بن حمزة، عن عبدالرحمن بن جابرٍ: حدثني سُليم بن عامرٍ: حدثني المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله  يقول: تُدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميلٍ، قال سُليم بن عامرٍ: فوالله ما أدري ما يعني بالميل: أمسافة الأرض، أم الميل الذي تُكتَحَل به العين؟ قال: فيكون الناس على قدر أعمالهم في العَرَق؛ فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حَقْوَيه، ومنهم من يُلْجِمه العرق إلجامًا، قال: وأشار رسول الله بيده إلى فيه [11].

هذا وصفٌ لبعض ما يكون من أهوال ذلك اليوم، وهو أن الشمس تُدنَى من الخلائق يوم القيامة حتى تكون على قدر ميلٍ.

وهل الميل المقصود به: ميل المُكْحُلة الذي تُكحَّل به العين، أو ميل الأرض؟

الظاهر أنه ميل الأرض، لكن ميل الأرض أيضًا قريبٌ، ما يعادل تقريبًا كيلو وستمئة وسبعين مترًا، قريبٌ جدًّا.

ولكن هذا يُشكِل على ما ورد في النصوص من أن الشمس تُكوَّر يوم القيامة: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير:1]، فكيف نجمع بين هذا الحديث: أن الشمس تُدنَى من الناس يوم القيامة حتى تكون على قدر ميلٍ، وبين قول الله تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وما جاء في معنى الآية من أن الشمس يوم القيامة تُكور: وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ [القيامة:9]، تُجمَع مع القمر أيضًا وتنكدر وتكور؟

اختلف العلماء في الجمع:

  • فمن أهل العلم مَن قال: إن هذا الحديث حديثٌ شاذٌّ؛ لأن النصوص بخلافه، أن الشمس تُكور: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، ولكن هذا محل نظرٍ؛ لأن هذا الحديث حديثٌ صحيحٌ أخرجه الإمام مسلمٌ في “صحيحه”؛ و”صحيح البخاري” و”صحيح مسلمٍ” تلقتهما الأمة بالقبول، وإذا لم يعرف الإنسان الجمع بين النصوص؛ فينبغي ألا يجزم بالشذوذ.
  • وقال بعض العلماء: إن المقصود: أن الشمس تدنو من الخلائق يوم القيامة حتى تكون على قدر ميلٍ، كما في هذا الحديث، ثم بعد ذلك تُكوَّر، فيكون التكوير بعد دُنُوِّها من الخلائق، ولكن أيضًا هذا بعيدٌ عن سياق النصوص؛ فإن الله ذكر أحداث يوم القيامة: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ۝ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ۝ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ۝ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ [التكوير:1-4]، هذا كله يكون بعد قيام الساعة، بعد النفخ في الصور -نفخة البعث أو نفخة الصعق- ظاهر النصوص أن هذا يكون أيضًا عند نفخة الصعق قبل نفخة البعث في آخر الدنيا؛ الشمس والقمر يجريان لأجلٍ مسمًّى، هذا الأجل المسمى: هو قيام الساعة.

والأقرب -والله أعلم- أن يقال: إن الشمس تكور عند قيام الساعة، لكن يبقى شيءٌ من نورها وحرها، فتدنو من الخلائق بعد التكوير، ويدل لذلك: أنها تُدنَى من الناس حتى تكون على قدر ميلٍ، ولو كانت على حالها قبل التكوير؛ لَمَا تحمل البشر حرارتها، إذا كنا الآن في الأرض والشمس تبعد عن الأرض (150 مليون كيلومترٍ) ومع ذلك نرى شدة حرارتها، خاصةً في الصيف، فكيف بالشمس التي تكون على قدر ميلٍ من الخلائق؟

الظاهر -والله أعلم- أنها تكور عند قيام الساعة، ثم تُدنَى من الخلائق بعد التكوير، ومع ذلك ينالهم حَرُّها؛ لأن حر الشمس شديدٌ، ويصيبهم من الغم والكرب شيءٌ عظيمٌ، ويجري منهم العرق، وهذا العرق يتفاوت فيه الناس بحسب ذنوبهم؛ فمنهم من يصل العرق إلى أنصاف أذنيه، ومنهم من يُلجمه إلجامًا، ومنهم مَن يبلغ إلى حَقْوَيه، ومنهم من يبلغ إلى ركبتيه، ومنهم من يبلغ إلى قدميه، ومنهم من لا يبلغ منه العرق شيئًا وهم الأنبياء والرسل، وكذلك الصِّدِّيقون والشهداء، فيكون العرق بقدر ذنوب الناس؛ ولهذا قال: إن العرق يوم القيامة ليذهب في الأرض سبعين باعًا، وإنه ليبلغ إلى أفواه الناس أو إلى آذانهم، كيف هذا! يبلغ العرق إلى فيه أو إلى أذنه، والآخر إلى ركبتيه، والآخر إلى قدميه، والآخر يُلجمه إلجامًا؟! الله على كل شيءٍ قديرٌ، أحوال الآخرة لا تقاس على الدنيا، الله تعالى إذا أراد شيئًا؛ فإنما يقول له: كن، فيكون، فأحوال الآخرة أحوال مختلفةٌ تمامًا عن أحوال الدنيا، فهذا هو الأقرب -والله أعلم- في الجمع بين النصوص.

فيُلجِم الناسَ العرقُ على قدر ذنوبهم، وينالهم كربٌ شديدٌ في يومٍ طويلٍ جدًّا وثقيلٍ، مقداره خمسون ألف سنةٍ.

ويبقى الناس خمسةً وعشرين ألفًا قبل أن يُحاسَبوا، خمسةً وعشرين ألفًا، يَبقَون يَمُوجون في الأرض حتى يَمَلُّوا ويَسْأَموا، يقول عليه الصلاة والسلام: حتى ينالهم من الغمِّ والكرب ما لا يطيقون معه ولا يحتملون [12]، ويصيب الناسَ السأم والملل، حتى أهل النار، مع أنهم يعلمون بأنهم سيذهبون للنار، لكنه يومٌ ثقيلٌ وطويلٌ جدًّا، حتى يُلهم اللهُ تعالى البشر يقولون: لماذا لا نذهب إلى أبينا آدم يشفع إلى الرب سبحانه في أن يفصل ويقضي بين عباده؟ فيأتون ويتعرفون، يبحثون عن آدم حتى يجدوه، فيطلبون منه الشفاعة فيعتذر، ثم يذهبون إلى نوحٍ  فيعتذر، ثم إبراهيم ، ثم إلى موسى ، ثم عيسى ، كلٌّ يقول: نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، حتى يذهبوا إلى محمدٍ عليه الصلاة والسلام فلا يعتذر، ويسجد تحت العرش، ويَقبل الله شفاعته، فتُنصَب الموازين، وتُنشر الدواوين، وتحاسب الخلائق بعد خمسةٍ وعشرين ألفًا [13].

والدليل لذلك: قول الله : أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان:24]، والقيلولة عند العرب منتصف النهار، وقد ورد عن ابن عباسٍ وابن مسعودٍ وبعض الصحابة والتابعين أن ذلك يكون في منتصف اليوم؛ يعني بعد خمسةٍ وعشرين ألفًا.

فحتى خمسةٌ وعشرون ألفًا مدةٌ طويلةٌ جدًّا، لو أخذتَ نسبة عمرك في الدنيا إلى فقط خمسة وعشرين ألفًا؛ فالعمر لا شيء بالنسبة له، فهذا يدل على شدة أهوال يوم القيامة.

والفائدة من الإخبار بهذه الأمور؛ حتى ينتبه السامع فيأخذ بالأسباب التي تخلصه من تلك الأهوال، ويبادر بالتوبة، فالمقام مقامٌ هائلٌ لا يفي بوصف هوله العبارات، ولا تحيط به الإشارات، فهو موقفٌ عظيمٌ شديدٌ ينبغي أن يضعه المسلم نُصْبَ عينيه، وأن يستعد له بالعمل الصالح، ويتزوَّد بزاد التقوى.

باب الصفات التي يُعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار

قال رحمه الله:

‌‌باب الصفات التي يُعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار

حدثني أبو غسان المِسمَعي ومحمد بن المُثَنَّى ومحمد بن بشار بن عثمان -واللفظ لأبي غسان وابن المُثَنَّى- قالا: حدثنا معاذ بن هشامٍ: حدثني أبي، عن قتادة، عن مطرف بن عبدالله بن الشِّخِّير، عن عياض بن حمارٍ المُجَاشِعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كل مالٍ نحلتُه عبدًا حلالٌ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلَّهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرَّمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم -عربهم وعجمهم- إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابًا لا يغسله الماء، تقرؤه نائما ويقظان، وإن الله أمرني أن أُحرِق قريشًا، فقلت: رب إذنْ يثلغوا رأسي فيدعوه خبزةً، قال: استخرجهم كما استخرجوك، واغزُهم نُغْزِك، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشًا؛ نبعث خمسةً مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك [14].

حديث: إني خلقت عبادي حنفاء كلَّهم..

هذا الحديث حديث عظيم، أخرجه الإمام مسلمٌ عن عبدالله بن الشِّخِّير عن عياض بن حمارٍ المُجَاشِعي ، وهذا صحابيٌّ جليلٌ ليس له في “صحيح مسلمٍ” إلا هذا الحديث، ولم يَرْوِ عنه البخاري، لكن أخرج له أصحاب السنن، وهو صحابيٌّ جليلٌ.

“أن رسول الله قال ذات يوم في خطبته”؛ وهذا يدل على أن هذا الكلام كان في خطبة، يحتمل أنها خطبة جمعةٍ، أو خطبةٍ في غير الجمعة، لكن لاحِظ هنا في هذا الحديث والحديث الذي ذكرناه قبل قليلٍ أيضًا: في خطبة النبي عليه الصلاة والسلام؛ فهذا فيه ردٌّ على مَن قال: إن خُطَب الجمعة للنبي عليه الصلاة والسلام لم تُحفَظ، هذا غير صحيحٍ، بل حُفظت ونقلها الصحابة .

لاحظوا هنا في هذا الحديث: “قال في خطبته”، وفي حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما أيضًا قال: قام فينا رسول الله خطيبًا بموعظةٍ فقال: يا أيها الناس، إنكم تُحشرون إلى الله، قال: ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، وذكر أمورًا:

الأمر الأول: كل مالٍ نَحَلْتُه عبدًا حلالٌ؛ وهذا يدل على أن الأصل في الأشياء: الحِل والإباحة، وفيه ردٌّ على المشركين الذين حرَّموا ما أحل الله ​​​​​​​، كما قال الله تعالى: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ [المائدة:103]، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف:32].

فالأصل هو الحل والإباحة، وهذا معنى قوله: كل مالٍ نحلته، يعني: أعطيته عبدًا حلالٌ؛ يعني: أن الأصل في الأشياء: الحِل والإباحة؛ ولذلك لو اختلف اثنان؛ أحدهما يقول: إن هذا الشيء حلالٌ، والآخر يقول إنه حرامٌ؛ فالذي يقول: حلالٌ، معه الأصل ولا يطالب بالدليل، إنما الذي يطالب بالدليل هو الذي يقول: إنه حرام؛ لأن الأصل في الأشياء الحل والإباحة.

قال: وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم: خلقت عبادي حنفاء، وهذا كقوله عليه الصلاة والسلام: كل مولودٍ يولد على الفطرة؛ فأبواه يُهوِّدانه، أو يُنصِّرانه، أو يُمجِّسانه [15].

خلق اللهُ تعالى العباد حنفاء على الفطرة، على التوحيد، وأخذ الله تعالى العهد من جميع البشر وهم في الذَّر: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ۝ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف:172-173]، هذا العهد كلنا جميعًا شهدناه، كلنا جميعًا، فإن قال قائلٌ: إنني لا أتذكره؟ نقول: وهل تتذكر وأنت في بطن أمك؟ وهل تتذكر وقت ولادتك؟ وهل تتذكر أيام طفولتك الأولى وأنت في السنة الأولى والثانية والثالثة والرابعة؟ فإذا كنت لا تتذكر هذه، لا تتذكر أعظم حدثٍ حصل لك، وهو ولادتك، فكيف تنكر أن الله أخذ عليك العهد وأنت في صلب أبيك آدم؟! وَمَنۡ ‌أَصۡدَقُ ‌مِنَ ‌ٱللَّهِ ‌حَدِيثٗا [النساء:87]، كون الإنسان لا يتذكر الشيء لا يجعله ينكره؛ بدليل أنه لا يتذكر لمَّا كان في بطن أمه، ولا يتذكر يوم ولادته، ولا يتذكر سنوات طفولته الأولى، ومع ذلك هو يؤمن بها؛ لأنه أخبره بذلك ثقاتٌ، ويرى أحوال الناس كذلك، هكذا أيضًا العهد الذي أخذه الله تعالى على البشر وهم في صلب أبيهم آدم في الذَّر: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف:172]؛ ولذلك فهم يولدون حنفاء على الفطرة، لكن يأتي التأثير بعد ذلك على الإنسان من الوالدين، ومن شياطين الجن والإنس، فأبواه يُهوِّدانه أو يُنصِّرانه أو يُمجِّسانه.

وفي هذا الحديث قال: إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشيطان، يعني: شياطين الجن والإنس، فاجتالتهم يعني: صرفتهم عن دينهم، وحرَّمت عليهم ما أحللت لهم، من السائبة والوصيلة والحامي والبَحِيرة؛ وهذا يدل على أن تحريم الحلال مثل تحليل الحرام، لا فرق؛ ولذلك نجد أن الله تعالى في سورة المائدة وسورة الأنعام أنكر على من حرَّم الحلال، فالتحريم والتحليل إلى الله ؛ قال: وأمرَتْهم أن يُشرِكوا بي ما لم أنزل به سلطانًا.

فإذنْ الأصل في الإنسان: أنه مولودٌ على الفطرة، وعلى دين الحنفية، لكن التأثير الذي يكون بعد ذلك هو الذي يتسبَّب في انحرافه؛ ولذلك لو أن إنسانًا ولد في غابةٍ بعيدًا عن تأثير البشر؛ لَوُلد على الحنفية وعلى الفطرة.

قال: وإن الله نظر إلى أهل الأرض، هذا قبل بعثة نبينا محمدٍ ، نظر الله إلى أهل الأرض فمقتهم المقت: أشد البغض، كلهم على انحرافٍ في دينهم؛ فمقتهم -عربهم وعجمهم- إلا بقايا من أهل الكتاب، إلا بقايا من أهل الكتاب، تمسَّكوا بما كان عليه أنبياؤهم؛ وهذا فيه بيانُ ما كان عليه أهل الجاهلية قبل بعثة محمدٍ من انحرافهم عن الدين، حتى مقتهم الله إلا طائفةً من أهل الكتاب بَقُوا على دين أنبيائهم، وهذا يدل على الانحراف الكبير الذي وقع للبشرية قبل بعثة محمدٍ ، وكيف أن الله بعث هذا النبي فأخرج الله تعالى به الناس من الظلمات إلى النور، مع أنه لم يمكث إلا ثلاثًا وعشرين سنةً فقط، بُعث وعمره أربعون، وتوفي وعمره ثلاثٌ وستون، في ثلاثٍ وعشرين سنةً أنقذ الله به البشرية، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وإلا لكان الانحراف عامًّا وطامًّا في جميع الأرض إلا بقايا من أهل الكتاب؛ ولذلك قال: وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم -عربهم وعجمهم- إلا بقايا من أهل الكتاب؛ وهذا يدل على عظيم نعمة الله تعالى على الناس ببعثة محمدٍ .

وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، إنما بعثتك لأبتليك يعني: لأمتحنك بما يظهر منك من قيامك بما أمرتك به؛ من تبليغ الرسالة، والجهاد في الله حق جهاده، والصبر في الله سبحانه، وأبتلي بك يعني: أبتلي بك من أرسلتك إليهم، فمن أطاع دخل الجنة، ومن كفر دخل النار.

قال: وأنزلت عليك كتابًا، يعني: القرآن، لا يغسله الماء، ومعنى لا يغسله الماء: أي أن هذا القرآن لا يمكن أن يُنسَى، ولا يمكن أن يذهب؛ قال النووي رحمه الله: معنى قوله: لا يغسله الماء: أنه محفوظٌ في الصدور، ولا يتطرق إليه الذهاب، بل يبقى على مر الأزمان.

فمعنى لا يغسله الماء: يعني أنه محفوظٌ بحفظ الله ، حتى لو قُدِّر أن المصاحف غُسلت بالماء كلها، وما بقي أثرٌ للمصاحف؛ فهو محفوظٌ في الصدور، فهذا القرآن محفوظٌ بحفظ الله ، تكفَّل الله ​​​​​​​ بحفظه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، وعندما يقول رب العالمين: وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ، انتهى الأمر، وانتهى الموضوع، لا يمكن أن يدخل القرآنَ التحريفُ، مستحيلٌ ولا يمكن، وهذا هو الواقع، نحن الآن في القرن الخامس عشر الهجري، هل تغيَّر حرفٌ واحدٌ في القرآن؟ حرفٌ؟ سبحان الله! مع أن الأمة الإسلامية اعتراها ما اعتراها من أحداثٍ عظيمةٍ؛ غزاها الصليبيون، وغزاها التتر، وحصل لها ما حصل في القرن الرابع الهجري: العبيديون استولوا على معظم أنحاء العالم الإسلامي، وانتشر التشيع حتى أصبح يُنادَى بـ”حي على خير العمل” في الحرمين! ومع ذلك بقي القرآن محفوظًا بحفظ الله ، نقرؤه غضًّا طريًّا كما نزل، كما يقرؤه رسول الله وصحابته .

سبحان الله! انظر إلى هذا الحفظ العجيب! بينما الكتب الأخرى؛ مثل: التوراة والإنجيل لم يتكفل الله  بحفظه، قال: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ [المائدة:44]، فأوكل حفظها للبشر فلم يحفظوها ودخلها التحريف.

وسيبقى هذا القرآن محفوظًا؛ ولهذا فأي محاولاتٍ في تحريف القرآن مقطوعٌ بفشلها، لا يمكن، هذا القرآن تكفل الله بحفظه: وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].

وكذلك أيضًا السُّنة تَدخُل في الذِّكر، السُّنة أيضًا محفوظةٌ بحفظ الله ، فلا يمكن أن تضيع السنة أو يضيع شيءٌ من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، كلها محفوظةٌ بحفظ الله .

وهذا من رحمة الله تعالى بهذه الأمة، أن الله تكفل بحفظ الذكر ولم يُوكِل حفظه للبشر؛ ولهذا قال: وأنزلت عليك كتابًا لا يغسله الماء، يعني: أنه محفوظٌ، ويبقى بحفظ الله تعالى إلى قيام الساعة.

تقرؤه نائمًا ويقظان، وهذا فيه إشارةٌ إلى تيسير القرآن: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17]، أي: أنه يصير القرآن لك مَلَكَةً بحيث يحضر في ذهنك فلا تغفل عنه نائمًا ولا يقظان، والعرب تقول للماهر بالشيء القادر عليه: يفعله نائمًا، فلانٌ يفعل هذا الشيء وهو نائمٌ؛ إشارةً إلى أنه ماهرٌ وحاذقٌ به.

فيكون معنى قوله: تقرؤه نائمًا ويقظان: أي أنه يُيسِّر لك ولأمتك، وهذا فيه إشارة لتيسير القرآن وتسهيله عليه وعلى أمته: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17].

وهذا نجده في الواقع، تجد الرجل الأعجمي يقرأ القرآن كما يقرؤه العربي، وأذكر مرةً أنني في إحدى الدول ذهبت إلى مقرأةٍ، ذهبت إلى مكانٍ يجتمع فيه عددٌ ممن يحفظ القرآن، مدرسة تحفيظ القرآن، وكل من فيها من العجم، فدخلت عليهم فإذا بهم لا يعرفون كلمةً عربيةً واحدةً، وإذا بهم يقرءون القرآن كما يقرؤه العرب قراءةً فصيحةً لا ترى فيها أثر عُجْمة، يقرأ القرآن كما يقرؤه العربي تمامًا، متقَنًا وبالتجويد كما يقرؤه العربي، وعندما أكلمه كلامًا عربيًّا لا يفهم ولا كلمةً.

فهذا من العجائب! هذا من العجائب! هذا من تيسير الله للقرآن: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17]، فهذا معنى قوله: تقرؤه نائمًا ويقظان؛ أي: أنه ييسر لك ولأمتك.

قال: وإن الله أمرني أن أُحرِّق قريشًا، معنى قوله: أن أحرق قريشًا، أي: أن أُغِيظَهم على ما أُسمِعُهم من الحق الذي يخالف أهواءهم، هذا هو المعنى الصحيح لهذا الحديث: أن أغيظهم على ما أسمعهم من الحق الذي يخالف أهواءهم، وليس هذا الحديث على ظاهره، لا يصح حمله على حقيقته، وأن الله أمره أن يحرق قريشًا بالنار؛ لأنه لم يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه حرق أحدًا من قريشٍ، بل إنه نهى عن التعذيب بالنار، وقال: لا يُعذِّب بالنار إلا ربُّ النار [16].

فإذنْ لا بد من تأويل الحديث بما يتوافق مع النصوص الأخرى، فيكون معنى أن أُحرِّق قريشًا يعني: أُغِيظهم على ما أُسمِعُهم من الحق الذي يخالف أهواءهم.

وهذا الاستعمال موجودٌ مثلًا عند الرُّقاة، يقول مثلًا: إني أُحرِّقه بالقرآن، هذا هو المقصود..، يعني: أُغِيظهم وأحرقهم بقراءة القرآن عليهم وبما يسمعون من الحق الذي يغتاظون به.

فقلت: ربي، إذنْ يثلغوا رأسي فيدعوه خبزةً، يعني: إذا قرأتُ عليهم القرآن وأسمعتهم الحق الذي يخالف أهواءهم، فإنهم سينتقمون مني، ربما يثلغون رأسي؛ يعني: يشدخون رأسي، فيجعلونه خبزةً؛ كما قال موسى : رَبِّ إِنِّي قَتَلۡتُ مِنۡهُمۡ نَفۡسٗا فَأَخَافُ ‌أَن ‌يَقۡتُلُونِ [القصص:33]، وهذا خوفٌ طبيعيٌّ؛ لأن الأنبياء بشرٌ.

قال: استخرِجهم كما استخرجوك، يعني: أنك ستُخرجهم كما أخرجوك من مكة إلى المدينة؛ وهذا يدل على أن هذا الحديث كان بعد هجرة النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة.

واغزُهم نُغزِك يعني: المقصود فتح مكة الذي حصل، يعني: نعينك على هذا الغزو، وهذا حصل في فتح مكة.

وأنفق يعني: في الجهاد في سبيل الله؛ فسنُنفق عليك يعني: ونعينك.

وابعث جيشًا؛ نبعث خمسةً مثله يعني: نبعث خمسةً من أمثاله من الملائكة؛ كما حصل في بدرٍ: يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [آل عمران:125]، هذا معنى الحديث.

وقاتل بمن أطاعك من عصاك، وهذا هو الذي فعله النبي كما حصل في غزوة بدرٍ وأُحُدٍ والخندق وفي فتح مكة، فهذا هو المقصود بهذا الحديث.

والنبي عليه الصلاة والسلام بقي يدعو الناس في مكة ثلاث عشرة سنةً إلى التوحيد، ثم هاجر إلى المدينة، وحصل ما حصل من الغزوات، إلى أن أظهره الله تعالى على أهل مكة في السنة الثامنة من الهجرة، وفَتَح مكة وأصبحت بلدًا إسلاميًّا، وقال: لا هجرة بعد الفتح [17]، يعني: أن مكة ستبقى بلدًا إسلاميًّا إلى قيام الساعة؛ لأنه قال: لا هجرة بعد الفتح، بعد الفتح انتهى، ستكون مكة بلدًا إسلاميًّا؛ فلا هجرة منها، وهذا فيه بشارةٌ أن مكة ستستمر وستبقى بلدًا إسلاميًّا، ولن يستولي عليها الكفار.

ثم بعد ذلك ذكر النبي عليه الصلاة والسلام أهل الجنة وأهل النار:

أصناف أهل الجنة وأهل النار

قال: وأهل الجنة ثلاثةٌ: ذو سلطانٍ مُقْسِطٌ متصدقٌ موفَّقٌ، ورجلٌ رحيمٌ رقيق القلب لكل ذي قُربى ومسلمٍ، وعفيفٌ متعففٌ ذو عيالٍ.

قال: وأهل النار خمسةٌ: الضعيف الذي لا زَبْرَ له، الذين هم فيكم تبعًا لا يبتغون أهلًا ولا مالًا، والخائن الذي لا يَخفى له طمعٌ وإن دَقَّ إلا خانه، ورجلٌ لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك، وذكر البخل أو الكذب، والشِّنْظِير الفحَّاش، ولم يذكر أبو غسان في حديثه: وأنفق فسننفق عليك [18].

نعم، قال: أهل الجنة ثلاثةٌ، وأهل النار خمسةٌ، وهذا يدل على أن أهل النار أكثر من أهل الجنة، وهذا ظاهرٌ من النصوص؛ فإن الله يقول: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116]، وقال: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13]، وقال: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [هود:17].

وأنت ترى الآن في كل وقتٍ، حتى في وقتنا الحاضر، سكان الأرض الآن ثمانية ملياراتٍ، أكثر من الثلثين كفارٌ، المسلمون مليارٌ وثمانمئة مليونٍ، في كل زمانٍ الكفار أكثر من المسلمين؛ وهذا يدل على أن أهل النار أكثر من أهل الجنة، لكن الله تعالى توعد بملئهما: أما النار فيقول الله لها: هل امتلأت؟ فتقول: هل من مزيد؟ فيضع الرب ​​​​​​​ قدمه حتى تقول: قطْ قطْ، يعني: حسبي حسبي فتمتلئ، وأما الجنة فيُنشئ الله تعالى خلقًا فتمتلئ، وهذا معنى قوله: ولكليكما عليَّ ملؤها [19].

قال: أهل الجنةِ ثلاثةٌ: ذو سلطانٍ: ذو سلطان يعني: صاحب ولايةٍ، أيًّا كانت هذه الولاية، بحيث يكون له سلطةٌ على غيره، مُقسِطٌ يعني: عادلٌ؛ فهذا يدل على أن العدل من صفات أهل الجنة، أنهم يتحرون العدل والقسط، متصدقٌ يعني: محسنٌ للناس، باذلٌ وليس بخيلًا، موفَّقٌ يعني: مهيَّأٌ لأسباب الخير.

هذا هو الصنف الأول من أصناف أهل الجنة: ذو سلطانٍ مقسطٌ متصدقٌ موفقٌ.

الثاني: ورجلٌ رحيمٌ رقيق القلب لكل ذي قُربى ومسلمٍ: رحيمٌ يعني: كثير الرحمة، رقيق القلب: ليس فظًّا ولا غليظًا، وإنما إنسانٌ رحيمٌ رقيق القلب للأقارب والمسلمين عمومًا، يتعامل معهم بأخلاق المؤمنين، يرحم ويُحسن، ورقيق القلب هذا من أهل الجنة، هذه من صفات أهل الجنة.

الثالث: وعفيفٌ مُتعفِّفٌ ذو عيالٍ، عفيفٌ يعني: يكف عما لا يحل له، سواءٌ من الفواحش، أو من المال الحرام، متعففٌ: أي أنه متكلِّف العفة، يعني: قد يكون عفيفًا بطبعه، أو أنه يتكلف العفة، ذو عيالٍ؛ لأن العيال كثيرًا ما يَحمِلون العبد على التكسب بغير وجهٍ شرعيٍّ لأجلهم.

فهذا الرجل ذو عيالٍ، ومع ذلك هو عفيفٌ ومتعففٌ وبعيدٌ عن الحرام، فكما ورد: أن الولد مَبخلةٌ مَجبنةٌ [20]، يعني: قد يحمل الولد أباه على أن يكتسب بطريقٍ غير شرعيٍّ، فهذا ذو عيالٍ، ومع ذلك لم يكتسب بطريقٍ غير شرعيٍّ، بل هو عفيفٌ متعففٌ.

فهذه حال أهل الجنة، هؤلاء الثلاثةُ أوصافُهم أوصاف أهل الجنة.

ثم ذكر عليه الصلاة والسلام بعض أوصاف أهل النار، قال: وأهل النار خمسةٌ:

  • الأول: الضعيف؛ المقصود بالضعيف: يعني الضعيف في دينه، عنده رقةٌ في الديانة، الذي لا زَبْرَ له، ومعنى لا زَبْرَ له: فسَّره بعض العلماء بما لا عقل له، ولكن اعتُرض على ذلك بأن الذي لا عقل له غير مُكلَّف، فكيف يُجعَل من أهل النار؟! غير المكلف مرفوعٌ عنه القلم؛ ولذلك فالمعنى الصحيح في قوله: لا زبر له، يعني: لا تَمَاسُك له عند مجيء الشهوات، فلا يرتدع عن فاحشةٍ، ولا يتورع عن حرامٍ، لا تماسك له عند مجيء الشهوات، فلا يرتدع عن فاحشةٍ، ولا يتورع عن حرامٍ، يعني: يفعل أيَّ شيءٍ؛ كما يقال: لا يحلل ولا يحرم، يفعل أي شيءٍ متى ما تهيأ له، هذا معنى قوله: لا زَبْر له.
    الذين هم فيكم تبعًا: تابعون، لا يبتغون أهلًا ولا مالًا، يعني: لا يطلب الحلال بالزواج فيتزوج ويكف نفسه عن الحرام، ولا يطلب مالًا حلالًا يكتسب به ويكف نفسه عن الحرام، بل الحلال عنده ما حل بيده، فهذا الصنف الأول من أصناف أهل النار.
  • الثاني: الخائن الذي لا يَخفى عليه طمعٌ وإن دقَّ إلا خانه، الخيانة تجري في دمه، لا يخفى عليه شيءٌ مما يُطمع فيه إلا وسلك ذلك الطريق، إشارةً للإغراق في الوصف بالخيانة.
  • الثالث: ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك، يعني: يطمع في أهلك ومالك مع كونه يُظهر الأمانة والعفة، لكنه يخونك في أهلك ومالك.
  • الرابع: قال: “وذكر البخل أو الكذب”، يعني: البخيل الكذاب، البخيل الكذاب هذه من صفات أهل النار، وهذا يدل على أن هذه الصفات صفاتٌ مذمومةٌ.
  • الخامس: الشِّنْظِير الفحَّاش، الشنظير: فسره بأنه الفحاش، يعني: سيئ الخلق، فهو سيئ الخلق، وذو فُحشٍ، لا يتكلم إلا بالفُحش من الكلام، وسيئ الأخلاق، فهذه من صفات أهل النار.

وحدَّثَناه محمد بن المُثّنَّى العَنَزي: حدثنا محمد بن أبي عَديٍّ، عن سعيدٍ، عن قتادة بهذا الإسناد، ولم يذكر في حديثه: كل مالٍ نحلتُه عبدًا حلالٌ [21].

حدثني عبدالرحمن بن بِشرٍ العبدي: حدثنا يحيى بن سعيدٍ، عن هشامٍ صاحب الدَّسْتُوائي: حدثنا قتادة، عن مُطَرِّفٍ، عن عياض بن حمارٍ: أن رسول الله  خطب ذات يومٍ، وساق الحديث، وقال في آخره: قال يحيى: قال شعبة، عن قتادة: قال: سمعت مُطَرِّفًا، في هذا الحديث [22].

وحدثني أبو عمارٍ حسين بن حُرَيثٍ: حدثنا الفضل بن موسى، عن الحسين، عن مطرٍ: حدثني قتادة، عن مطرف بن عبدالله بن الشِّخِّير، عن عياض بن حمارٍ أخي بني مُجَاشِعٍ قال: قام فينا رسول الله  ذات يومٍ خطيبًا فقال: إن الله أمرني..، وساق الحديث بمثل حديث هشامٍ عن قتادة، وزاد فيه: وإن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحدٍ، ولا يبغي أحدٌ على أحدٍ، وقال في حديثه: وهم فيكم تبعًا، لا يبغون أهلًا ولا مالًا، فقلت: فيكون ذلك يا أبا عبدالله؟ قال: نعم، والله لقد أدركتهم في الجاهلية، وإن الرجل ليرعى على الحي ما به إلا وليدتهم يطؤها [23].

نعم، في هذا الحديث يقول عياض بن حمارٍ : “قام فينا رسول الله ذات يومٍ خطيبًا”، هذا يدل أيضًا على أن هذا قاله في خطبةٍ، قال: إن الله أمرني -وفي الرواية الأخرى: أوحى إليَّ ربيأن تواضعوا، التواضع من الأخلاق الكريمة التي ينبغي أن يتصف بها المسلم.

حقيقة التواضع

قال ابن القيم رحمه الله: “التواضع: انكسار القلب لله، وخفض جناح الذل والرحمة للخلق”، هذه حقيقة التواضع: انكسار القلب لله، وخفض جناح الذل والرحمة للخلق.

ومن سنن الله : أنه من تواضع لله رفعه، لكن التواضع يكون لله؛ لأن بعض الناس قد يتواضع لأجل أن يُمدَح بالتواضع، هذا ليس تواضعًا لله، يتواضع لله، إذا تواضع لله؛ رفعه الله تعالى بذلك التواضع.

ويقال: إن الخُلُق الذي لا يُحسد عليه أحدٌ: هو التواضع، فالتواضع من الأخلاق الكريمة ومن أوصاف أهل الجنة.

قال المجد ابن تيمية رحمه الله: نهى الله ​​​​​​​ على لسان رسوله عن نوعي الاستطالة على الخلق: وهي الفخر والبغي؛ لأن المستطيل إن استطال بحقٍّ؛ فقد افتخر، وإن استطال بغير حقٍّ؛ فقد بغى، فلا يحل هذا ولا هذا، لا يحل الفخر ولا البغي والاستطالة على عباد الله ، بل الواجب هو التواضع، الذي ينبغي للمسلم: التواضع، ويتأكد هذا في حق طالب العلم، ينبغي أن يكون متواضعًا، وأن يبتعد عن الكِبر، وعن العُجب، وعن الفخر، وعن الخُيَلاء، وعن الاستطالة على الآخرين.

هذه الأخلاق لا تليق بالمسلم، ولا تليق بطالب العلم على وجه الخصوص.

ثم ذكر قال: وهم فيكم تبعًا لا يبغون أهلًا ولا مالًا، “فقلت: فيكون ذلك يا أبا عبدالله؟”، وهذه كنية مُطرِّف بن عبدالله، قال: “نعم، والله لقد أدركتهم في الجاهلية” -يعني في أواخر الجاهلية- “وإن الرجل ليرعى” -يعني المواشي- “على الحي” -يعني: القبيلة- “ما به إلا” -يعني: لا يريد إلا- “وليدتهم يطؤها”، مقابلَ فقط أن يُعطَى جاريةً، ومع ذلك يقوم عندهم ويرعى مواشيهم.

فينبغي ألا يستطيل أحدٌ على أحدٍ، وأن يَسُود التواضع، ولا يبغي أحدٌ على أحدٍ، ولا يفخر أحدٌ على أحدٍ.

ونكتفي بهذا القدر، ونقف عند باب عَرْض مقعد الميت، نفتتح به الدرس القادم إن شاء الله.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

الآن نجيب عما تيسر من الأسئلة:

الأسئلة

السؤال: ما حكم الذبح بالماكينة التي تقوم بتمرير الدجاج على سكاكين حادةٍ تقطع المريء والحلقوم، ويكون تشغيل تلك الماكينة من قِبَل رجلٍ يُسمِّي الله في أول مرةٍ فقط؟

الجواب: لا بأس بذلك، و”مجمع الفقه” سبق أن درس هذا الموضوع، ورأى أنه تكفي التسمية عند تشغيل الماكينة لأول مرةٍ، لكن إذا توقَّفَت ثم شُغِّلت مرةً أخرى؛ فلا بد من التسمية؛ لأنه يصعب التسمية على كل دجاجةٍ، بعض الشركات الآن تَذبح في اليوم مليون دجاجةٍ، فيصعب التسمية على كل دجاجةٍ، لكن عند تشغيل الماكينة، فالمشغِّل يقول: “بسم الله والله أكبر”، إلى أن تقف، فإذا شُغِّلت بعد ذلك؛ يُسمِّي ويقول: “بسم الله والله أكبر”، وما أنهر الدم وذُكر اسم الله عليه فَكُلْ [24].

فإذا كانت هذه السكاكين يحصل بها إنهار الدم وقطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين؛ فتكون التذكية تذكيةً صحيحةً.

السؤال: ما حكم صلاة التطوع على الدابة في الحضر؟

الجواب: هذا غير مشروعٍ، الذي وردت به السنة: صلاة التطوع على الدابة في السفر [25]، وأما في الحضر فلم يَرِد، والأصل في العبادات التوقيف، لكن في السفر صلاة الفريضة لا تكون على الدابة، إنما ينزل الإنسان ويصلي على الأرض حتى يأتي بالصلاة بجميع أركانها وشروطها وواجباتها.

أما صلاة النافلة فالأمر فيها واسعٌ، فيجوز أن تُصلَّى على الدابة، والدابة في وقتنا الحاضر مثل السيارة والطائرة والسفينة والقطار، فيجوز صلاة النافلة عليها في السفر، يومئ بالركوع والسجود ولو إلى غير القبلة.

فإذا كان الإنسانُ راكبًا في السيارة، وليس هو القائد للسيارة وإنما راكبٌ، أو راكبًا في طائرةٍ أو في قطار أو في سفينةٍ؛ فله أن يتنفَّل ما شاء، مثنى مثنى، يومئ بالركوع والسجود، وهذا قد وردت به السنة، لكن هذا خاصٌّ بالسفر وليس في الحضر [26].

السؤال: ما حكم تشغيل سورة البقرة في المنزل طوال الوقت من الأجهزة؟ وهل يحصل بها تحصين المنزل؟

الجواب: النبي يقول: البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة لا يقربه شيطان [27]، قال: تُقرأ، وأتى هذا الفعل مبنيًّا للمجهول؛ وهذا يدل على أن مجرد قراءة سورة البقرة تُحصِّن البيت من الشياطين، وجاء في بعض الروايات أنها ثلاثة أيامٍ، يكون التحصين ثلاثة أيامٍ، وبعض العلماء يقول: إنها يومٌ واحدٌ، والله تعالى أعلم، لكن هي ما بين يومٍ إلى ثلاثة أيامٍ، لكن الظاهر: أنه حتى لو كانت قراءة سورة البقرة عبر المسجل؛ يحصل ذلك التحصين؛ لأنه عليه الصلاة والسلام إنما أخبر عن مجرد القراءة: البيت الذي تُقرَأ فيه سورة البقرة..؛ وعلى هذا: فتشغيل سورة البقرة في البيت كاملةً لأجل تحصين البيت من الشياطين، لا بأس به، ويُرجَى أن يحصل تحصين البيت بذلك.

السؤال: ما حكم أن يأتي الرجل بعاملٍ ويطلب منه مبلغًا معينًا كل شهرٍ، ويتركه ليشتغل بما يريد؟

الجواب: هذا لا يجوز؛ لأن فيه مخالفةً لولي الأمر، والتعليمات الصادرة من ولي الأمر تمنع من هذا؛ لأن هذا يترتب عليه مفاسد كبيرةٌ على المجتمع، وإنما ينبغي الالتزام بالتنظيمات الصادرة من ولي الأمر، والتي الهدف منها تحقيق المصلحة العامة للمجتمع.

أمَّا أن يأتي بعمال ويطلقهم، ويأخذ منهم أموالًا، فهذه الأموال مقابل ماذا؟ هل هو على مجرد الكفالة؟ الكفالة ليست مُسوِّغًا لأن تأخذ مالًا على هذا العامل، فمثل هذا لا يجوز، لكن يأتي بعمالٍ على كفالته، ويجعلهم يعملون، ويلتزم بأنظمة الدولة، هذا هو المشروع لمن أراد أن يتعامل بهذه الطريقة.

السؤال: هل ينطبق حديث: ما من يومٍ يصبح العباد فيه إلا وينزل ملكان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا.. [28]، على المصروف الذي يعطيه الأب لأولاده كل صباحٍ وهم ذاهبون إلى المدرسة؟

الجواب: الظاهر أنه ينطبق؛ لأن المقصود بقوله: اللهم أعط منفقًا خلفًا؛ يعني: من أنفق في سبيلٍ من سبل الخير، والنفقة على العيال من سبل الخير، بل قال عليه الصلاة والسلام: دينارٌ أنفقتَه في سبيل الله، ودينار تصدقت به على مسكينٍ، ودينارٌ جعلته في رقبةٍ، ودينارٌ أنفقته على أهلك، أعظمها عند الله أجرًا: الذي أنفقته على أهلك [29]، رواه مسلمٌ.

فبيَّن عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: أن النفقة على الأهل مع الاحتساب أعظم أجرًا من النفقة على الفقير والمسكين؛ ولهذا إذا احتسب الإنسان هذه النفقة على أولاده؛ فالظاهر أنه يدخل في هذا الحديث، وتناله دعوة الملك بالخلف: اللهم أعط منفقًا خلفًا، لكن ينبغي استحضار النية، ينبغي -إذا أنفق الإنسان على أولاده وعلى أهله- أن يستحضر النية؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: واعلم أنك لن تنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله إلا أُجرت عليها، حتى ما تجعله في فِي امرأتك [30].

قوله: تبتغي بها وجه الله، إشارةٌ إلى أنه ينبغي استحضار النية عند النفقة على الأولاد والأهل.

السؤال: بالنسبة للمرأة يوم الجمعة: هل لها أن تصلي الظهر قبل أن تقام الخطبة في المسجد؟

الجواب: المرأة لا تجب عليها الجمعة، وإذا صلَّت في البيت؛ تصليها ظهرًا، وتأخذ أحكام صلاة الظهر؛ وعلى ذلك: إذا دخل وقت صلاة الظهر؛ فلها أن تصلي صلاة الظهر، وليس لها أي ارتباطٍ بالخطبة أو الخطيب، فبمجرد دخول وقت صلاة الظهر؛ لها أن تصلي صلاة الظهر ولو كان ذلك قبل انقضاء خطبة الخطيب، فليس لها أي ارتباطٍ بخطبة الجمعة.

السؤال: ما أشملُ كتب التفسير وأيسرها؟

الجواب: من أجود كتب التفسير: “تفسير ابن كثيرٍ”، وابن كثيرٍ متأثرٌ بابن جَريرٍ الطبريِّ، كثيرٌ مما يذكره ابن كثيرٍ ينقله عن ابن جَريرٍ؛ ولذلك فشيخ المفسرين: هو ابن جَريرٍ الطبري، وعند أكثر أهل العلم: أن أعظم كتب التفسير “تفسير ابن جرير الطبري”، ولكن “تفسير ابن جريرٍ الطبري” فيه طولٌ مُفْرِطٌ؛ لأنه يذكر الآثار بأسانيدها، فيذكر القول، ثم يذكر من قال به: حدثنا فلانٌ، عن فلانٍ، عن فلانٍ، ثم يأتي بالأثر، ثم الأثر الثاني، والثالث..، وهكذا، وهذا أعاق الإفادة منه.

ولذلك تقريبًا من سنتين أو يزيد، بدأتُ في مشروعٍ في اختصار “تفسير ابن جريرٍ الطبري”، ونحن -إن شاء الله- الآن في أواخر هذا المشروع، تقريبًا انتهينا منه، ونحن في طَور المراجعة، وسنُخرِج “مختصر تفسير ابن جرير الطبري” بإذن الله تعالى.

وأيضًا يضاف له استدراكاتٌ على اختياراتِ ابن جريرٍ، فإذا اختار ابن جريرٍ رأيًا وخالف ابنُ كثيرٍ؛ يُذكر استدراك ابن كثيرٍ مثلًا في الحاشية، أو استدراك ابن عطية، أو ابن تيمية، أو ابن القيم، وسنحذف الاستطراد فقط والأسانيد عند ابن جريرٍ، بحيث تبقى عبارة ابن جريرٍ التي تركز على المعنى فقط، على معنى الآية، فهذا -إن شاء الله- سنُخرِجه -بإذن الله تعالى- قريبًا، وسنُعلن عنه في حينه إن شاء الله تعالى.

هناك أيضًا بعض الكتب، مثل “التفسير الميسر” أيضًا، يركز على المعنى، وهو مفيدٌ، وأيضًا “تفسير الجلالين”، ميزته أنه يركز أيضًا على المعنى، ومختصرٌ أيضًا، وكذلك “تفسير القرطبي”، أيضًا فيه فوائد لا توجد في غيره، وكذلك أيضًا “التحرير والتنوير”، أيضًا فيه فوائد ونوادر لا توجد في غيره، وهو من أفضل كتب التفسير.

السؤال: ما حكم تقديم الست من شوالٍ على القضاء؟

الجواب: أما من حيث الصحة: فيصح، القول الراجح: أنه يصح تقديم النفل على الفرض، خلافًا لمن قال من الفقهاء: إنه لا يصح، كما هو المشهور من مذهب الحنابلة.

الراجح: أنه يصح؛ لأنه ليس هناك دليلٌ يدل على عدم صحة تقديم النفل على الفرض؛ كما في الصلاة يقدم النفل على الفرض؛ فكذلك في الصوم.

لكن من جهة حصول الثواب الوارد في الحديث، فالظاهر أنه لا يحصل إلا لمن قدَّم القضاء على الست؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال: من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوالٍ؛ كان كصيام الدهر [31]، ومن كان عليه أيام قضاءٍ؛ لا يَصْدق عليه أنه صام رمضان، وإنما صام بعض رمضان، فحتى يصدق عليه أنه صام رمضان كاملًا؛ لا بد من أن يقضي أولًا ثم يصوم الست، هذا هو الأقرب والله أعلم، وهذا اختيار شيخنا ابن بازٍ وابن عثيمين، رحمهما الله تعالى: أنه لا بد أولًا يبدأ بالقضاء، ثم بعد ذلك يصوم الست، وليس معنى ذلك: أنه لا يجوز، يجوز، يجوز تقديم الست على القضاء، لكن من أراد الفضل كاملًا، وأن يحصل له الفضل الوارد: كان كصيام الدهر؛ فيبدأ بالقضاء أولًا، ثم بعد ذلك صيام الست.

السؤال: ما حكم صيام ستٍّ من شوالٍ في شهر ذي القعدة؟

الجواب: يجوز لمن كان له عذرٌ، من كان له عذرٌ ولم يتيسر له أن يصوم الست من شوالٍ في شهر شوالٍ؛ فيقضيها في شهر ذي القعدة على القول الراجح، وهذا اختيار ابن سعدي وابن عثيمين، رحمهما الله تعالى؛ كإنسانٍ مثلًا سافر في شهر شوالٍ، أو كان مريضًا، أو امرأةٌ كانت نفساء في رمضان، ثم قضت في شهر شوالٍ ولم تتمكن من القضاء إلا مع نهاية شهر شوالٍ، فهذا الذي له عذرٌ، يجوز له أن يصوم الست في شهر ذي القعدة قضاءً.

والإنسان إذا اعتاد نافلةً ولم يتمكن من الإتيان بها في وقتها، شُرع له قضاؤها، كما جاء في “الصحيحين” من حديث عمران  أن النبي قال لرجلٍ: هل صمت مِن سَرَرِ شعبان شيئًا؟، قال: لا، قال: فإذا أفطرتَ؛ فَصُم يومين [32].

وسَرَر شعبان يعني: آخر شعبان، وهذا الرجل يقال: إنه نذر أن يصوم آخر شعبان، وقيل إنه اعتاد أن يصوم آخر الشهر، لكنه لما سمع النبي ينهى عن تقدم رمضان بيومٍ أو يومين؛ لم يصم، فأرشده النبي عليه الصلاة والسلام لقضاء هذين اليومين بعد رمضان؛ وهذا يدل على أن من كان قد اعتاد على نافلةٍ ثم شُغل عنها؛ يُشرَع له قضاؤها، ومِن ذلك: مَن كان له عذرٌ منعه من صيام الست من شوالٍ في شهر شوالٍ، فيشرع له أن يقضيها في شهر ذي القعدة.

السؤال: هل يصح أن تُجمع السنن الرواتب فتكون بسلامٍ واحدٍ؟

الجواب: لا يشرع، الأصل في العبادات التوقيف، وهذا إنما ورد في صلاة الوتر خاصةً؛ تجمع ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا أو تسعًا في صلاة الوتر خاصةً، وأيضًا على غير الغالب، فالغالب أن يصليها مثنى مثنى، لكن لو جمعها أحيانًا فلا بأس.

أما بالنسبة للسنن الرواتب: فلا يشرع جمعها بتشهدٍ واحدٍ وسلامٍ واحدٍ.

السؤال: وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا، لماذا قال الله: فِي صُدُورِهِمْ، ولم يقل: “في قلوبهم”؟

الجواب: لأن القلوب في الصدور، فيعبر عن القلوب بالصدور؛ المقصود: أنهم لا يجدون حسدًا في أنفسهم على إخوانهم المسلمين، وهذا أثنى الله تعالى به على الأنصار: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا [الحشر:9]، يعني: أنهم لا يحسدون المهاجرين، مع أن المهاجرين قَدِموا عليهم وفُضِّلوا عليهم، ومع ذلك فالأنصار تبوءوا الدار والإيمان، واستقبلوهم ورحَّبوا بهم ولم يحسدوهم، وهذا فيه إشارةٌ إلى فضيلة سلامة الصدر وبُعد الإنسان عن الحسد؛ فإن سلامة الصدر من أوصاف المتقين، ومن أوصاف أولياء الله ، بل من أوصاف أهل الجنة، فإن الله ذكر عن أهل الجنة أنه يُنزَع من قلوبهم الغِلُّ، كما قال الله تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [الأعراف:43]؛ وهذا يدل على أن سلامة الصدر ونزع الغل نعيمٌ؛ ولذلك ذكره الله تعالى من نعيم أهل الجنة؛ لأن الذي يحسد غيره، ويحمل الغل والحقد يتعذب ويتألم؛ لأن نار الحسد يكتوي بها.

فكون الإنسان يحرص على سلامة صدره، ويكون بعيدًا عن الغل والحسد؛ فهذه من صفات أولياء الله، ومن صفات المتقين، بل من صفات أهل الجنة.

السؤال: لدي محلٌّ، يَطلب بعض الزبائن -عبر الاتصال- بضاعةً غير موجودةٍ لدي، فأقوم بالاتصال على محلات الجملة، ويرسلونها للزبون مباشرةً وأقبض الثمن وآخذ الفرق بين السعرين، هل هذا من بيع ما لا يَملِك؟

الجواب: إذا كنت تبيع على الزبون والسلعة ليست عندك؛ فهذا لا يجوز؛ لأنه بيعُ ما لا يَملِك، لكن المَخرج: أن تتوكَّل عن الزبون في الشراء، تتوكل عنه في الشراء، وتأتي بالصيغة، تقول مثلًا إذا كان مكتوبًا: أنا أتوكَّل في شراء السلعة التي تريد، المهم أن تعتبر نفسك وكيلًا وتأخذ أجرةً على الوكالة، هذا خيارٌ.

الخيار الثاني: أن تَعِد الزبون بأنك إذا جهَّزت السلعة له؛ تبيعها له، فيكون التفاوض الذي بينك وبين الزبون على سبيل الوعد وليس على سبيل العقد، بحيث إن الزبون له الحق في أن ينسحب، ولك الحق أيضًا أن تعتذر؛ لأنه وعدٌ وليس عقدًا، والعقد هو المُلزِم، أما الوعد فليس ملزمًا.

 فهناك مخارج لمن حرص على الحلال، سيجد مخارج، أما أن تبيعه السلعة وهي ليست عندك؛ فهذا لا يجوز، وهذا هو الذي سأل حكيم بن حزامٍ عنه النبي عليه الصلاة والسلام قال: يا رسول الله، إن الرجل يأتيني وأبيعه، والسلعة ليست عندي؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لا تبع ما ليس عندك [33].

فلا يجوز للإنسان أن يبيع شيئًا ليس عنده ولا يملكه، لكن المخارج -كما ذكرنا- كثيرةٌ؛ من أبرزها: أن تتوكل عن الزبون في الشراء، وتأخذ أجرةً على الوكالة، ومن المخارج أن تعتبر تفاوضك مع الزبون على سبيل الوعد، وتجعل العقد بعدما تُحضر السلعة، فهذا أيضًا مَخرجٌ.

فإذا اهتم الإنسان بالحلال؛ سيجد مخارج وبدائل حلالًا تُغنيه عن الوقوع في الحرام.

والفرق في المعاملات بين الحلال والحرام فرقٌ دقيقٌ؛ ولهذا فمن قديمٍ المشركون قالوا: لا فرق بين البيع والربا، كلاهما واحدٌ، فأنزل الله قوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا، قال الله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275].

فأحيانًا الفرق في المعاملات بين الحلال والحرام فرقٌ دقيقٌ، ومن ثمرة التفقه في الدين: أن الإنسان يستطيع أن يُحصِّل غرضه بطريقٍ مباحٍ، لكن المهم أن يهتم بالتفقه في تلك المسألة، وسيجد من البدائل ما يغنيه عن الوقوع في الحرام.

ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1, ^2 رواه مسلم: 2859.
^3, ^5 رواه مسلم: 2860.
^4 رواه ابن ماجه: 4055.
^6 رواه البخاري: 4625.
^7 رواه مسلم: 2861.
^8, ^9 رواه مسلم: 2862.
^10 رواه مسلم: 2863.
^11 رواه مسلم: 2864.
^12, ^13 رواه البخاري: 4712، ومسلم: 194.
^14, ^18, ^21, ^22, ^23 رواه مسلم: 2865.
^15 رواه البخاري: 1385، ومسلم: 2658
^16 رواه أبو داود: 2673، وأحمد: 16034.
^17 رواه البخاري: 2783، ومسلم: 1864.
^19 رواه البخاري: 7449، ومسلم: 2846.
^20 رواه ابن ماجه: 3666، وأحمد: 17562.
^24 رواه البخاري: 3075، ومسلم: 1968.
^25 رواه البخاري: 1100، ومسلم: 700.
^26 رواه مالك: 25، وأحمد: 4520.
^27 رواه مسلم: 780.
^28 رواه البخاري: 1442، ومسلم: 1010.
^29 رواه مسلم: 995.
^30 رواه البخاري: 56، ومسلم: 1628.
^31 رواه مسلم: 1164.
^32 رواه البخاري: 1983، ومسلم: 1161.
^33 رواه أبو داود: 3503، والترمذي: 1232، وقال: حديث حسن.
zh