عناصر المادة
تأملوا -أيها الإخوة- هذا الحديث العظيم: مَن يُرد الله به خيرًا يُفقهه في الدين [1] يعني: إذا رأيتَ من نفسك الحرص على التَّفقه في دين الله فهذه أمارةٌ -إن شاء الله- على أنه أُريد بك الخير.
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه واتَّبع سُنته إلى يوم الدين.
اللهم لا علمَ لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.
ربنا آتنا من لدنك رحمةً، وهيِّئ لنا من أمرنا رشدًا.
نستأنف هذا الدرس بعد التَّوقف خلال شهر رمضان وأيام العيد، ونسأل الله تعالى الفقه في الدين والعلم النافع.
وكنا قد بدأنا في الدروس الأخيرة في ذكر صفة الجنة والنار، وانتهينا من الأحاديث في صفة الجنة -جعلنا الله تعالى جميعًا من أهلها- وبدأنا في أحاديث صفة النار، ووصلنا إلى حديث أبي هريرة : ضرس الكافر -أو ناب الكافر- مثل أُحُدٍ [2].
من صفات أهل النار
القارئ: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمدٍ عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التَّسليم.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمُستمعين.
قال الإمام مسلمٌ رحمه الله تعالى:
حدثني سُرَيج بن يونس، قال: حدثنا حميد بن عبدالرحمن، عن الحسن بن صالح، عن هارون بن سعد، عن أبي حازمٍ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ضِرْس الكافر -أو ناب الكافر- مثل أُحُدٍ، وغِلَظ جلده مسيرة ثلاثٍ.
قال: حدثنا أبو كُرَيبٍ، وأحمد بن عمر الوَكِيعِي، قالا: حدثنا ابن فُضيلٍ، عن أبيه، عن أبي حازمٍ، عن أبي هريرة -يرفعه- قال: ما بين مَنْكِبَي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيامٍ للراكب المُسْرِع، ولم يذكر الوكيعي: في النار [3].
الشرح:
عذاب النار عذابٌ شديدٌ فوق خيال العقل البشري.
لما تكلمنا عن نعيم الجنة ذكرنا أن نعيم الجنة فوق مستوى خيال العقل البشري، كما قال سبحانه: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة:17]، وقال عليه الصلاة والسلام: فيها ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خطر على قلب بشرٍ [4].
كذلك أيضًا عذاب النار عذابٌ شديدٌ جدًّا فوق مستوى خيال العقل البشري، ففي هذا الحديث يُبيِّن النبي عليه الصلاة والسلام أن بدن الكافر يضخم يوم القيامة؛ وذلك ليكون أبلغ في إيلامه إذا عُذِّبَ في النار، فيكون ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل جبل أُحُدٍ، ويكون غِلَظ جلده مسيرة ثلاثة أيامٍ؛ ليكون أبلغ في إيلامه، ويكون ما بين مَنْكِبَي الكافر مسيرة ثلاثة أيامٍ للراكب المُسْرِع، والله على كل شيءٍ قديرٌ.
ولا يقل الإنسان: كيف؟ فالله على كل شيءٍ قديرٌ، ولكن هل هذا في حقِّ جميع أهل النار؟
الجواب: قال أبو العباس القرطبي رحمه الله: “هذا إنما يكون في حقِّ البعض”، يعني: في حقِّ بعض أهل النار، وليس في حقِّ جميعهم، بدليل قول النبي : يُحْشَر المُتكبرون يوم القيامة أمثال الذَّرِّ في صور الناس، يَعْلُوهم كل شيءٍ من الصَّغار حتى يدخلوا سجنًا في جهنم يُقال له: بولس، فتعلوهم نار الأنيار [5]، أخرجه أحمد بسندٍ حسنٍ.
فهنا بيَّن عليه الصلاة والسلام أن المُتكبرين يكونون أمثال الذَّرِّ، وهذا يدل على أن أهل النار مُتفاوتون في العذاب، ومُتفاوتون أيضًا في أحجامهم، وهذا التفاوت قد دلَّت له نصوص الكتاب والسنة، فإن النار دركاتٌ، كما أن الجنة درجاتٌ، فالله تعالى قال عن المنافقين: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145]، لكن عذاب النار عذابٌ شديدٌ جدًّا، وأهون أهل النار عذابًا يكون له شِرَاكان من نارٍ يغلو منهما دماغه [6]، ويكفي في وصف النار قول النبي عليه الصلاة والسلام: ناركم هذه التي يُوقِد ابن آدم جزءٌ من سبعين جزءًا من نار جهنم، قالوا: يا رسول الله، إن كانت لكافيةً. قال: إنها فُضِّلَتْ عليها بتسعةٍ وستين جزءًا [7].
سبحان الله!
يعني: هذه النار -نار الدنيا- مع شدة حرارتها، نار جهنم ضُعِّفَتْ عليها تسعًا وستين مرةً، وألمها شديدٌ؛ ولذلك أهل النار يبكون الدمع، ثم يبكون الدم: لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى [طه:74]، يتمنون العدم: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [الزخرف:77]، لا يرجون النَّجاة أصلًا من النار؛ لأن الله حرَّم الجنة على الكافرين، لكن يريدون العدم: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ مالك: خازن النار لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ يعني: ما نريد حياةً، قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف:77- 78].
فعذاب النار عذابٌ شديدٌ؛ ولذلك ينبغي ألا يغيب هذا العذاب عن ذهن المسلم، وأن يكون مُشفقًا منه، فإن الله سبحانه امتدح الذين هم من عذاب ربهم مُشفقون، وامتدح الذين يستعيذون بالله من النار: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان:65- 66]، رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران:192]، قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ يعني: خائفين من النار فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:26- 27]، فالخوف من النار والإشفاق منها من صفات عباد الله المتقين.
فينبغي ألا يغفل المسلم عن ذكر النار، وعما أعدَّ الله تعالى فيها من العذاب الشديد، وأن يكون هذا حاضرًا؛ لأن هذا من أعظم ما يكون من الردع عن المعاصي.
ثم إن الناس كلهم بمَن فيهم الأنبياء والرسل سوف يعبرون الصِّراط المنصوب على متن جهنم، فلا بد أن يعبره جميع البشر: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا الورود هو: المرور على الصراط كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم:71- 72]، فجميعنا سوف نمر على هذا الصراط المنصوب على متن جهنم، لكن أهل الجنة يعبرونه بحسب أعمالهم، أما أهل النار فيقعون في النار.
القارئ: أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله:
حدثنا عبيدالله بن معاذ العنبري، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا شعبة، قال: حدثني معبد بن خالد: أنه سمع حارثة بن وهبٍ : أنه سمع النبي قال: ألا أُخبركم بأهل الجنة؟ قالوا: بلى. قال : كل ضعيفٍ مُتَضَعَّفٍ، لو أقسم على الله لَأَبَرَّه، ثم قال: ألا أُخبركم بأهل النار؟ قالوا: بلى. قال: كل عُتُلٍّ، جَوَّاظٍ، مُسْتَكْبِرٍ [8].
قال: وحدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، بهذا الإسناد بمثله، غير أنه قال: ألا أدلُّكم.
قال: وحدثنا محمد بن عبدالله بن نُمَيرٍ، قال: حدثنا وكيعٌ، قال: حدثنا سفيان، عن معبد بن خالد قال: سمعتُ حارثة بن وهبٍ الخزاعي يقول: قال رسول الله : ألا أُخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيفٍ مُتَضَعَّفٍ، لو أقسم على الله لَأَبَرَّه، ألا أُخبركم بأهل النار؟ كل جَوَّاظٍ، زَنِيمٍ، مُتَكَبِّرٍ [9].
قال: حدثني سُوَيد بن سعيدٍ، قال: حدثني حفص بن ميسرة، عن العلاء بن عبدالرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة : أن رسول الله قال: رُبَّ أَشْعَثَ مدفوعٍ بالأبواب لو أقسم على الله لَأَبَرَّه [10].
الشرح:
في هذا الحديث ذكر أوصاف، أو ذكر بعض أوصاف أهل الجنة، وبعض أوصاف أهل النار.
يقول عليه الصلاة والسلام: ألا أُخبركم بأهل الجنة؟ يعني: بأوصاف أهل الجنة كل ضعيفٍ يعني: مُتواضعًا، مُتَذَلِّلًا، بعيدًا عن الكِبْر، وعن العُجْب والفخر، مُتَضَعَّفٍ أو مُتَضَعِّفٍ.
قال النووي رحمه الله: “ضبطوا “مُتَضَعَّف” بفتح العين، و”مُتَضَعِّف” بكسرها”، ثم قال النووي: “والمشهور الفتح: مُتَضَعَّف”.
ومعنى “مُتَضَعَّف”: يستضعفه الآخرون، ويحتقرونه، ويتجَبَّرون عليه؛ لضعف حاله في الدنيا.
وأما رواية: مُتَضَعِّف بكسر العين، فالمقصود أنه مُتواضعٌ، مُتذللٌ.
وكلا المعنيين صحيحٌ، فأهل الجنة تجد فيهم الخشوع والتواضع، وربما أن بعضهم يُسْتَضْعَف.
لو أقسم على الله لَأَبَرَّه يعني: لو حلف بالله تعالى طمعًا في كرم الله وحُسْن ظنٍّ به لَأَبَرَّ الله قسمه، وحقق ما حلف عليه.
لو قال: والله ليحصلنَّ كذا؛ إكرامًا له يَبَرُّ الله بقسمه ويحصل كذا، من إكرام الله له، ومن عظيم منزلته عند الله ، مع أنه عند الناس ليس له كبير قيمةٍ، لكنه عند الله له منزلةٌ رفيعةٌ بحيث لو أقسم على الله لَأَبَرَّه.
وفي الرواية الأخرى: ألا أُخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيفٍ مُتَضَعِّفٍ يعني: مُتواضعًا لو أقسم على الله لَأَبَرَّه إكرامًا له.
ثم قال: ألا أُخبركم بأهل النار؟ قالوا: بلى. قال: كل عُتُلٍّ، العُتُل: هو الجافي الشديد الخصومة بالباطل، الغليظ، شديد الخصومة بالباطل.
قال: كل عُتُلٍّ، جَوَّاظٍ، الجَوَّاظ: هو الجَمُوع المَنُوع، يجمع ويحرص على المال بشدةٍ ويمنع، ما يُعطي أحدًا شيئًا، ولا يُخرج الواجب عليه، جَمُوعٌ، مَنُوعٌ، هذا يُقال له: جَوَّاظ.
وفي الرواية الأخرى: زَنِيم، ومعنى “زَنِيم”: دَعِي في النَّسب، مُلْصِقٌ نفسه بقومٍ، وهو ليس منهم.
وقيل: إن معنى “زَنِيم”: اللئيم، وهذا أقرب، اللئيم المعروف بِلُؤْمِه وشَرِّه.
كل عُتُلٍّ، جَوَّاظٍ، مُسْتَكْبِرٍ، وفي الرواية الأخرى: كل جَوَّاظٍ، زَنِيمٍ، مُتَكَبِّرٍ، الكِبْر فسَّره النبيُّ وعرَّفه بتعريفٍ جامعٍ مانعٍ.
ما تعريف الكِبْر؟
طالب: ………
الشيخ: أحسنتَ.
“بَطَر الحقِّ، وغَمْط الناس”، هذا هو الكِبْر.
“بَطَر الحقِّ” يعني: عدم قبول الحق.
و”غَمْط الناس” احتقار الناس، هذا هو الكِبْر.
ولما سُئل النبي عن الرجل يُحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنةً، هل هذا من الكِبْر؟ قال: إن الله جميلٌ يُحب الجمال [11]، هذا من الجمال الذي يُحبه الله: التَّجمل في الملبس، والتَّجمل في المركب، والتَّجمل في المسكن، والتَّجمل في كل شيءٍ هذا من الجمال الذي يُحبه الله، وليس من الكِبْر في شيءٍ، الكِبْر شيءٌ مُتعلقٌ بالقلب، هو ردُّ الحق وعدم قبوله ممن جاء به، وأيضًا احتقار الناس وازدراؤهم، هذا هو الكِبْر.
إذن من صفات أهل الجنة: التواضع والتَّذلل للمؤمنين، والبُعْد عن الكِبْر، وعن الغِلْظَة، والتَّخلُّق بأخلاق المؤمنين، هذه من صفات أهل الجنة.
ومن صفات أهل النار: الجفاء، والغِلْظَة، والكِبْر، والعُجْب، وشدة الخصومة واللُّؤْم، هذه من صفات أهل النار.
فينبغي أن يحرص المسلم على التَّخلق بأخلاق أهل الجنة؛ يحرص على التَّواضع في كل شيءٍ، يتواضع لإخوانه المؤمنين، يتعامل معهم كما قال الله تعالى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [المائدة:54]، أذلة، كأنه ذليلٌ، لكن مع علوه، ما قال: أذلة للمؤمنين، وإنما قال: عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، يعني: مع علوه، لكن يتعامل معهم بالتَّذلل وبالتَّواضع، وبِخَفْض الجناح، وبالرحمة، وبالمحبة، وبالمودة، هذه صفات أهل الجنة.
أما الذي يتعامل مع إخوانه المؤمنين بعكس ذلك؛ يتعامل معهم بالكِبْر، وبالقسوة، وبالجفاء، وبالغِلْظَة، وباللُّؤْم، وبالكذب، هذه من صفات أهل النار.
ثم في حديث أبي هريرة يقول عليه الصلاة والسلام: رُبَّ أَشْعَثَ مدفوعٍ بالأبواب.
قوله: أَشْعَثَ من الشَّعث، والشَّعث هو الأَشْعَث: مُتَلَبِّد الشعر، مُغْبَرّ الشعر، يعني: أن شعره تكون فيه غُبْرَةٌ بحيث لا يُكْثِر من غسله، ولا يدهنه، فهو رجلٌ بسيطٌ.
أَشْعَثَ وفي روايةٍ أخرى: أَغْبَرَ.
مدفوعٍ بالأبواب يعني: لا يُؤذن له، بل يُحْجَب ويُطْرَد؛ لعدم قيمته عند الناس، فالناس يحتقرونه، فليس بصاحب مالٍ، وليس بصاحب منصبٍ، لكنه عند الله له منزلةٌ عليةٌ: لو أقسم على الله لَأَبَرَّه رجلٌ تَقِيٌّ، لو أقسم على الله لَأَبَرَّه.
وهذا يدل على أن العبرة ليست بالمظاهر، العبرة بما يكون في القلوب، فَرُبَّ إنسانٍ مُحْتَقَرٍ عند الناس، مدفوعٍ بالأبواب، ليس له قيمةٌ عند الناس، لكن له قيمةٌ عند الله، بحيث لو أقسم على الله لَأَبَرَّه، فلو حلف على الله ليحصلنَّ كذا أَبَرَّ الله قَسَمَه وحصل كذا.
ربما يكون هذا عاملًا مسكينًا، يراه الناس ويحتقرونه، وهو مدفوعٌ بالأبواب، لكنه إنسانٌ تَقِيٌّ، ربما يكون فقيرًا من فقراء المسلمين، فهذا يدل على أن العبرة ليست بالمظاهر، وإنما العبرة بما في القلوب: إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم [12].
والموازين عند الله تختلف عن الموازين عند البشر، فموسى عليه الصلاة والسلام يقول الله عنه: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه:41]، ويقول عنه فرعون: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ يعني: حقيرًا وَلَا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف:52]، هذا الذي يقول عنه فرعون: مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ يقول الله عنه: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي.
الموازين عند الله تختلف عن الموازين عند البشر: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، فميزان التَّفاضل بين البشر عند الله تعالى هو ميزانٌ واحدٌ، وهو التَّقوى، ليس بالنَّسب، ولا بالحسب، ولا بالمال، ولا بالجاه، ولا بالشكل، ولا بأي معيارٍ يتفاضل به البشر، إنما هو معيارٌ واحدٌ فقط، وهو التقوى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، فمَن كان أكثر تقوى كان أكرم عند الله سبحانه.
شرح حديث عبدالله بن زَمْعَة
القارئ: أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله:
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كُرَيبٍ، قالا: حدثنا ابن نُمَيرٍ، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبدالله بن زَمْعَة قال: خطب رسول الله فذكر النَّاقة، وذكر الذي عقرها، فقال: إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا [الشمس:12] انبعث بها رجلٌ عزيزٌ، عارمٌ، مَنِيعٌ في رَهْطِه، مثل أبي زَمْعَة، ثم ذكر النساء فوعظ فيهنَّ، ثم قال: إِلَامَ يجلد أحدُكم امرأتَه في رواية أبي بكرٍ: جَلْد الأَمَة، وفي رواية أبي كُرَيبٍ: جَلْد العبد، ولعله يُضاجعها من آخر يومه؟! ثم وعظهم في ضحكهم من الضَّرْطَة فقال: إِلَامَ يضحك أحدكم مما يفعل؟! [13].
الشرح:
هذا الحديث -وهو حديث عبدالله بن زَمْعَة- تضمن ثلاثة أحاديث:
الأول: أن النبي خطب “فذكر الناقة” ناقة ثمود، “وذكر الذي عقرها”، وهذه الناقة قد اقترحها قوم صالحٍ، لما أتاهم وقال: إني رسولٌ من عند الله. قالوا: إذا كنتَ رسولًا من عند الله فأخرج لنا ناقةً. وتَعَنَّتوا في وصفها: نريد أن تكون هذه الناقة بصفة كذا وكذا وكذا. فقال: أدعو الله. فدعا الله ؛ فأخرج الله لهم ناقةً من صخرةٍ على ما يريدون.
وكانت هذه الناقة ناقةً عظيمةً جدًّا، وكانت ترعى حيث شاءتْ، وكان لها وِرْدُ يومٍ، ولقوم صالح وِرْد اليوم الآخر، لها وِرْد يومٍ، ولكم وِرْد يومٍ معلومٍ، وإذا كان وِرْد يومها شربت الماء كله، وكانوا يرفعون حاجتهم من الماء للغد.
يعني: إذا كان يومهم رفعوا حاجتهم من الماء للغد؛ لأن اليوم الثاني يوم الناقة، ليس لهم، ولن يأتيهم الوِرْد إلا بعد غدٍ، حتى ضاق بهم الأمر؛ فاجتمع أكبر المُفسدين، وهم تسعة رَهْطٍ ذكرهم الله تعالى: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ [النمل:48]، فكان أشرارهم تسعةً، وكان أخبثهم وأشرّهم الذي عقر الناقة، واسمه: قُدَار بن سَالِف، ويُقال: إنه ابن زنا.
قال: “وذكر الذي عقرها” وهو قُدَار بن سَالِف، هو الذي ذبح الناقة: إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا [الشمس:12] أشقى هؤلاء التسعة، وأشقى قوم ثمود هذا: قُدَار بن سَالِف.
انبعث بها رجلٌ عزيزٌ يعني: قليلًا مثله في الشر، وفي اللُّؤْم، وفي الخُبْث، وفي الصبر والجَلَد.
عارمٌ يعني: جبارًا، صعبًا، مُفسدًا، خبيثًا.
مَنِيعٌ قويٌّ، ذو مَنَعَةٍ.
جمع هذه الصفات كلها في الشَّر، فقام في رَهْطه، مثل أبي زَمْعَة وهو جدّ عبدالله بن زَمْعَة راوي الحديث، وهو أحد المُستهزئين برسول الله ، ومات على كفره، فَمَثَّل به النبيُّ عليه الصلاة والسلام.
وقصَّ الله تعالى علينا قصة قوم ثمود: أنهم لما عقروا الناقة عاقبهم الله بالصيحة التي استأصلتهم، ولم يَبْقَ إلا صالحٌ ومَن آمن معه فقط.
الحديث الثاني: ذكر النبي النساء، “فوعظ فيهنَّ” يعني: أمر بمُعاشرتهن بالمعروف، ثم قال: إِلَامَ يعني: عَلَامَ يجلد أحدُكم امرأتَه، وفي رواية أبي بكرٍ: جَلْدَ الأَمَة، وفي رواية أبي كُرَيبٍ: جَلْدَ العبد، ولعله يُضاجعها من آخر يومه؟! يعني: هذا فيه النَّهي عن ضرب النساء لغير ضرورة التَّأديب، وأن الرجل كيف يجلد امرأته ويضربها ثم يُجامعها في آخر النهار؟!
والمُجامعة إنما تُستحسن مع ميل النفس والرغبة في العِشْرَة، والمجلود غالبًا ينفر ممن جلده، فوقعت الإشارة لِذَمِّ هذا، وهذا فيه تحذيرٌ من ضرب النساء، وذَمٌّ لضرب النساء.
ثم الحديث الثالث: قال: “ثم وعظهم في ضحكهم من الضَّرْطَة”، فقال: إِلَامَ يعني: عَلَامَ يضحك أحدكم مما يفعل؟! يعني: الذي يخرج من الإنسان من الدُّبر بصوتٍ هذا يُسمى: الضَّرْطَة، فكانوا يضحكون، فالنبي عليه الصلاة والسلام أنكر، يعني: هذا يخرج من الجميع، فليس من العقل أن الإنسان يضحك مما يخرج منه، هو يخرج منك ومن غيرك.
وهذا فيه الأمر بالإغماض والتَّجاهل والإعراض عند سماع صوت الضُّرَاط، وكانوا في الجاهلية إذا وقعتْ من أحدٍ ضَرْطَةٌ في المجلس يضحكون، فنهى النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك، وأمر بالتَّغافل عن هذا، والاشتغال بما كان فيه.
ويُقال: إن هذا -التَّضارط- من فعل قوم لوط، كانوا يَتَضَارطون في المجلس ويتضاحكون؛ ولذلك نهى النبي عن ذلك.
شرح حديث: «رأيتُ عمرو بن لُحَيٍّ يَجُرُّ قُصْبَه في النار»
القارئ: أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله:
حدثني زهير بن حربٍ، قال: حدثنا جريرٌ، عن سُهَيلٍ، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : رأيتُ عمرو بن لُحَيّ بن قَمْعَة بن خِنْدِف -أخا بني كعبٍ هؤلاء- يَجُرُّ قُصْبَه في النار [14].
قال: حدثني عمرو النَّاقد، وحسن الحُلْوَاني، وعبد بن حُمَيدٍ، قال عبدٌ: أخبرني، وقال الآخران: حدثنا يعقوب -وهو ابن إبراهيم بن سعد- قال: حدثنا أبي، عن صالحٍ، عن ابن شهابٍ قال: سمعتُ سعيد بن المُسيب يقول: إن البحيرة التي يُمْنَع دَرُّها للطواغيت، فلا يَحْلِبها أحدٌ من الناس، وأما السَّائبة التي كانوا يُسَيِّبُونها لآلهتهم فلا يُحْمَل عليها شيءٌ.
وقال ابن المُسيب: قال أبو هريرة: قال رسول الله : رأيتُ عمرو بن عامر الخُزَاعي يَجُرُّ قُصْبَه في النار، وكان أول مَن سَيَّبَ السُّيُوب [15].
الشرح:
كان الناس في مكة على دين إبراهيم على الحنفية، وعلى التوحيد، فذهب رجلٌ من ساداتهم يُقال له: عمرو بن لُحَيٍّ إلى الشام، فوجد الناس يعبدون الأصنام في الشام، فأتى بأصنامٍ من الشام إلى مكة؛ فوقع الشرك في مكة، وعبد الناس الأصنام.
وهذا يدل على أن الناس يُقلد بعضُهم بعضًا، وعلى أن الشرَّ سرعان ما ينتشر في المجتمع إذا لم يوجد مُنْكِرٌ، فهذا رجلٌ واحدٌ تسبَّب في نشر الشرك في مكة، فكان إثمه عظيمًا، وذنبه كبيرًا؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: رأيتُ عمرو بن لُحَيٍّ يَجُرُّ قُصْبَه يعني: أمعاءه في النار، وكان هذا لما عُرِجَ بالنبي ليلة المعراج، أُرِيَ الجنة والنار، وذكر بعض ما شاهده في الجنة، وبعض ما رآه في النار، وكان مما رآه في النار: عمرو بن لُحَيٍّ يَجُرُّ قُصْبَه -يعني: أمعاءه- في النار، وكان أول مَن سَيَّبَ السَّوائب، فكان هو الذي تسبب على أهل مكة بالشرك وعبادة الأصنام، فكان جُرْمُه عظيمًا، وذنبه كبيرًا.
وهكذا مَن سَنَّ سُنةً سيئةً فإن إثمه يكون عند الله تعالى عظيمًا، وجُرْمَه يكون كبيرًا.
وقال سعيد بن المُسيب: “إن البحيرة التي يُمْنَع دَرُّها للطواغيت” يعني: للأصنام، “فلا يَحْلِبها أحدٌ من الناس”، مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ [المائدة:103].
البحيرة يعني: التي بُحِرَتْ أذنها، شُقَّتْ وخُرِمَتْ أذنها، وهي الناقة التي ولدتْ خمسة أبطنٍ فأكثر، فإنهم إذا ولدت الناقة خمسة أبطنٍ فأكثر شَقُّوا أذنها وتُرِكَتْ، فلا يمسّها أحدٌ، يعني: ابتدعوا هذا في دين الله .
وأما السَّائبة: فتكون من النُّذور للأصنام، فَتُسَيَّبَ، فلا يركبها أحدٌ، وهذا معنى قوله: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ.
قال: “وأما السَّائبة التي كانوا يُسَيِّبُونها لآلهتهم فلا يُحْمَل عليها شيءٌ”.
ولاحظ أن هذا كله إنكارٌ على التَّحريم، يعني: حرَّموا عليهم البحيرة، وحرَّموا عليهم السَّائبة، وحرَّموا الوصيلة، وحرَّموا الحام، فتجد أن معظم ما ذكره الله في سورة المائدة والأنعام في الإنكار على مَن حرَّم ما أحلَّ الله، وهذا يدل على أن تحريم الحلال مثل تحليل الحرام، وربما يكون تحريم الحلال أشدّ؛ لأنه نَقْلٌ عن الأصل، فالأصل هو الحِلّ وبراءة الذِّمة.
ولذلك فالمسلم عليه ألا يقول على الله بغير علمٍ، لا يقل: هذا حلالٌ، وهذا حرامٌ، إلا بعلمٍ؛ لأن بعض الناس يعتقد أن تحريم الحلال فيه نوع احتياطٍ؛ ولذلك يتجَرَّؤون على تحريم الحلال أكثر من تَجَرُّئهم على تحليل الحرام، وهذا خطأٌ.
فلو تأملنا سورتي المائدة والأنعام وجدنا الإنكار الشديد على مَن حرَّم ما أباح الله، فالبحيرة يعني: هذه ناقةٌ أباحها الله تعالى، فَحَرَّموها على أنفسهم، والسَّائبة كذلك، والوصيلة، والحام: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ [الأعراف:32].
فالتَّحليل والتَّحريم إلى الله ، وليس إلى البشر، فلا يجوز تحليل ما حرَّمه الله، ولا تحريم ما أحلَّه الله، لكن أول مَن سَيَّبَ السَّوائب هو عمرو بن لُحَيٍّ أيضًا، فهو الذي جلب الأصنام لمكة، وهو الذي تسبب على أهل مكة في هذه العقائد الشركية، فكان ذنبه عظيمًا، وجُرْمه كبيرًا.
أصناف أهل النار
القارئ: أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله:
حدثني زُهَير بن حربٍ، قال: حدثنا جريرٌ، عن سُهيلٍ، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : صِنْفَان من أهل النار لم أَرَهما: قومٌ معهم سِيَاطٌ كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساءٌ كاسِيَاتٌ، عارياتٌ، مُمِيلاتٌ، مائلاتٌ، رؤوسهنَّ كأَسْنِمَة البُخْتِ المائلة، لا يَدْخُلْنَ الجنة، ولا يَجِدْنَ ريحها، وإن ريحها ليُوجَد من مسيرة كذا وكذا [16].
قال: حدثنا ابن نُمَيرٍ، قال: حدثنا زيدٌ -يعني: ابن حُبَابٍ- قال: حدثنا أفلح بن سعيدٍ، قال: حدثنا عبدالله بن رافع -مولى أم سلمة- قال: سمعتُ أبا هريرة يقول: قال رسول الله : يُوشِك إن طالتْ بك مدةٌ أن ترى قومًا في أيديهم مثل أذناب البقر، يَغْدُون في غضب الله، ويَرُوحون في سخط الله [17].
قال: حدثنا عبيدالله بن سعيدٍ، وأبو بكر بن نافع، وعبد بن حُمَيدٍ، قالوا: حدثنا أبو عامر العَقَدِي، قال: حدثنا أفلح بن سعيدٍ، قال: حدثني عبدالله بن رافع -مولى أم سلمة- قال: سمعتُ أبا هريرة يقول: سمعتُ رسول الله يقول: إن طالتْ بك مدةٌ أوشكتَ أن ترى قومًا يَغْدُون في سخط الله، ويَرُوحون في لعنته، في أيديهم مثل أذناب البقر [18].
الشرح:
يقول عليه الصلاة والسلام: صِنْفَان من أهل النار لم أَرَهما، قال القرطبي في معنى قوله: لم أَرَهما قال: “أي: لم يُوجَدَا في عصر النبي ؛ لطهارة أهل ذلك العصر، لكن وُجِدَا فيما بعد”.
ولهذا قال عليه الصلاة والسلام لأبي هريرة : إن طالتْ بك مدةٌ معنى ذلك: أنهم سيُوجَدون قريبًا، وهذا الذي وقع؛ ولهذا قال النووي: “هذا الحديث من مُعجزات النبوة، فقد وقع ما أخبر به “.
قومٌ معهم سِيَاطٌ كأذناب البقر يضربون بها الناس قال النووي: “هم غلمان والي الشرطة”، يعني: الجنود الذين يضربون الناس بغير حقٍّ، فهؤلاء إثمهم عند الله عظيمٌ؛ ولهذا في الحديث الآخر قال: أن ترى قومًا يَغْدُون في سخط الله، ويَرُوحون في لعنته، في أيديهم مثل أذناب البقر.
مثل أذناب البقر يعني: السياط التي يضربون بها الناس، فهم يتحركون ذهابًا وإيابًا فيما يُغضب الله من إيذائهم للناس، وذلك أن الأصل في الناس الحُرمة: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم -وفي روايةٍ: وأَبْشَاركم [19]- عليكم حرامٌ كَحُرْمَة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا [20]، فلا تجوز أذية المسلمين بأية صورةٍ من صور الأذى.
فضرب الناس بغير حقٍّ هذا إثمه عند الله عظيمٌ جدًّا؛ ولذلك ذكر النبي الوعيد الشديد في حقِّ الذين يضربون الناس بغير حقٍّ، وقال: يَغْدُون في سخط الله، ويَرُوحون في لعنته، فهذا دليلٌ على أنهم استحقُّوا اللعنة، واستحقُّوا سخط الله .
طبعًا هذا الصنف يقول النووي: إنه قد وُجِدَ، يعني: أكثر ما ظهر في عهد الدولة الأموية، ثم ما بعدها، فإنه عند فتنة القول بخلق القرآن -يعني- ذُكِرَ شيءٌ عظيمٌ.
الإمام أحمد رحمه الله كان يقول: “إني لا أخشى الموت، كلٌّ سيموت، لكني أخشى فتنة السوط”، فسمعه أحد الجلَّادين، فقال: “ما هو إلا سوطٌ أو سوطان، ثم لا تدري أين أنت؟” يعني: من شدة الضرب.
وهذا وقع في عهد المأمون، وهو قريبٌ من عهد النبوة؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: إن طالتْ بك مدةٌ أوشكتَ أن ترى كونهم يضربون الناس بهذه الطريقة: سوطٌ أو سوطان، ثم يُغْمَى عليه، ولا يدري أين هو من شدة الضرب، يعني: كما قال النووي: وقع ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام.
فهؤلاء إثمهم عند الله عظيمٌ، وجُرْمهم كبيرٌ، ويَغْدُون في سخط الله، ويَرُوحون في لعنته.
الصنف الثاني: نساءٌ كاسِيَاتٌ، عارياتٌ، مُمِيلاتٌ، مائلاتٌ، رؤوسهنَّ كأَسْنِمَة البُخْتِ المائلة، لا يَدْخُلْنَ الجنة، ولا يَجِدْنَ ريحها، وإن ريحها ليُوجَد من مسيرة كذا وكذا، وجاء في رواية “الموطأ”: وريحها يُوجَد من مسيرة خمسمئة سنةٍ [21].
الصنف الثاني: نساءٌ كاسِيَاتٌ، عارياتٌ اختلف العلماء في معنى: كاسِيَاتٌ، عارياتٌ:
قيل: كاسياتٌ بنعمة الله، عارياتٌ من شُكْرِها.
وقيل: المعنى: كاسياتٌ من الثياب، عارياتٌ من فعل الخير.
وقيل: إن المعنى: تكشف شيئًا من بدنها، فَهُنَّ كاسياتٌ، عارياتٌ.
وقيل: يَلْبَسْنَ ثيابًا رِقَاقًا تَصِفُ ما تحتها. وهذا هو الأقرب: يَلْبَسْنَ ثيابًا رِقَاقًا يَصِفْنَ ما تحتهن، فهن كاسياتٌ عليهن ثيابٌ، لكن كالعاريات، هذا هو الأقرب في معنى الحديث، فَيَلْبَسْنَ اللباس الشفاف الذي يَصِفُ البشرة، فهن كاسياتٌ، لكن كالعاريات.
وقوله: مائلاتٌ، مُمِيلاتٌ قيل: مائلاتٌ عن الحقِّ، مُمِيلاتٌ لغيرهنَّ لما يقع منهن من الفتنة.
رؤوسهنَّ كَأَسْنِمَة البُخْتِ المائلة أي: يُعَظِّمْنَ رؤوسهنَّ؛ وذلك بأن يَجْمَعْنَ الشعر فوق رؤوسهنَّ حتى يُشبه أَسْنِمَة الإبل، يكون الشعر مُجتمعًا فوق الرأس حتى يكون كالسَّنام.
لا يَدْخُلْنَ الجنة، ولا يَجِدْنَ ريحها وهذا دليلٌ على الوعيد الشديد في حقِّ هذا الصنف من الناس، وهذا يدل على الوعيد الشديد في حقِّ المرأة المُتبرجة التي تكون كاسيةً، عاريةً، تلبس اللباس الضيق الشَّفاف؛ فتحصل الفتنة منها وبها، وتتشبه بالكفار، وتجمع رأسها كَسَنَام الإبل، وأن هذه إثمها عند الله عظيمٌ.
إذن الواجب على المرأة الحجاب، وأن تتحجب عن الرجال الأجانب: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53]، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ يعني: بالعفَّة فَلَا يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59]، بل حتى القواعد من النساء، العجائز اللاتي بَلَغْنَ مرحلة أنهن لا يَرْجِينَ النكاح، قال الله عنهن: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ ومع ذلك غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ [النور:60].
سبحان الله!
هنَّ قواعد من النساء، قواعد: عجائز لا يَرْجِينَ النكاح، ومع ذلك انظر كيف أن الله قال: غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ؛ لأنه لكل ساقطةٍ لاقطةٌ.
وأيضًا: وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ [النور:60]، كونها ما تضع ثيابها أفضل.
فانظر إلى عناية الشريعة بقضية الحجاب، عنايةٌ كبيرةٌ، فإذا كان هذا في شأن العجائز، فما بالك بغيرهنَّ؟
والله تعالى يقول: وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [النور:31] يعني: حتى الخلخال الذي تلبسه المرأة في رِجْلها، لا تضرب برجلها فَيُسْمَع صوت الخلخال؛ لأن هذا يُؤدي للفتنة.
فهذا يدل على عناية الشريعة بهذا الجانب؛ لأن المرأة إذا تمسَّكتْ بالحجاب والحِشْمَة فقد أغلقتْ باب الفتنة، فلا يُطْمَع فيها: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ تُعْرَف بالعفَّة؛ فلا يتعرض لها أحدٌ، ولا يطمع فيها، ولا تحصل الفتنة منها، ولا بها، بخلاف ما إذا تبرجتْ، فإنها تعرض نفسها للفتنة.
مائلاتٌ، مُمِيلاتٌ تَمِيل هي، وتُمِيل غيرها.
فهذا الصنف توعده النبي بهذا الوعيد الشديد: لا يَدْخُلْنَ الجنة، وهذا يدل على أن التَّبرج والسُّفور بهذه الطريقة من الكبائر؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام توعد مَن فعل ذلك بقوله: لا يَدْخُلْنَ الجنة، ولا يَجِدْنَ ريحها.
إذن التَّعرض للناس وتعذيب الناس بالضرب من الكبائر، وأيضًا تبرج المرأة وسُفورها بهذا الذي ذُكِرَ في الحديث من الكبائر، لكن هنا ترد مسألةٌ في قول النبي عليه الصلاة والسلام: رؤوسهنَّ كَأَسْنِمَة البُخْتِ المائلة هل معنى ذلك: أن المرأة لا يجوز لها أن تجمع شعرها إلى فوق؟
الجواب: نعم، جمع الشعر كله على الرأس على فوق داخلٌ في النهي؛ لأن النبي قال: كَأَسْنِمَة البُخْتِ المائلة بحيث تُعَظِّم شعرها وتجمعه كله، فيكون في أعلى الرأس، فهذا يدخل في الذَّم الوارد في الحديث.
أما إذا كان الشعر ليس في الأعلى، وإنما كان على الرقبة، أو على الجانب؛ فلا بأس، ولا يدخل في النهي.
وكذا أيضًا تسريح المرأة لشعرها على هيئة ما يُسمَّى بالكعكة المعروفة في بيتها، أو حتى خارج البيت مع ستره بالحجاب؛ لا بأس به، ولا يدخل في النهي الوارد في الحديث؛ لأنها لم تجمع جميع الشعر، وإنما وضعتْ هيئةً على شكل كعكةٍ، إنما المَنْهِي عنه: أن تجمع جميع الشعر وتلفه فوق رأسها حتى يكون كَسَنَام البعير، هذا هو الذي ورد ذمُّه.
باب: فناء الدنيا، وبيان الحشر يوم القيامة
القارئ: أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله:
باب: فناء الدنيا، وبيان الحشر يوم القيامة.
قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا عبدالله بن إدريس. ح، قال: وحدثنا ابن نُمَيرٍ، قال: حدثنا أبي ومحمد بن بِشْرٍ. ح، قال: وحدثنا يحيى بن يحيى، قال: أخبرنا موسى بن أَعْيَن. ح، قال: وحدثني محمد بن رافع، قال: حدثنا أبو أسامة، كلهم عن إسماعيل بن أبي خالد. ح، قال: وحدثني محمد بن حاتم -واللفظ له- قال: حدثنا يحيى بن سعيدٍ، قال: حدثنا إسماعيل، قال: حدثنا قيسٌ، قال: سمعتُ مُسْتَورِدًا -أخا بني فِهْرٍ- يقول: قال رسول الله : والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثلما يجعل أحدكم إصبعه هذه وأشار يحيى بالسبابة في اليَمِّ، فلينظر بِمَ ترجع؟.
وفي حديثهم جميعًا غير يحيى: سمعتُ رسول الله يقول ذلك.
وفي حديث أبي أسامة، عن المُسْتَورِد بن شداد -أخي بني فِهْرٍ- وفي حديثه أيضًا قال: وأشار إسماعيل بالإبهام [22].
الشرح:
هذا حديثٌ عظيمٌ يُبيِّن فيه النبي حقارة الدنيا، فيقول: والله يُقسم بالله ما الدنيا في الآخرة إلا مثلما يجعل أحدكم إصبعه هذه وأشار بالسبابة، وفي الرواية الأخرى: بالإبهام، قال القاضي عياض: “إن رواية السبابة أظهر”، فلينظر بِمَ ترجع؟.
ومعنى الحديث: ما الدنيا بالنسبة للآخرة في قِصَر مُدَّتها، وفناء لذَّاتها، ودوام الآخرة، ودوام لذَّاتها ونعيمها إلا كنسبة الماء الذي يَعْلَق بالإصبع إلى باقي البحر.
لو وضعتَ إصبعك في البحر، ما الذي يَعْلَق بإصبعك؟
شيءٌ يسيرٌ من الماء، ما نسبة هذا الشيء اليسير إلى البحر؟
لا شيء، هكذا الدنيا بالنسبة للآخرة، الدنيا كلها، ليس فقط مدة عمرك، الدنيا كلها، كل الدنيا بالنسبة للآخرة مثل الماء الذي يَعْلَق بإصبعك إذا غمستَ الإصبع في البحر.
سبحان الله!
لأن الدنيا قصيرةٌ وقليلةٌ بالنسبة للآخرة.
الآخرة حياة الخلود، أبد الآباد، ما قدر الدنيا بالنسبة للآخرة؟
لا شيء، فإذا كان هذا قدر الدنيا بالنسبة للآخرة، فما قدر عمرك في الدنيا بالنسبة للآخرة؟
شيءٌ يسيرٌ جدًّا.
فهذا الحديث حديثٌ عظيمٌ يُبيِّن لنا حقارة الدنيا، وأن عمر الإنسان في هذه الدنيا محدودٌ، فإذا كانت الدنيا كلها بالنسبة للآخرة مثل الماء الذي يَعْلَق بالإصبع إذا غَمَسَه الإنسان في البحر، إذن ما قدر عمرك بالنسبة للآخرة؟
ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: لن يُدْخِلَ أحدَكم عملُه الجنة [23]، مهما عمل فلن يدخل الجنة بعمله؛ لأن الجنة مُخَلَّدٌ فيها أبد الآباد، نعيمها دائمٌ، والدنيا قصيرةٌ، ومتاع الغرور، فينبغي أن يحرص المسلم على الاستعداد لحياة الخلود؛ وذلك بالأعمال الصالحة، فإن حياة الخلود هي الدار الآخرة، فإذا دخل الجنة سعد السعادة الأبدية، وهذا هو الفوز العظيم: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، هذا -والله- هو الفوز العظيم الذي ينبغي أن يحرص عليه الإنسان.
ما مقدار عمرك؟
عمرك بالنسبة للموقف يوم القيامة، وليس للآخرة، كم مقداره؟
الموقف فقط خمسون ألف سنة: فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4].
طيب، كم عمرك؟
ستون، سبعون، قُلْ: مئة، كم نسبته لخمسين ألف سنة؟
خمسون ألف سنة هذا وقوف الناس فقط في الموقف يوم القيامة.
فعمر الإنسان قصيرٌ جدًّا، وهذه الدنيا متاع الغرور، فينبغي أن يكون هذا المعنى حاضرًا لدى المسلم، وأن يستعدَّ لحياة الخلود؛ ولذلك إذا رأى الإنسان أهوال يوم القيامة يقول: يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر:24]، فيرى أن الحياة الحقيقية هي الحياة التي تكون بعد الموت، أما ما قبل الموت فلا تُعتبر حياةً مُقارنةً بالحياة التي تكون بعد الموت.
فهذا الحديث العظيم ينبغي أن يجعله المسلم نُصْبَ عينيه: ما الدنيا في الآخرة إلا مثلما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بِمَ ترجع؟.
ونكتفي بهذا القدر في شرح “صحيح مسلم”، والأسئلة نُؤجلها -إن شاء الله- للأسبوع القادم؛ فلدي ارتباطٌ، فنُؤجل -إن شاء الله- الأسئلة للأسبوع القادم، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 71، ومسلم: 1037. |
---|---|
^2 | رواه مسلم: 2851. |
^3 | رواه مسلم: 2852. |
^4 | رواه مسلم: 2825. |
^5 | رواه أحمد: 6677. |
^6 | رواه البخاري: 6562، ومسلم: 213. |
^7 | رواه البخاري: 3265، ومسلم: 2843. |
^8, ^9 | رواه مسلم: 2853. |
^10 | رواه مسلم: 2854. |
^11 | رواه مسلم: 91. |
^12 | رواه مسلم: 2564. |
^13 | رواه مسلم: 2855. |
^14, ^15 | رواه مسلم: 2856. |
^16 | رواه مسلم: 2128. |
^17, ^18 | رواه مسلم: 2857. |
^19 | رواه البخاري: 7078. |
^20 | رواه البخاري: 1739، ومسلم: 1679. |
^21 | رواه مالكٌ في “الموطأ”: 7. |
^22 | رواه مسلم: 2858. |
^23 | رواه البخاري: 6464، ومسلم: 2818. |