logo

(13) الاستخارة - إلى آخر الكتاب

مشاهدة من الموقع

صلاة الاستخارة

قال:
وإذا أردتَ أمرًا فَاسْتَخِرْ فيه الله، وصَلِّ ركعتين من غير الفريضة.

هذه تُسمى: صلاة الاستخارة، وكان النبي يُعلم الصحابة الاستخارة في الأمور كما يُعلمهم السورة من القرآن [1]، وهذا يدل على أنه ينبغي للمسلم أن يُكثر من الاستخارة.

الاستخارة تكون فيما يتردد الإنسان فيه، أما ما لا يتردد فيه، ظهر فيه وجه المصلحة؛ لا يستخير فيه، لكن إنسانٌ تردد: هل يتزوج هذه المرأة أو لا يتزوجها؟ امرأةٌ خطبها رجلٌ هل تقبل به أو لا تقبل؟ هل يُسافر أو لا يُسافر؟ هل يشتري هذه السلعة أو لا يشتريها؟ هل يُمضي هذه الصفقة أو لا؟ كل شيءٍ يتردد فيه الإنسان يستخير ربَّه.

كيفية صلاة الاستخارة

ما كيفية الاستخارة؟

الاستخارة أولًا: يقوم ويُصلي ركعتين، ثم إذا فرغ من الركعتين يدعو بهذا الدعاء.

هل الدعاء قبل السلام أو بعد السلام؟

ننظر للحديث، الحديث يقول: إذا همَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك .. [2]، ولا يصدق عليه أنه ركع ركعتين إلا إذا سلَّم، ومعنى ذلك: أن دعاء الاستخارة يكون بعد السلام، يعني: بعدما تُصلي ركعتين ترفع يديك وتقول: اللهم إني أستخيرك بعلمك .. الدعاء الذي ذكره المؤلف.

اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقُدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علَّام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري -أو قال: عاجل أمري وآجله- فَاقْدُرْه لي، ويَسِّرْهُ لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري -أو قال: في عاجل أمري وآجله- فَاصْرِفْهُ عني، واصرفني عنه، وَاقْدُرْ لي الخير حيث كان، ثم رَضِّني به، وتُسَمِّي حاجتك [3].

علامة الاستخارة

بعد ذلك علامة الاستخارة ليست هي انشراح الصدر كما يعتقد كثيرٌ من الناس، وإنما تيسر أحد الأمرين، وعدم تيسر الأمر الآخر؛ لأن مسألة انشراح الصدر هذه تخضع للخلفية الذهنية والأمور النَّفسية.

شيءٌ -مثلًا- أنت تألفه، وبطبعك تميل إليه؛ سينشرح صدرك له، والاستخارة ما لها علاقةٌ به، إنما أنت تستشير وتنظر في الأمور، وتقول: إن كان هذا الأمر خيرًا أن الله يُيَسِّره لي، وإن كان شرًّا أن الله يَصْرِفني عنه.

فعلامة الاستخارة هي تيسر أحد الأمرين، وعدم تيسر الأمر الآخر؛ ولذلك -مثلًا- بعض النساء يتقدم لها الخاطب الكُفْء، مَرْضِي الدين والخُلُق، وتقول: أنا استخرتُ وما انشرح صدري.

هذا غير صحيحٍ، فمسألة انشراح الصدر ليست علامة الاستخارة.

نقول: لماذا لا تقبلين بهذا الرجل؟ هل فيه مَطْعَنٌ في دينه أو في عِرْضِه أو في أمانته أو في أخلاقه؟ أعطينا مُبَرِّرًا، وإذا كان ليس هناك مُبَرِّرٌ فاقبلي به، فإن كان خيرًا فَسَيُيَسِّره الله، سَيُيَسِّر الله هذا الزواج، وإن كان شرًّا سيصرفك الله عنه.

ولذلك بعض النساء وبعض الناس عمومًا يفهمون هذه المسألة فهمًا غير صحيحٍ، فكم من امرأةٍ فرَّطتْ في زوجٍ صالحٍ، كُفْءٍ، مَرْضِي الدين والخُلُق بسبب هذا! تقول: والله أنا استخرتُ وما انشرح صدري!

هذا غير صحيحٍ، فليست علامة الاستخارة انشراح الصدر، علامة الاستخارة: تيسر أحد الأمرين، وعدم تيسر الأمر الآخر.

فانتبهوا لهذه المسألة، فَقَلَّ مَن يُنبه عليها، وهذه من المسائل المهمة.

ليكن همُّك في هذه الدنيا: التَّقرب إلى ربك الكريم

قال:

وليكن همُّك في هذه الدنيا: التَّقرب إلى ربك الكريم، وطلب فضله العظيم، والاجتهاد في الدخول في أوليائه الذين يُحبهم ويُحبونه، ويرضى عنهم، ويرضون عنه، الذين اختارهم لنفسه، وأكرمهم بولايته، وأوقفهم على بابه، وشغلهم به، وعلَّق قلوبهم بمحبته، وشغل ألسنتهم بذكره، وجوارحهم بطاعته، لا يلتفتون إلى ما سواه من دنيا ولا غيرها.

ليكن همُّك: التَّقرب إلى الله.

يقولون: إنه ينبغي أن يكون لكل إنسانٍ فلسفةٌ في الحياة، ما أكبر همِّك في هذه الدنيا؟

فأرباب الدنيا عندهم همومٌ تُناسب دنياهم، وأنت أيها المسلم ليكن همُّك: التَّقرب إلى الله.

كل يومٍ تقول: يا ربّ. يعني: تُحاسب نفسك، هل تقربتَ إلى الله تعالى هذا اليوم بأعمالٍ صالحةٍ من صلواتٍ، من تلاوة قرآنٍ، من أذكارٍ، من صدقاتٍ؟

اجعل هذا هو أكبر همِّك: التَّقرب إلى الله ، وستحمد العاقبة.

أنت ما خُلقتَ إلا لعبادة الله، ما خُلقتَ لأجل أن تجمع الأموال، أو أن تتمتع بمتع الدنيا، خُلقتَ لعبادة الله ، فاجعل أكبر همِّك: التَّقرب إلى الله .

قصة معاذ بن جبل رضي الله عنه عند الموت

قال:

رُوِّينا عن معاذ بن جبل : أنه حين حضره الموت جعل يُغْشَى عليه، ثم يُفيق، فيقول: اخنقني خنقك، فوعزتك وجلالك إنك لتعلم أن قلبي يُحبك.
ثم قال: انظروا هل أصبحنا؟
فأُتي في بعض تلك المرات فقيل له: نعم. فقال: اللهم إني أعوذ بك من ليلةٍ صباحها إلى النار.
ثم قال: مرحبًا بالموت، زائرٌ مُغِبٌّ، حبيبٌ جاء على فاقةٍ، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أُحبّ البقاء في الدنيا لغرس الأشجار، ولا لِكَرْي الأنهار، ولكن لِظَمَأ الهواجر، وقيام الليل في الشتاء، ومُزاحمة العلماء بالرُّكَب عند حِلَق الذكر.
فبكى الحارث بن عُميرة، فقال له: ما يُبكيك؟ قال: والله ما أبكي لقرابةٍ بيني وبينك، ولا لدنيا كنتُ أُصيبها منك، ولكن كنتُ أُصيب منك علمًا، فأخاف أن ينقطع.
قال: فلا تَبْكِ، فإنه مَن يُرد العلم أتاه، كما أُتي إبراهيمُ خليل الرحمن، وليس ثَمَّ يومئذٍ علمٌ ولا إيمانٌ.

هذه -يعني- من المرويات التي رُويتْ عن معاذٍ حين حضرته الوفاة، واشتهر منها مقولته: "إني لا أُحب الدنيا لأجل غرس الأشجار، ولا لِكَرْي الأنهار، ولكن لِظَمَأ الهواجر" يعني: صيام النَّوافل، وقيام الليل في الشتاء، ومُزاحمة العلماء بالرُّكَب عند حِلَق الذكر.

معاذٌ بكى عند الموت، ليس أسفًا على الدنيا، فالدنيا لا تستحق، ولكن بكى على انقطاع العمل بالموت، فيقول: هناك أعمالٌ كنتُ أعملها، وأرجو عظيم ثوابها عند الله ، أبرزها: صيام النافلة، خاصةً عند شدة الحرِّ، وقيام الليل، خاصةً عند شدة البرد في الشتاء، وأيضًا حضور حِلَق العلم، فإن هذه فيها أجورٌ عظيمةٌ: "مُزاحمة العلماء بالرُّكَب".

فيقول: أبكي على انقطاع هذه الأعمال التي أجرها عظيمٌ، فكثيرٌ من الصالحين إنما يأسفون عندما يأتيهم الموت، ليس حزنًا على الدنيا، ولكن يقولون: لأن أعمالنا ستنقطع، فإن الأعمال إنما تنقطع بالموت.

المُسارعة للطاعات وترك التَّعلق بالدنيا

قال:

واعلم -رحمك الله- أن هذه الدنيا سوق متجر الأبرار، وحلبة السباق بين الكرام الأخيار، ومُزْدَرع التقوى ليوم القرار، ومحل تحصيل الزاد للسفر الذي ليس كالأسفار، فبادر -رحمك الله تعالى- قبل فوات إمكان البدار، واغتنم أنفاسك العظيمة المقدار، وَاذْرِ من دموعك على ما سلف من تفريطك، فإن القطرة من الدموع من خشية الله تعالى تُطفئ البحور من النار.

هذا يُؤكد ما ذكره المصنف في أول هذه الوصية من أن الإنسان ينبغي له أن يُسارع إلى الطاعات، وألا يتعلق بهذه الدنيا، والله تعالى يقول: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ [آل عمران:133]، سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [الحديد:21]، تجد أن الله أمر بالمُسارعة، وأمر بالمُسابقة، وأمر أيضًا بالتَّنافس: خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26].

وقت مُناجاة الصالحين لربهم

قال:

وتَيَقَّظ في ساعات الأسحار عند نزول الجبار، وأحضر بقلبك قول العزيز الغفار: هل من سائلٍ يُعطى؟ هل من داعٍ يُستجاب له؟ هل من مُستغفرٍ يُغفر له؟ [4].

فتكلمنا عن هذا وقلنا: إن هذا الوقت هو وقت مُناجاة الصالحين لربهم .

قل: نعم يا ربّ، أنا السائل المُحتاج، أنا الفقير الضعيف، أنا الكسير الذليل، أنا الداعي الرَّاجي، أنا المُستغفر المُذْنِب، أنا المُقِرُّ المُعترف.
يا صاحب الصدقة، ها أنا ذا، ارحم ضعفي، وكِبَر سِنِّي، ارحم فقري وفاقتي وحاجتي ومَسْكَنتي.
يا كثير الخير، يا دائم المعروف، لا تُخيب حُسن ظنِّي بك، ولا تحرمني سعة معروفك، ولا تطردني عن بابك، ولا تُخرجني من أحبابك، أسألك من فضلك العظيم.

أدعيةٌ حسنةٌ يَحْسُن بالداعي أن يدعو الله بها

هنا أدعيةٌ يذكرها المؤلف يدعو بها الإنسان، يعني: عند مُناجاته لربه .

اللهم ما أمرتني أسألك إلا وأنت تُريد أن تُعطيني، ولا دللتني عليك إلا وأنت تريد أن تهديني، ولا أمرتني بدعائك إلا وأنت تريد أن تُجيبني.

وذكر المؤلف -يعني- أدعيةً من هذا القبيل، وهي أدعيةٌ حسنةٌ يَحْسُن بالدَّاعي أن يدعو الله بها.

ثم ذكر بعض القصص عن بعض الصالحين في هذا أنهم كانوا يُناجون ربهم ، فذكر قصصًا في هذا عن بعض الصالحين، قال:

كان عندنا باليمن فتًى مُسْرِفٌ على نفسه، قليل الطاعة، وكان ذا جمالٍ ومالٍ، واسمه: سهلًا، فرأى ليلةً في منامه كأنَّ جاريةً أتته وعليها ثوبٌ من لؤلؤ، وبيدها كتابٌ من حريرٍ، فأتته به، فقالت: يا أخي، اقرأ لي هذا الكتاب.

ثم ذكر بعد ذلك ما ذكر -رحمه الله تعالى- عن بعض الصالحين، وبعض هذه القصص تصح، وبعضها لا يصح، لكن يجمعها أن هؤلاء الصالحين يعنون بمُناجاة الربِّ ، ويأتون بمثل هذه العبارات والعبرات.

هذا مُراد المؤلف من هذه الحكايات وهذه الأدعية.

ثم في آخر هذه الوصية قال:

دعا رجلٌ فقال: اللهم إنَّك تعلم على إساءتي وظلمي وإسرافي أني لم أجعل لك ولدًا، ولا نِدًّا، ولا صاحبةً، ولا كُفُؤًا، فإن تُعذب فبعدلك، وإن تعفو فإنك أنت العزيز الحكيم، يا مَن لا يشغله سمعٌ عن سمعٍ.

إلى آخر هذه الأدعية.

مُراد المؤلف: أن الصالحين لهم في هذا دعواتٌ ومُناجاةٌ للرب ، وينكسرون بين يدي الله سبحانه، وينطرحون بين يديه، ويأتون بمثل هذه العبارات.

فهذا مما يدعو المسلم إلى أن يقتدي بهم، وأن يتأسَّى بهم، وأن يضرع إلى الله ، خاصةً في وقت السَّحَر، فإنه وقت مُناجاة الربِّ .

وبهذا انتهى التَّعليق على هذه الوصية العظيمة من الإمام المُوفق ابن قُدامة -رحمه الله- وختمها بقوله:

الحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمدٍ وآله وصحبه وسلم.

وبهذا نكون قد انتهينا من التَّعليق على وصية الإمام المُوفق ابن قُدامة رحمه الله تعالى.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

^1, ^2, ^3 رواه البخاري: 1162.
^4 رواه البخاري: 6321، ومسلم: 758.
zh