جدول المحتويات
المراقبة والخشية
ثم قال المصنف رحمه الله في المراقبة والخشية، وبدأ بالتَّفكر:
الحياء من الله
يعني: إذا كنتَ تستحي أن يطَّلع عليك أحدٌ من صالحي قومك، أو من إنسانٍ تحترمه، أو تُقدره، فكيف لا تستحي من الله وأنت تقع في المعصية؟!
لا تقدر على معصيته إلا بنعمته
يعني: هذا يستدعي أن تستحي أن تعصيه، وأنت لا تقدر على معصيته إلا بنعمته.
وكم من نعمةٍ في عينك التي نظرتَ بها إلى ما حرَّم عليك، وفي لسانك الذي نطقتَ به بما لا يحلّ لك؟
وليس من شكر إنعامه أن تستعين بها على معاصيه.
يعني: التَّفكر في هذه المعاني يردع الإنسان عن ارتكاب المعاصي.
يعني: أنك لا تستعمل نِعَم الله تعالى في معاصيه.
الستر، نعمة الستر هذه نعمةٌ عظيمةٌ: مَن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة [1]، فينبغي أن يحرص المسلم على الستر، فإذا وقعتْ من أخيك المسلم زلةٌ فَاسْتُرْ هذه الزلة، ولا تفضحه بها، ولا تتحدث فيه.
ولذلك إذا أتاك أمر سُوءٍ عن رجلٍ من الناس في مقطعٍ لا تنشر هذا المقطع، حتى وإن كان صدقًا، حتى وإن كان ما ورد في هذا المقطع صحيحًا، ينبغي أن يكون لدى المسلم نفس الستر، وأن يُعامل الإنسانُ الناسَ بمثل ما يُحب أن يُعاملوه به.
خمس خصالٍ إذا قدرتَ عليها لم تضرك المعصية
ما هي؟
قال: فمن أين آكل؟
قال: أَيَحْسُن أن تأكل من رزقه وتعصيه؟!
هذه الأولى.
قال: هذه أشدُّ من الأولى، فأين أسكن؟!
قال: أَيَحْسُن أن تأكل رزقه وتسكن بلاده وتعصيه؟!
قال: الثالثة: إذا أردتَ أن تعصيه فانظر موضعًا لا يراك فيه، فَاعْصِهِ فيه.
قال: كيف أصنع وما في السماء والأرض والجبال والبحار إلا وهو له؟!
الرابعة: قال: إذا جاءك ملكُ الموت ليقبض روحك فقل: أَخِّرْنِي حتى أتوب.
قال: لا يقبل مني.
قال: إذا كنتَ تعصيه، ولا تأمن مُفاجأة الموت، ولا يقبل منك فيُؤخرك، فتموت على غير توبةٍ، فكيف يكون حالك؟!
الخامسة: قال: إذا جاءتك الزبانية ليأخذوك إلى النار فلا تَمْضِ معهم.
قال: لا يدعونني.
قال: إذا كنتَ لا تقدر على الامتناع منهم، ولا تدع المعصية، فكيف ترجو الخلاص؟!
قال: حسبي.
ولزم إبراهيم فعبد الله حتى مات.
وإبراهيم بن أدهم له حِكَمٌ في هذا، وهو إمامٌ في الزهد رحمه الله تعالى.
التوبة بعد المعصية
قال:
كان بعضهم يقول: لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى مَن عصيتَ.
وشكا بعض عُمَّال عمر بن عبدالعزيز إليه، فكتب إليه: يا أخي، اذكر سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد، واحذر أن يكون المُنصرف بك من عند الله إلى النار، فيكون آخر العهد، ومُنقطع الرجاء.
فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم عليه، فقال: ما أقدمك؟ فقال: خلعتَ قلبي بكتابك، لا عملتُ لك، ولا لأحدٍ بعدك.
لأنه وعظه بهذه الموعظة البليغة.
وعندما نتأمل نصوص الكتاب والسنة نجد ربط النصوص بالترغيب والترهيب؛ الترغيب بالجنة، والترهيب بالنار.
انظر الآن -يعني- معظم الآيات القرآنية يأمر الله بأمرٍ ويَعِد بالجنة، وينهى عن شيءٍ ويتوعد بالنار، هذا أعظم الأساليب وأحسنها وأنفعها: أسلوب الترغيب والترهيب، فلا تجد أسلوبًا أحسن من أسلوب القرآن؛ ولذلك ينبغي للخُطباء أن ينتهجوا منهج القرآن في موعظة الناس وفي الخُطب.
تجد بعض الخُطباء يشغل الناس بأحاديث في السياسة، وفي أمورٍ لا تنفعهم!
وسائل الإعلام مليئةٌ بالكلام عن السياسة والتَّحليلات السياسية، والناس أتوا للمسجد الجامع يريدون شيئًا يزداد به إيمانهم، يريدون شيئًا ينفعهم في أمور دينهم؛ ولذلك كان عليه الصلاة والسلام كثيرًا ما يعظ الناس بالقرآن، وكثيرًا ما يُركز على المواعظ.
جاء في "صحيح مسلم" عن أم هشام بنت حارثة قالت: "ما حفظتُ (ق) إلا من في رسول الله يخطب بها كل جمعةٍ" [2].
يعني: من كثرة قراءة النبي لسورة (ق) حفظتها هذه المرأة؛ ولذلك إذا أردتَ أن تعرف قوة الخطيب لا تنظر لفصاحته وبلاغته، انظر لاستشهاده بالنصوص، فإذا كانت الخطبة مليئةً بالنصوص فهذا دليلٌ على قوته العلمية، وعلى حرصه على اتِّباع السُّنة؛ قال الله، قال رسوله.
بعض الخُطباء -يا إخوان- خطبته كلها ما تسمع فيها آيةً من القرآن أو حديثًا! وهذا فيه قصورٌ، فينبغي للخطيب أن يستحضر أن المقام -مقام الخطبة- مقامٌ عظيمٌ، والله تعالى سمَّى الخطبة ذكر الله، قال: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9]، والملائكة تستمع لها، فإذا دخل الخطيب طُويت الصحف، وأقبلت الملائكة تستمع الذكر، فينبغي أن يُركز على موعظة الناس بالقرآن والسنة؛ قال الله، قال رسوله، وما يهمّهم في أمور دينهم، ويترك الحديث عن الأمور السياسية ونحوها، فليس هذا موضعها؛ أن تتكلم فيها على المنبر.
الناس أتوا للمسجد الجامع يريدون شيئًا ينفعهم في أمور دينهم، يريدون أمرًا يزيد به إيمانهم، يريدون -مثلًا- تصحيح وضعٍ فيما يتعلق بأخطاء يقعون فيها في أمور الدين، ومُعالجة مشاكل اجتماعية -مثلًا- ونحو ذلك.
أما إشغال الناس بالتَّحليلات السياسية في خطب الجمعة فهذا منهجٌ غير سديدٍ، وليس له أيضًا فائدةٌ، ما له كبير فائدةٍ، وربما يعترض عليك أحد الحضور ويقول: هذا الكلام الذي قلتَه غير صحيحٍ، وأمورٌ كلها خاضعةٌ لاجتهادات البشر، لكن إذا قلتَ: قال الله، قال رسوله، ما أحد يستطيع الاعتراض.
أمانة التَّكاليف
قال:
أمانة التَّكاليف عرضها الله تعالى على السماوات: أنها إن أطاعتْ أُثِيبتْ، وإن عَصَتْ عُوقِبَتْ، فَأَبَتْ وقالت: يا ربّ، لا، أنا أُريد أن أكون مُسخرةً، لا أريد الاختيار وأمانة التَّكاليف. فعرضها على الأرض فَأَبَتْ كالسماوات، وعرضها الله على الجبال فَأَبَتْ، وعرضها الله على الإنسان فقبل: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ يعني: أمانة التَّكاليف عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72].
فإن قال قائلٌ: أنا لا أذكر أن الأمانة عُرضتْ عليَّ.
كيف نُجيب عن هذا؟
يقول: ما أتذكر.
مَن يُجيب عن هذا السؤال؟
طالب: بالآية.
الشيخ: لا، هو يريد إقناعًا منطقيًّا، ..... موجودة في الآية، لكن هو يقول: أنا ما أتذكر.
طيب، هل تتذكر وقت ولادتك؟
هل تتذكر يوم كنتَ في بطن أُمك؟
إذا كنتَ لا تتذكر هذه الأشياء القريبة، فكيف تريد أن تتذكر عرض الله الأمانة، أو تتذكر أن الله أخذ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف:172]؟
ما قاله الله وقاله رسوله حقٌّ قطعًا، هذا كله حصل، وكوننا لا نتذكر لا يستدعي النَّفي، فأنت لا تتذكر وقت ولادتك، ولا تتذكر حين كنتَ في بطن أُمك، بل حتى لا تتذكر حين كان عمرك سنةً أو سنتين.
فكون الإنسان لا يتذكر هذا لا يستدعي الاعتراض؛ ولذلك تجد أن هذه آثارها تظهر، يعني مثلًا: أخذ الله مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ لما جمع الله تعالى جميع بني آدم في الذَّرِّ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا، هذا وقع قطعًا؛ لأن الله أخبر به، فمتى تظهر آثاره؟
وقت الشدة، فالمُلحد عندما يقع في شدةٍ تجد أنه يلجأ إلى الله، والمُلحد يُنْكِر وجود الله، فلو كان يمشي في صحراء وحده ووقع في بئرٍ مُظلمةٍ ماذا يقول؟
يقول: يا الله؛ لماذا؟
لأنه يرجع لفطرته؛ لأن الله أخذ -يعني- أشهده على نفسه وهو في مثاقيل الذَّرِّ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا، لكن هذا تُغطيه الأطماع والرغبات والأهواء، فتظهر في وقت الشدة.
تذكر النار، والإشفاق منها، والاستعاذة بالله من عذابها
قال:
النار بيَّن النبي أنها ضُعِّفَتْ على نار الدنيا تسعًا وستين مرةً، فهي جزءٌ من سبعين جزءًا.
تصوروا -يا إخواني- هل يستطيع أحدٌ أن يضع يده في نار الدنيا دقيقةً واحدةً؟ فكيف بنارٍ ضُعِّفَتْ عليها تسعًا وستين مرةً؟ ووعد الله بأن يملأ النار، وأن يملأ الجنة أيضًا.
أما النار فبعدما يدخل أهل النار النار يقول الله لها: هَلِ امْتَلَأْتِ، فتقول: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق:30]، فيضع الربُّ قدمه على النار فَيَنْزَوِي بعضها إلى بعضٍ وتقول: قَطْ، قَطْ [3]، يعني: حسبي، حسبي.
وهذا الحديث في الصحيحين، فكيف ذلك؟
الله أعلم، نُؤمن بها كما وردتْ.
وأما الجنة فإن الله يُنْشِئ خلقًا آخر، فوعد الله بِمِلْءِ الجنة ومِلْءِ النار: ولكليكما عليَّ مِلْؤُهَا [4].
مَن هو مالك؟
خازن النار، ما قالوا: يُخرجنا ربُّك من النار؛ لأنهم يَئِسوا من هذا.
ماذا قالوا؟
لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [الزخرف:77]، ما نريد حياةً: لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ، خلاص، نريد العدم.
تصوروا: أهل النار يريدون العدم، ما يريدون الخروج، ولا يطمعون في دخول الجنة، يريدون العدم.
لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف:77-78].
وتذكر النار، والإشفاق منها، والاستعاذة بالله من عذابها، هذا ذكره الله تعالى من أوصاف المتقين: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًاإِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان:65- 66]، رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران:192]، قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ يعني: خائفين، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:26- 27]، فالمسلم يخاف ويُشفق من عذاب النار، ويستعيذ بالله منها.
يا أخي المسلم، لا يمر عليك يومٌ إلا وقد سألتَ الله فيه الجنة، واستعذتَ بالله من النار، فقد أخرج الترمذي وغيره بسندٍ صحيحٍ: أن النبي قال: مَن سأل الله الجنة ثلاث مراتٍ، قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة، ومَن استجار من النار ثلاث مراتٍ، قالت النار: اللهم أَجِرْهُ من النار [5].
اجعل هذا مع أذكار الصباح والمساء، قُل: اللهم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار، وكررها ثلاث مراتٍ: اللهم إنَّا نسألك الجنة، ونعوذ بك من النار، اللهم إنَّا نسألك الجنة، ونعوذ بك من النار، اللهم إنَّا نسألك الجنة، ونعوذ بك من النار.
قال:
يعني: ما لهم أملٌ ولا بعدد الرمل.
يعني: يكون وَجِلًا، مُشْفِقًا من عذاب الله .
كان بعضهم يبكي كثيرًا، فقيل له في ذلك، فقال: والله لو توعدني ربي أن يسجنني في الحمام لكان حقِّي ألا أَفْتُرَ من البكاء، فكيف وقد توعدني أن يسجنني في النار إن أنا عصيتُه؟!
وكان يزيد الرّقاشي كثير البكاء، إذا دخل بيته بكى، وإن خرج بكى، وإن دخل المسجد بكى، وإن جلس لإخوانه بكى.
يعني: بعض الناس سريع الدّمعة، كثير البكاء، فهذا من أوصاف المتقين: أنه لا يكون غليظًا، جَوَّاظًا.
هذا من شدة خوفه وشفقته من عذاب الله.
أما تقرأ: يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ [الرحمن:35]؟
أما تقرأ: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن:37- 44]؟
فقام يجول في الدار ويبكي ويصرخ، فقالت أُمُّه: يا بُني، ما أردتَ إلى هذا من أبيك؟!
قال: والله ما أردتُ إلا أن أُهون عليه، ما أردتُ أن أزيد عليه.
يعني: هذه من القصص التي فيها بيان إشفاق كثيرٍ من السلف من جهنم، ومن عذاب الله .
قال:
المقصود من كلام المؤلف: أنه ينبغي أن يكون المسلم وَجِلًا، مُشْفِقًا، كما حكى الله ذلك عن عباده المتقين.
حُسن الخُلُق
ثم انتقل المؤلف للكلام عن فضائل الأعمال.
قال:
حُسن الخُلُق أثقل ما يكون في ميزان العبد يوم القيامة، يقول عليه الصلاة والسلام: أثقل ما يكون في ميزان العبد: تقوى الله وحُسن الخُلُق، والإنسان بحُسن خُلُقه يبلغ درجة الصائم القائم.
حُسن الخُلُق له آثارٌ حسنةٌ على الإنسان؛ فيترتب على حُسن الخُلُق أنه يُلْقِي السلام والتَّحية، ويترتب على حُسن الخُلُق أنه يُحب لأخيه ما يُحب لنفسه، ويترتب على حُسن الخُلُق أنه إذا لقي أخاه يلقاه بوجهٍ طليقٍ مُبْتَسِمٍ، ويترتب على حُسن الخُلُق فضائل كثيرةٌ.
ولذلك -أيها الإخوة- العبادة لا تنحصر في الشعائر التَّعبدية التي بين الإنسان وربه، لا، بل تشمل كذلك علاقة الإنسان بالآخرين؛ ولهذا جاء في مسند الإمام أحمد بسندٍ صحيحٍ عن أبي هريرة : أن النبي قيل له: إن فلانة يُذْكَر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها، غير أنها تُؤذي جيرانها بلسانها. فقال النبي : هي في النار، وقيل: إن فلانة يُذْكَر من قِلة صيامها وصدقتها وصلاتها، وإنها تصدَّق بالأَثْوَار من الأَقِط، ولا تُؤذي جيرانها بلسانها. فقال النبي : هي في الجنة [6].
الأولى علاقتها في الشعائر التَّعبدية بينها وبين الله جيدةٌ؛ كثيرة الصلاة والصيام والصدقة، لكن عندها مشكلة في العلاقة مع الجيران، فهنا النبي عليه الصلاة والسلام قال: هي في النار.
الثانية لا، يعني: تقتصر على الفرائض، وأحيانًا تتصدق، لكن علاقتها بجيرانها جيدةٌ، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: هي في الجنة.
إذن العبادة لا تقتصر فقط على علاقة الإنسان بربه فحسب، بل تشمل كذلك علاقته بالآخرين، فالإنسان سليط اللسان، الذي يُؤذي جيرانه، يُؤذي أصحابه، يُؤذي أرحامه، يُؤذي أقاربه؛ هذا على خطرٍ عظيمٍ.
تجد بعض الناس -يعني- كما يُقال: حمامة مسجدٍ، دائمًا يُصلي ويصوم، ويُكثر الذكر، لكنه سليط اللسان، يُؤذي الآخرين إما بلسانه أو بكتاباته، فهذا على خطرٍ عظيمٍ، وهذا يدل على أن عنده مشكلةً، وعنده خللًا في فهم العبادة.
صِلَة الرحم
قال:
صِلة الرحم، لما خلق الله الخلق قامت الرحم وتعلَّقتْ بالعرش، وقالت: يا ربّ، هذا مقام العائذ بك من القطيعة. فقال الله: أما تَرْضَين أن أصل مَن وصلكِ، وأقطع مَن قطعكِ؟ قالت: بلى. قال: فذلك لكِ [7] متفقٌ عليه.
مَن وصل رحمه وصله الله.
ما معنى: وصله الله؟
وما معنى: قطعه الله؟
مَن يُجيب عن هذا السؤال؟
طالب: وصله الله عزَّ وجلَّ إلى الجنة برحمته وبِرِّه وعطائه، وقطعه أي: منعه من الجنة.
الشيخ: لو كان هذا هو المقصود لقال: وصله الله بالجنة، أو أدخله الله الجنة، لكن هناك معنًى آخر غير هذا.