الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا الدرس سيكون في التعليق على وصية الإمام ابن قدامة رحمه الله، وتكلمنا عن هذه الوصية بالأمس، وعن المؤلف، ووصلنا إلى المثل الذي ضربه المؤلف، وهو مثلٌ عظيمٌ.
مثال الدنيا وأهلها
قال:
يعني: أراد المصنف أن يُمثل هذه الدنيا وأهلها بمثالٍ عجيبٍ فقال:
أهل سفينةٍ ألقتهم الريح في البحر في جزيرةٍ، وهذه الجزيرة ..
النَّفيسة وغير النَّفيسة، فيها ..
وفيها أيضًا من المعادن غير النَّفيسة مثل:
وغير ذلك، وفيها حجارةٌ، ففيها النَّفيس وغير النَّفيس.
قال:
أيضًا هذه الجزيرة فيها ..
السلطان.
وقال: لا أحد يأتي لهذا الحِمَى.
فقط يومٌ وليلةٌ ثم ترتحلون.
من هذه الجزيرة.
ويعملون ليل نهار.
وإن عرض لهم النوم تذكَّروا ذلك؛ فذهبتْ عنهم لذة النوم، وتمثَّلوا بقول القائل: "عند الصباح يحمد القوم السُّرَى".
فجعلوا طيلة الوقت يجمعون هذه الجواهر النَّفيسة.
من الذين نزلوا على هذه الجزيرة.
وفرقةٌ لم يتعرضوا للجواهر أصلًا، آثروا النوم والراحة والفُرْجَة.
أيضًا بعضهم ..
على هذه الجزيرة، مع أن مقامهم فيها يومٌ وليلةٌ، مقامهم فيها يومٌ وليلةٌ فقط.
والأشياء غير النَّفيسة.
تركوا هذا كله.
واللهو.
وبالسَّواليف.
يعني: الشيء المُقدم أحسن من الشيء المُؤجل الموعود به.
وهناك أيضًا فرقةٌ من هؤلاء الذين نزلوا على هذه الجزيرة انتهكوا حِمَى الملك، ولم يجدوا بابًا، فكسروا الباب، وفتحوا خزائن الملك، وانتهبوا منها، وعبثوا بجواريه.
مع أنه قيل لهم: إقامتكم فقط يومٌ وليلةٌ.
ثم بعد ذلك قيل: الرحيل، نُودي بالرحيل، فارتحلوا.
وعند الرحيل الذين حصَّلوا الجواهر النَّفيسة رحلوا مُغْتَبِطين، فرحين، مسرورين.
والذين فرَّطوا في جمع الجواهر اشتد جزعهم على تفريطهم وقِلة زادهم.
فارتحلوا على تلك الصفة حتى وردوا على مدينة الملك العظمى، فنُودوا في المدينة: أن قد قدم قومٌ في معادن الجواهر.
فتلقَّاهم أهل المدينة، وتلقَّاهم الملك وجنوده واستنزلوهم، وقيل لهم: اعرضوا بضائعكم.
أما أهل الجواهر النَّفيسة فعرضوا بضائعهم، فحمدهم الملك، وأثنى عليهم، وقال: أنتم خاصتي، وأهل مُجالستي ومحبتي، لكم ما شئتُم من كرامتي، وجعلهم ملوكًا لهم ما يشاؤون، إن سألوا أُعطوا، وإن شَفَعُوا شُفِّعُوا، وإن أرادوا شيئًا حصل لهم، فأخذوا القصور والدُّور والحُور والبساتين، وركبوا المراكب، وصاروا ملوكًا ينزلون في جوار الملك ويُجالسونه، وينظرون إليه ويزورونه.
الفرقة الثانية قيل لهم:
قالوا: ما لنا بضاعةٌ.
قيل: كنتم في معادن الجواهر أنتم وهؤلاء في موضعٍ واحدٍ؟
قالوا: نعم، لكنَّا آثرنا الراحة والدَّعة.
وبعضهم قال: لا، نحن اشتغلنا ببناء الدُّور والمساكن.
وقال آخرون: اشتغلنا بجمع الحصى والزّلف والأشياء غير النَّفيسة.
وأن مُقامكم في هذه الجزيرة قصيرٌ؟!
قالوا: بلى، لكنَّا علمنا فتجاهلنا، وأُوقظنا فَتَنَاوَمنا.
فَعَضُّوا أيديهم نَدَمًا، وبَكَوا على التَّفريط دمًا.
أما الفرقة الثالثة الذين انتهكوا حِمَى الملك.
فأمر الملك بسجنهم ومُعاقبتهم.
فأمر الملك بإيقاع العقوبة الشديدة عليهم؛ لأنهم عبثوا بِحِمَى الملك، وهم قد نُهُوا عن ذلك.
يقول ابن قُدامة:
فهؤلاء الذين لما نزلوا في هذه الجزيرة يومًا وليلةً طيلة الوقت يجمعون الجواهر النَّفيسة، هؤلاء مثلهم كمثل الذي يعمل صالحًا في هذه الدنيا، يجمع جواهر، حسنات، كل يومٍ حسنات، فهذه أعظم من الجواهر، حسنات من صيامٍ ونافلةٍ، ومن صلواتٍ، ومن زكواتٍ، ومن أذكارٍ، فعندهم هذه النَّفائس.
وقومٌ غلب عليهم الكسل والراحة، يعني: يعملون أعمالًا قليلةً.
وقومٌ تركوا ذلك كله، وانشغلوا باللهو، وباللعب، وبالتَّفاهات.
وقومٌ تَجَرَّؤوا على المعاصي: شُرب الخمور، والزنا، ونحو ذلك، مع أن مدة مُقامهم في الدنيا قصيرةٌ.
فهذا مثلٌ للدنيا قرَّبه المُوفق ابن قُدامة رحمه الله.
نحن الآن -أيها الإخوة- في هذه الدار -كما مرَّ معنا بالأمس- في دارٍ يتمنَّاها الأموات.
نحن في مرحلةٍ من أخطر المراحل، وهي مرحلة العمل، فالذي يعمل صالحًا في هذه الدنيا يسعد السعادة الأبدية، والذي يضيع عمره في لَهْوٍ، وفي غفلةٍ، وفي لعبٍ، وفي تفريطٍ؛ يندم النَّدم العظيم.
وحياتك أيها الإنسان فرصةٌ واحدةٌ غير قابلةٍ للتَّعويض، ليست مجالًا للمُغامرة والمُخاطرة، وإن نجحتَ في هذا الاختبار العظيم الذي نحن فيه سعدتَ السعادة الأبدية، وإن فشلتَ فيه خسرتَ الخسارة العظيمة، ومهما حققتَ من نجاحاتٍ في الدنيا تبقى في النهاية خاسرًا، فالنجاح الحقيقي والفوز الحقيقي إنما هو في طاعة الله .
فكل يومٍ تطلع شمسه اعتبر أن هذا اليوم هبةٌ من الله؛ لكي تعمل صالحًا، قل: هذا اليوم سأتزود فيه بالأعمال الصالحة، أكثر فيه من الصلاة، ومن الأعمال الصالحة: الصدقات، الأذكار، تلاوة القرآن، هذه هي النَّفائس التي يغتبط بها الإنسان عندما يلقى ربَّه .
فانظر إلى هذا المثل البديع الذي ذكره ابن قُدامة، فالناس في الدنيا كهؤلاء الذين هم في هذه الجزيرة، وقيل لهم: مدة إقامتكم يومٌ وليلةٌ. والناس في الدنيا مدة إقامتهم قصيرةٌ جدًّا، فالذين جمعوا الجواهر مثل الذين يجمعون الحسنات والأعمال الصالحة، والذين فرَّطوا مثل المُفرطين في الدنيا، والذين انتهكوا حِمَى الملك وعاقبهم الملك مثل الذين يتجرؤون على حُرمات الله .
الاجتهاد في العمل الصالح
قال:
وألزم قلبك الفكر في نعم الله؛ لتشكرها، وفي ذنوبك؛ لتستغفرها، وفي تفريطك؛ لتندم، وفي مخلوقات الله وحِكَمِه؛ لتعرف عظمته وحكمته، وفيما بين يديك؛ لتستعدَّ له، أو في حكم شيءٍ تحتاج إلى تعلمه.
وألزم لسانك ذكر الله، ودعاءه، واستغفاره، أو قراءة قرآنٍ، أو علمٍ، أو تعليمٍ، أو أمرًا بمعروفٍ، أو نهيًا عن منكرٍ، أو إصلاحًا بين الناس.
هذه أعمالٌ صالحةٌ عظيمةٌ، فالذكر من أفضل الأعمال، والاستغفار كذلك، وتلاوة القرآن -والقرآن أشرف الذكر- وتعلم العلم، وتعليم العلم للناس، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر.
قال:
الإصلاح بين الناس -يا إخواني- من الأعمال الصالحة العظيمة التي أجرها عظيمٌ، يقول الله : لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ أكمل الآية: فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114].
وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه الترمذي وغيره بسندٍ صحيحٍ يقول النبي : ألا أُخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى. قال: صلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدِّين، هذا حديثٌ صحيحٌ، صححه الترمذي وغيره [1].
درجة إصلاح ذات البين أعظم من درجة الصلاة، ومن درجة الصيام، ومن درجة الصدقة، فإذا وُفِّق الإنسان لهذا العمل فهذا عملٌ صالحٌ عظيمٌ، يكفينا قول الله : فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا.
هذه المعاني يغفل عنها بعض الناس، وربما يجد بعض الناس القطيعة داخل بيته، ولا يسعى للإصلاح، وربما يجد أن ابنته مُتخاصمةٌ مع زوجها، وهو سلبيٌّ، ما يسعى للإصلاح بينهما، أو أخته ولا يسعى للإصلاح، أو جيرانه، أو أرحامه، فالسعي للإصلاح من الأعمال الصالحة العظيمة.
إشغال الجوارح بالطاعات
قال:
أحبّ الأعمال إلى الله الفرائض، يقول الله تعالى في الحديث القدسي: ما تقرب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبّ إليَّ مما افترضتُ عليه [2]، فالفرائض هي أحبُّ الأعمال إلى الله، سواء بالنسبة للصلاة، أو الزكاة، أو الصيام، أو الحج، أو غير ذلك.
وبعد الفرائض النَّوافل: وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أُحبَّه [3]، قال: "وليكن من أهمِّها الفرائض"، والنَّوافل أيضًا فيها أجرٌ.
المؤلف جعل النَّوافل على مرتبتين:
تقديم النَّفع للناس
المرتبة الأولى قال: "ما يتعدى نفعه إلى الخلق" أي: أن العمل الذي نفعه مُتَعَدٍّ أفضل وأعظم أجرًا من العمل الذي نفعه قاصرٌ على صاحبه، فمثال ما نفعه مُتَعَدٍّ: طلب العلم.
لو أن رجلًا قال: أيّهما أفضل: أن أحضر مثل هذه الدروس، أو أن أبقى في البيت أقرأ القرآن؟
تطبيقًا لكلام ابن قُدامة أيّهما أفضل؟
حضور الدرس، لماذا؟
لأن نفعه مُتَعَدٍّ؛ ولذلك ذكر النَّووي وغيره أن الاشتغال بطلب العلم الشرعي أفضل من الاشتغال بنوافل العبادات، فالنَّفع المُتعدي أفضل.
فالإنسان الذي عنده تعليمٌ وعلمٌ ودعوةٌ إلى الله، وأيضًا في المجال الخيري في المَبَرَّات؛ هذا أعظم أجرًا من الإنسان الذي يعمل فقط الأعمال الصالحة، لكن نفعها قاصرٌ على صاحبها؛ يبقى في المسجد يقرأ القرآن، أو يذكر الله فقط من البيت للمسجد، لا، الذي نفعه مُتَعَدٍّ أفضل، فالذي يشتغل بالتعليم، أو بالدعوة، أو بالتوجيه، أو بالإرشاد، أو بالأعمال الخيرية؛ هذا أعظم أجرًا وثوابًا.
العمل المُتعدي المؤلف جعله على مرتبتين، يقول: "أفضل ذلك" يعني: أفضل العمل المُتعدي "ما نفعهم في دينهم" يعني: تعليم العلم -مثلًا- هذا أفضل من العمل في المَبَرَّات؛ لأن ما نفع في الدين أعظم مما نفع في الدنيا.
وهذا يدل على أن تعليم العلم والدعوة إلى الله من أجلِّ وأشرف وأسمى الأعمال، كما قال الله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ يعني: لا أحد أحسن قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33].
فهنيئًا لمَن بذل من وقته لتعليم الناس ودعوتهم إلى الله ، فهذه الدرجة هي أفضل وأشرف وأسمى الأعمال.