logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح كتاب الوصية لابن قدامة المقدسي/(6) بيان حقيقة الدنيا- من قوله "وكان بعض السلف قد حفر.."

(6) بيان حقيقة الدنيا- من قوله "وكان بعض السلف قد حفر.."

مشاهدة من الموقع

تخيل مستقبلك.. واختر الطريق الصحيح

هذه المقولة مقولةٌ عظيمة عن هذا التابعي الجليل "إبراهيم التيمي" رحمه الله؛ يقول: إنني مَثَّلْتُ نفسي [يعني: تَخَيَّلْتُ نفسي] في الجنة آكل من ثمارها، وأعانق أبكارها، وأتمتع بنعيمها؛ فقلتُ: يا نفس، أي شيء تتمنين؟ أنتِ الآن في الجنة، أي شيء تتمنين؟ قالت: أُرَدُّ إلى الدنيا فأزداد من العمل. ثم مَثَّلْتُ نفسي في النار أُحْرَق بجحيمها، وأُجْرَع من حميمها، وأُطْعَم من زَقُّومها؛ قلتُ: يا نفس، أي شيء تتمنين؟ قالت: أُرَدُّ إلى الدنيا فأعمل عملًا أتخلص به من هذا. فقلتُ: يا نفس، أنتِ الآن في الأمنية، فاعملي، اعملي الآن[1].

هذا التفكر -أيها الإخوة- والتذكر بهذه الطريقة يحدو النفس إلى مزيدٍ من العمل، يوقظ النفس. كما ذكرنا؛ نحن الآن في هذه الدار في دار العمل، دار يتمناها الأموات، فهذا التخيل يدفع النفس إلى العمل، تخيَّلْ نفسك بعد مئة عام من الآن، يعني الآن نحن في عام كم؟ (1440) هجريًّا، بعد مئة عام (1540) ما مصيرك؟ وماذا تتمنى في تلك اللحظة؟ بعد مئتَي سنة، ثلاثمئة سنة. هذا التخيل -أيها الإخوة- يبيِّن لك حقيقة الدنيا، وأن هذه الدنيا متاع الغرور، ما تستحق من الإنسان كل هذا العناء والنصب والتعب والشقاء، فمثل هذا التخيل والتفكر مأثور عن السلف، كما في مقولة "إبراهيم التيمي" وغيره.

لا بُدَّ للإنسان -من مثل هذه الوقفات مع النفس- أن يخلو مع نفسه، ويتخيل ويتأمل ويتفكر في حاله وفي مصيره وفي مآله.

وكان بعض السلف قد حفر ...

نعم، هذا مأثور عن بعض السلف؛ منهم مَن كان يحفر قبرًا، ويدخل القبر حتى يتذكر الموت وما بعده، ومنهم مَن يجهز الكفن له؛ ولهم في هذا حكايات تدل على زهدهم وعلى قِصَر أملهم في هذه الدنيا.

فكما يقال: إن الدنيا والآخرة كالضَّرَّتَين؛ مَن أَحَبَّ إحداهما أَضَرَّ بالأخرى. وكما ذكرنا؛ أنه ليس الممنوع أن الإنسان تكون في يده الدنيا، لكن الممنوع أن تكون في قلبه؛ إذا كانت في يده الدنيا ما تضره، كما ذكرنا عن بعض الأنبياء وعن بعض الصحابة، لكن المصيبة عندما تكون الدنيا في قلبه وتشغله عن الله وعن الدار الآخرة.

....

هذه من المنامات، ولكن الصلاة عند القبر ورد النهي عنها، ورد النهي عن الصلاة عند القبور، وأنها لا تجوز، إلا الصلاة على الميت فقط؛ فيقول: إن هذا الرجل لما صلى ركعتين رأى صاحب القبر في المنام، وقال: إن هاتين الركعتين لو كانتا لي كانت أحب لي من الدنيا وما فيها؛ أنتم أيها الأحياء تعملون ولا تعلمون، ونحن أيها الأموات نعلم ولا نعمل؛ لأنهم انقطعوا عن دار العمل، وانتقلوا لدار الحساب؛ فاغتنِم -رحمك الله- حياتك النفيسة، واحتفظ بأوقاتك العزيزة.

أقسام ما يراه الإنسان في منامه

والرؤيا التي يراها الإنسان أو ما يراه الإنسان في منامه ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

  • القسم الأول: حديث نفس؛ فهذه ليست من الرؤيا في شيء، يتحدث بشيء في النهار، ويراه في الليل؛ هذه ليست رؤيا.
  • القسم الثاني: من الشيطان؛ وهي الأشياء المزعجة، أي شيء مزعج تراه في منامك، هذا من الشيطان، تَعَوَّذْ بالله منه ومن الشيطان، وَاتْفُلْ عن يسارك ثلاثًا، ولا يضرك، ولا تحدث به أحدًا.
  • القسم الثالث: الرؤيا؛ وهذه من الله ، وهذه إنما يُستفاد منها في البشارة أو النذارة فقط، ولا يُستفاد فيها في أحكامٍ شرعيةٍ تفيد، غاية ما تفيده البشارة أو النذارة، وهي من عاجل بشرى المؤمن، الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو تُرى له، فقد يكون فيها بشارة له وقد يكون فيها إنذار؛ كأن يكون إنسان مُكِبًّا على المعاصي فيَرى رؤيا أو تُرى رؤيا في إنذاره من ذلك، أو في تبشيره بخير؛ فهي تفيد البشارة أو النذارة.

ومع ذلك؛ الرؤيا غاية ما تفيده الظن ولا تفيد القطع واليقين، يوسف عليه الصلاة والسلام الذي أعطاه الله علم التعبير، ومع ذلك وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ [يوسف: 42] "ظَنَّ"؛ فلذلك بعض المُعبِّرين الذين يقطعون بالتعبير، لا شك أن هذا منهجٌ خاطئٌ مخالفٌ للنصوص، وإنما المُعبِّر يقول بالظن: إنْ صَدَقَتْ رؤياك فهي كذا وكذا -من غير أن يقطع-. وأيضًا تفيد البشارة أو النذارة؛ فهذه الرؤيا التي ذكرها الموفق رحمه الله عن صاحب هذا القبر فيها موعظة، وفيها أيضًا كلام عظيم: أنتم أيها الأحياء تعملون ولا تعلمون، ونحن أيها الأموات نعلم ولا نعمل!

قيمة العمر وأهمية استثماره

وإذا عادَلْتَ هذه الحياة بخلود الأبد؛ عَلِمتَ أن كل نَفَسٍ يعدل أكثر من ألف ألف ألف عام في نعيم لا حصر له، أو خلاف ذلك، وما كان هكذا فلا قيمة له. فلا تُضَيِّع جواهر عمرك النفيسة بغير عمل، ولا تذهبها بغير عوض، واجتهد ألَّا يخلو نَفَسٌ من أنفاسك إلا من عملِ طاعة أو قربة تتقرب بها، فإنك لو كانت معك جوهرة من جواهر الدنيا فضاعت منك لحزنت عليها حزنًا شديدًا، بل لو ضاع منك دينار لساءك؛ فكيف تفرط في ساعاتك وأوقاتك؟! وكيف لا تحزن على عمرك الذاهب بغير عوض؟!

نعم، هذا كلام عظيم من الموفق رحمه الله، والكلام يصلح للاقتباس منه في الخطب وفي المواعظ؛ يقول: مدة حياتك أيها الإنسان محدودة، وأنفاسك معدودة، فكل نَفَس ينقص به جزء منك، كل نَفَس تتنفس به ينقص به جزء من العمر؛ ما بالك كل ساعة؟! ما بالك كل يوم؟! ما بالك كل شهر؟! كل سنة؟! والعمر كله قصير، عمر الإنسان في الدنيا قصير، وأعمار هذه الأمة ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم مَن يجوز ذلك، هذا هو متوسط أعمار هذه الأمة. طيب، لو أخذنا هذا العمر الآن من ستين إلى سبعين، افترِضه مئة سنة؛ ما نسبة مئة؛ نسبة ليس إلى يوم القيامة، بل إلى وقوف الناس على صعيد يوم القيامة، على صعيد المحشر، طول يوم القيامة؟! طول يوم القيامة -الذي هو وقت الحشر- خمسون ألف سنة، طيب ما نسبة مئة سنة إلى خمسين ألف سنة؟!

سبحان الله! الناس فقط يعني بعدما يُبعثون من قبورهم خمسون ألف سنة، في يوم مقداره خمسون ألف سنة؛ يبقون على أرض المحشر خمسة وعشرين ألف سنة، ثم بعد ذلك يُفصل بينهم، تُنصب الموازين وتُنشر الدواوين بعد خمسة وعشرين ألف سنة؛ أخذ هذا أهل العلم من قول الله : أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان: 24] قالوا: والقيلولة عند العرب تكون منتصف النهار؛ وهذا رُوي عن ابن مسعود وعن ابن عباس، واختاره ابن جرير الطبري، وذكره ابن كثير في تفسيره، يعني عامة المفسرين على هذا؛ على أن الفصل يكون في منتصف النهار، كما قال ابن عباس: ما إن ينتصف النهار إلا وقد نزل أهل الجنة منازلهم، وأهل النار أماكنهم.

طيب، منتصفُ نهارِ يومٍ مقداره خمسون ألف سنة؛ يعني بعد كم؟ خمسة وعشرين ألف سنة، حتى خمسة وعشرون ألف سنة مدة طويلة، كم نسبة عمرك؟ مئة سنة، لو قلنا إنك عشت مئة، مع أن متوسط الأعمار من الستين إلى السبعين، لكن لو افترضنا أنك عشت مئة سنة، كم نسبته إلى خمسة وعشرين ألف سنة؟ فالعمر قصير يا إخوان، العمر قصير جدًّا؛ وهذا معنى قول المؤلف: "والعمر كله قصير، والباقي منه هو اليسير"؛ الآن ما بقي من العمر ربما يكون يسيرًا، ربما يكون أقل بكثير مما ذهب، وكل جزء منه -يعني: من العمر- جوهرة نفيسة لا عِدْلَ لها ولا خَلَفَ منها؛ لماذا؟ فإن بهذه الحياة اليسيرة خلود الأبد في النعيم أو العذاب الأليم.

وإذا عَادَلْتَ هذه الحياة بخلود الأبد؛ يعني الدار الآخرة إلى ما لا نهاية، مقام الإنسان في الجنة ليس ألف سنة ولا مليون سنة ولا بليون سنة، إلى ما لا نهاية. طيب، ما نسبة عمرك في الدنيا إلى هذا الخلود العظيم؟! عَلِمْتَ أن كل نَفَس من أنفاسك يعدل أكثر من ألف ألف ألف عام، "ألف ألف ألف" كم تعادل الآن بحساب الرياضيات الحديثة؟ مليار، يعني الذي هو ألف ألف مليون، "ألف ألف ألف" يعني مليار؛ يقول الموفق: إن النَّفَس الواحد يعدل أكثر -ليس مساويًا- من مليار عام؛ لماذا؟ لأن حياة الآخرة أبدية، ومقامك في الدنيا قصير، وعلى ضوء عملك في الدنيا يكون مصيرك في الآخرة، في نعيم لا حصر له، أو خلاف ذلك، وما كان هذا فلا قيمة له؛ يعني: ما قيمة حياتك في الدنيا بالنسبة لنعيم الآخرة؟! فلا تُضيِّع جواهر عمرك النفيسة بغير عمل، ولا تذهبها بغير عوض؛ اجتهد، اغتنم ساعات عمرك، واجتهد، ألَّا يخلو نَفَسٌ من أنفاسك إلا في عملِ طاعة أو قربة تتقرب بها.

وأقول: اجتهد ألَّا يمر عليك يوم إلا وقد عملتَ فيه صالحًا، وتزوَّدتَّ فيه بزاد التقوى، فإنك لو كانت معك جوهرة من جواهر الدنيا؛ انظر إلى هذا المثال البديع الذي ذكره المؤلف: "لو كان معك جوهرة من جواهر الدنيا فضاعت منك؛ لحزنت عليها حزنًا شديدًا"؛ افترِض أن معك جوهرة ذهبية، اشتريت ذهبًا مثلًا بألف دينار، ثم ضاعت منك، أَلَسْتَ تحزن؟ طيب، وقتك أعظم من هذه الجوهرة، فإذا ضاع عليك ينبغي أن تحزن حزنًا أشد. قال: "بل لو ضاع منك دينار لَسَاءَك؛ فكيف تفرِّط في ساعاتك وأوقاتك؟! وكيف لا تحزن على عمرك الذاهب بغير عوض؟!". هذا يستدعي من الإنسان أن يجتهد في الطاعة، وأن يتزود بزاد التقوى، وأن يغتنم ما تبقى من العمر.

ثم ذكر بعد ذلك المؤلف مثالًا عجيبًا بديعًا للدنيا، وهذا المثال أطال فيه المؤلفُ وشَرَحَه؛ نفتتح به درسنا القادم -إن شاء الله تعالى-.

^1 محاسبة النفس لابن أبي الدنيا، ص: 26.
zh