الرئيسية/دروس علمية/شرح كتاب دليل الطالب لنيل المطالب/(14) باب الأذان والإقامة- من قوله: “وهما فرضُ كفايةٍ..”
|categories

(14) باب الأذان والإقامة- من قوله: “وهما فرضُ كفايةٍ..”

مشاهدة من الموقع

المؤلف رحمه الله خالف في ترتيبه ترتيب كثيرٍ من فقهاء الحنابلة؛ حيث يبدؤون بكتاب الصلاة، ثم بعد ذلك يذكرون الأذان والإقامة في كتاب الصلاة.

المؤلف خالف في هذا الترتيب؛ أتى بباب الأذان والإقامة، ثم باب شروط الصلاة، ثم كتاب الصلاة، وكأنه رأى أن هذا هو كالمقدمة؛ لأن الأذان والإقامة يتقدمان الصلاة، فرأى تقديم هذا الباب على كتاب الصلاة.

تعريف الأذان

الأذان معناه في اللغة: الإعلام، ومنه قول الله تعالى: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279]، وقول الله تعالى: وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ [التوبة:3]، يعني: وإعلامٌ.

ومعناه في الشرع: التعبد لله بالإعلام بدخول وقت الصلاة بذكرٍ مخصوصٍ.

وهذا يدل على أن الأذان عبادةٌ لله ​​​​​​​، وهذه العبادة يشترط لها ما يشترط في العبادات من الشروط، ومن ذلك: النية، والإسلام، وغير ذلك من الشروط المشترطة في العبادات كما سيأتي.

وبهذا يتبين أنه لا يصح أن يكون الأذان من المسجِّل؛ لأنه يفتقد إلى نيةٍ، والنية غير واردةٍ هنا، ثم ما في المسجل هو مجرد حكاية صوتٍ، لكن إذا سمعت الأذان في الإذاعة مسجَّلًا هل يشرع متابعته أم لا؟

لا يشرع؛ لأنه حكاية صوتٍ، إذا كان مسجَّلًا لا يشرع متابعته، طيب إذا نقل على الهواء مباشرةً؟ يشرع، بشرط أن تكون لم تُصلِّ بعدُ، أما إذا صليت فعند كثيرٍ من العلماء أنه أيضًا لا يشرع متابعته؛ لأنه إعلامٌ بدخول الوقت؛ ولأنه يتضمن النداء والحث على الصلاة: “حي على الصلاة”، “حي على الفلاح”، وأنت قد صليت، فعند كثيرٍ من أهل العلم أنه لا يشرع متابعته إذا كان الإنسان قد صلى، فمثلًا: لو خرجت من المسجد وسمعته يؤذن ويُنقل الأذان على الهواء مباشرةً من مكة مثلًا، لكن الأذان الذي يشرع متابعته هو الأذان الذي ينقل على الهواء مباشرةً، ولم يكن السامع قد صلى، فهذا هو الذي يشرع متابعته، والمسألة فيها كلامٌ كثيرٌ لأهل العلم، وتجدونها مبحوثةً بالتفصيل في درس “فقه النوازل” في دورةٍ في جامع شيخ الإسلام ابن تيمية، وهي موجودةٌ على “موقع الجامع”، ولعلها تنقل -إن شاء الله- على موقعنا، موجودةٌ بالصوت، ومكتوبةٌ أيضًا، وفيها بحثٌ مفصلٌ عن هذه المسألة، يعني متى يشرع؟ ومتى لا يشرع؟ والأحوال التي يشرع فيها، والتوجيه لهذا، وآراء العلماء المعاصرين، تجدون فيها تحقيقًا مفصلًا حول هذه المسألة.

أيهما أفضل: الأذان أو الإمامة؟

يعني هل الأفضل أن يكون الإنسان مؤذنًا، أو يكون إمامًا؟

هذه المسألة اختلف فيها العلماء، فمن العلماء من قال: إن الإمامة أفضل؛ لأنها فعل النبي  وفعل خلفائه الراشدين ، ولا يختارون إلا ما هو الأفضل.

والقول الثاني في المسألة: أن الأذان أفضل؛ وذلك لأنه قد ورد في فضل الأذان ما لم يرد في فضل الإمامة، ومن ذلك:

ما جاء في “الصحيحين” عن أبي هريرة  أن النبي  قال: لو يعلم الناس ما في النداء -أي الأذان- والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا [1]، ما معنى: إلا أن يستهموا عليه لاستهموا؟ يعني: إلا أن يقترعوا عليه، وهذا قد حصل في معركة القادسية، فإن الناس تنافسوا على الأذان، وتشاحوا عليه، فأقرع بينهم سعد بن أبي وقاصٍ ، فهذا يدل على فضل الأذان.

وأيضًا مما ورد في هذا: حديث معاوية أن النبي قال: المؤذنون أطول الناس أعناقًا يوم القيامة [2]، رواه مسلمٌ.

وأيضًا حديث أبي سعيدٍ الخدري أن النبي قال لعبدالله بن عبدالرحمن بن صعصعة الأنصاري : إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك، فأذنت بالصلاة، فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع صوت المؤذن جنٌّ ولا إنسٌ ولا شيءٌ إلا شهد له يوم القيامة قال أبو سعيدٍ: سمعته من النبي  [3]، هذا فضلٌ عظيمٌ يدل على فضل الأذان.

ثم أيضًا: الأذان فيه إعلامٌ بذكر الله ، وتنبيهٌ للناس على سبيل العموم.

ثم أيضًا: أيهما أشق الأذان أو الإمامة؟ لا شك أن الأذان أشق من الإمامة.

ولهذا؛ فالقول الراجح في هذه المسألة والله أعلم: أن الأذان أفضل من الإمامة، وذلك؛ لأنه ورد في فضله من النصوص ما لم يرد في فضل الإمامة.

وأما اختيار النبي وخلفائه الراشدين للإمامة دون الأذان؛ لأنهم قد اشتغلوا بما هو أهم، وهو الولاية، ومن المعلوم أن الأذان خصوصًا في عهد النبي ، في العصور الماضية فيه مشقةٌ، ويحتاج إلى مراقبة الوقت، ولو أنهم تفرغوا للأذان لانشغلوا عما هو أهم، وانشغلوا عن مصالح المسلمين؛ ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إمامة النبي وإمامة خلفائه الراشدين كانت متعينةً عليهم، فإنها وظيفة الإمام الأعظم، ولم يكن يمكن الجمع بينها وبين الأذان، فصارت الإمامة في حقهم أفضل؛ لخصوص أحوالهم، وإن كان لأكثر الناس الأذان أفضل.

إذنْ؛ الإمام الأعظم صاحب الولاية العامة، الإمامة في حقه أفضل؛ لأنه لو اشتغل بالأذان لاشتغل عما هو أهم من مصالح المسلمين، ومَن عداه من الناس الأذان أفضل، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، واختيار شيخنا عبدالعزيز بن باز والشيخ محمد بن عثيمين، رحمهم الله تعالى جميعًا، وهو الذي تدل له ظاهر النصوص، أن الأذان أفضل من الإمامة، هذا هو الأقرب والله أعلم.

نعم؟

طالب: هناك حديث: من أذن لله ثنتي عشرة سنةً وجبت له الجنة [4].

الشيخ: وفي روايةٍ: كُتبت له براءةٌ من النار [5]، الحديث حسَّنه بعضهم، لكنه يضعفه كثيرون، لا يثبت، لكن يغني عنه ما ذكرنا من الأحاديث في “الصحيحين” أو في “مسلمٍ”، ولو لم يرد إلا حديث: لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا [6]، هذا يكفي في الحقيقة، أطول الناس أعناقًا يوم القيامة… [7]، لا يسمع مدى صوت المؤذن جنٌّ ولا إنسٌ ولا شيءٌ إلا شهد له يوم القيامة [8]، تدل على فضل الأذان، وهذا لم يرد في الإمامة.

طالب: من كان مشغولًا بأمور المسلمين، هل نقول: إن الإمامة في حقه أفضل؟

الشيخ: هذا محتملٌ، أحيانًا يقترن بالمفضول ما يجعله فاضلًا، يعني مثلًا: لو أن الإنسان يقرأ القرآن، ثم قَدِم عليه ضيفٌ، قراءة القرآن عملٌ صالحٌ، لكن إكرام الضيف في هذه الحال أفضل، فقد يعرض للمفضول ما يجعله فاضلًا، فنقول: من حيث الأصل: الأذان أفضل، لكن ربما لو اقترن به مثل هذا الذي تَذكُر قد تكون الإمامة أفضل، إذا اقترن به مصلحةٌ فقد تكون الإمامة أفضل، كما حصل للنبي عليه الصلاة والسلام والخلفاء الراشدين، الأذان أفضل، لكن نظرًا لأنهم لو اشتغلوا بالأذان اشتغلوا عما هو أهم، كانت الإمامة في حقهم أفضل.

لما قدم النبي  والمسلمون إلى المدينة كانوا يتحيَّنون وقت الصلاة، فكان يشق عليهم ذلك، فتذاكروا هذا مع النبي فقالوا: لو اتخذنا ناقوسًا، فكره النبي ذلك، فقال: ناقوسًا كناقوس النصارى؟! قال بعضهم: لو اتخذنا بوقًا، فكره ذلك، فقال: بوقًا كبوق اليهود؟! ثم بعد ذلك أُري عبدُالله بن زيدٍ الأذان في المنام، فقال عليه الصلاة والسلام: إنها لرؤيا حقٍّ، اذهب فألقه على بلالٍ؛ فإنه أندى منك صوتًا [9]، وجاء في روايةٍ أخرى: أن عمر أيضًا أري في المنام، فالأقرب: أنه حصل هذا وهذا، لا يبعد أن يكون أُري في المنام أكثر من صحابيٍّ، فكانت هذه هي أول مشروعية الأذان.

حكم الأذان والإقامة

نعود لعبارة المؤلف رحمه الله، قال:

وهما فرضُ كفايةٍ.

يعني: حكم الأذان والإقامة أنهما فرض كفايةٍ، وذلك؛ لأن النبي أمر بهما في عدة أحاديث، وكونهما فرض كفايةٍ؛ لقوله في حديث مالك بن الحويرث : إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم [10]، ولمُلازمته لهما في الحضر والسفر.

لكن هو من شعائر الإسلام الظاهرة، فلو اتفق أهل بلدٍ على تركهما فإنهم يقاتَلون، لو قال مثلًا أهل بلدٍ: نحن لن نؤذن، لا داعي للأذان، كلٌّ يعرف الوقت، هذا يعتبر إخلالًا بشعيرةٍ فيقاتَلون، في بعض الدول العربية الآن أصبح هناك ما يسمى بالأذان الموحَّد، يعني يؤذن شخصٌ في مسجدٍ ثم ينقل لجميع مساجد المدينة، وهذا في الحقيقة فيه إشكالاتٌ؛ منها: تفويت سننٍ، والمصالح التي ترجى الحقيقة ربما تنغمر في مفاسد أكثر، ومما يترتب على هذا:

أولًا: حرمان كثيرٍ من الناس من الأذان، هذه العبادة الجليلة التي ورد فيها هذا الفضل من النصوص، فالمدينة التي يسكنها آلافٌ، وربما ملايين، لا يؤذن فيها إلا مؤذنٌ واحدٌ فقط، هذا يترتب عليه حرمان هؤلاء من هذه الفضيلة، ثم ما يترتب عليه أيضًا من تفويت سننٍ؛ ومن ذلك مثلًا: أن من أذَّن فهو الذي يقيم، وإن كان قد يقال: إنه أيضًا تنقل الإقامة، لكن في كثيرٍ من تلك المساجد يقيم شخصٌ آخر غير الذي أذَّن.

الأقرب والله أعلم: أن هذا غير مشروعٍ، يُترك الناس، كل جماعةٍ يؤذنون في مسجدهم، وتفاوت بعض المؤذنين تفاوتٌ يسيرٌ لا يضر مثل هذا، أما بالنسبة للأذان عن طريق المسجِّل فهذا قولًا واحدًا أنه غير مشروعٍ، بل هو بدعةٌ، لكن الذي يُنقل قلنا: إنه أيضًا هو محل اجتهادٍ، لكن الأقرب أيضًا أنه غير مشروعٍ، وأنه يؤذَّن في كل مسجدٍ.

قال:

في الحضر.

يفهم من هذا أنه في السفر لا تأخذان الحكم نفسه، وهو أنهما فرض كفايةٍ، وسوف يصرح المؤلف بهذا في قوله: “ويسنان للمنفرد، وفي السفر” فهما فرض كفايةٍ في الحضر، وسيأتي الكلام عن السفر.

على الرجال.

حكم الأذان والإقامة للنساء

ويفهم منه: أن النساء لا يجب عليهن الأذان ولا الإقامة، وهذه محل خلافٍ بين أهل العلم.

لكن هذا هو الأقرب والله أعلم: أن النساء لا يجب عليهن الأذان ولا الإقامة، وهذا مرويٌّ عن عددٍ من الصحابة ؛ ولأن النساء لسن من أهل الجمعة والجماعات، والأذان إنما هو إعلامٌ بدخول الوقت، والإقامة إعلامٌ بإقامة الصلاة التي تصلى جماعةً، وهذا ليس من شأن النساء، قال الموفق بن قدامة رحمه الله: “ليس على النساء أذانٌ ولا إقامةٌ، كذا قال ابن عمر وأنسٌ وسعيد بن المسيب والحسن وابن سيرين والثوري ومالك وأصحاب الرأي، ولا نعلم عن غيرهم خلافًا”؛ لحديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها، قالت: سمعت رسول الله يقول: ليس على النساء أذانٌ ولا إقامةٌ [11]، رواه البيهقي، فالمرأة تكبر من غير أن تقيم ومن غير أن تؤذن.

قال:

على الأحرار.

ويفهم منه أن الأرِقَّاء ليس عليهم أذانٌ، وذلك؛ لانشغالهم بخدمة أسيادهم، والرِّق: عجزٌ حكميٌّ يقوم بالإنسان؛ بسبب كفره بالله تعالى، فالذي يُسترَقُّ في الأصل هو الكافر، لا يجوز استرقاق المسلم، لكن قد يستمر الرِّق بالتوالد.

الحالات التي يسن فيهما الأذان والإقامة

ثم لما بين المؤلف الحالات التي يجب فيها الأذان، انتقل إلى الحالات التي يسن فيها فقال:

ويُسنَّان للمنفرد.

ويدل لذلك حديثٌ مضى قبل قليلٍ، مَن يذكره؟ أن الأذان يسن للمنفرد؟

نعم حديث أبي سعيدٍ أن النبي لما قال لعبدالله بن عبدالرحمن بن صعصعة : إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت فارفع صوتك بالنداء؛ فإنه لا يسمع صوت المؤذن جنٌّ ولا إنسٌ ولا شيءٌ إلا شهد له يوم القيامة [12]، وهذا يدل على مشروعية الأذان للمنفرد.

أيضًا يدل لذلك حديث عقبة بن عامرٍ أن النبي قال: يعجب ربك من راعي غنمٍ في رأس شظية جبلٍ يؤذن بالصلاة ويصلي، فيقول الله : انظروا، عبدي هذا يؤذن ويقيم الصلاة، يخاف مني، قد غفرت له وأدخلته الجنة [13] هذا الحديث رواه أبو داود والنسائي، وهو حديثٌ صحيحٌ، وهذا يدل على مشروعية الأذان للمنفرد، لو كان الإنسان مثلًا في البر وحده، أو في سفرٍ وحده، فيشرع له أن يؤذن ثم يقيم، هذه هي السنة.

حكم الأذان في السفر

قال:

وفي السفر.

أي: أن الأذان يسن في السفر، وهذا هو المذهب.

وقال بعض أهل العلم: إن الأذان يجب على المسافرين كما يجب على المقيمين، يقصدون بذلك الوجوب الذي هو الفرض الكفائي، الأذان والإقامة، أنهما من فروض الكفاية حتى على المسافرين؛ لعموم الأدلة، ولحديث مالك بن الحويرث : إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكما أحدكما [14]، وهما مسافران؛ ولأن النبي لم يدع الأذان والإقامة حضرًا ولا سفرًا، وهذا هو الأقرب والله أعلم: أن الأذان والإقامة فرض كفايةٍ في الحضر والسفر.

لكن سيأتينا الكلام عن الأذان للفوائت داخل البلد، أنه لا يشرع لها الأذان، وإنما الإقامة فقط، سيأتي الكلام عنها.

قوله:

ويُكرهان للنساء.

لما سبق مما ذكرنا من أن النساء لسن من أهل الجمع والجماعات، فلا يشرع في حقهن الأذان، والمؤلف أراد أن يبين حكم الأذان في حق النساء، وهو أنه مكروهٌ.

قوله:

ولو بلا رفع صوتٍ.

لأن هذا لم يُؤثَر، ولما ذكرنا من حديث أسماء رضي الله عنها: ليس على النساء أذانٌ ولا إقامةٌ [15]، وإن كان في إسناده مقالٌ.

شروط صحة الأذان والإقامة

قوله:

ولا يصحان إلا مرتَّبَين متواليين عرفًا.

انتقل المؤلف إلى شروط صحة الأذان والإقامة.

“ولا يصحان”: يعني: الأذان والإقامة.

“إلا مرتَّبَين”: لأنهما شرعًا كذلك، كأركان الصلاة.

“متواليين عرفًا”: فإن فُصل بعض جمل الأذان والإقامة عن بعضٍ بزمنٍ طويلٍ لم يصح، أما لو كان بزمنٍ يسيرٍ فلا بأس؛ كعطاسٍ أو سعالٍ أو نحو ذلك، فهذا لا يضر، لكن يقطع الأذان الفاصل الطويل عرفًا.

قوله:

وأن يكونا من واحدٍ.

يعني: الأذان يكون من واحدٍ، والإقامة تكون من شخصٍ واحدٍ؛ لأنهما عبادةٌ بدنيةٌ فلم يصح أن يبني فعله على فعل غيره كالصلاة.

بناءً على ذلك: لو أن مؤذنًا أذن، ثم عرض له ما عرض، يعني لم يستطع إكمال الأذان، فأتى شخصٌ يريد أن يكمل الأذان بعده، هل يصح؟ أو نقول له: يستأنف الأذان من جديدٍ؟ يستأنف الأذان، ومثل ذلك الإقامة، وهذا يحصل أحيانًا، يبدأ المؤذن يؤذن، ثم ينتابه إما عطاسٌ أو سعالٌ أو شرقةٌ، أو أن صوته يصيبه مثلًا بُحَّةٌ، أو نحو ذلك، فيريد أحد الناس أن يكمل الأذان، نقول: هذا خطأٌ، إنما يستأنف الأذان من جديدٍ؛ لأن الأذان عبادةٌ لا تصح إلا من شخصٍ واحدٍ، وهكذا بالنسبة للإقامة لا بد من استئنافها من جديدٍ، وهذا معنى قول المؤلف: وأن يكونا من واحدٍ.

قوله:

بنيةٍ منه.

لا بد أن ينوي الأذان؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: إنما الأعمال بالنيات [16]، وهكذا لا بد أن ينوي الإقامة، فلو أنه أراد تعليمًا، أو أراد مثلًا أن يجرب صوته، أو نحو ذلك، هذا لا يعتبر أذانًا شرعًا.

انتقل المؤلف لبيان الشروط، قوله:

وشُرط كونه مسلمًا.

أي: يشترط في المؤذن أن يكون مسلمًا، وبناءً على ذلك: لو أذن كافرٌ لم يصح أذانه.

قوله:

ذَكَرًا.

فلا يصح الأذان من الأنثى، قوله:

عاقلًا.

فلا يصح الأذان من المجنون، قوله:

مميزًا.

أفادنا المؤلف بأن الأذان لا يشترط له البلوغ، وإنما يشترط له التمييز، فلو أذن صبيٌّ عمره عشر سنين؛ أذانه صحيحٌ.

التمييز حدُّه أو ضابطه اختلف فيه العلماء؛ فمن العلماء من قال: إن حد التمييز: أن يفهم الخطاب ويرد الجواب، وقال بعضهم: إن حد التمييز: سبع سنين، إذا أتم سبع سنين.

الحقيقة أن أصحاب القول الأول: يفهم الخطاب ويرد الجواب، وإذا تأملته من الناحية النظرية تقول: إنه جيدٌ، لكن من الناحية العملية كثيرٌ من الأطفال الآن عمره ربما ثلاث سنين، أو أربع سنين، يفهم الخطاب ويرد الجواب، طفل عمره أربع سنين تخاطبه ويخاطبك، ويتكلم معك ويفهم خطابك، فهذا في الحقيقة لا ينضبط، هل نقول: إن هذا مميِّزٌ؟ لا يمكن أن يكون هذا مميزًا، عمره ثلاث سنين أو أربع سنين ويفهم الخطاب، تخاطبه: أعطني كذا، تتحاور معه، يرد الجواب، لكن هذا ليس مميزًا قطعًا؛ لأنه لا يعقل النية، هذا الضابط فيه إشكالٌ.

ولهذا؛ فالأقرب والله أعلم: هو التحديد بما حدد به النبي في قوله: مروا أبناءكم بالصلاة لسبعٍ [17]، الأقرب: أن التمييز لسبع سنين، إذا تم سبع سنين ودخل في السنة الثامنة، فهذا هو المميز، أو كان قريبًا من هذا العمر، فهذا هو الصبي المميز، ولذلك؛ في جميع دول العالم، المدارس لا يقبلون فيها إلا من بلغ السادسة، يعني قريب من التمييز، قريبًا من سن السابعة؛ لأنه قبل ذلك لا يعقل النية، ولا يدرك كثيرًا من الأمور.

فالأقرب -والله أعلم- هو التحديد بما حدد النبي وهو سبع سنين، لكن سبق أن ذكرنا كيف نحسب السبع؟ أتم سبعًا ودخل في الثامنة، هذه الطريقة لحساب السنين.

فإذنْ أذان المميز قلنا: إنه أذانٌ صحيحٌ.

قال:

ناطقًا.

فلا يصح الأذان من الأخرس؛ لأنه لا ينطق ولا يستفاد من أذانه، والمقصود بالأذان: إعلام الناس بدخول الوقت.

قال:

عدلًا، ولو ظاهرًا.

يعني: يشترط في المؤذن العدالة، ويدل لذلك حديث أبي هريرة أن النبي قال: الإمام ضامنٌ، والمؤذن مؤتمنٌ، اللهم أرشد الأئمة، واغفر للمؤذنين [18]، هذا الحديث رواه الترمذي وأبو داود وأحمد، وهو حديثٌ صحيحٌ بمجموع طرقه.

والشاهد: قوله: والمؤذن مؤتمنٌ، وهذا يدل على أنه لا بد أن يكون عدلًا؛ لأنه مؤتمنٌ على دخول الوقت، وفي السابق أيضًا لما كان المؤذن يؤذن على المنارة، أو على السطح كان مؤتمنًا على الاطلاع على عورات المسلمين، ونحو ذلك.

حكم أذان الفاسق

طيب، الأذان من الفاسق، ظاهر كلام المؤلف: أنه لا يصح أذان الفاسق؛ لأنه ذكَر هذا شرطًا، ومفهوم هذا: أنه إذا لم يكن عدلًا فلا يصح أذانه، وهذا محل خلافٍ بين العلماء، فالمشهور من مذهب الحنابلة أنه لا يصح أذان الفاسق؛ لهذا الحديث.

القول الثاني في المسألة: أن أذان الفاسق يصح، وهو قول الجمهور، قالوا: إنه تصح صلاته وإمامته، ومن صحت صلاته وإمامته صح أذانه من باب أولى.

وهذا هو الأقرب والله أعلم: أنه يصح أذان الفاسق، لكن الأولى أن لا يولَّى الأذان، وأن يؤذن للناس خيار الناس؛ لأن الأذان عبادةٌ ومهنةٌ شريفةٌ، فينبغي ألا يليَها إلا العدول.

وأما مستور الحال فإنه يصح أذانه؛ ولهذا قال المؤلف: “ولو ظاهرًا”، بعض الناس مستور الحال، لا تدري، لم يظهر منه فسقٌ، ولم يُقطع بعدالته، فهذا يصح أذانه عند الجميع؛ ولهذا قال الموفَّق: بغير خلافٍ، “أما مستور الحال، فيصح أذانه بغير خلافٍ علمناه”.

طيب، نريد أن نعرف ضابط الفسق؟ ما هو ضابط الفسق؟

متى نقول عن هذا: إنسانٌ فاسقٌ؟ هناك ضابطٌ أدق.

مرتكب الكبيرة، الذي يقع في الكبائر هذا فاسقٌ، بعض العلماء يضيف لها: الـمُصرُّ على الصغائر، لكن هذه محل خلافٍ، هل المصر على الصغائر يصل للفسق أم لا؟ لكن الذي يقع في الكبائر هذا هو الفاسق، وهذا يقودنا أيضًا لتعريف الكبيرة، مر معنا في دروسٍ سابقةٍ أكثر من مرةٍ تعريف الكبيرة.

كل ما ترتب عليه حَدٌّ في الدنيا، أو وعيدٌ في الآخرة؛ من لعنةٍ أو غضبٍ أو سخطٍ أو نارٍ أو نفي إيمانٍ.

احفظوا هذا الضابط، هذا هو تعريف الكبيرة: كل ما ترتب عليه حدٌّ في الدنيا، كل المعاصي التي فيها حدودٌ؛ السرقة، القذف، الزنا، كل ما فيه حدٌّ في الدنيا، الخمر محل خلافٍ، الصحيح: أنه ليس حدًّا إنما هو تعزيرٌ.

كل ما كان فيه حدٌّ في الدنيا، أو كان فيه وعيدٌ في الآخرة من لعنةٍ: لعن الله من فعل كذا، لعن الله المصورين [19]، لعن الله النامصات والمتنمصات [20]، كل ما ورد فيه لعنٌ أو غضبٌ أو سخطٌ أو نارٌ، من فعل كذا دخل النار، أو أيضًا نفي دخول الجنة: لا يدخل الجنة قاطعٌ [21]، قاطع الرحم يُعتبر فاسقًا، لا يدخل الجنة نمامٌ [22]، النمام يعتبر فاسقًا، وهكذا، فمثلًا: إنسانٌ معروفٌ بالنميمة، هذا فاسقٌ يفترض أنه ما يولَّى على الأذان، مثلًا لا يولى على الأذان، وعند الحنابلة لا يصح أذانه، أو إنسانٌ مثلًا قاطعٌ لرحمه، هذا فاسقٌ أيضًا، مرتكبٌ لكبيرة، أو عاقٌّ لوالديه، هذا يعتبر فاسقًا، أو يأكل الربا، يعتبر فاسقًا، أو يقع في الزنا أو الفواحش فاسقٌ، وهكذا.

فإذنْ مرتكب الكبيرة هذا فاسقٌ، فهذا عند الحنابلة: أنه لا يصح أذانه، ولو أذَّن يعاد الأذان.

لكن القول الراجح: أن أذانه صحيحٌ، لكن لا ينبغي أن يولى على أن يؤذن للمسلمين.

طالب: المسبل؟

الشيخ: المسبل إذا كان إسباله خيلاء، هذا بالاتفاق أنه مرتكبٌ لكبيرةٍ، قال النبي : ثلاثةٌ لا ينظر الله إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذابٌ أليمٌ [23]، هذا لا يكون إلا على كبيرةٍ، فهذا لا يؤذِّن أيضًا، ولا يمكَّن من الأذان، لكن إذا كان عن غير خيلاء فهذا محل خلافٍ، وإن كان الصحيح أنه أيضًا لا يجوز، وأنه محرمٌ، ولا يجوز إلا أنه ليس كالأول في الوعيد، لكن هل هو كبيرةٌ أم لا؟ أيضًا فيه خلافٌ بين أهل العلم.

طالب: كلمة “فاسق”، تطلق على الشخص…؟

الشيخ: يُتثبت، لا يُتسرع في إطلاق التفسيق، كما أنه لا يتسرع في إطلاق التكفير ولا التبديع، إطلاق الوصف هذا له شروطٌ، لكن يقال: هذا العمل فسقٌ، مثلًا يقال: فلانٌ يرتكب كذا، وهذا العمل فسقٌ، يتحرز الإنسان في العبارة، لكن لا ينبغي أن يولَّى الفساق الإمامة ولا الأذان، ينبغي أن يجنَّبوا الإمامة والأذان.

طالب: حلق اللحية من الصغائر، هل يعتبر فاسقًا بإصراره؟

الشيخ: هو حلق اللحية صحيحٌ قد لا نقول: إنه كبيرةٌ، لكن الإصرار عليها -عند بعض العلماء- جعلها كبيرةً، المسألة فيها خلافٌ، إذا قلنا: الإصرار عليها كالكبيرة يعتبر فاسقًا، المسألة هذه فيها خلافٌ كثيرٌ، الشوكاني رحمه الله لا يرتضي هذا، يقول: ليس هناك دليلٌ يدل على أن الإصرار على الصغيرة أنه في حكم الكبيرة، والمسألة فيها خلافٌ كثيرٌ، لكن أيضًا حتى الذي يحلق لحيته هو مجاهرٌ بالمعصية أيضًا لا ينبغي أن يولى على الأذان.

نرجئ بقية الأسئلة لوقتٍ آخر.

حكم الأذان والإقامة قبل الوقت

قال:

ولا يصحان قبل الوقت.

لا يصح الأذان والإقامة قبل الوقت، فلا يجوز للمؤذن أن يؤذن قبل دخول الوقت، وذلك؛ لأنه مؤتمنٌ على هذا؛ ولأن الفائدة من الأذان هو الإعلام بدخول الوقت، فأذانه قبل الوقت ينافي هذا المعنى؛ ولقوله عليه الصلاة والسلام: إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم [24]، والصلاة لا تحضر إلا بدخول الوقت، والمقصود بحضورها: حضورها وحضور فعلها، ولهذا لو أخر الصلاة يؤخر معها الأذان، يعني لو كان مجموعةٌ في سفرٍ أو في برٍّ، وأرادوا أن يؤخروا صلاة العشاء؛ باعتبار أن هذا هو الأفضل، فهل نقول: أذِّنوا وأخروا الصلاة، أو نقول: أخروا الأذان مع الصلاة؟

نقول: أخروا الأذان مع الصلاة، وذلك؛ لأن النبي في حديث بلالٍ أراد أن يؤذن الظهر فكان يقول: أبرد، أبرد [25]، ثم بعد ذلك قبيل الصلاة أذن، ثم صلى النبي ، فدل هذا على أنه إذا أُخِّرت الصلاة فيؤخر معها الأذان.

والظاهر: أنه لم يكن بين الأذان والإقامة في عهد النبي وقتٌ كثيرٌ؛ قد جاء في حديث زيد بن ثابتٍ ، قال: “تسحرنا مع النبي ، فكان بين أذانه وصلاته قدر ما يقرأ الرجل خمسين آيةً” [26]، ورد بعدة ألفاظٍ، لكن الذي في “البخاري”: قال: كم كان بين سحوركم وصلاتكم؟ قال: “قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية”.

المقصود: كم كان بين سحوركم؟ يعني: بعد الفراغ من السحور حين الأذان، فيكون المعنى: كم كان بين الأذان والإقامة؟ قال: قدر ما يقرأ الرجل خمسين آيةً، وجاء في روايةٍ عند الطبراني: “قدر قراءة سورة الحاقة”، الحاقة كم آيةٍ؟ اثنان وخمسون آيةً، قدَّرها الحافظ ابن حجر، قال: “بثلث خُمس ساعةٍ”، والساعة عندهم من قديمٍ ستون دقيقةً، فثلث خُمس ساعةٍ، قال ابن حجر: “وذلك كمقدار ما يتوضأ الرجل” ثلث خُمس ساعةٍ، خُمس الستين كم؟ 60÷5=12، ثلث 12= 4، معنى ذلك: 4 دقائق، ثلث خمس الساعة: 4 دقائق، فسرها الحافظ ابن حجرٍ قال: بمقدار ما يتوضأ الرجل.

هذا كان بين الأذان والإقامة في عهد النبي في صلاة الفجر، وأحيانًا ربما يزيد عن هذا قليلًا، يصل إلى 5 أو 7 دقائق، لكن لم يكن الوقت كثيرًا كما كان عليه الآن، وظاهر هذا أنه حتى في بقية الأوقات؛ الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ما كان الوقت طويلًا كما هو عليه الآن في وقتنا الحاضر، الفجر الآن نبقى كم؟ نصف ساعةٍ، أو بعض المساجد خمسًا وعشرين دقيقةً، مع ذلك نصف ساعةٍ ما ترى أي أثرٍ واضحٍ داخل المدن للفجر، مع أنه يفترض أن يرى أثر الفجر، هذا يدل على أن هناك إشكاليةً في التقويم؛ لأن الفجر من الانفجار، ينفجر بسرعةٍ، في دقائق معدودةٍ ينفجر ويتضح الصبح، لكن لو راقبت الفجر الصادق تجد أنه ينفجر بسرعةٍ، كونك تبقى نصف ساعةٍ ولا ترى أي أثرٍ واضحٍ للفجر، يدل على أن المسألة فيها إشكاليةٌ، ولذلك؛ فوقت صلاتنا الفجر الآن قريبٌ من وقت صلاة الفجر في عهد النبي ، لكن الفارق هو ماذا؟ ما بين الأذان والإقامة، في وقتنا الحاضر ما بين الأذان والإقامة حدود نصف ساعةٍ، أو خمسةٍ وعشرين دقيقةً، في عهد النبي عليه الصلاة والسلام 4 إلى 5 إلى 7 دقائق، الفارق بينهما هو حدود ثلث ساعةٍ، هذا هو محل الإشكال، وبهذا نجيب عن قول بعض الناس: إذا طلعنا من المسجد وجدنا الإسفار، نقول: وقت صلاتنا الآن هو قريبٌ من وقت صلاة النبي عليه الصلاة والسلام؛ باعتبار أننا لا نصلي الآن الفجر إلا بعد خمسٍ وعشرين دقيقةً إلى نصف ساعةٍ، وهذا هو الوقت الذي كان النبي عليه الصلاة والسلام يصلي فيه بِغَلَسٍ، لكن الفرق هو ماذا؟ هو في الأذان، فكان ما بين الأذان والإقامة في عهد النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحدود 5 إلى 7 دقائق، أما في وقتنا الحاضر، فيصل لنصف ساعةٍ، ولذلك؛ شرع الأذان الأول؛ لأنه ما كان بين الأذان والإقامة فاصلٌ طويلٌ، شرع الأذان الأول لتنبيه الناس؛ لأن الفجر لا يكون إلا بعد نومٍ، تنبيه الناس على قرب دخول وقت صلاة الفجر حتى يستعدوا، وحتى يتسحر من أراد أن يتسحر، ويوتر من كان يصلي، ويستيقظ من كان نائمًا، شرع لذلك الأذان الأول، ولهذا قال المؤلف:

إلا أذان الفجر.

ظاهر كلام المؤلف: أن أذان الفجر حتى الأذان الثاني، يصح قبل دخول الوقت، وهذا الحقيقة فيه مخرجٌ للمؤذنين على الإشكالية في وقت صلاة الفجر، بعض المؤذنين يتحرج ويقول: كيف أؤذن وأنا أعلم أن التقويم فيه مشكلةٌ؟ فنقول: على المذهب عند الحنابلة يقولون: إن الفجر مستثنًى، فيصح أن يؤذن قبل دخول الوقت، ولهذا قال المؤلف:

إلا أذان الفجر، فيصح بعد نصف الليل.

واستدلوا لهذا بأذان بلالٍ، وأن بلالًا كان يؤذن بليلٍ، قالوا: فهذا يدل على أنه يصح الأذان قبل دخول الوقت، لكن هذا الاستدلال محل نظرٍ؛ إذ إن أذان بلالٍ ليس أذانًا لصلاة الفجر، وإنما هو أذان لأجل التنبيه فقط؛ لينبه نائمكم، ويرجع قائمكم [27]، فهو أذانٌ لأجل التنبيه فقط، ولهذا؛ فقول المؤلف: إنه يصح أذان الفجر قبل الوقت، محل نظرٍ.

والصواب: أنه لا يصح أذان الفجر إلا بعد طلوع الفجر الصادق، هذا هو القول الصحيح، أنه لا يصح أذان الفجر إلا بعد طلوع الفجر الصادق، وأما الأذان الأول فهو لإيقاظ النائم، وتذكير القائم للتأهب لصلاة الفجر، وختم صلاة الليل بالوتر، هذا هو القول الصحيح في المسألة.

لكن قول الفقهاء: “ينبغي لمن يؤذن الأذان الأول أن يتخذ ذلك عادةً، فلا يتقدم ولا يتأخر الليالي كلها؛ لئلا يغر الناس”.

وظاهر الأمر في عهد النبي : أنه لم يكن بين الأذان الأول والأذان الثاني وقتٌ كثيرٌ، وقد جاء في “البخاري” قال: “كان بين أذان بلالٍ وأذان ابن أم مكتومٍ، أن ينزل هذا وأن يصعد هذا” [28]، وهذا في “الصحيحين”، وهذا يدل على تقاربهما، لكن قالوا: إن بلالًا كان إذا أذن الأذان الأول كان يدعو، ثم بعد ذلك ينزل، ثم يؤذن ابن أم مكتومٍ، لكن هذا يدل على أن الوقت ليس طويلًا، الآن الناس يجعلون من يؤذنون الأذان الأول كم يجعلون بين الأذان الأول والأذان الثاني؟ ساعةً، وقتٌ كثيرٌ في الحقيقة، ولذلك؛ فهذا الأذان لا يفيد كثيرًا، لا يستفيد منه الناس.

لكن لو أن الأمر رجع إلى ما كان عليه الأمر في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، أذَّن الفجر في وقته، فيحتاج الناس إلى تنبيههم على قرب دخول الفجر حتى يستعدوا، فيكون هذا قُبيل أذان الفجر، يعني في حدود ربع ساعةٍ إلى ثلث ساعةٍ، أما أن يُجعل ساعةً فهذا يجعل هذا الأذان ليس له كبير فائدةٍ، لكن إذا كان قبل الأذان الثاني في حدود ربع أو ثلث ساعةٍ يجعل الناس يستعدون، من أراد أن يتسحر يتسحر، من كان يصلي ينتبه ويوتر، من كان نائمًا يستيقظ ويتوضأ ويتهيأ، فكان الناس في عهد النبي يؤذن الأذان الأول، ثم يستعدون ويتهيؤون؛ النائم يستيقظ، المصلي يوتر، الصائم يتسحر، ثم يجتمعون في المسجد فيؤذن بلالٌ ، ويأتون بسنة الفجر في حدود أربع إلى خمس دقائق، ثم تقام صلاة الفجر، هذا هو الذي كان عليه الأمر في عهد النبي ، أما في وقتنا الحاضر اختلف الأمر، وحدثني أحد كبار السن، يقول: إنه كان قبل خمسين أو ستين سنةً، كان الناس على هذا، كان أحد الناس يؤذن الأذان الأول، ثم يجتمع الناس في المسجد، فإذا اجتمعوا صعد المنارة وراقب الفجر، ثم أذن الأذان الثاني، ونزل والناس تؤدي تحية المسجد، فإذا أدى الناس تحية المسجد أقيمت صلاة الفجر، يقول: كنا على هذا، فقلت له: هذا هو الذي كان عليه الأمر في عهد النبي ، هذا هو الذي كان عليه الأمر، أن الأذان الأول يسبق الأذان الثاني بقدر يسيرٍ، ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا، ربع أو ثلث ساعةٍ بالكثير، ثم يؤذن الأذان الثاني، ثم يؤدي الناس السنة الراتبة، ثم تقام الصلاة، هذا هو الذي عليه الأمر في عهد النبي ، وظاهر هذا أيضًا أنه في جميع الصلوات؛ الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ما كان الفاصل طويلًا، الحقيقة أن الفاصل أحيانًا يصل في بعض المساجد الظهر 25 دقيقةً، وأحيانًا نصف ساعةٍ، هذا فاصلٌ طويلٌ، ربما يقطع الناس عن أعمالهم، يكون هناك عمالٌ، يكون هناك موظفون، صحيحٌ أن انتظار الصلاة فيه فضلٌ؛ لكن من أراد الفضل فوجوه الخير كثيرةٌ، يبقى في المسجد بعد الصلاة، ينتظر الصلاة الأخرى، لكن ربط الناس بهذه الطريقة الحقيقة أن فيه إشكالًا، لهذا؛ ينبغي أن يُقلَّص الفارق ما بين الأذان والإقامة، يُرَدُّ الناس إلى ما كانوا عليه في عهد النبي .

طالب: الآن أشكل علي لو قلنا 4 دقائق، هل يستطيع… أن يصلي راتبة الظهر في 4 دقائق؟

الشيخ: لا، نقول: تقريبًا، يعني ممكن 7 دقائق، 4 إلى 5 دقائق، بالكثير 10، لا شك أن هذه كافيةٌ، هم يقولون: الوقت الذي يحتاج تأهبًا وتهيؤًا: الفجر، ولذلك؛ شرع الأذان الأول؛ حتى يتهيأ الناس، لكن يفترض أن الإنسان يكون مستعدًّا، فكون الناس اعتادوا أمرًا يعني لا يدل..، الأمر في عهد النبي كان الناس يستعدون للصلاة قبل الأذان، إذا أذن المؤذن بادروا إلى المسجد فيؤدون السنة، ما كان الأمر بين الأذان والإقامة ما كان الفاصل كثيرًا، من 4 إلى 5، بالكثير 10 دقائق.

طالب: اضطجاع النبي بعد…؟

الشيخ: كان يضطجع، لكن اضطجاعًا يسيرًا، كان يصلي السنة الراتبة حتى إن عائشة رضي الله عنها تقول: “لا أدري هل قرأ فيهن بأم الكتاب أم لا؟” [29]، ويضطجع اضطجاعًا يسيرًا، لا تظن أنه اضطجاع ينام وقتًا طويلًا، اضطجاعٌ يسيرٌ، دقائق معدودةً؛ ولذلك ما كان يتوضأ، إغفاءةٌ يسيرةٌ.

طالب:

الشيخ: لا، لا يؤثر، ما له علاقةٌ.

طالب:

الشيخ: والله يرشدون إلى هذا.

طالب:

الشيخ: والله أنا أرى هذا، أن يبين للناس مثل هذا، وهناك تقويمٌ يعطيك الوقت الصحيح يوميًّا، نبهت عليه أكثر من مرةٍ، تقويم “جمعية الإسنا” في أمريكا الشمالية، (إسنا) يعطيك الوقت الصحيح للفجر وللعشاء أيضًا؛ لأن العشاء أيضًا متأخرٌ، لكن التأخير ما يضر، الوقت الصحيح للفجر وللعشاء يوميًّا طيلة أيام السنة، موجودٌ في ساعة العصر في ساعة الفجر، في بعض المواقع، منها: الباحث الإسلامي، موجودٌ فيها هذا التوقيت، ممكن تسير عليه، يعني بعد هذا التوقيت تأتي بالسنة الراتبة.

طيب ما ودنا ندخل في هذه المسألة حتى نكسب الوقت معنا.

حكم رفع الصوت في الأذان

قال:

ورفع الصوت ركنٌ، ما لم يؤذِّنْ لحاضرٍ.

رفع الصوت ركنٌ؛ لأجل أن يحصل المقصود من الأذان، وهو الإعلام، فإذا لم يرفع صوته لم يحصل الإعلام.

لكن هذا قبل وجود مكبرات الصوت، أما مع وجود مكبرات الصوت فقد لا نقول بهذا، فلولا أنه لم يرفع صوته لصح الأذان؛ لأن مكبرات الصوت تؤدي الغرض نفسه؛ ولهذا المؤلف نفسه قال: “ما لم يؤذن لحاضرٍ”، فلو كان في السفر يؤذن لحاضرٍ لا يشترط رفع الصوت، هكذا أيضًا إذا كان يؤذن عن طريق مكبرات الصوت، لا يشترط رفع الصوت.

قال:

وسُنَّ كونه صَيِّتًا، أمينًا، عالمًا بالوقت.

أما كونه صيتًا؛ لقول النبي في حديث عبدالله بن زيدٍ ، لما رأى الأذان في المنام، قال: إنها لرؤيا حقٍّ إن شاء الله، فقم فألقه على بلالٍ؛ فإنه أندى منك صوتًا [30]، كان بلالٌ صيِّتًا، وكان أيضًا صوته حسنًا، مع أن الذي رأى الأذان عبدالله بن زيدٍ ، مع ذلك جعل النبي المؤذن بلالًا ؛ لأنه كان أندى صوتًا، فدل هذا على أنه يستحب اختيار الصيِّت أو جهوري الصوت.

ونستنبط من هذا أن مكبرات الصوت هي من نعمة الله تعالى علينا، وذلك؛ لأنها تزيد صوت المؤذن قوةً وحسنًا، لكن هل نقول: يشترط كونه صيِّتًا مع وجود مكبرات الصوت؟ هل لهذا أثرٌ مع وجود مكبرات الصوت؟

الذي يظهر أنه يبقى له أثرٌ، لا شك أن المؤذن إذا كان صيِّتًا حتى لو مع وجود مكبرات الصوت يكون صوته أقوى وأبلغ، والصيِّت أولى من غيره بالنسبة للأذان،

طالب:

الشيخ: طبعًا المقصود برفع الصوت: رفع الصوت رفعًا لا يسبب أذيةً للناس، لكن الذي يؤذن أذانًا لا يكاد يُسمِع إلا نفسه، ولا يُفهم كلامه، هذا لا ينبغي أن يكون هو المؤذن، لا بد أن يوضح ألفاظ الأذان، وأن يرتلها، وأن يؤدي الأذان بصوتٍ حسنٍ.

قال:

أمينًا، عالمًا بالوقت.

وهذا للحديث السابق الذي ذكرناه، وهو قول النبي : والمؤذن مؤتمن وذكرنا الحكمة في هذا: أنه مؤتمن على الوقت، ومؤتمن أيضًا على عورات المسلمين لما كان الناس في السابق يؤذنون على المنارات، وعلى أسطح المساجد.

عالمًا بالوقتِ.

وهذه السُّنة تكاد تكون معدومةً لدى كثيرٍ من المؤذنين الآن، إنما يعتمدون على التقاويم في الأذان، مع أن المؤذن يفترض أن يعتني بالوقت، ويعرف الأوقات، يعني: لو قلت لبعض المؤذنين: ما معنى أن يكون ظل الرجل كمثله؟ حدِّدْها لي الآن، أو ما معنى مثلًا زوال الشمس؟ حدِّدْه لي الآن، فربما بعضهم لا يستطيع التحديد عن طريق الشمس والظل، لا بد أن يرجع إلى التقويم، هذا بسبب اعتماد الناس على التقاويم، خفيت هذه العلامات على كثيرٍ من الناس، ومنهم المؤذنون، مع أن المفترض أن تشيع هذه العلامات في الناس، فمثلًا: زوال الشمس، كيف يعرف زوال الشمس؟ يعرف زوال الشمس بزيادة الظل بعد تناهي قِصره، وانتقاله من جهة الشمال إلى جهة الشرق، يعني ظل الأشياء مع انتصاف النهار، جميع الأشياء ظلها اتجاه الشمال الحقيقي، إذا اتجَهَت من الشمال إلى الشرق ولو شعرةً، هنا بدأ الزوال، وهكذا أيضًا يتناهى القِصر قُبيل الزوال، فإذا زاد الظل هنا زالت الشمس، الظل في الشتاء يكون طويلًا، في الصيف يكون قصيرًا، أقصر ما يكون في الصيف في 21 مايو؛ لأن هذا التوقيت ثابت، 21 مايو من كل عام، هذا أقصر ما يكون الظل، لكن مثلًا عندنا هنا في الرياض لا ينعدم الظل؛ لأن الشمس لا تصل إلى خط عرض الرياض، لكن أقصى ما تصل إلى مدار السرطان، مدار السرطان جنوب الرياض، تصل إلى هذا القدر؛ ولذلك لا ينعدم الظل عندنا، بينما في مكة في بعض الأيام ينعدم الظل تمامًا، ينعدم مرتين في السنة، لكن عندنا هنا في الرياض لا ينعدم، فالمناطق التي تقع في الجنوب هذه ينعدم فيها الظل، فهذه الأمور يفترض أن يكون المؤذن يعرفها، ما معنى طول ظل الشيء كمثله؟ يكون ذلك بعد ظل الزوال، لا بد أن يَحسب ظل الزوال، ثم بعد ذلك ظل الشاخص نفسه، فيكون كمثله، فأصبح الآن كثير من المؤذنين لا يعرفون هذه الأشياء؛ ولذلك يعتمدون هم على التقاويم، لكن ذلك -ولله الحمد- ليس شرطًا، وإنما سنةٌ أو مستحبٌّ.

حكم الطهارة للأذان

قال:

متطهرًا.

أي: أنه يسن في المؤذن أن يكون متطهرًا، وظاهر كلام المؤلف، أن الطهارة ليست شرطًا لصحة الأذان، وهذا في الحدث الأصغر، المقصود الحدث الأصغر، ولهذا قال المؤلف: لكن لا يكره أذان المحدِث، بل إقامته، رُوي في هذه المسألة حديث أبي هريرة ، أن النبي قال: لا يؤذن إلا متوضئٌ [31]، وهذا الحديث رواه الترمذي، وقد رُوي موقوفًا على أبي هريرة ، ومرفوعًا إلى النبي ، لكن المحفوظ هو الموقوف، وليس المرفوع، فإذا أذَّن محدِثًا جاز ذلك؛ لأنه لا يزيد على قراءة القرآن، والطهارة لا تشترط لقراءة القرآن، والأذان ذكرٌ، فلا بأس أن يؤذن وهو على غير وضوءٍ، لكن الأفضل أن يكون أذانه على طهارةٍ.

لكن هل نقول: إن أذانه على غير وضوءٍ مكروهٌ؟

المؤلف يقول: إنه لا يكره؛ لأنه لم يرد في ذلك شيءٌ، ولا يؤذن إلا متوضئٌ، هذا من كلام أبي هريرة ، وليس من كلام النبي ، ونحمله على الأفضلية.

بعض المؤذنين يضيق عليه الوقت، ويأتي ويؤذن ثم يذهب ويتوضأ، فنقول: هذا لا بأس به، وإن كان الأولى ألا يؤذن إلا وهو متوضئٌ.

أما الإقامة فالمؤلف يرى أنه تكره إقامة غير المتوضئ، وذلك؛ لأن الإقامة إذا أقام وهو غير متوضئٍ فإنه بعد الإقامة سيذهب ويتوضأ، وربما تفوته تكبيرة الإحرام، وتفوته ربما الركعة الأولى، يعني تفوته بعض الصلاة، فلهذا يكره أن يقيم على غير وضوءٍ.

حكم أذان الجنب

أما بالنسبة للحدث الأكبر -الجنب- فهل يصح أذان الجنب أو لا؟

هذا محل خلافٍ بين العلماء:

  • القول الأول: أن أذان الجنب لا يصح، ولا يعتد به، وذلك؛ لأنه ذكرٌ شُرع للصلاة، أشبه القراءة والخطبة، ومن المعلوم أنه لا تجوز قراءة القرآن للجنب، فكذا الأذان.
  • والقول الثاني: أنه يصح أذان الجنب، قال الآمدي: “وهو المنصوص عن الإمام أحمد”، وهو قول أكثر أهل العلم؛ لأنه أحد الحدثين فلم يمنع صحته كالآخر، هذا قاله الفقهاء لمَّا كان المؤذنون يؤذنون على المنارات، والمنارات كانت خارج المساجد، أما في وقتنا الحاضر فقد أصبح المؤذنون يؤذنون داخل المساجد، ومن المعلوم أن الجنب لا يجوز له المكث في المسجد.

وبناءً على ذلك: لا يجوز ولا يصح أذان الجنب؛ لكونه ممنوعًا أصلًا من المكث في المسجد، يعني بغض النظر عن الخلاف، هل يصح أذان الجنب أو لا يصح؟ نقول: في وقتنا الحاضر إنه لا يجوز؛ لأن الجنب أصلًا ممنوعٌ من المكث في المسجد، والمؤذنون في وقتنا الحاضر إنما يؤذنون داخل المساجد، فلذلك نقول: لا يجوز للمؤذن أن يؤذن وهو جنبٌ؛ لأنه ممنوعٌ من المكث في المسجد.

طالب: إذا كان في باديةٍ؟

الشيخ: نعم إذا كان في باديةٍ يرد الخلاف، والأقرب أنه يصح، يعني إذا كان يريد أن يؤذن خارج المسجد، فالأقرب أنه يصح ولو كان جنبًا؛ لأنه ليس قرآنًا، ولأنه ذكرٌ لله ، والجنب يذكر الله تعالى، إنما هو ممنوعٌ فقط من قراءة القرآن، وهذا ليس قرآنًا، ولأنه لا دليل يدل على أنه لا يصح أذان الجنب، لكن إذا كان المؤذن يؤذن داخل المسجد فنقول: لا يحوز له أن يؤذن؛ لكونه ممنوعًا من المكث في المسجد.

طالب: لا يأخذ حكم عابر السبيل؟

الشيخ: لا، لا يأخذ حكم عابر السبيل، عابر السبيل يعني الماشي، أما هذا يبقى يؤذن.

طالب: يتوضأ؟

الشيخ: حتى لو توضأ، الذي يظهر أنه لا يكفي، نحن رجحنا فيما سبق أن الوضوء لا يكفي للمكث في المسجد.

حكم القيام للأذان

قال:

قائمًا فيهما.

يعني: السنة للمؤذن أن يكون قائمًا، قال ابن المنذر: “أجمعوا على أن السنة أن يؤذن قائمًا”، خلافًا لأبي ثورٍ، شذَّ في هذه المسألة، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، كما في “الاختيارات”: “يتخرج ألا يجزئ الأذان قاعدًا لغير عذرٍ؛ إذ لم ينقل عن أحدٍ من السلف الأذان قاعدًا لغير عذرٍ”، فكونه يؤذن قاعدًا لغير عذرٍ هذا لا يصح، أما إذا كان لعذرٍ فلا بأس به، ظاهر كلام المؤلف أنه يصح حتى ولو كان لغير عذرٍ.

لكن الأقرب، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنه إذا أذن لغير عذرٍ أن أذانه لا يصح؛ وذلك لأنه لم ينقل عن أحدٍ من السلف، ولا أحدٍ من المسلمين في العصور المفضلة أنه أذن قاعدًا، فهو يشبه الخطبة قاعدًا، وهذه كرهها العلماء.

ولذلك نحن نقول: إنه إذا أذن قاعدًا لعذرٍ فلا بأس، أما إذا كان لغير عذرٍ -فعلى كلام المؤلف- أنه يكره فقط، والقول الصحيح: أنه لا يصح.

قال:

لكن لا يُكره أذان المحدث، بل إقامته.

بقي إقامة المؤذن وهو قاعدٌ: هذا يحصل من بعض كبار السن، يقيم وهو قاعدٌ، هذا أيضًا القول فيها كالقول في الأذان، إذا كان لعذرٍ؛ كأن يكون كبيرًا في السن، ونحو ذلك، فلا حرج في هذا، أما أن يقيم قاعدًا لغير عذرٍ، فالذي يظهر أن هذا لا يصح.

طالب:

الشيخ: لكن لو كان متعلقًا بالأذان، بعض كبار السن يتعلق بالأذان، قد لا يتيسر تغيير المؤذن.

قال:

ويسن الأذان أول الوقت.

لقول جابر بن سمرة : “كان بلالٌ لا يؤخر الأذان عن الوقت، وربما أخر الإقامة” [32]، وهذا أخرجه ابن ماجه، وهو حديثٌ حسنٌ، كان بلالٌ يؤذن في أول الوقت، وكذلك مؤذنو النبي كانوا يؤذنون في أول الوقت؛ ولذلك السنة أن يكون في أول الوقت.

قال:

والترسل فيه.

يعني: ترتيل الأذان، والتمهل فيه وعدم الإسراع، فيسن ذلك.

حكم الوقوف على كل تكبيرةٍ

لكن هل يقول جُمَل الأذان جملةً جملةً؟ أو يقرن بين التكبيرتين في جميع التكبيرات؟ يعني هل يقول مثلًا: الله أكبر، ويقف، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أو يقول: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، يعني يقرن بين التكبيرتين؟

هذا محل خلافٍ بين العلماء:

فمن العلماء من قال: إن الأفضل أن يقول كل تكبيرتين بنَفَسٍ واحدٍ، يقول: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر.

واستدلوا بحديث أنسٍ : “أُمر بلالٌ أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة” [33] متفقٌ عليه، قالوا: والتكبير وإن كان صورته صورة التثنية، إلا أنه… بالنسبة للأذان التكبير في الإقامة، وإن كان صورته صورة التثنيةٍ إلا أنه بالنسبة للأذان إفرادٌ، يعني: “أمر بلالًا أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة”، فالإقامة فيها تكبيرتان، لكن قالوا: المؤذن يشرع له أن يقول: الله أكبر الله أكبر، بنَفَسٍ واحدٍ، الله أكبر، الله أكبر، فكأنها واحدةٌ بالنسبة لاثنتين فتكون وترًا.

والقول الثاني في المسألة: أن الأفضل أن يفرد جمل التكبير، فيقف عند قوله: الله أكبر، الله أكبر، وهذا ما يعبر عنه بعضهم بأن يكون الأذان جزمًا، لا يكون معربًا، جزمًا: الله أكبرْ، يقف، تكون مجزومةً بالسكون، معربًا: الله أكبرُ، الله أكبر.

فالقول الثاني إذنْ: أنه يقف على كل جملة، فيكون الأذان جزمًا، ولا يكون معربًا، حكاه ابن الأنباري عن أهل اللغة، ورُوي عن إبراهيم النخعي أنه قال: “شيئان مجزومان كانوا لا يعربونهما: الأذان والإقامة”، وهذا إشارة إلى جميعهم، قال في “الإنصاف”: “قال المجد ابن تيمية: معناه استحباب تقطيع الكلمات بالوقف على كل جملةٍ، فيحصل الجزم والسكون بالوقف، لا أنه مع عدم الوقف على الجملة يترك إعرابها”.

الأقرب -والله أعلم- في هذه المسألة: أنه يقف على كل جملةٍ.

وبعض العلماء قال: إنه يعمل بالصفتين؛ هذه تارةً، وهذه تارةً.

لكن الأقرب: أنه يقف على كل جملةٍ؛ لأن هذا هو المنقول، كما حكاه إبراهيم النخعي، وحكاه عن التابعين، والتابعون أخذوه عن الصحابة ، ونقله أيضًا -كما ذكرنا- ابن الأنباري، نقله عن أهل اللغة، وذكره ابن بطة أيضًا.

فالأقرب والله أعلم: أنه يقف على كل جملةٍ.

ثم أيضًا من جهة المعنى: الله أكبر، معناه: الله أكبر من كل شيءٍ، فحتى يتحقق هذا المعنى والتأمل فيه فالأولى أن يقف عليه، عندما يقول: الله أكبر، يعني: من كل شيءٍ، فهذا أولى من أن يصل التكبير: الله أكبر الله أكبر.

فالأقرب -والله أعلم- إذنْ أنه يقف على كل جملةٍ، يقول: الله أكبر، ويقف، الله أكبر، ويقف، الله أكبر، ويقف، الله أكبر، ويقف، وهكذا، هذا هو الأقرب والله أعلم، والمسألة -كما سمعتم- فيها هذا الخلاف.

قال:

وأن يكون على علوٍّ.

قالوا: لأن ذلك أبعد للصوت، وأوصل للناس، لمَّا كان الناس يؤذنون على المنائر وعلى الأسطح، يعني لمَّا لم تكن مكبرات الصوت موجودةً، أما مع وجود مكبرات الصوت فلا نقول: إن هذا مستحبٌّ؛ لأن المقصود يحصل عن طريق مكبرات الصوت.

قال:

رافعًا وجهه.

يعني: يستحب للمؤذن أن يرفع وجهه عند الأذان، يرفع وجهه إلى ماذا؟ إلى السماء عند الأذان، يؤذن هكذا: الله أكبر، هكذا، يرفع وجهه إلى السماء، هذه المسألة ذكرها بعض الفقهاء، نص عليها الإمام أحمد رحمه الله، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن هذا يستحب كما أنه يستحب أن يتشهد عقب الوضوء، وأن يرفع بصره إلى السماء، وإن كان الحديث المروي في ذلك ضعيفًا، قال: ويستحب لمن كبر للصلاة أن يرفع رأسه قليلًا؛ لأن التهليل والتكبير إعلانٌ بذكر الله تعالى، لا يصلح إلا له، فاستُحِب الإشارة له كما تستحب الإشارة بالأصبع الواحدة في التشهد وفي الدعاء، بخلاف الصلاة والدعاء؛ إذ المستحب فيه خفض الطرف، فيقول شيخ الإسلام: إذا نظرنا إلى قاعدة الشريعة، نجد أنه عند الإعلان بذكر الله يستحب رفع الرأس قليلًا إلى السماء.

لكن إذا تأملنا هذه التي ذكرت الأحاديث الواردة فيها، فإن فيها مقالًا، يعني مثلًا: رفع البصر إلى السماء بعد الوضوء، والحديث ضعيفٌ لا يصح، وأيضًا رفع الرأس بعد تكبيرة الإحرام، ما الدليل على هذا؟ ليس هناك دليلٌ ظاهرٌ، القول بالاستحباب في الحقيقة يحتاج إلى دليلٍ ظاهرٍ يدل على ذلك، لكن هذا استحسنه بعض الفقهاء، ولذلك؛ لا نستطيع أن نجزم بأن هذا سنةٌ ما لم يرد دليلٌ يدل على ذلك؛ لأن السنة والاستحباب حكمٌ شرعيٌّ يحتاج إلى دليلٍ ظاهرٍ، وإن كان هذا قد نص عليه الإمام أحمد، وأحمد صاحب سنةٍ وأثرٍ، أيضًا شيخ الإسلام نص عليه، لكن مع ذلك يطالَب بالدليل، ما هو الدليل لهذا؟ وهذا الذي قد ذكر كله لا يثبت، ما ذكر من رفع البصر بعد الأذان بعد الوضوء لا يثبت، كذلك أيضًا بعد تكبيرة الإحرام، ليس هناك دليلٌ ظاهرٌ يدل على هذا، ولهذا؛ فالقول بأنه يستحب رفع وجهه أو رأسه أثناء الأذان محل نظرٍ؛ لأنه يحتاج إلى دليلٍ.

حكم وضع السبابتين في الأذنين عند الأذان

قال:

جاعلًا سبَّابتيه في أذنيه.

السبَّابتان: تثنية سبَّابةٍ، والسبَّابة: هي الإصبع الذي يلي الإبهام، هذه هي السبابة، سمي بذلك؛ لأن الإنسان يشير به عند السب، ويقال لهما: سبَّاحتان؛ لأن الإنسان عندما يسبِّح الله تعالى أيضًا يشير بهما، وقد ورد هذا وهذا: سبَّابتان، وسبَّاحتان، بعض العلماء يستحب إطلاق السبَّاحتين؛ يقول: لأن المسلم ليس من شأنه أن يَسب، لكن الذي يظهر أن الأمر فيه سعةٌ، يعني حتى لو قلت: سبَّابتين، إشارةً إلى أن من الناس من يسبُّ، ليس في هذا إقرار للسب، لكن من الناس من إذا سَب رفع هذا الأصبع.

“جاعلًا سبابتيه في أذنيه”؛ لحديث أبي جُحيفة : أن بلالًا وضع أصبعيه في أذنيه [34]، وهذا رواه أحمد والترمذي، وهو حديثٌ صحيحٌ، وأيضًا ورد في حديث الرؤية: أن المَلَك حين أذَّن وضع أصبعيه في أذنيه.

والفائدة من ذلك، من وضع الأصبعين في الأذنين: أنه أقوى للصوت، فمن المعلوم أن الإنسان إذا وضع أصبعيه في أذنيه كان صوته أعلى.

وأيضًا لكي يعرف من يراه وهو بعيدٌ أنه يؤذن؛ فإن هذه تكون كالشعار للأذان، فإذا رُؤي الإنسان قد وضع أصبعيه في أذنيه عَرَف من يراه أنه يؤذن.

حكم استقبال المؤذن للقبلة

قال:

مستقبلَ القبلة.

يعني: يستحب أن يكون مستقبل القبلة، وهذا قد ورد في حديث عبدالله بن زيدٍ ، وثبت استقبال القبلة أيضًا في حديث الملَك، أنه لما رأى عبدالله بن زيدٍ الملَك رآه مستقبلَ القبلة [35].

حكم الْتِفات المؤذن يمينًا وشمالًا عند الحيعلتين

قال:

يلتفت يمينًا بحيَّ على الصلاة، وشمالًا بحيَّ على الفلاح.

هل يقال: حيَّ على الصلاة أو حيْ على الصلاة؟ حيَّ على الصلاة -بفتح الياء- سيأتي الكلام عن جمل الأذان.

يرى المؤلف أنه يشرع للمؤذن الالتفات يمينًا بحيَّ على الصلاة، وشمالًا بحيَّ على الفلاح، وهذه إحدى الصفتين الواردتين.

والقول الثاني في المسألة: أنه يلتفت يمينًا عندما يقول: حيَّ على الصلاة، في المرَّتين جميعًا، وشمالًا لحيَّ على الفلاح، يعني عندما يقول: حيَّ على الصلاة، يلتفت يمينًا، وحيَّ على الصلاة -المرة الثانية- يلتفت يمينًا، وحيَّ على الفلاح يلتفت شمالًا، فهاتان الصفتان قد وردتا، قال الموفق بن قدامة: “يستحب للمؤذن أن يلتفت يمينًا إذا قال: حيَّ على الصلاة، ويسارًا إذا قال: حيَّ على الفلاح، ولا يزيل قدميه؛ لحديث أبي جُحيفة قال: “رأيت بلالًا يؤذن، فجعلت أتتبع فاه هاهنا وهاهنا، يقول يمينًا وشمالًا: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح” [36]، متفقٌ عليه.

ورجَّح ابن دقيق العيد رحمه الله أنه يقول: حيَّ على الصلاة عن يمينه، ثم عن شماله؛ ليكون لكل جهة نصيبها.

والأظهر -والله أعلم- والأقرب لظاهر النص: أنه يقول: حيَّ على الصلاة مرتين عن يمينه، وحيَّ على الفلاح مرتين عن شماله، هذا هو الأقرب والله أعلم، أنه يقول: حيَّ على الصلاة مرتين عن يمينه، وحيَّ على الفلاح مرتين عن شماله، ورجَّحه الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله؛ لأن هذا هو ظاهر السنة.

إذنْ المسألة فيها قولان:

القول الأول: أنه يقول: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الصلاة، يلتفت عن يمينه، ثم يقول: حيَّ على الفلاح، حيَّ على الفلاح، يلتفت عن شماله.

القول الثاني في المسألة: حيَّ على الصلاة عن يمينه، ثم حيَّ على الفلاح عن يساره، ثم حيَّ على الصلاة عن يمينه، ثم حيَّ على الفلاح عن يساره.

ظاهر السنة هو الأول، يكون الالتفات مرتين فقط: يلتفت عن يمينه: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الصلاة، ثم عن شماله: حيَّ على الفلاح، حيَّ على الفلاح، هذا هو الأقرب في المسألة، والأمر فيه سعةٌ.

بقي أن يقال: هل يشرع الالتفات في الوقت الحاضر، مع وجود مكبرات الصوت؟ هل هذا مشروعٌ؟ هل تبقى هذه السنة أم لا؟

إذا نظرنا إلى المقصود منها، المقصود منها إبلاغ الناس، عندما يقول: حيَّ على الصلاة، يريد إبلاغ من عن يمينه، وعندما يقول: حيَّ على الفلاح، يريد إبلاغ من على شماله، وهذا الإبلاغ قد تحقق بمكبرات الصوت، لكن مع ذلك ينبغي المحافظة على السنة قدر المستطاع.

ولذلك؛ فالأقرب أن يقال: إنه يشرع الالتفات ولو يسيرًا، لكن بالقدر الذي لا يُضعف الصوت، المقصود هو الإعلام، فلو أن المؤذن التفت يسيرًا حقق السنة في هذا، وأيضًا لم يضعُف صوته.

فالأقرب: أن السنة تبقى، والمحافظة على السنة ما أمكن.

وبعض العلماء يقول: إنها غير مشروعةٍ في الوقت الحاضر؛ لأن المقصود منها الإبلاغ، وهو متحققٌ بمكبرات الصوت؛ ولأن الالتفات يضعف الصوت.

لكن الواقع أنه إذا التفت يسيرًا فإن هذا لا يؤثر على الصوت، صحيحٌ أنه لا يلتفت بالكلية، فإذا التفت مثلًا التفاتًا كبيرًا ربما أنه يذهب كثيرٌ من الصوت، لكن يلتفت التفاتًا يسيرًا بقدر ما يحقق السنة، هذا هو الأقرب والله أعلم.

طالب: قوله: “جاعلًا سبَّابتيه في أذنيه”، “وأن يكون على علوٍّ” هل يشرعان الآن؟

الشيخ: وضع السبَّابتين كذلك يشرع حتى مع وجود مكبرات الصوت؛ لأنها أيضا تعين على رفع الصوت، رفع الصوت مطلوبٌ حتى في الأذان بمكبرات الصوت، المطلوب رفع الصوت ليبلغ من يمكن إبلاغه.

“على علوٍّ”، نقول: إنه في الوقت الحاضر لا يبقى مسنونًا؛ لوجود مكبرات الصوت؛ وهي تحقق المقصود من الأذان على العلو.

قال:

ولا يزيل قدميه.

لحديث بلالٍ : “أمرنا رسول الله إذا أذَّنَّا وأقمنا، ألا نزيل أقدامنا عن مواضعها” [37]، رواه الدارقطني في “الأفراد”، لكن هذا الحديث حديثٌ ضعيفٌ؛ ولهذا فالحكم الذي بُني عليه لا يصح، فالأمر في هذا واسعٌ، حتى لو أزال قدميه، لو حركهما، لا يضر مثل هذا.

ما لم يكن بمنارةٍ.

أي: فإنه يدور، يكون في المنارة يدور حتى يبلغ الصوت جميع الناس، أو من أمكن من الناس؛ لما رُوي عن بلالٍ في ذلك كما عند الطبراني، لكن الحديث المروي في ذلك ضعيفٌ؛ ولهذا لا يثبت أيضًا هذا الحكم.

فكلا هذين الحُكمين اللذين ذكرهما المؤلف لا نقول بهما؛ لأنهما بُنيا على حديثين ضعيفين، وهما لا يثبتان؛ وبالتالي لا تُبنى عليهما الأحكام الشرعية، ولذلك؛ لو تحرك المؤذن فلا يضر مثل هذا، لو أنه أزال قدميه أو تحرك فلا يضر، ولا نقول له: إنه يشرع له أن يدور؛ لأنه لا دليل صحيحٌ يدل لذلك، والحديث المروي في هذا حديثٌ ضعيفٌ.

قال:

وأن يقول بعد حَيْعَلة أذان الفجر.

حَيْعلة: هذا مصدرٌ مصنوعٌ من حيَّ على الصلاة، ومركبٌ من عدة كلماتٍ: حيَّ على الصلاة، يقال: حَيْعلة، ومثلها: لا حول ولا قوة إلا بالله، تقال: حَوْقلة، ومثلها: الحمد لله رب العالمين: حَمْدلة، هذه تسمى مصادر مصنوعةً، هذا معنى قوله: “حَيْعلة أذان الفجر”.

قال:

وأن يقول بعد حَيْعَلة أذان الفجر: الصَّلاة خيرٌ من النوم.

يعني يقول: بعد حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، يقول: الصلاة خيرٌ من النوم؛ لحديث أبي محذورة ، أن النبي قال: إذا أذَّنت بالأول من الصبح فقل: الصلاة خيرٌ من النوم [38]، رواه أحمد وأبو داود.

في أي أذانٍ يقال: الصلاة خيرٌ من النوم؟

لكن هل هذا يقال في الأذان الأول، أو في الأذان الثاني؟

ظاهر السنة: أنه في الأذان الثاني.

قال بعض أهل العلم: إنه في الأذان الأول، أخذ بهذا الشيخ الألباني وكثيرٌ من طلابه، قالوا بهذا القول، لكنه محل نظرٍ، وظاهر ما ورد أنه الأذان الثاني؛ لأنه ورد في رواية حديث أبي محذورة : إذا أذَّنت بالأول لصلاة الصبح فقل: الصلاة خيرٌ من النوم، ومن المعلوم أن الأذان الأول ليس لصلاة الصبح، وإنما ليوقظ النائم، ويرجع القائم.

فالصواب إذنْ: أن الصلاة خيرٌ من النوم، إنما تقال في الأذان الثاني، وليس في الأذان الأول.

حكم تولي المؤذن للإقامة

قال:

ويسن أن يتولى الأذان والإقامة واحدٌ ما لم يَشق.

لأن المؤذنين في عهد النبي كان منهم من يتولى الأذان ويتولى الإقامة، فبلالٌ كان يؤذن ويقيم، وكذلك أبو محذورة كان يؤذن ويقيم، وابن أم مكتومٍ كان يؤذن ويقيم، فكان هذا هو الذي عليه عمل المؤذنين في عهد النبي ، إنما يتولى الأذان الذي يتولى الإقامة -إن تيسر- لكن إن وجد سببٌ فلا حرج؛ كأن مثلًا يعرض للمؤذن عارضٌ فيقيم غيره، فلا بأس بذلك.

حكم الأذان للفوائت

قال:

ومن جمَع أو قضى فوائت أذَّن للأُولى وأقام للكل.

إذا جمع بين الصلاتين فيؤذن للأولى، ويقيم للأولى والثانية، وذلك؛ لفعل النبي في عرفة وفي مزدلفة، في عرفة أذَّن أذانًا واحدًا، وأقام للظهر والعصر، وفي مزدلفة -على الصحيح- أنه أذَّن أذانًا واحدًا؛ كما في حديث جابرٍ في “صحيح مسلمٍ”، وأقام للمغرب والعشاء [39]؛ ولهذا قال المؤلف: “أذَّن للأولى، وأقام للكل”.

وقوله: “أو قضى فوائت” يعني: إذا أراد أن يقضي فوائت فإنه يؤذن للأولى، ويقيم للبقية؛ لحديث ابن مسعودٍ في قضة الخندق، أن المشركين شغلوا رسول الله عن أربع صلواتٍ، ثم أمر بلالًا فأذن، ثم أقام الظهر، ثم أقام العصر، ثم أقام المغرب، ثم أقام العشاء [40]، رواه النسائي والترمذي، لكنه حديثٌ ضعيفٌ.

لكن الفوائت هذه التي يصليها الإنسان لا يخلو؛ إما أن تكون في الحضر، أو تكون في غير الحضر، فإن كانت في الحضر، فإن أذان المسجد يكفي، ولا يشرع للإنسان أن يؤذن للفائتة ولا للفوائت، فإذا كنت فاتتك الصلاة لا يشرع أن تؤذن، وإنما تكتفي بالإقامة؛ لأن الأذان فرض كفايةٍ، وقد قام به من يكفي، وأذن المؤذن للمسجد، فلا يشرع لك أن تؤذن، لكن تقيم.

أما إذا كنت في غير الحضر؛ كأن تكون في البر مثلًا، أو تكون في السفر، فيشرع أذان واحدٌ، وإقامةٌ لكل صلاةٍ؛ قياسًا على الصلوات المجموعة، فهدي النبي في الصلوات المجموعة أنه يكتفي بأذانٍ واحدٍ، وإقامةٍ لكل صلاةٍ.

قوله:

وسُنَّ لمن يسمع المؤذن أو المقيم أن يقول مثله.

الصفات الواردة في الأذان والإقامة

لكن لم يبين المؤلف صفة الأذان وصفة الإقامة، وكان الأولى بالمؤلف أن يبين ذلك؛ لأنه ذكر مسائل دقيقةً وترك المسألة الأهم، وهي صفة الأذان، على الأقل يبين ولو صفةً واحدةً، لكن المؤلف فاته ذلك، فيحتاج إلى أن نستدرك ونذكر الصفات الواردة في الأذان وفي الإقامة.

الأذان ورد على عدة صفاتٍ؛ من أشهرها: أذان بلالٍ الوارد في حديث عبدالله بن زيدٍ وهو خمس عشرة جملةً، وكذلك أذان أبي محذورة .

وقد اختلف العلماء في جمل الأذان على أقوالٍ:

القول الأول: أن جمل الأذان خمس عشرة جملةً، وهذا هو مذهب الحنفية والحنابلة، أن الأذان خمس عشرة جملةً، وهو الأذان الذي يؤذن به الناس الآن هنا في المملكة، التكبير أربعًا، والشهادتان أربعًا، والحيعلتان أربعًا، والتكبير في آخره مرتين.

التكبير أربعًا، والشهادتان أربعًا، كم أصبحت؟ ثمانيًا، والحيعلتان أربعًا، هذه ثنتا عشرة، والتكبير مرتين، أربع عشرة، ويختم بلا إله إلا الله، خمس عشرة جملةً، هذا هو أذان بلالٍ ، وهو مذهب الحنفية والحنابلة.

القول الثاني: مذهب المالكية: أن المشروع في الأذان يكون على صفة أذان أبي محذورة ، وهو سبع عشرة جملةً: التكبير مرتين في أوله، والترجيع بعد ذلك بالشهادتين -معنى الترجيع: أن يقول الشهادتين سرًّا في نفسه، ثم يقولها جهرًا- كما في حديث أبي محذورة في “صحيح مسلم” [41]، لكن جاء في صفة أذان أبي محذورة في “السنن” تربيع التكبير مع الترجيع [42].

قال ابن القيم في “زاد المعاد”: “لم يصح الاقتصار على مرتين، وصح التربيع صريحًا في حديث عبدالله بن زيدٍ وعمر وأبي محذورة “.

فالرواية في “صحيح مسلمٍ” أن التكبير مرتين، لكن في “السنن” أربعًا، ابن القيم رجح رواية “السنن” على رواية مسلم، جاء في بعض نسخ “صحيح مسلمٍ” أن التكبير أربعٌ، فالأرجح من حيث الرواية هو أن التكبير أربعٌ مع الترجيع.

عند الشافعية: جُمل الأذان تسع عشرة جملةً، بالتكبير أربعًا في أوله مع الترجيع، في صفة أذان أبي محذورة .

ما الفرق بين القول الثاني والثالث؟

القول الثاني التكبير مرتين، مذهب المالكية.

مذهب الشافعية: التكبير أربعًا.

معنى الترجيع: أنه يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، في نفسه، ثم يرفع صوته، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، في نفسه، ثم يرفع صوته، ثم يقول: أشهد أن محمدًا رسول الله، ثم يرفع صوته، ثم يقول: أشهد أن محمدًا رسول الله، ثم يرفع صوته، فعند المالكية والشافعية أنه يرجِّع، فمعنى ذلك أنه سيكرر ألفاظ الشهادتين، لكن اختلف المالكية والشافعية في التكبير في أوله؛ المالكية يقولون: التكبير في أوله مرتان، والشافعية يقولون: أربعٌ، والأرجح من حيث الرواية أنه أربعٌ، وإن كان في “صحيح مسلمٍ” مرتين، لكن قلنا في بعض نسخ “صحيح مسلمٍ” أربعٌ، وكما نقلنا عن ابن القيم أن الصحيح أنها أربع تكبيرات.

إذنْ عندنا صفتان: أذان بلالٍ، وأذان أبي محذورة، نحن قلنا: إن مذهب الشافعية أرجح، والرواية بكونها أربعًا في أوله أرجح.

عندنا الآن صفتان، أي الأقوال أرجح؟

بعض العلماء رجح القول الأول فقال: إن أذان بلالٍ  هو الذي استقر عليه الأمر في عهد النبي في المدينة، وهذا هو مذهب الحنابلة، وكذلك الحنفية.

القول الثاني: أن الأفضل هو أذان أبي محذورة ، وهذا قلنا: مذهب المالكية والشافعية على خلافٍ بينهم في التكبير.

القول الثالث، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن الأفضل أن يؤذن بهذا تارةً وأن يؤذن بهذا تارةً.

وهذا هو القول الراجح، أن يؤذن بهذا تارةً، وأن يؤذن بهذا تارةً، وذلك؛ لأن الأذانين كلاهما ثابتٌ في السنة، وكان يؤذن بالأذان الأول بلالٌ ، والأذان الثاني أبو محذورة ، وكلٌّ منهما علَّمه النبي .

لكن في المساجد العامة ينبغي ألا يشوش الإنسان على العامة بهذا، ويكتفي بالأذان المشتهر عند الناس، وأيضًا بالنسبة للإقامة، الإقامة ربما يكون الأمر فيها أوضح؛ لأن الترجيع قد لا يكون ظاهرًا، لكن الإقامة ربما يكون الاختلاف فيها أظهر، لكن لو كنت مثلًا في البرية، أو في سفرٍ، فينبغي أن تأتي بأذان أبي محذورة من باب إحياء السنة.

نريد أن نعيد مرةً أخرى صفة أذان أبي محذورة ، أما أذان بلالٍ فمعروفٌ، لكن صفة أذان أبي محذورة من يعيدها لنا مرةً أخرى؟

على رأي الشافعية، نحن قلنا: إن رواية التربيع هي الراجحة، وإن كانت في غير “صحيح مسلمٍ”، لكن هي الراجحة، وفي بعض نسخ مسلمٍ أنها أربعٌ.

طالب:

الشيخ: هو كصفة أذان بلالٍ إلا أنه يزيد ماذا؟ الترجيع، الترجيع معناه: أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، في نفسه، ثم يرفع بها صوته، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم يرفع بها صوته، ثم يقول في نفسه: أشهد أن محمدًا رسول الله، ثم يرفع بها صوته، ثم يقول: أشهد أن محمدًا رسول الله، ثم يرفع بها صوته، هذا معنى الترجيع، فالسنة أن يأتي بهذا أحيانًا، لا تترك هذه السنة، ولا تهمل؛ لأنها إذا تركت فإنها تخفى على كثيرٍ من الناس؛ ولهذا فالأقرب -والله أعلم- أنه يأتي بهذا تارةً، وبهذا تارةً.

بالنسبة للإقامة: فالإقامة أيضًا وردت على عدة صفاتٍ، والخلاف في الإقامة حقيقةً ربما يكون أشكل من خلاف الأذان.

الصفة الأولى: إحدى عشرة جملةً، وهي إقامة بلالٍ ، إقامة بلالٍ إحدى عشرة جملةً، وهي الإقامة المعروفة الآن المشهورة عند الناس، وهذا هو مذهب الحنابلة والشافعية.

القول الثاني: أنها سبع عشرة جملةً، وهي كأذان بلالٍ مع زيادة: “قد قامت الصلاة”، وهذه إقامة أبي محذورة ، أنها كصفة أذان بلالٍ مع زيادة: “قد قامت الصلاة” مرتين.

أذان بلالٍ كم جملةٍ؟ خمسة عشر جملةً، أضف لها “قد قامت الصلاة” مرتين، كم يصبح؟ سبع عشرة جملةً، هذه إقامة أبي محذورة ، وهذا هو مذهب الحنفية، ولذلك؛ عندما ترى الحنفية يقيمون الصلاة، يقيمون بهذا، بعض الإخوة الذين عندهم مذهب الحنفية شائعٌ، يقيمون الصلاة بهذا، يقيم كأنه يؤذن، فهذه إقامة أبي محذورة .

القول الثالث: أنها تِسع جُملٍ، تكون جملةً جملةً، إلا “قد قامت الصلاة”، فتكون: الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، الله أكبر، لا إله إلا الله، تسع جُمل، جملةً جملةً، إلا “قد قامت الصلاة” مرتين، وذلك؛ لحديث أنسٍ  وهذا هو مذهب المالكية : “أُمر بلال أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة”.

واختار إقامة بلالٍ الشافعي وأحمد؛ لمداومة بلالٍ عليها بحضرة النبي .

أما إقامة أبي محذورة فاختارها أبو حنفية.

الإمام مالك رُوي عنه تسع جُملٍ، ورُوي عنه عشر جُملٍ، فرُوي عنه أنه يجعلها جملةً جملةً، ويزيد “قد قامت الصلاة” مرتين، مع تثنية التكبير على قولٍ عند المالكية.

لكن الأظهر -والله أعلم- أنها إما إقامة بلالٍ ، أو إقامة أبي محذورة .

أما القول الثالث فقولٌ ضعيفٌ؛ لأن قوله: “أُمر بلالٌ أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة”، المقصود في الجملة.

ولهذا فالصحيح: أنه يشرع إما الإقامة بإقامة بلالٍ أو إقامة أبي محذورة ، والسنة أن يأتي بهذه تارةً، وبهذه تارةً، فتارةً يقيم بإقامة بلالٍ، وتارةً يقيم بإقامة أبي محذورة.

لكن ننبه أيضًا، لما قلنا قبل قليلٍ: إنه في المساجد العامة ينبغي للإنسان ألا يخالف ما اعتاده الناس؛ لئلا يحدث فتنةٌ في هذا، لكن لو أن مثلًا طلبة علمٍ أو شبابًا خرجوا لبريةٍ، أو في سفرٍ، فيستحب أن يقيم المقيم بإقامة أبي محذورة ؛ من باب إحياء السنة.

فيكون إذنْ الراجح في الإقامة صفتان، كما قلنا: الراجح في الأذان صفتان أذان بلالٍ وأذان أبي محذورة ، كذلك الراجح في الإقامة صفتان: إقامة بلالٍ وهي -الإقامة المشهورة-، وإقامة أبي محذورة ، من يعيدها لنا مرةً أخرى؟

طالب:

الشيخ: أذان بلالٍ بزيادة “قد قامت الصلاة” مرتين.

حتى تحفظها وتضبطها: إقامة أبي محذورة هي أذان بلالٍ -أذانٌ ليس إقامةً- بزيادة: “قد قامت الصلاة” مرتين.

والأفضل أن تقيم تارةً بإقامة بلالٍ ، وتارةً بإقامة أبي محذورة .

هذا فقط أردنا الاستدراك على المؤلف؛ لأنه لم يذكره.

ما الذي يُشرع لمن سمع المؤذن؟

ثم بيَّن المؤلف بعد ذلك ما الذي يشرع لمن سمع المؤذن فقال:

وسُنَّ لمن يسمع المؤذن أو المقيم أن يقول مثله.

أما بالنسبة للأذان فقد ورد ذلك في عدة أحاديث عن النبي ؛ ومنها: حديث ابن عمر رضي الله عنهما: إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا علي؛ فإنه من صلى علي صلاةً واحدةً صلى الله عليه بها عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة [43]، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بمتابعة المؤذن.

قال:

إلا في الحَيْعَلة فيقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.

لقوله عليه الصلاة والسلام: إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر… إلى قوله: فإذا قال: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله إلى أن قال: ثم قال: لا إله إلا الله، خالصًا من قلبه دخل الجنة [44]، فإذنْ عند قول المؤذن: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، فالمشروع أن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.

فإذنْ يسن لمن سمع الأذان أن يقول مثله.

إذا قال: “الصلاة خير من النوم”، ماذا يقول؟ “الصلاة خير من النوم”، وقد جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن رجلًا أتى النبي  فقال: يا رسول الله، إن المؤذنين يفضلوننا، فقال: قل مثلما يقول، ثم سَلْ تُعْطَه [45]، وهذا دليلٌ على أن الدعاء عقب الأذان حريٌّ بالإجابة.

قال:

أو المقيم.

ظاهر كلام المؤلف أنه يشرع أيضًا أن يجيب المقيم فيقول مثله.

وهذه المسألة اختلف فيها العلماء: هل يشرع أن يجيب المقيم كما يجيب المؤذن، أو أن ذلك يختص بالأذان؟

فمن أهل العلم من قال: إنه يجيب المقيم كما يجيب المؤذن، واستدلوا لذلك بحديث أبي أمامة : أن بلالًا أخذ في الإقامة، فلما أن قال: “قد قامت الصلاة”، قال النبي : أقامها الله وأدامها [46]، لكن هذا الحديث حديثٌ ضعيفٌ، لا يصح ولا يثبت، واستدلوا أيضًا بقوله عليه الصلاة والسلام: بين كل أذانين صلاةٌ [47]، قالوا: فسمى النبي الإقامة أذانًا، وقد قال: إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، قالوا: فيشرع أن يجيب المقيم فيقول مثلما يقول، هذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، وهو الذين نص عليه المؤلف.

والقول الثاني: لا تشرع إجابة المقيم، وإنما ذلك خاصٌّ بالمؤذن.

وهذا القول هو الأقرب والله أعلم، أن ذلك خاصٌّ بالمؤذن، وذلك؛ لأن إجابة المؤذن وردت في بعض الروايات في “صحيح مسلمٍ” على صفةٍ مفصلةٍ، فقال: إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: فإذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله [48]، ثم ذكر صفة الأذان، ثم قال: ثم قال: لا إله إلا الله، خالصا من قلبه دخل الجنة، فهذه الرواية تفسر المقصود من المتابعة، وأنها خاصةٌ بالمؤذن وليس بالمقيم.

ثم أيضًا: لو كان النبي يتابع المقيم، ولو كان الصحابة يتابعون المقيم، لاشتهر ذلك ونُقل، ولم ينقل في شيءٍ من الروايات أن النبي كان يتابع المقيم، والصحابة قد نقلوا كل شيءٍ، حتى إنهم نقلوا اضطراب لحيته عليه الصلاة والسلام في الصلاة، فلو كان يتابع المقيم وهم يرونه خمس مراتٍ في اليوم والليلة لنقل ذلك، فلما لم ينقل ذلك دل على أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يفعله، ولو كان الصحابة يفعلونه لنقل ذلك أيضًا واشتهر.

فالأقرب والله أعلم: أن المتابعة خاصةٌ بالأذان، ولا تشمل الإقامة، هذا هو الأقرب، فيكون الصواب خلاف ما ذهب إليه المؤلف.

ما يُقال عند سماع التثويب؟

قال:

وفي التثويب: “صدقتَ وبَرَرْتَ”.

ما المقصود بقوله: “وفي التثويب”؟ يعني: إذا قال: “الصلاة خيرٌ من النوم”.

يقول: “صدقت وبررت”، هذه الجملة “صدقت وبررت”، قال بعض العلماء: إنه لا أصل لها، والحديث المروي في ذلك هو حديثٌ: أقامها الله وأدامها [49]، حديثٌ ضعيفٌ، لكن جاءت زيادةٌ في بعض الكتب، يقول عند قوله: “الصلاة خيرٌ من النوم”: صدقت وبررت، وهذه أصلًا لا أصل لها، هذه الزيادة فضلًا عن كونها ضعيفةً هي لا أصل لها؛ ولذلك فإن هذه لا يشرع أن يقال عند التثويب: صدقت وبررت.

قال:

وفي لفظِ الإقامة: أقامها الله وأدامها.

أيضًا هذا لا يشرع؛ لأنه مبنيٌّ على حديثٍ ضعيفٍ، وقد ذكرنا حديث أبي أمامة ، وقلنا: إن الحديث رواه أبو داود، لكنه حديثٌ ضعيفٌ، لا يصح ولا يثبت.

فيكون الصواب: أنه لا يشرع قول: “صدقت وبررت”، عند التثويب، ولا يشرع قول: “أقامها الله وأدامها”، عند قد قامت الصلاة؛ لأن الحديث المروي في ذلك ضعيفٌ، ولا تبنى الأحكام على أحاديث ضعيفةٍ.

قال:

ثم يصلي على النبِي إذا فَرَغ.

وهذا قد ورد في حديثٍ في “صحيح مسلمٍ”: ثم صلُّوا عليَّ [50]، فيشرع عقب الفراغ من الأذان أن يقول: اللهم صل على عبدك ورسولك محمدٍ، ثم يقول: اللهم رب هذه الدعوة التامة…

فإذنْ الصلاة على النبي بعد الأذان سنةٌ، لكن تكون سرًّا، لا تكون برفع الصوت، وما يفعل في بعض البلدان إذا قال: لا إله إلا الله، المؤذن، قال: وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، هذا من البدع، إذا قالها بصوتٍ مرتفعٍ هذا من البدع؛ لأنه ألحق بالأذان ما ليس من جُمَله، لكن المقصود أن الإنسان يقولها سرًّا، سواءٌ كان مؤذنًا، أو كان سامعًا للأذان، ثم بعد الصلاة على النبي يأتي بما ورد، وهو قول: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آتِ محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته [51].

اللهم رب هذه الدعوة التامة: المقصود بها الأذان؛ لأنها دعوةٌ.

والصلاة القائمة: يعني التي ستقام.

آتِ محمدًا الوسيلة: وهي درجةٌ في الجنة لا تكون لعبدٍ إلا لنبينا .

والفضيلة: وهي المنقبة العالية الرفيعة التي لا يشاركه فيها أحدٌ، فهو سيد البشر، وسيد ولد آدم.

وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته: والمقام المحمود ما هو؟ الشفاعة العظمى.

جاء في بعض الروايات: إنك لا تخلف الميعاد [52]، وهذه الزيادة: إنك لا تخلف الميعاد قد جاءت عند البيهقي، وعند ابن خزيمة، طبعًا حديث: من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته، من قالها حلت له شفاعتي يوم القيامة [53] هذا في الصحيح.

لكن زيادة: إنك لا تخلف الميعاد هذه عند البيهقي، وعند ابن خزيمة.

بعض العلماء حسَّن إسنادها، ومنهم شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله، ولكن أكثر المحدثين على أنها لا تثبت، وأن هذه الزيادة شاذةٌ؛ لأنها لم ترد في جميع طرق الحديث، فهي شاذةٌ ولا تثبت، ولذلك؛ فالصحيح أنه لا يشرع أن تقال؛ لأنها عند المحدثين غير محفوظةٍ وغير ثابتةٍ.

خذوها قاعدةً: الزيادات على “الصحيحين” في الغالب ضعيفةٌ؛ لأنها لو كانت صحيحةً لرواها الشيخان”.

جاء عند ابن السُّني: “والدرجة الرفيعة”، وهي مدرجةٌ من بعض النساخ، وقد صرح الحافظ ابن حجرٍ، ثم السخاوي، أنها لم ترد في شيءٍ من طرق الحديث أصلًا، فهي مدرجةٌ من بعض النساخ.

فإذنْ يقتصر على: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته، هذا هو المشروع في هذا.

ثم بعد ذلك يدعو؛ لقوله : قل مثلما يقول، ثم سَلْ تُعْطَه [54]، والدعاء هنا حريٌّ بالإجابة.

ما يُشرع عند سماع الإقامة؟

وقوله:

وعند الإقامة.

هذا بناءً على القول بأنه يشرع متابعة المقيم، ونحن قلنا: الصواب أنه لا يشرع.

حكم الخروج من المسجد بعد الأذان

قال:

ويحرم بعد الأذان الخروج من المسجد بلا عذرٍ أو نيةِ الرجوع.

والدليل لذلك: ما جاء في “صحيح مسلمٍ” عن أبي هريرة : أنه كان جالسًا، فأذَّن المؤذن، ثم أبصر رجلًا خرج من المسجد، فأتبعه أبو هريرة بصره، وقال: “أما هذا فقد عصى أبا القاسم [55]، فقوله: “أما هذا فقد عصى أبا القاسم ” يدل على تحريم الخروج بعد الأذان، ولكن يستثنى من ذلك ما إذا كان لعذرٍ، فإنه إذا كان معذورًا، فلا حرج عليه في هذا، أو خرج بنية الرجوع فليس عليه حرجٌ.

لكن إذا خرج يريد أن يصلي في مسجدٍ آخر، فهل في هذا بأسٌ؟ كأن يكون إمامًا أو مؤذنًا، أو ليس إمامًا ولا مؤذنًا، وإنما أراد أن يصلي في مسجدٍ آخر أقرب لبيته، هل يأثم بهذا أم لا؟ نحن قلنا: الأصل أنه يحرم الخروج إلا لعذرٍ أو نية الرجوع، لكن إذا حضر الإنسان درسًا أو محاضرةً فأذن المؤذن وهو في المسجد، ثم خرج يريد أن يصلي في مسجدٍ آخر؟ نعم، الظاهر: أنه لا بأس بهذا؛ لأن المقصود: من يخرج من المسجد فتفوته الجماعة، مقصود الحديث من خرج من المسجد، ولم يصل مع الجماعة، ولذلك قالوا: بنية الرجوع، يستثنى هذا، لا بأس، هذا في الحقيقة رجع وصلى مع الجماعة، فإذا خرج يريد أن يصلي في مسجدٍ آخر لا يشمله هذا الحديث، ولا يشمله النهي، إنما النهي خاصٌّ بمن خرج وفاتته الجماعة، فهذا هو الذي يشمله النهي، أما من خرج يريد أن يصلي في مسجدٍ آخر، فالظاهر -والله أعلم- أنه لا يشمله هذا النهي؛ لأنه لم تفته الجماعة؛ ولأن مقصود الشارع من النهي عن الخروج؛ حتى لا تفوته صلاة الجماعة، فإذا تحقق هذا المقصود لم يبق هذا منهيًّا عنه.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 615، ومسلم: 437.
^2 رواه مسلم: 387.
^3, ^8 رواه البخاري: 609.
^4 رواه ابن ماجه: 728.
^5 رواه الترمذي: 206، وابن ماجه: 727.
^6, ^7, ^12, ^14, ^15, ^24, ^30, ^48, ^49, ^50, ^54 سبق تخريجه.
^9 رواه أبو داود: 499، والترمذي: 189، وقال: حسنٌ صحيحٌ، وابن ماجه: 706، وأحمد: 16478.
^10 رواه البخاري: 628، ومسلم: 674.
^11 رواه البيهقي: 1920.
^13 رواه أبو داود: 1203، والنسائي: 666، وأحمد: 17312.
^16 رواه البخاري: 1، ومسلم: 1907.
^17 رواه أبو داود: 495، وأحمد: 6689.
^18 رواه أبو داود: 517، والترمذي: 207، وأحمد: 7169.
^19 رواه البخاري: 5347.
^20 رواه مسلم: 2125.
^21 رواه البخاري: 5984، ومسلم: 2556.
^22 رواه مسلم: 105.
^23 رواه مسلم: 106.
^25 رواه البخاري: 535، ومسلم: 616.
^26 رواه البخاري: 576.
^27 رواه مسلم: 1093.
^28 رواه البخاري: 1918، ومسلم: 1092.
^29 رواه البخاري: 1171.
^31 رواه الترمذي: 200.
^32 رواه ابن ماجه: 713.
^33 رواه البخاري: 605، ومسلم: 378.
^34 رواه الترمذي: 197، وقال: حسنٌ صحيحٌ، وابن ماجه: 711، وأحمد: 18759.
^35 رواه أحمد: 22124.
^36 رواه البخاري: 634، ومسلم: 503.
^37 رواه الدارقطني في أطراف الغرائب والأفراد: 1362.
^38 رواه أبو داود: 500، وأحمد: 15376.
^39 رواه مسلم: 1218.
^40 رواه الترمذي: 179، والنسائي: 662.
^41 رواه مسلم: 379.
^42 رواه أبو داود: 500، والترمذي: 191، وقال: صحيحٌ، والنسائي: 628، وابن ماجه: 708.
^43 رواه مسلم: 384.
^44 رواه مسلم: 385.
^45 رواه أبو داود: 524.
^46 رواه أبو داود: 528.
^47 رواه البخاري: 624، ومسلم: 838.
^51, ^53 رواه البخاري: 614.
^52 رواه البيهقي في السنن الكبرى: 1933.
^55 رواه مسلم: 655.