logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح كتاب دليل الطالب لنيل المطالب/(15) باب شروط الصلاة- “وهي تسعةٌ: الإسلام، والعقل، والتمييز..”

(15) باب شروط الصلاة- “وهي تسعةٌ: الإسلام، والعقل، والتمييز..”

مشاهدة من الموقع

شروط الصلاة

الشروط: جمع شرطٍ، والشرط معناه في اللغة: العلامة، ومنه قول الله تعالى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا [محمد:18]، وأشراطها يعني: علاماتها.

وعند الأصوليين: ما يَلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجودٌ ولا عدمٌ لذاته.

ما يلزم من عدمه العدم: فيلزم من عدم الطهارة عدم الصلاة.

ولا يلزم من وجوده وجودٌ ولا عدمٌ لذاته: لا يلزم من وجود الطهارة وجود الصلاة، قد يتطهر الإنسان ولا يصلي.

الفرق بين الشرط والركن

إذنْ هذا هو تعريف الشرط عند الأصوليين، لكن يرد هنا تساؤل: ما الفرق بين الشرط والركن؟

هما يجتمعان بأنه إذا فقد واحدٌ منهما لم تصح العبادة، إذا فُقد ركنٌ من أركان الصلاة لم تصح الصلاة، إذا فقد شرطٌ من شروط الصلاة لم تصح الصلاة، فيتفقان في أنهما إذا فُقد واحدٌ منهما لم تصح العبادة، لكن ما الفرق بين الشرط والركن؟

فعندنا مثلًا: شروط الصلاة وأركان الصلاة، شروط الحج وأركان الحج، شروط الصوم، وأركان الصوم، وهكذا؛ فما هو الفرق بين الشرط والركن؟

طالب:

الشيخ: نعم هذا أحد الفروق: أن الشرط يكون قبل، ويستمر إلى نهاية العبادة، أما الركن فيكون في أثناء العبادة.

وهناك فرقٌ أوضح: أن الركن جزءٌ من ماهيَّة العبادة، بينما الشرط هو خارجٌ عنها.

إذنْ نعيد أبرز الفروق بين الشروط والأركان:

نقول: إن الأركان تتركب منها ماهيَّة العبادة، بخلاف الشروط؛ فهي خارجةٌ عنها.

فمثلًا: تكبيرة الإحرام جزءٌ من الصلاة، بينما استقبال القبلة خارجٌ عن الصلاة.

أيضًا من الفروق: أن الشروط تكون قبل العبادة وتستمر إلى الفراغ منها، بينما الأركان تكون في أثناء العبادة، وقد يتنقل الإنسان فيما بينهما، يعني من ركنٍ إلى ركنٍ، فمثلًا: شرط استقبال القبلة، قبل أن يكبر لا بد أن يستقبل القبلة، وهكذا شرط الطهارة مثلًا يكون قبل الصلاة ويستمر إلى الفراغ منها.

وأما الأركان فإنها تكون في اثناء الصلاة، تكبيرة الإحرام في أثناء الصلاة، ينتقل من تكبيرة الإحرام إلى قراءة الفاتحة إلى بقية الأركان.

فهذه إذنْ هي أبرز الفروق بين الشروط والأركان.

قال المؤلف رحمه الله:

وهي تسعةٌ:

يعني: بالاستقراء أن شروط الصلاة تسعةٌ.

الشرط الأول والثاني والثالث: الإسلام، والعقل، والتمييز

الإسلام، والعقل، والتمييز.

وهذه تكررت معنا، هذه الشروط الثلاثة، شروط الوضوء، وشروط التيمم، هذه الشروط الثلاثة هي شروطٌ في كل عبادةٍ، وكنا قد استثنينا شرطًا في عبادةٍ من العبادات، شرطًا من هذه الشروط الثلاثة في عبادة من العبادات، فما هو هذا الشرط الذي استثنيناه؟

التمييز في الحج، إذنْ ما عدا التمييز في الحج فإنه لا يشترط، فيصح الحج من غير المميز.

إذنْ نستطيع أن نقول: إن الإسلام والعقل والتمييز شروطٌ في كل عبادةٍ ما عدا التمييز في الحج فإنه لا يشترط.

وهذا يصلح أن يكون قاعدةً فقهيةً، وقد ذكره الشيخ عبدالرحمن السعدي قاعدةً في قواعده رحمه الله: أن الإسلام والعقل والتمييز شروطٌ في كل عبادةٍ، ما عدا التمييز في الحج فإنه ليس بشرطٍ.

بناءً على شرط الإسلام: لا تصح الصلاة من كافرٍ؛ لأن الصلاة يشترط لصحتها النية، والنية لا تصح من كافرٍ، ويدل لذلك أيضًا قول الله تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، وكذلك أيضًا سبق أن قلنا في درسٍ سابقٍ: “ولا تجب على الكافر”، معنى أنها لا تجب عليه: لا يطالب بها، فإذا رأينا مثلًا إنسانًا كافرًا بوذيًّا أو هندوسيًّا أو نصرانيًّا، وجدناه في السوق، فهل نأمره بالصلاة؟ ما نأمره؛ لأنها لا تجب عليه، ولا تصح منه لو صلى، لكن هل معنى هذا أنه لا يعاقب على تركها؟ هذه مسألةٌ ترجع لمسألةٍ مختلفٍ فيها عند الأصوليين، وهي: هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة أم لا؟ سبق أن أشرنا لهذه المسألة في دروسٍ سابقةٍ، وذكرنا أن القول الراجح: أنهم مخاطبون بفروع الشريعة، وذكرنا الدليل لذلك من القرآن، وهو قول الله تعالى: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ۝قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ۝ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ۝ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ۝ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [المدثر42-46]، قوله: وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ، يدل على أنهم كفارٌ، ومع ذلك عوقبوا على ترك الصلاة، وإذا عوقبوا على ترك الصلاة يعاقبون على ترك جميع العبادات، هذا يدل على أن الكفار يعاقبون على ترك الصلاة، وعلى ترك الزكاة، وعلى ترك الصيام، وعلى ترك الحج.

فإن قال قائلٌ: الكافر في النار، كيف يعاقب وهو في النار؟!

فنقول: إن النار دركاتٌ، كما أن الجنة درجات، كما أن المسلم أيضًا يعاقب على ترك الصلاة، فالكافر يعاقب عليها من باب أولى.

وبناءً على شرط العقل نقول: إن الصلاة لا تصح من غير العاقل، فلا تصح الصلاة من المجنون، وهذا بإجماع العلماء، كذلك أيضًا لا تصح الصلاة من السكران الذي قد ذهب عقله، أما إذا كان عقله لم يذهب فهل تصح الصلاة منه أم لا؟ هذا محل خلافٍ بين العلماء، الأظهر أنه إذا كان عقله لم يذهب فإن الصلاة تصح منه؛ لقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء:43]، فدل ذلك على أنه إذا عَلم السكران ما يقول فإن الصلاة تصح منه؛ لأن من أدمن السكر -كما يذكر ذلك بعض الإخوة العاملين في مراكز الهيئات وغيرهم- لا يذهب عقله بالكلية، يبقى عنده شيءٌ من الإدراك، فإذا كان عقله معه، وأتى بالصلاة بجميع أركانها وشروطها وواجباتها، فالأظهر –والله أعلم- أنها تصح.

وبناءً على شرط التمييز: لا تصح الصلاة من الصبي غير المميز، والتمييز سبق في درسٍ سابقٍ أن ذكرنا خلاف العلماء في حَدِّه؛ فمنهم من قال: إن المميز هو من يفهم الخطاب ويرد الجواب، وناقشنا هذا التعريف، وقلنا: إنه لا ينضبط، وأن هناك أطفالًا في سن الثالثة والرابعة يفهمون الخطاب ويردون الجواب، فلا يمكن ضبطه وتحقيقه في الواقع، وهؤلاء الذين في الثالثة والرابعة لا يمكن أن يكونوا مميزين، ولهذا؛ فالأقرب -والله أعلم- هو التحديد بما حدَّه النبي في قوله: مُروا أبناءكم بالصلاة لسبعٍ [1]، فحدَّ النبيُّ   التمييز بسبع سنين.

حد التمييز

الأقرب في حد التمييز أنه بلوغ سبع سنين.

كيف يكون بلوغ السبع السنين؟

ذكرنا لهذا ضابطًا: إذا أتم سبع سنين ودخل في الثامنة، ولذلك نقول: بلوغ تمام سبع سنين، الأدق في العبارة أن نقول: بلوغ تمام سبع سنين، إذا أتم سبع سنين، ودخل في الثامنة، وهكذا في قوله عليه الصلاة والسلام: واضربوهم عليها لعشرٍ [2]، إذا بلغ عشر سنين ودخل في الحادية عشرة، إحدى علامات البلوغ: بلوغ تمام خمس عشرة سنةً، يعني: أتم خمس عشرة سنةً ودخل في السادسة عشرة.

الصبي غير المميز إذنْ لا تصح صلاته، معنى ذلك: أن وجوده في الصف يكون فرجةً؛ لأن وجوده كعدمه، فلو أتى مثلًا صبيٌّ عمره أربع سنين، هذا غير مميزٍ، وجوده في الصف كعدمه، ولهذا؛ ينبغي ألا يصف مع المصلين، وأن يكون في آخر المسجد أو نحو ذلك، ينبغي للولي أن يجنبه الصف في الصفوف؛ لأن وجوده فرجةٌ، ولكن إذا كان هناك ضررٌ بأن كان مثلًا والده يخشى عليه، ونحو ذلك، فإنه يصف.

والأظهر أن هذا يتسامح فيه؛ لأنه فرجةٌ يسيرةٌ، فيتسامح في هذا مع أن الأولى ألا يصف داخل الصف؛ لأن وجوده يعتبر فرجةً، وأما الصبي المميز فإن صلاته تصح، بل حتى إمامته تصح.

الشرط الرابع: الطهارة مع القدرة

وكذا الطهارة مع القدرة.

وكذا الطهارة، ولم يبين المؤلف مقصوده: هل هي الطهارة من الحدث، أم من النجس؟ ولكن لما عدَّ المؤلف من الشروط الشرط السابع -اجتناب النجاسة لبدنه وثوبه وبقعته- دل ذلك على أن مقصوده هنا: الطهارة من الحدث، وذلك؛ لقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]، ولقول النبي : لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ [3]، أخرجه البخاري ومسلمٌ.

قال: “مع القدرة”، يفهم من ذلك أنه مع عدم القدرة فإن هذا ليس بشرطٍ، وهذا في الحقيقة في جميع الشروط، جميع الشروط مع عدم القدرة تسقط، ما عدا شرط الوقت، وشرط النية؛ لأن شرط النية مستطاعٌ، وشرط الوقت كذلك لا يتصور عدم القدرة فيه.

الشرط الخامس: دخول الوقت

دخول الوقت.

هنا عبر المؤلف بدخول الوقت، وتعبير المؤلف هنا صاحب “الدليل” أجود من تعريف صاحب “زاد المستقنع”، فإن صاحب “زاد المستقنع” عبر بالوقت، والتعبير بدخول الوقت أولى وأدق؛ لأن التعبير بالوقت قد يفهم من العبارة أن الصلاة لا تصح قبل الوقت ولا بعده، ولكن التعبير بدخول الوقت يفهم منه أن الصلاة تصح بعد الوقت، وهذا إذا كانت لعذرٍ باتفاق العلماء، وإذا كانت بغير عذرٍ على قول الجمهور، إذنْ التعبير بدخول الوقت أدق، عبارة صاحب “دليل الطالب” أدق من عبارة صاحب “الزاد”؛ فدخول الوقت يفهم منه: أن الصلاة تصح بعد خروج الوقت، بينما التعبير بالوقت يفهم منه: أن الصلاة لا تصح قبل الوقت ولا بعده، ومعلومٌ أن الصلاة تصح بعد خروج الوقت إذا كانت لعذرٍ بالاتفاق، ولغير عذرٍ عند الجمهور.

شرط دخول الوقت هو آكد شروط الصلاة، ويدل لذلك: قول الله تعالى: إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، أي: مفروضًا في الأوقات، ولحديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما في “صحيح مسلمٍ”، أن النبي قال: وقت الظهر إذا زالت الشمس… إلى آخر الحديث الطويل، وهو حديث رواه مسلمٌ، وقد بين فيه النبي مواقيت الصلاة من قوله ، وسيأتي الاستشهاد بهذا الحديث عند كل وقتٍ؛ وقت الظهر إذا زالت الشمس، وكان ظل الرجل كطوله، ما لم يحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط، ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس [4]، هذا الحديث رواه مسلمٌ، وهو من قول النبي ، وإنما قلت من قول النبي ؛ لأن القول أصرح دلالةً من الفعل، ولأننا سنحتاج إلى هذا الحديث عند الترجيح بين المسائل الخلافية.

إذنْ هذه الأدلة تدل على شرط الوقت، وشرط دخول الوقت كما ذكرت هو آكد الشروط، ولذلك؛ قد تسقط جميع الشروط مراعاةً لشرط الوقت؛ فمثلًا: لو كان إنسانٌ عاجزٌ عن الطهارة، وعاجزٌ عن استقبال القبلة، وعاجزٌ ستر العورة، وعاجزٌ عن بقية شروط الصلاة، وعاجزٌ مثلًا عن أركان الصلاة أو معظم أركانها، فنقول له: صلِّ على حسب حالك، ولا تدع الصلاة حتى يخرج وقتها، وهذا يتصور عند بعض المرضى الذين يكون مرضهم شديدًا، تجد أنه على فراشه لا يستطيع أن يتحرك، لكن عقله معه، لا يستطيع أن يتوضأ، لا يستطيع أن يستقبل القبلة، لا يستطيع أن يتطهر، عاجزٌ عن جميع الشروط والأركان، ماذا نقول؟ نقول: صلِّ على حسب حالك، ولا تدع الصلاة حتى يخرج وقتها، اللهم إلا الصلاة التي تُجمع مع غيرها، له أن يجمع إذا كان يلحقه الحرج بترك الجمع.

إذنْ هذا يدل على أن شرط دخول الوقت آكد شروط الصلاة، ولهذا؛ أتت الشريعة مبيِّنةً ومفصِّلةً لهذه الأوقات وموضِّحةً لها من قول النبي  وفعله، بل إن العلماء قالوا: حتى إن من شك في دخول الوقت لا يحل له أن يصلي حتى يغلب على ظنه دخول الوقت، وهذا يبين لنا عظيم هذه المسألة، وأهمية العناية بها وتحقيقها.

أقول هذا؛ لأن أكثر الناس الآن يعتمدون على التقاويم في مواقيت الصلاة، وربما هذه التقاويم -أقول: في بعضها- قد يكون فيها خللٌ؛ إما في تقديمٍ أو تأخيرٍ، أو نحو ذلك، كما سنشير ونبيِّن إن شاء الله تعالى، لكن هذا يبين لنا أهمية العناية بشرط الوقت.

أيضًا هذه الأهمية تبرز حينما يراد الجمع بين الصلاتين، فنقول: الأصل أن الصلاة تصلَّى في وقتها، وشرط الوقت آكد شروط الصلاة، وهذا أمرٌ محكمٌ، ولا ننتقل من هذا الأصل إلا بشيءٍ واضحٍ يبيح الجمع بين الصلاتين، فعند نزول المطر مثلًا، ويحصل الاشتباه: هل هذا المطر يلحق الناس حرجٌ بترك الجمع أو لا يلحقهم حرجٌ؟ فإننا نرجع للأصل، وهو أن الأصل أن الصلاة تصلى في وقتها، وأن شرط الوقت هو آكد شروط الصلاة، ولهذا؛ عند الشك في كون هذه الصلاة تُجمع مع غيرها أم لا؟ نقول: لا تَجمع، صلِّ الصلاة في وقتها؛ لأن هذا أمرٌ محكمٌ، فلا ننتقل عن هذا الأمر المحكم الواضح المؤكَّد في الشريعة إلا بشيءٍ واضحٍ يبيح تقديم الصلاة الأخرى أو تأخير الصلاة الحاضرة.

مواقيت الصلاة

ثم بدأ المؤلف في مواقيت الصلاة، وهي حقيقةً مهمةٌ جدًّا، يعني معرفتها.

وقت الظهر

قال:

فوقت الظهر.

بدأ المؤلف بوقت الظهر، وذلك؛ لأنه في حديث جبريل بدأ بها حين أم جبريل  النبي بدأ بذكر الظهر [5]، وبعض العلماء يبدأ بالفجر؛ لأنها أول صلاة النهار، والأمر في هذا واسعٌ.

الظهر: اشتقاقها من الظهور؛ لأنها أظهر الأوقات، فهي في وسط النهار، وهي ظاهرةٌ، وتُعرف بزيادة الظل، وقيل: إن سبب تسميتها الظهر: أنها أول صلاةٍ ظهرت في الإسلام، وتسمى أيضًا بصلاة الهَجير؛ كما في حديث أبي برزة : “كان رسول الله يصلي الهَجير، التي تَدْعُونها الأُولى، حين تدحض الشمس” [6]، وتُسمى بالأُولى كما في حديث أبي برزة هذا أيضًا، لكن الاسم المشهور هو: الظهر.

قال:

وقت الظهر من الزوال.

الزوال هو: ميل الشمس إلى جهة المغرب، ويُعرف بزيادة الظل بعد تناهي قصره، فحين تطلع الشمس يكون ظل الأشياء إلى جهة الغرب، ويكون ظل الشيء طويلًا ثم يبدأ الظل في التناقص، وفي الميل إلى أي جهةٍ؟ إلى الشمال، فيبدأ بالتناقص والميل إلى جهة الشمال، وعند منتصف النهار يتجه الظل إلى الشمال الحقيقي مباشرةً، فإذا أردت أن تعرف الشمال الحقيقي فانظر إلى الظل عند منتصف النهار، فإذا مال الظل من جهة الشمال إلى جهة الشرق نقول: زالت الشمس، هذه علامة، أيضًا: الظل يكون جهة الغرب طويلًا، يبدأ بالتناقص، بالتناقص، ثم يقف، ثم يزيد، إذا بدأ بالزيادة فهذه علامة الزوال.

لو وضحناه مثلًا بهذا الخط، لاحِظ الآن الشمس تتجه أولًا لجهة الغرب، ثم تبدأ تتجه إلى أن تصل إلى الشمال عند منتصف النهار، منتصف النهار تصل إلى الشمال الحقيقي بالضبط، ثم بعد ذلك تتجه من الشمال إلى الشرق، إذا اتجهت من الشمال الحقيقي إلى الشرق ولو بشعرة هنا زالت الشمس، أيضًا يبدأ الظل بالتناقص، بالتناقص، ثم يقف، ثم يزيد، إذا زاد ولو بشعرة فهنا بدأ الزوال، هذه يمكن أن تُعرف بمراقبة ظل الأشياء، لكنها تحتاج إلى تمرُّن وملاحظةٍ ودقةٍ، ويمكن أيضًا أن تُعرف بالحساب؛ وذلك بأن يحسب ما بين شروق الشمس إلى غروب الشمس، ويُقسم على اثنين، لكن هنا إشكاليةٌ الحقيقة أنبه عليها، ولم أر من نبَّه عليها من قبل، إشكاليةٌ في التقاويم كلها بلا استثناء، وهي أن التقاويم تضع وقت صلاة الظهر -يعني زوال الشمس- على منتصف النهار، يقسمون المدة الزمنية ما بين شروق الشمس إلى غروب الشمس على اثنين، ويضعون أذان الظهر على منتصف النهار، ومنها تقويم أم القرى، يفترض أن يكون هناك زيادةٌ على منتصف النهار بقدر ما تزول الشمس، وقد راقبت الشمس مرارًا هنا على سطح هذا الجامع، وكذلك أيضًا على مدار السرطان الذي ينعدم فيه الظل، مدار السرطان يقع جنوب المملكة، جنوب حوطة بني تميمٍ، تقريبًا (10 كيلومتراتٍ) تقريبًا، أو حدود هذا الرقم، مدار السرطان ينعدم فيه الظل في (21 يونيو) من كل عامٍ، ينعدم فيه الظل تمامًا، ثم بعد ذلك ينشأ الظل، ولذلك؛ تكون ملاحظة الزوال فيه أوضح، هنا في الرياض لا ينعدم الظل؛ لأن الرياض يقع على (خط عرض 24) بينما مدار السرطان على (23.5) تقريبًا، ويقع مدار السرطان قريبًا من حوطة بني تميمٍ في هذه المنطقة، لكن الرياض هنا لا ينعدم الظل، مكة ينعدم فيها الظل مرتين؛ لأنها تقع على (خط عرض 21)، المدينة لا ينعدم فيها الظل؛ لأنها تقع على نفس خط عرض الرياض (24).

أقول: راقبت مسألة الزوال فوجدت أن الزوال يحتاج إلى ما بعد منتصف النهار من دقيقتين ونصفٍ إلى ثلاث دقائق، يعني تضيف للرقم الموجود في التقويم دقيقتين ونصفًا إلى ثلاث دقائق، وهذا الرقم يسيرٌ، ولذلك؛ ما إن يفرغ المؤذن من الأذان إلا وقد زالت الشمس، لكن أنبه على هذا؛ لأن بعض الناس -خاصةً في المطارات- يترقبون وقت الأذان فيكبر من حين يؤذن للظهر، من حين يدخل الوقت، حسب التقويم، فربما يترتب على ذلك بعض الأحكام الشرعية، وقد طُلب مني في “مجمع الفقه الإسلامي” أن أكتب بحثًا حول هذا، ولعله يناقش في دورةٍ قادمة إن شاء الله، وربما يصدر فيه قرارٌ، وإذا صدر فيه قرارٌ ربما يكون هناك تعديلٌ لبعض التقاويم الموجودة في هذا.

وقت العصر مرتبطٌ بالظهر؛ لأن وقت العصر يُحسب بعد ظل الزوال، بالنسبة لوقت الظهر فهو مرتبطٌ بالزوال، ولذلك أيضًا؛ الفرق الذي ذكرته -دقيقتان ونصفٌ إلى ثلاثٍ- في الظهر أيضًا يطَّرد أو ينسحب على العصر، فيكون وقت العصر أيضًا في التقاويم متقدمًا من دقيقتين ونصفٍ إلى ثلاثٍ، لكن هذا -كما قلت- وقتٌ يسيرٌ، ربما لا يفرغ المؤذن من الأذان إلا وقد مضت هذه الدقائق.

أحد علماء الأزهر ذكر أن وقت الزوال يحتاج من دقيقةٍ ونصفٍ تقريبًا إلى دقيقتين، لكن بحسابَيْ تقويم أم القرى وجدته من دقيقتين ونصفٍ إلى ثلاثٍ.

الحطاب في “مواهب الجليل”، من فقهاء المالكية، ذكر أن الزوال يحتاج إلى نصف درجةٍ، يعني دقيقتين، قال: “قراءة: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، أربعين مرةً”، قراءة: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ أربعين مرةً ربما تأخذ أكثر من دقيقتين، لكن ما أدري، هكذا ذكره في “مواهب الجليل”.

فبكل حالٍ هي في هذه الحدود، فلو أن التقويم أضيف له ثلاث دقائق، أو حتى خمس دقائق، من بعد منتصف النهار، لكان هذا أمكن لدخول الوقت، ولعله -إن شاء الله تعالى- يكون هناك إثراءٌ للبحث في هذه المسألة مستقبلًا إن شاء الله، ويكون هناك تعديلٌ للتقاويم في العالم الإسلامي، التقويم الذي وضعه ناسٌ متخصصون في الفلك، ربما لا يكون لهم عنايةٌ كبيرةٌ بأمور الشريعة، وكان الناس في السابق يعتمدون على حركة الظل والشمس، لكن في الآونة الأخيرة -خاصةً بعد ظهور الكهرباء- أصبحوا يعتمدون عل التقاويم اعتمادًا كليًّا، وذلك بحاجةٍ إلى مزيدٍ من العناية والمراجعة.

إذنْ هذا هو وقت الزوال، عرفنا أن الزوال يعرف بإحدى علامتين: إما بميل الشمس من جهة الشمال إلى جهة الشرق، أو بزيادة الظل بعد تناهي قصره، هذا هو الزوال.

قال:

من الزوال إلى أن يصير ظلُّ كل شيءٍ مثله، سوى ظل الزوال.

بعض العلماء يقول: إن الظل بعد الزوال يسمى فيئًا، وأما قبله فيسمى ظلًّا، ولكن في الحديث ورد بالتعبير بالظل، ويظهر أنه يصح إطلاق الظل أيضًا على ما بعد الزوال.

قال: “إلى أن يصير ظل كل شيءٍ مثله، سوى ظل الزوال”، يعني: إلى أن يصبح ظل الشاخص مثله، يعني طوله؛ لحديث عبدالله بن عمرٍو رضي الله عنهما: وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله [7]، لكن المؤلف هنا قال: “سوى ظل الزوال”، وهذا توضيحٌ وقيدٌ مهمٌّ جدًّا؛ لأن بعض كتب الفقه لا تشير لهذا القيد، فيشكل هذا على بعض الناس، لا بد من هذا القيد “إلى أن يصير ظل كل شيءٍ مثله، سوى ظل الزوال”؛ لأنه عند الزوال في كثيرٍ من البلدان لا ينعدم الظل، يعني مثلًا عندنا في الرياض لا ينعدم الظل، فعند الزوال يوجد ظلٌّ، بل إنه في الشتاء الظل طويلٌ، بل إنه ربما في الشتاء في وقت الظهر يكون وقت الزوال ظل الرجل كطوله، فمعنى ذلك: أننا نحسب ظلًّا آخر غير ظل الزوال، فنحسب مثلًا، ننظر للظل وقت زوال الشمس كم؟ إذا كان الظل وقت زوال الشمس مثلًا ذراعًا، فمعنى ذلك ننظر إلى طول هذا الشاخص مضافًا للذراع، إذا كان الظل مثلًا وقت الزوال مترًا ونصفًا، فإذا أردنا أن نعرف نهاية وقت الظهر فنحسب طول ظل الشاخص مضافًا إليه مترٌ ونصفٌ، فانتبهوا لهذه المسألة.

فإذنْ عندما نقول: إن نهاية وقت الظهر عندما يصبح ظل كل شيءٍ مثله، نقول: بعد ظل الزوال، لا بد من هذا القيد، وإلا سيكون الحساب غير صحيحٍ.

وأذكر أن أحد طلاب العلم البارزين اتصل بي مرةً من المرات، وقال: إن هناك إشكاليةً في وقت العصر، حَسَبها بصفةٍ عمليةٍ على ما ورد في الحديث، ولم يجدها مطابقةً للواقع، قلت: هل حسبت ظل الزوال؟ قال: لا، قلت: إذنْ الخطأ في هذا، والتقاويم الموجودة تحسب ظل الزوال بدقةٍ، لكن انتبهوا لهذا القيد: أنه لا بد من أن يكون ظل كل شيءٍ مثله بعد ظل الزوال، قلت لكم: ظل الزوال قد يكون طويلًا في الشتاء، قد يكون كطول الشاخص.

إذنْ هذا هو وقت الظهر، وتلاحظون أن وقت الظهر متسعٌ، من الزوال إلى أن يصير ظل كل شيءٍ مثله، وهذا وقتٌ طويلٌ.

قال:

ثم يليه الوقت المختار للعصر.

يعني: أن وقت العصر يدخل بخروج وقت الظهر، وبهذا يُعلم أنه لا فاصل بين الظهر والعصر، وهذا هو الذي عليه أكثر العلماء.

وذهب المالكية إلى أن هناك وقتًا مشتركًا بقدر أربع ركعاتٍ بين الظهر والعصر، ولكن الصحيح أنه لا اشتراك، وأنه لا فاصل بين الظهر والعصر؛ لأنه لا دليل يدل على الاشتراك، ولظاهر حديث عبدالله بن عمرٍو رضي الله عنهما، قال عليه الصلاة والسلام: وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر العصر [8]، هذا دليلٌ على أنه لا فاصل بين الظهر والعصر، ومعنى ذلك: أن وقت الظهر يمتد إلى دخول وقت العصر، فمثلًا هذا اليوم وقت العصر متى يؤذن على التقويم؟ الثانية والثماني وأربعين دقيقةً، لو أن أحدًا صلى الظهر الثانية والنصف يكون صلَّاها في الوقت أم لا؟ نعم، صلاها في الوقت، وحتى لو صلَّاها في الثانية والأربعين دقيقةً يكون صلَّاها في الوقت، بعض العامة يفهم أن وقت الظهر لا يمتد إلى هذا، هذا فهم غير صحيحٍ؛ وقت الظهر وقتٌ واسعٌ يمتد إلى دخول وقت العصر، كل هذا وقتٌ للظهر، لكن سيأتينا أن الأفضل هو أن تؤدى صلاة الظهر في أول وقتها إلا عند شدة الحر.

وقت العصر

قال:

ثم يليه الوقت المختار للعصر.

العصر سميت بذلك لأنها تُصلَّى عشيَّة، والعرب تطلق العصر على الغداة أو العشيَّة، والعشيَّة معناها: آخر النهار، وقيل: لانعصار النهار للفراغ، والشمس للغروب، وقيل: لأن العرب تسمَّي كل طرفٍ من النهار عصرًا.

وقت الظهر يمتد إلى دخول وقت العصر، حين يصبح ظل الرجل كطوله بعد ظل الزوال، ويمكن الآن أن يحسب بدقةٍ، لكن كما ذكرت مع ملاحظة الإشكالية الواردة في حساب الزوال، فيضاف الوقت الموجود في التقويم من دقيقتين ونصفٍ إلى ثلاثة دقائق.

هذا هو الوقت الاختياري للعصر، أنه يبدأ من خروج وقت صلاة الظهر، ويمتد إلى…

قال:

حتى يصير ظل كل شيءٍ مثليه.

وقت العصر الاختياري

أي أن وقت العصر يبتدئ من حين أن يصير ظل كل شيءٍ مثله، إلى حين أن يصبح ظل كل شيءٍ مثليه، والدليل لذلك: هو حديث جابرٍ  في قصة جبريل  لما أمَّ النبيَّ ، فإنه أمَّه في المرة الأولى حين أصبح ظل كل شيءٍ مثله، وفي المرة الثانية حين أصبح ظل كل شيءٍ مثليه [9].

وذهب بعض العلماء إلى أن الوقت الاختياري للعصر يكون إلى اصفرار الشمس؛ وذلك لحديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: وقت العصر ما لم تصفر الشمس [10]، رواه مسلمٌ.

وعند الترجيح حاول بعض العلماء أن يقرب بين القولين، منهم الموفق بن قدامة، فقال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “إنهما وقتان متقاربان، يوجد أحدهما قريبًا من الآخر”، وتبعه على ذلك بعض العلماء المعاصرين، وقال: “إن اصفرار الشمس قريبٌ من أن يصبح ظل كل شيءٍ مثليه”.

والحقيقة أنه عند تطبيق الأمر على الواقع نجد أن بينهما فرقًا كبيرًا، بين أن يصبح ظل كل شيءٍ مثليه، وبين اصفرار الشمس، قول الموفق محل نظرٍ، فيمكن حساب أن يصبح ظل كل شيءٍ مثليه عن طريق بعض الساعات التي يذكر فيها التقويم الحنفي؛ الحنفية عندهم أن وقت العصر –كما سيأتينا- يبدأ من حين يصبح ظل كل شيءٍ مثليه، فمثلًا في هذا اليوم، وقت العصر حين يصبح ظل كل شيءٍ مثليه في مدينة الرياض، الثالثة وإحدى وثلاثين دقيقةً، بينما اصفرار الشمس يكون قبل غروب الشمس بنحو نصف ساعةٍ، يعني في حدود الرابعة والنصف، أو يزيد قليلًا، الفرق بينهما لا يقل عن ساعةٍ، وهذا فرقٌ كبيرٌ، فكيف يقال: إنهما متقاربان؟ القول بالتقارب محل نظرٍ؛ لهذا لا بد من الترجيح في هذه المسألة.

القول الثاني: وهو أن وقت العصر إلى اصفرار الشمس، قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “هي الأصحَّ عن الإمام أحمد”، وإن كان المذهب هو القول الأول الذي ذكره المؤلف: أنه إلى أن يصبح ظل كل شيءٍ مثليه.

لكن من حيث الدليل: القول الراجح -والله أعلم- أن نهاية وقت العصر الاختياري إلى اصفرار الشمس، وذلك؛ لأن هذا هو الوارد في حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: ووقت العصر ما لم تصفر الشمس [11]، وهو في “صحيح مسلمٍ”، وهو أصح من حديث جابرٍ رضي الله عنهما في إمامة جبريل  للنبي ، وأيضًا أصرح دلالةً؛ إذ إنه من قول النبي وليس من فعله، ومعلومٌ أن دلالة القول أصرح وأقوى من دلالة الفعل.

وبناءً على ذلك: فالقول الراجح: أن الوقت الاختياري للعصر يمتد إلى اصفرار الشمس، وليس إلى أن يصبح ظل كل شيءٍ مثله.

وقت العصر الضروري

أما وقت الضرورة فيمتد إلى غروب الشمس، وذلك؛ لحديث أبي هريرة  أن النبي قال: من أدرك ركعةً من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعةً من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر [12]، متفقٌ عليه، فدل ذلك على أن وقت الضرورة يمتد إلى غروب الشمس.

فيكون للعصر وقتان: وقت ضروريٌّ، ووقت اختياريٌّ.

الوقت الضروري يكون عند الحاجة إلى تأخير الصلاة، أو عندما يكون هناك عذرٌ لتأخير الصلاة؛ وذلك كأن يصاب الإنسان بجرحٍ وينشغل بتضميده، أو ينقذ مصابًا، فيؤخر الصلاة عن وقتها الاختياري، أو تكون امرأةٌ حائضٌ تطهر قُبيل غروب الشمس، أو نائمٌ يستيقظ قبيل غروب الشمس، ومثل ذلك أيضًا: أن يكون الإنسان في الطائرة مثلًا، ويعلم أن الطائرة سوف تهبط وتصل للمطار قبل غروب الشمس، أو يكون حتى في حافلةٍ، أو في قطارٍ، أو في سفينةٍ، أو نحو ذلك، ويعلم بأنها سوف تصل قبل غروب الشمس، فكل هذه الأحوال يباح فيها تأخير صلاة العصر عن وقتها الاختياري إلى الوقت الضروري، وهو أن يصليها قبل غروب الشمس.

ابتداء دخول وقت العصر

هذه المسألة أشرت إلى أن الحنفية خالفوا في ابتداء دخول وقت صلاة العصر، فعند الحنفية خلافٌ في هذا مشهورٌ، وعلى ذلك بُنِيَ التقويم الحنفي، وخلاف الحنفية في هذه المسألة مشهورٌ، الجمهور يرون أن وقت الظهر يمتد إلى أن يصبح ظل كل شيءٍ مثله بعد ظل الزوال، أما الحنفية فيرون أن وقت الظهر يمتد إلى أن يصبح ظل كل شيء مثليه بعد ظل الزوال.

وبناء على ذلك: الجمهور يرون أن ابتداء العصر من حين أن يصبح ظل كل شيءٍ مثله بعد ظل الزوال، بينما الحنفية يرون أن ابتداء العصر حين أن يصبح ظل كل شيءٍ مثليه بعد ظل الزوال.

والخلاف في هذه المسألة خلافٌ كبيرٌ؛ إذ إن الوقت الذي يخرج به وقت الظهر عند الجمهور هو الوقت الذي يدخل به وقت العصر عند الحنفية، وهذا الحقيقة فيه إشكالٌ، وهذا يقودنا لبحث الخلاف في هذه المسألة.

الجمهور استدلوا بحديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما وبإمامة جبريل للنبي ، وهي أحاديث واضحةٌ وصريحةٌ في أن وقت الظهر ينتهي عندما يصبح ظل كل شيءٍ مثله، ووقت العصر يبتدئ من هذه إلى أن يصبح ظل كل شيءٍ مثليه، أو إلى اصفرار الشمس، على خلافٍ بينهم.

أما الحنفية فاستدلوا على أن وقت العصر يبدأ حين يصبح ظل كل شيءٍ مثليه، استدلوا لذلك بحديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه سمع النبي يقول: إنما بقاؤكم فيما سلف من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، ثم وضَّح هذا فقال: أوتي أهل التوراة التوراة فعملوا، حتى إذا انتصف النهار عجزوا، فأُعْطوا قيراطًا قيراطًا، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل، فعملوا إلى صلاة العصر فعجزوا، فأُعطوا قيراطًا قيراطًا، ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأُعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتاب: أي ربنا، أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين، وأعطيتنا قيراطًا قيراطًا، ونحن أكثر عملًا! قال الله تعالى: هل ظلمتكم من أجوركم من شيءٍ؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء [13]، هذا الحديث حديث أخرجه البخاري في “صحيحه”.

ووجه الدلالة قالوا: إن عمل هذه الأمة أقل من عمل النصارى؛ فيجب أن يكون وقت العصر أقل من وقت الظهر، ولا يكون ذلك إلا إذا كان ابتداء وقت العصر وآخر وقت الظهر أن يصبح ظل كل شيءٍ مثليه.

وهذا الاستدلال محل نظرٍ من وجوهٍ:

  • الوجه الأول: أن المراد بهذا الحديث: بيان كثرة العمل، وكثرة العمل لا تستلزم كثرة الزمن؛ لجواز أن بعض الناس يعمل عملًا كثيرًا في زمن قليلٍ.
  • الوجه الثاني: أن المراد: ضرب المثل، لا تحديد وقت الصلاة، وهذا حديثٌ مجملٌ، والأحاديث الدالة على تحديد آخر وقت الظهر وابتداء وقت العصر أحاديث واضحةٌ وصريحةٌ.
  • الوجه الثالث: أن المراد بقوله: أكثر عملًا، مجموع عمل الفريقين، لا عمل النصارى فقط.

والاستدلال بهذا الحديث لا شك أنه استدلالٌ ضعيفٌ؛ كيف يُستدل بحديثٍ يحتمل عدة وجوهٍ وتُترك الأحاديث الصحيحة الصريحة، والتي لو لم يَرِد منها إلا حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما؟!

فقول الحنفية هنا لا شك أنه قولٌ ضعيفٌ، والصواب: هو قول الجمهور، وهو الذي تدل له السنة.

بعض العلماء استنبط من هذا الحديث، ذكروا فوائد من هذا الحديث، قالوا…، الحافظ ابن حجرٍ قال أشياء ربما لا يكون لها كبير فائدةٍ، قال: بعضهم استنبط أن مدة بقاء هذه الأمة مع النصارى تعادل مدة بقاء اليهود، اليهود إلى منتصف النهار، والنصارى من منتصف النهار إلى العصر، وهذه الأمة من العصر إلى غروب الشمس، واليهود كان مدة بقائهم قرابة أربعة آلاف سنةٍ، يكون مجموع هذه الأمة مع النصارى هذا الوقت، لكن هذا محل نظرٍ كما ذكرنا؛ لأن هذا مجرد ضرب مثلٍ، وعلم الساعة لا يعلمه إلا الله ​​​​​​​، لكن تجدون هذا في شروح الأحاديث، ذكرها الحافظ ابن حجرٍ وغيره، لكن هذه الاستدلالات استدلالاتٌ عليلةٌ، علم الساعة علمها عند الله تعالى، ولذلك؛ الأحسن والأولى في مثل هذا ألا يُدخَل في مثل هذه الاستدلالات وهذه الأمور التي ربما لا يكون لها كبير فائدةٍ.

أيضًا لو استنبطنا قليلًا: هذا الحديث يدل على أن الإنسان لو كان عنده مجموعة عمالٍ وفاضَلَ بينهم، وعملهم واحدٌ لا يعتبر هذا ظلمًا، لو أعطى هذا مثلًا مئة ريالٍ، وهذا خمسين ريالًا، فالمهم أنه لا ينقص هذا حقه، تعاقد مع هذا بشيءٍ، وتعاقد مع ذاك بشيءٍ، والعمل هو نفسه، أو أن العمل هذا أقل من هذا، هل يعتبر هذا ظلمًا؟ لا يعتبر؛ ولذلك قال الله تعالى لليهود والنصارى: هل ظلمتكم من أجوركم شيئًا؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء، كون مثلًا صاحب العمل يعطي أحد العمال أكثر، لا يعتبر هذا ظلمًا، إذا كان قد اتفق مع العامل الثاني على أجرةٍ معينةٍ، المهم ألا يبخس العامل ما اتفق عليه معه، لكن كونه يزيد عاملًا بشيءٍ فلا يعتبر هذا ظلمًا.

مداخلة:

المدرس مع طلابه يختلف، هذا الكلام في الأجرة، لمَّا تتعاقد مع عاملٍ، وتتعاقد مع عاملٍ آخر، فتعطي العامل هذا أكثر من هذا فهذا يجوز، لا يعتبر ظلمًا، وأما المدرس مع طلابه المطلوب العدل بينهم؛ لأن هذا ليس أجرةً، وإنما يعدل بينهم، فإذا مثلًا أعطى هذا يعطي من كان مثله، أعاد لهذا الاختبار يعيد لمن كان مثله أو أقل منه، وهكذا، هذا فقط خاصٌّ بالأجرة، من تعاقد مع غيره بأجرةٍ معينةٍ، لا بأس أن يزيد بعض العمال على بعضٍ، بشرط ألا ينقص من تعاقد معه من حقه شيئًا.

نعم، بعضهم له اختياراتٌ مخالفةٌ للمذهب، لكنهم عندهم متعصبةٌ، عمومًا عندهم حجةٌ، هي في الحقيقة ليست بحجةٍ، حجةٌ عليلةٌ، يقول كيف فات على هؤلاء الأئمة الكبار وهؤلاء العلماء؟ هل فاتت عليهم هذه الأحاديث؟ لا بد أنها مرت عليهم، هذا غير صحيحٍ، وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف:76]، يبقى البشر بشرًا، والعبرة بالدليل من الكتاب والسنة.

إذنْ عرفنا أن القول الصحيح لا شك أنه قول الجمهور في هذه المسألة، تجدون -كما ذكرتُ- في بعض التقاويم؛ مثل التقويم الحنفي، تجدون أن وقت العصر يختلف عن التقاويم الأخرى؛ لأجل الخلاف في هذه المسألة.

وقت المغرب

قال:

ثم يليه وقت المغرب.

يعني: يلي وقت العصر وقت المغرب.

حتى يغيب الشفق الأحمر.

ولم يبين المؤلف وقت ابتداء المغرب؛ لوضوحه، وهو أنه يكون بغروب الشمس، ولكن ما المقصود بغروب الشمس؟ المقصود غروب القرص، فإذا سقط القرص دخل وقت صلاة المغرب وحلَّ الفطر للصائم، ويمكن حساب وقت غروب الشمس بدقةٍ، وقت طلوع الشمس ووقت غروبها يحسب بدقةٍ، وأجهزة الإحداثيات الآن تحسبها بدقةٍ متناهيةٍ، تحسبها حتى بالثواني، لكن التقاويم الموجودة الآن تضيف دقائق على وقت غروب الشمس يسمونها: دقائق التمكين، وهذه قد تنفع مع اتساع المدن، مثلًا مدينة الرياض الآن متسعةٌ، يبتعد الشرق عن الغرب الآن كثيرًا، والشمال عن الجنوب، هذا قد يؤثر، فهذه الدقائق التي تضاف احتياطًا ربما تفيد في هذا، وإلا فغروب الشمس الحقيقي قبل الوقت الموجود في التقويم، لو أنك ذهبت لمكانٍ يكون بعيدًا عن البناء، تجد أن الشمس تغرب قبل التقويم بدقيقةٍ إلى دقيقتين.

لكن أيضًا التقويم الموجود الآن وُضع على افتراض أن الشمس تغرب، وأن الارتفاع على مستوى سطح البحر، وهذا لا يؤثر بالنسبة للهضبة الممتدة، لكن عندما يرتفع الإنسان يتأثر هذا التقويم، ولهذا؛ لو ذهبت إلى غرب الرياض لوجدت أنه ربما يؤذن المؤذن والشمس تراها، لم تغرب بعد، يعني من جهة الغرب إذا نزلت مع هذه النزلة، حدثني بعض الإخوة أنهم رأوا قرص الشمس والمؤذن يؤذن في الرياض، والسبب أنها منطقةٌ مرتفعةٌ، فإذا ارتفع الإنسان فربما أن الوقت يختلف فينتبه لهذا، ولهذا؛ لو أن الطائرة طارت وقت غروب الشمس، فعندما تطير الطائرة ترى الشمس لم تغرب بعد، فكلما ارتفع الإنسان وجد أن الشمس لم تغرب بعد؛ ولهذا المناطق المرتفعة يفترض أن يكون لها حساب يختلف عن غيرها، تلاحظ أن مسألة الارتفاع لها أثرٌ في غروب الشمس.

الذي يهمنا من الناحية الشرعية هو أن وقت المغرب هو وقت حل إفطار الصائم، يكون بسقوط القرص بغروب الشمس، بغروب هذا القرص، كما قال عليه الصلاة والسلام: إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم [14].

وقتَ سقوط القرص تجد أن الظلمة تأتي من جهة الشرق، ولهذا قال: إذا أقبل الليل من هاهنا، يعني من جهة الشرق، وأدبر النهار من هاهنا، يعني من جهة الغرب، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم.

وأقول هذا؛ لأن بعض الناس يرى حُمرةً بعد غروب الشمس، بعد سقوط القرص، هذه الحمرة لا أثر لها، فيقول: الشمس ما غربت، إذا سقط القرص غربت الشمس، لا أثر ولا عبرة لهذه الحمرة التي تبقى بعد غروب الشمس.

قال: “حتى يغيب الشفق الأحمر”، وفي حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق [15]، وعند الجمهور أن الشفق المقصود به: الشفق الأحمر، وعند الحنفية: الأبيض، وإنما قال الجمهور: إن المقصود بالشفق: الأحمر؛ لحديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: ووقت المغرب ما لم يسقط ثَوْرُ الشفق [16]، في إحدى روايات مسلمٍ: ووقت المغرب ما لم يسقط ثَوْرُ الشفق، حديث عبدالله بن عمرو في إحدى روايات مسلمٍ: ما لم يسقط ثَوْرُ الشفق، قالوا: وثَوْرُ الشفق: ثورانه، وهو صفة للأحمر لا الأبيض.

عند تطبيق هذه المسألة على الواقع، الواقع أن الحُمرة التي تكون بعد غروب الشمس وقتها يسيرٌ جدًّا، ثم أيضًا هذه الحمرة لا تظهر دائمًا، تظهر مع صفاء الجو، ومع وجود الرطوبة؛ ولذلك فالقول بأن هذا الوقت القصير هو وقت المغرب فيه إشكالٌ في الحقيقة، ولهذا؛ الأقرب والله أعلم: هو قول الحنفية في هذه المسألة، والذي عليه التقاويم هو مذهب الحنفية، المقصود الشفق الأبيض المعترض، وأما قوله: ثَوْرُ الشفق، فالمقصود به: الشفق الأبيض، الشفق الأبيض يكون له ثورانٌ بعد غروب الشمس، ثم ينطفئ بعد غروبها.

ولهذا؛ فالأقرب والله أعلم: هو مذهب الحنفية في هذه المسألة، ويدل لذلك: ما جاء أن النبي قرأ في المغرب بسورة الأعراف [17]، وسورة الأعراف أكثر من جزءٍ، أليس كذلك؟ كم ستأخذ من الوقت؟ يعني ما لا يقل عن نصف ساعةٍ إن لم نقل: ساعةً أيضًا، لكنه بكل حالٍ لا يقل عن نصف ساعةٍ، ولو قلنا: إن الشفق: هو الأحمر، لكان الشفق غربًا قبل هذا، الشفق ما يبقى نصف ساعة في كثير من الأيام، ما يبقى.

ثم أيضًا العرب تطلق على الأبيض الأحمر، ذكر هذا بعض أهل اللغة: أن العرب تطلق على الأبيض: الأحمر، لا يقولون: هذا اللون أبيض، يقولون: أحمر، وعلى ذلك يُحمل قول النبي : لا يَهِيدنَّكم الساطع المُصْعِد حتى يعترض لكم الأحمر [18]، يعني: الأبيض، فالشفق شفق الفجر، والشفق الذي نراه بعد غروب الشمس هو شفقٌ أبيض، قد يكون مشوبًا بحمرةٍ وقت غروب الشمس ووقت شروقها فقط، وهذا وقتٌ قصيرٌ جدًّا، والنبي عليه الصلاة والسلام قرأ في المغرب بسورة الأعراف، وسورة الطور، وسورة المرسلات، ومعلومٌ أنه كان يقرأ مترسِّلًا، فلو قلنا: إن الشفق هو الأحمر لكان استمر النبي عليه الصلاة والسلام في صلاة المغرب بعد غروب الشفق الأحمر، فعند تطبيق المسألة على الواقع -في الحقيقة- نجد أن قول الحنفية أقرب، وهذا الذي عليه العمل، بل لا يسع الناس إلا هذا القول.

وأيضًا مما يذكر هنا أن الشفق الذي يكون بعد غروب الشمس هو الشفق الذي يكون قبل غروب الشمس، لاحظت؟ يعني وقت دخول الفجر الصادق، لو حسبت المدة الزمنية ما بين وقت دخول الفجر الصادق إلى طلوع الشمس، هو الوقت نفسه ما بين غروب الشمس إلى غروب الشفق، يعني دخول وقت العشاء، فمثلًا: لو كان ما بين طلوع الفجر الصادق إلى طلوع الشمس ساعةً، فيكون أيضًا ما بين غروب الشمس وغروب الشفق ساعةً؛ لأنه هو نفسه، لكن منعكس، يعني شفق العشاء هو انعكاسٌ عن شفق الفجر، وهذا نص عليه بعض الفقهاء، وممن نص على هذا ابن حزمٍ، ونص عليه ابن قتيبة وغيرهما، لكن أشكل على هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، قال: “إن الشفقين غير متطابقين”، وهذا في الحقيقة هو محل إشكالٍ؛ إذ إن الواقع أنهما متطابقان، لكن شيخ الإسلام ينطلق رحمه الله من أن وقت الفجر لا يمكن حدُّه بحدٍّ محدودٍ؛ تارةً يتقدم، وتارةً يتأخر، بحسب صفاء الجو، وهكذا وقت العشاء لا يمكن ضبطه بحدٍّ محدودٍ؛ تارةً يتقدم، وتارةً يتأخر بحسب أيضًا صفاء الجو، بحسب الرطوبة، لكن بشكلٍ عامٍّ الشفقان متطابقان، وهذا أمرٌ متقررٌ حتى عند أهل الفلك في الوقت الحاضر، يعني من وقت ابن حزمٍ إلى وقتنا هذا وأهل الفلك متفقون على هذا، على تطابق الشفقين.

والغالب أن الشفق، سواءٌ شفق الفجر أو شفق العشاء، الغالب أنه يكون في حدود ساعةٍ، وبالتجربة والحساب لا يزيد على ساعةٍ وثنتي عشرة دقيقةً، في الصيف يصل إلى ساعةٍ وثنتي عشرة دقيقةً، بينما في التقويم -تقويم أم القرى- مثبتٌ على كم؟ ساعةٍ ونصفٍ، طبعًا ساعة ونصف هنا فيه تأخيرٌ، قصدوا بهذا التأخير التوسعة، لكن في الحقيقة وقت العشاء يدخل قبل هذا، قبل ساعةٍ ونصفٍ، وإذا أردت أن تضبط وقت العشاء، فهناك ساعة الفجر أو العصر، تعطيك الوقت الصحيح للفجر وللعشاء يوميًّا، ساعة الفجر أو العصر، تضعها على تقويم “الإسنا” -تقويم جمعية المسلمين بأمريكا الشمالية- تعطيك الوقت الصحيح للفجر وللعشاء يوميًّا، ستجد أن العشاء يدخل وقته قبل ساعةٍ ونصف بكثيرٍ، أحيانًا يدخل وقت العشاء قبل ساعةٍ ونصفٍ بنصف ساعةٍ، يعني بعد ساعةٍ، هذه الأيامَ يدخل تقريبًا بعد غروب الشمس بساعةٍ، يعني قبل الأذان بنحو نصف ساعةٍ، في الصيف فقط يصل إلى ساعةٍ وثنتي عشرة دقيقةً، وهذا كما ذكرت يمكن ضبطه بالحساب عن طريق تقويم “الإسنا” في ساعة الفجر وساعة العصر.

طالب: غروب الشفق الأحمر؟

الشيخ: الشفق الأحمر يغرب بسرعةٍ، ما يمكث كثيرً أحيانًا من عشر دقائق إلى ربع ساعةٍ، والذي عليه عمل الناس هو أن المقصود بالشفق الشفق الأبيض، هذا الذي عليه عمل الناس من قديم الزمان، ثم أيضًا: في بعض الأحيان ما يكون هناك أصلًا حمرةٌ، يكون وقت غروب الشمس، ثم تزول الحمرة مباشرةً.

الطالب:

الشيخ: هذا صحيحٌ، لكن فيه إشكالٌ عند تطبيقه على الواقع، كان هذا هو الذي في ذهني، لكن لما طبقته على الواقع لم أستطع تطبيقه، ما تجد حمرةً خاصةً عندنا هنا في بلادنا، ربما في بعض البلاد التي يكون فيها رطوبةٌ قد يكون الواقع يختلف، لكن عندنا هنا في المملكة ما تجد حمرةً تمتد وقتًا طويلًا، وقتٌ قصيرٌ جدًّا، ثم تزول الحمرة، ما يبقى إلا بياضٌ، وأنت راقب هذا، إذا خرجت لأي مكانٍ راقب غروب الشمس، وانظر كم تبقى الحمرة، ما تبقى وقتًا طويلًا، فالقول بأنه الأحمر فيه إشكالٌ كبيرٌ، معنى ذلك: أن صلاتنا تقع بعد خروج الوقت، ثم أيضًا هذا يتعارض مع صلاة النبي عليه الصلاة والسلام، قراءته سورة الأعراف والمرسلات والطور، هذا وقتٌ طويلٌ، خاصة قراءة سورة الأعراف، لا تقل عن نصف ساعةٍ، قطعًا لو كان المقصود به الأحمر الذي يظهر لكان النبي عليه الصلاة والسلام صلى بعد خروج الوقت، وهذا محالٌ.

الطالب:

الشيخ: الأحمر يختلف حسب صفاء الجو، الحمرة تظهر مع الرطوبة، يختلف بحسب الأيام، ما تستطيع أن تضع لها ضابطًا، أحيانًا يمتد الوقت، وأحيانًا يقصر، وأحيانًا يصل لعشر دقائق، وأحيانًا قريبًا من هذا الوقت، لكنه وقتٌ قصيرٌ بكل حالٍ، وقتٌ قصيرٌ جدًّا.

هذه المسألة الحقيقة نحن نقرأها في الكتب، لكن عند تطبيقها في الواقع وجدنا الواقع مختلفًا، ولم أجد من نبَّه على هذا؛ المسألة فيها إشكالٌ المسألة عندما تطبقها على الواقع تجد أن فيها إشكالًا، تجد أن قول الجمهور: الشفق الأحمر، بينما الواقع ما ترى إلا شفقًا أبيض، ما ترى أحمر، الأحمر فقط وقت غروب الشمس، ثم يزول، إلا إذا كان الجو فيه رطوبةٌ فقد تطول الحمرة.

ولذلك التقاويم على أنه الشفق الأبيض، ليس هناك تقويمٌ يعمل بالشفق الأحمر، كل التقاويم الموجودة على الشفق الأبيض.

فلعل القول الأقرب -والله أعلم- هو قول الحنفية في هذه المسألة.

يقول عليه الصلاة والسلام: إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم [19]، علة الأمر بالإبراد هل منصوصٌ عليها، أم غير منصوصٍ عليها؟ منصوصٌ عليها، وهي ماذا؟ شدة الحر، طيب إذا لم توجد شدة الحر لأي سببٍ، ومن هذه الأسباب وجود المكيفات، فمعنى ذلك، مفهوم الحديث: أنا لا نُبرِد بالصلاة، قال: إذا اشتد الحر، مفهوم ذلك: إذا لم يشتد الحر لا يكون الإبراد بالصلاة، فالعلة الآن منصوصٌ عليها، لو كانت العلة غير منصوصٍ عليها فنعم، فنقول بالتأخير مطلقًا، يعني بالإبراد مطلقًا، لكن هذه العلة منصوصٌ عليها، ومع وجود المكيفات لا توجد شدة الحر؛ لأن المقصود من هذا الحديث: أن شدة الحر تُذْهِب الخشوع؛ ولذلك أُمر بالإبراد؛ حتى يحصل الخشوع، والواقع أن مع وجود المكيفات لا تحصل شدة الحر؛ ولذلك نقول: الظاهر -والله أعلم- أنه لا تطبق سنة الإبراد في المساجد المكيفة.

فإن قال قائل: هل معنى هذا: تعطيل هذه السنة؟ نقول: لا، تطبق هذه السنة في المساجد التي لا يكون فيها مكيفاتٌ، أو مثلًا في بعض البلدان التي لا يكون فيها مكيفاتٌ، أو مثلًا في السفر، أو في الخروج للبرية، أو نحو ذلك، فتطبق السنة في هذا، وهذا له نظائر، مثلًا: الصلاة في النعال، السنة قد وردت بالصلاة في النعال [20]، وأَمَر النبي عليه الصلاة والسلام بالصلاة في النعال، وقال: خالفوا اليهود [21]، لكن لو طُبِّقت هذه السنة، ودخل الناس بنعالهم يصلون، لأدى هذا إلى مفسدة أن تصبح المساجد وكرًا للقذر والأذى، فنقول: لا تطبق هذه السنة في المساجد المفروشة الآن، لكن يمكن أن تطبق في غير المساجد المفروشة، تطبق مثلًا عندما يصلي الإنسان في السفر، تطبق مثلًا في المساجد غير المفروشة، في غير المساجد المفروشة هذا له نظائر.

فهذا هو الأقرب -والله أعلم- في هذه المسألة، وهذا هو الذي عليه عمل الناس الآن، حتى مع شدة الحر لا يؤخرون الصلاة إلى حين الإبراد، لكن ربما في بعض البلدان لا تكون عندهم مكيفاتٌ فهنا نقول: السنة تأخير الصلاة إلى حين الإبراد، أو مثلًا لو خرجوا في بريةٍ، أو في سفرٍ أو نحو ذلك، أو مثلًا كانوا في مدرسةٍ، ولم يكن عندهم مكيفاتٌ ليست بذات الجودة، أو نحو ذلك يلحق الناس أذى من شدة الحر، فنقول: السنة تأخير الصلاة إلى آخر وقتها، إلى حين الإبراد.

الطالب: الماء يصير حارًّا…

الشيخ: لكن كلامنا في شدة الحر التي تؤثر على الخشوع، المقصود بشدة الحر التي تكون أثناء أداء الصلاة.

الطالب: ما يستطيعون…

الشيخ: طيب، هل هذا يزول بتأخير الظهر إلى آخر وقتها؟ ما يزول، إذا كان الماء حارًّا تستمر حرارة الماء إلى آخر النهار، الواقع أنها لا تزول، ليس هذا حلًّا الإبراد ليس حلًّا لزوال حرارة المياه، لكن بالنسبة للمساجد غير المكيفة لا شك أنها تنكسر شدة الحر.

الطالب:… العبرة بالوقت، وقت شدة الحر…

الشيخ: لكن العلة معقولةٌ، منصوصٌ عليها، هذا لو كانت غير منصوصٍ عليها، لكن هناك إيرادٌ يورده بعض الناس يقول: ربما كان هذا في المدينة وقت النبي عليه الصلاة والسلام، يقولون: إنه في وقتنا الحاضر ،حتى المساجد غير المكيفة، آخر وقت الظهر في الحرارة ربما يزيد على أول وقت الظهر، أليس كذلك؟ هذا موجودٌ في بعض البلدان، فإذا كان ذلك كذلك لا يستفاد من الإبراد، في بعض البلدان آخر وقت الظهر ربما يزيد حرارةً على أول وقتها، فلا يستفاد من الإبراد إذنْ، لا بد إذنْ أن يكون هناك فائدةٌ واضحةٌ من الإبراد، فإذا كان في عهد النبي عليه الصلاة والسلام فائدةٌ واضحةٌ، تنكسر شدة الحر، لكن في بعض البلدان لا تنكسر شدة الحر، تستمر، فهنا إذا لم يكن هناك فائدةٌ من الإبراد فلا تؤخر صلاة الظهر، تبقى على الأصل، وهو الأصل أن تؤدى في أول وقتها.

الطالب: لماذا لا يقال: إن العلة هنا أنها تُسجَّر جهنم؟ النبي قال: إذا اشتد الحر فأبردوا بالظهر؛ فإنها من فيح جهنم [22]، فإذا كانت من فيح جهنم فتُربط العلة بهذه العلة.

الشيخ: لا، هنا قال: إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم، مفهوم الحديث: إذا لم يشتد الحر لا تُبردوا بالصلاة.

الطالب: لكن هنا مُشتدٌّ، الحر، لكن في المسجد الجو…

الشيخ: لا، العلة لماذا أمر الشارع بالإبراد عند اشتداد الحر؟ لأن ذلك يُذهب الخشوع، وقوله: من فيح جهنم، هذا للتوضيح فقط، وهو أن شدة الحر تُذهب الخشوع، هذا هو الظاهر -والله أعلم- من هذا الحديث؛ فلذلك نحن قلنا: العلة منصوصٌ عليها: إذا اشتد الحر، فإذا لم يشتد الحر فمعنى ذلك أنه لا يشرع الإبراد، هو قال: شدة الحر من فيح جهنم؛ لأن الحر والبرد الشديد من جهنم، كما ورد في الحديث: اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا ربِّ أكل بعضي بعضًا، فأَذِن لها بنفَسَين: نفسٍ في الشتاء، ونفسٍ في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الزَّمْهرير، وأشد ما تجدون من الحر [23]، هذا لا شك أنه من جهنم، وظاهر الأدلة تدل على أن النار موجودةٌ في الأرض، لكن أول الحديث يدل على أن المقصود: هو تفويت الخشوع؛ ولذلك قال: إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فأبردوا، فالمقصود: أن شدة الحر تُذهب الخشوع.

إذنْ هذا بالنسبة للظهر.

بالنسبة للعصر: السنة في العصر أن تصلَّى في أول وقتها، وقد كان هذا هو هدي النبي ، أنه كان يصليها في أول وقتها، كما دل لذلك عدة أحاديث؛ منها: حديث أبي برزة الأسلمي قال: كان رسول الله يصلي العصر، ثم يرجع أحدنا إلى رَحله في أقصى المدينة والشمس حيةٌ [24]، متفقٌ عليه.

وأيضًا كما في حديث رافع بن خَديجٍ : “كنا نصلي مع رسول الله صلاة العصر، ثم ننحر الجزور، فيُقسم عشرة أجزاءٍ، ثم نطبخ فنأكل لحمًا نضيجًا قبل غروب الشمس [25]، متفقٌ عليه، يظهر أن هذا كان في وقت الصيف، وإلا، ففي وقت الشتاء الوقت قصيرٌ، لكن في وقت الصيف وقت العصر طويلٌ، فهذا يدل على أن السنة تعجيل صلاة العصر في أول وقتها.

كذلك أيضًا بالنسبة للمغرب: السنة تعجيلها في أول وقتها، وتعجيل المغرب آكد من غيرها؛ لحديث جابرٍ كان النبي يصليها -يعني المغرب- إذا وجبت، يعني: إذا غربت الشمس [26]، لكن هل المقصود بعد غروب الشمس مباشرةً أم لا؟ بعض العلماء قال: إنه بعد غروب الشمس مباشرةً، يعني: يؤذن ثم يقيم، ولكن هذا القول محل نظرٍ، والصواب: أن ينتظر الإمام قليلًا، وقد كان عليه الصلاة والسلام ينتظر حتى يصلي الصحابة ركعتين، قال في حديث عبدالله بن مغفَّلٍ في “الصحيحين”: صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب قال في الثالثة: لمن شاء [27]، وكان الصحابة يبتدرون السواري يصلون ركعتين قبل المغرب، فهذا يدل على أن السنة أن يكون هناك فاصلٌ بين غروب الشمس وبين إقامة صلاة المغرب، يعني بين الأذان والإقامة في المغرب، لكن عشر دقائق يظهر أنها طويلةٌ، يظهر أن الفاصل بقدر ما تؤدَّى ركعتان فقط، وظاهر السنة: أنه لم يكن الفاصل بين الأذان والإقامة في عهد النبي كثيرًا، بل كان يسيرًا، حتى بين الأذان والإقامة بالنسبة لصلاة الفجر؛ كما جاء في حديث زيد بن ثابتٍ : قدر قراءة خمسين آيةً [28] قدَّرها ابن حجرٍ بثُلث خُمس ساعةٍ، يعني: أربع دقائق، في حدود أربع إلى خمس إلى سبع دقائق، وهكذا بقية الأوقات لم يكن الفاصل بين الأذان والإقامة كثيرًا في عهد النبي ، وهذا خلاف ما عليه الناس الآن.

أما بالنسبة للعشاء: فالسنة كما قلنا تأخيرها إلى ثلث الليل، إن لم يشق ذلك على الناس؛ لما ذكرنا من حديث عائشة رضي الله عنها، أن النبي  تأخر حتى ذهب عامة الليل، فقام إليه عمر، وقال: رقد النساء والصبيان، فخرج ورأسه يقطر، فقال: إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي [29]، رواه مسلمٌ؛ ولحديث أبي هريرة : لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه [30]، رواه الترمذي، وقال: “حسن صحيح”، لكن إذا كان يشق على الناس فتصلى في أول وقتها، والذي عليه عمل الناس الآن: أنهم يصلون العشاء في أول وقتها؛ خشية المشقة، لكن النساء في البيوت يُرشَدْن إلى أن يؤخرن العشاء إلى ثلث الليل.

وجاء في حديث النعمان بن بشيرٍ : أن النبي كان يصلي العشاء حين غروب القمر لليلة الثالثة [31]، وغروب القمر لليلة الثالثة غالبًا يكون بعد غروب الشمس بنحو ساعتين، ونحن الآن نؤدي صلاة العشاء بعد غروب الشمس تقريبًا بنحو ساعتين، يعني في هذا الوقت، لكن إذا تيسر تأخيرها إلى ثلث الليل من غير مشقةٍ فهذا هو الأفضل.

الفجر أيضًا: السنة تعجيلها بعد طلوع الفجر الصادق، وذلك؛ لأن النبي كان يصليها بغَلَسٍ، ومعنى “غلس”: اختلاط ظلمة آخر الليل بأول النهار، وكان ينصرف منها حين يعرف الرجل جليسه، وكان يقرأ فيها بالستين إلى المئة، ويظهر أنه كان تارةً يَظهر الإسفار، وتارةً لا يظهر؛ لأنه ورد في حديث عائشة رضي الله عنها، أن النساء كن يصلين بغَلَسٍ، ثم يخرجن ولا يُعْرَفن من شدة الغَلَس [32]، وأيضًا في الحديث الآخر: أنه كان ينصرف منها حين يعرف الرجل جليسه [33]، يعني: بدء الإسفار، وأما حديث: أسفروا بالفجر؛ فإنه أعظم لأجوركم [34]، حديثٌ صحيحٌ، رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه بسندٍ صحيحٍ.

قال بعض العلماء: إن المراد لا تتعجلوا حتى يتبين الإسفار، وتتحققوا من طلوع الفجر، وقال بعضهم: إن المقصود بقوله: أسفروا، يعني: أطيلوا القراءة في صلاة الفجر حتى تنصرفوا منها وقد بدا الإسفار.

وهذا هو القول الأقرب والله أعلم، فيكون من يدخل في صلاة الفجر يدخل فيها بغَلَسٍ، وينصرف منها وقد بدا شيءٌ من الإسفار، هذا هو الأقرب في معنى الحديث.

فإذنْ نستطيع أن نأخذ قاعدةً عامةً، وهو: أن الأفضل أن تؤدَّى جميع الصلوات في أول وقتها، ما عدا صلاتين، وهما ماذا؟ الظهر عند شدة الحر، فيسن تأخيرها إلى الإبراد، والعشاء إلى ثلث الليل.

قال:

وتَحصل الفضيلة بالتأهب أول الوقت.

يعني: الصلاة في أول الوقت أفضل، وإذا تأهب الإنسان أول الوقت، حصَّل وحاز على الفضيلة، خاصةً في وقتنا الحاضر الذي تؤخر فيه الصلاة ربما عن أول الوقت، ربما تؤخر في بعض المساجد إلى مثلًا ما بين الأذان والإقامة نصف ساعةٍ، فربما تَفوت فضيلة أول الوقت، لكن إذا تأهب الإنسان أول الوقت حصل على الفضيلة.

قضاء الصلاة الفائتة

قال:

ويجب قضاء الصلاة الفائتة مرتَّبةً فورًا.

انتقل المؤلف إلى الكلام عن قضاء الصلاة الفائتة، فقال المؤلف: إنه يجب قضاؤها، لكن اشترط المؤلف أن يكون القضاء مرتَّبًا، أما وجوب القضاء؛ فلقول النبي : من نام عن صلاةٍ أو نسيها فليصلها إذا ذكرها [35]، سواءٌ تركها لعذرٍ أو لغير عذرٍ، أما لعذرٍ فباتفاق العلماء، أما لغير عذرٍ فعند الجمهور.

وقال بعض العلماء: إن من ترك الصلاة لغير عذرٍ فإنها لا تصح منه ولا تقبل، وهو منقول عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ لقول النبي : من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ [36].

ولكن القول الراجح –والله أعلم- هو قول الجمهور، وهو أنها تصح ولو تركها لغير عذرٍ، لكنه يأثم بالتأخير.

حكم الترتيب في قضاء الفوائت

وقوله: “مرتَّبًا”، اختُلف في وجوب الترتيب في قضاء الفوائت، فالمذهب عند الحنابلة: أنه يجب الترتيب، لكنه يسقط بالنسيان، وبناءً على ذلك: لو أخل به لم تصح صلاته، وهذا القول من المفردات، ما معنى من المفردات؟ يعني انفرد به الحنابلة، وهذا يدل على أن المذاهب الأخرى على خلافه.

إذنْ القول الثاني، وهو قول أكثر العلماء: أن الترتيب لا يجب.

استدل الحنابلة لوجوب الترتيب بعموم قول النبي : من نام عن صلاةٍ أو نسيها فليصلها إذا ذكرها [37]؛ ولأن النبي لما فاتته أربع صلواتٍ في الخندق قضاها مرتبةً [38]، رواه أحمد والترمذي والنسائي، لكن الحديث في إسناده ضعفٌ؛ ولحديث حبيب بن سباعٍ: أن النبي  صلى المغرب عام الأحزاب، فلما فرغ قال: هل عَلِم أحدٌ منكم أني صليت العصر؟ قالوا: ما صليتها، فصلى العصر ثم أعاد المغرب [39]، وهذا الحديث رواه أحمد، لو صحَّ هذا الحديث لكان حجةً في هذه المسألة، لكنه حديثٌ ضعيفٌ لا يصح.

القول الثاني قول أكثر العلماء: أنه لا يجب الترتيب، وذلك؛ لأنه قضاءٌ لفريضةٍ فاتته، فلا يجب فيها الترتيب كالصيام، ولأنه ليس هناك دليلٌ ظاهرٌ يدل على وجوب الترتيب.

لكن الحنفية والمالكية قالوا: إنه لا يجب الترتيب في أكثر من صلاة يومٍ وليلةٍ، أما في صلاة اليوم والليلة فيجب الترتيب.

وأما الشافعية فقالوا: لا يجب الترتيب مطلقًا.

يَرِد على قول الحنابلة بوجوب الترتيب: لو أن رجلًا فاتته صلاةٌ من مدةٍ طويلةٍ، يعني من سنةٍ مثلًا، قال: إنه صلى بغير وضوءٍ، أو أنه صلى وعليه جنابةٌ، أو أنه صلى ناسيًا أن يتوضأ، أُفتيَ بأن عليه القضاء، فإذا قضاها فمعنى ذلك: أن الصلوات التي بعدها كلها غير مرتبةٍ، هل يُلزَم بقضاء الصلوات هذه الأعوام كلها؟

هذا مما يلزم على قول الحنابلة؛ لأن كل الصلوات وقعت بلا ترتيبٍ؛ ولهذا قال الحافظ ابن رجبٍ في “شرح البخاري”: “إيجاب قضاء سنين عديدةٍ ببقاء صلاةٍ واحدةٍ في الذمة، لا يكاد يقوم عليه دليلٌ قويٌّ”، فَهِمْتم -يا إخواني- ماذا يلزم على القول بوجوب الترتيب؟ لو فاتته صلاةٌ من سنين، صلاةٌ من خمس سنين، تذكرها وأُفتيَ بأن عليها أن يقضيها، قضاها، معنى ذلك: أن الصلوات في الخمس سنين كلها وقعت غير مرتبةٍ، هل يُلزَم بقضائها؟ هذا مما يلزم على قول الحنابلة في هذه المسألة، وهذا مما يضعف هذا القول، كما ذكر ابن رجبٍ.

وقال النووي: “المعتمد في المسألة أنها ديونٌ عليه؛ فلا يجب ترتيبها إلا بدليلٍ ظاهرٍ، وليس لهم دليلٌ ظاهرٌ، ولأن من صلَّاهن من غير ترتيبٍ فقد فعل الصلاة التي أُمر بها، فلا يَلزم وصفٌ زائدٌ بغير دليلٍ”.

وهذا هو القول الراجح، وهو قول الجمهور، وهو أنه لا يجب الترتيب في قضاء الصلوات؛ لأنه ليس هناك دليلٌ على وجوب الترتيب، ولِلَّازم الذي ذكرناه.

قال ابن رجبٍ -هذا من اللطائف لا يعتمد عليها، لكن نذكرها من اللطائف التي توجد في بعض كتب أهل العلم- قال ابن رجبٍ في “شرح البخاري”: أخبرني بعض أعيان شيوخنا الحنبليين: أنه رأى النبي في النوم، وسأله عما يقوله الشافعي وأحمد في هذه المسألة: أيها أرجح؟ قال: ففهمت منه أنه أشار إلى رجحان ما يقوله الشافعي”.

طبعًا الرؤى لا يستفاد منها أحكامًا شرعيةً، هي للبشارة والنذارة، لكن قلت: إن هذا من اللطائف التي ذكرها صاحب “الإنصاف”، وذكرها ابن رجبٍ في “فتح الباري”، فهي من اللطائف التي لا يعتمد عليها، لكن تُذكر من باب الاستئناس أو الفائدة.

إذنْ القول الراجح هو القول بعدم وجوب الترتيب في قضاء الصلوات.

حكم التنفل لمن عليه صلاةٌ واجبةٌ

قال المؤلف:

ولا يصحُّ النفلُ المطلقُ إذنْ.

يعني: قبل القضاء، يعني: لا يصح أن يتنفل وعليه صلاةٌ واجبةٌ.

قال:

كصوم نفلٍ ممن عليه قضاء رمضان.

فالمذهب عند الحنابلة: أنه لا يصح للإنسان أن يتنفل وعليه قضاءٌ واجبٌ، لا يصح أن يتنفل مثلًا الست من شوالٍ، أو مثلًا يتنفل بصوم عرفة أو عاشوراء وعليه قضاءٌ واجبٌ، هذا هو المذهب عند الحنابلة، فقاسوا عليه الصلاة.

ولكن الصحيح: أنه لا بأس أن يتنفل، ولو كان عليه قضاءٌ واجبٌ، هذا هو القول الصحيح في المسألة.

وبناءً على ذلك: لا بأس أن يأتي بالنفل المطلق ولو كان عليه صلواتٌ لم يقضها.

الحنابلة استثنوا من هذه المسألة، قالوا:

ويَسقط الترتيب بالنسيان.

لعموم قول الله تعالى: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأنَا [البقرة:286]، وأضاف بعضهم: “والجهل”، والمذهب عند الحنابلة أنه لا يسقط بالجهل، كما في “المغني” و”الإنصاف”.

الحالة الثانية التي يسقط فيها الترتيب، قالوا: “بضيق الوقت ولو للاختيار”، يعني: إذا ضاق الوقت وخشي خروج وقت الاختيار، وإذا خشي خروج الوقت كله من باب أولى، فعندهم أنه يسقط الترتيب، إذنْ إذا خشي خروج الوقت، ولو كان الوقت الاختياري أو الوقت كله، فعندهم أنه لا يجب الترتيب.

وعلى القول الراجح لا نحتاج لهذا الاستدلال كله، نقول: إن القول الراجح: أنه لا يجب الترتيب في قضاء الفوائت مطلقًا.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه أبو داود: 495، وأحمد: 6689.
^2 رواه أبو داود: 495.
^3 رواه البخاري: 6954، ومسلم: 225.
^4, ^11, ^15, ^16 رواه مسلم: 612.
^5, ^9 رواه أبو داود: 393، والترمذي: 149.
^6, ^24 رواه البخاري: 547، ومسلم: 647.
^7, ^8, ^10, ^22, ^37 سبق تخريجه.
^12 رواه البخاري: 579، ومسلم: 608.
^13 رواه البخاري: 557.
^14 رواه البخاري: 1954، ومسلم: 1100.
^17 رواه البخاري: 764 بنحوه.
^18 رواه أبو داود: 2348، والترمذي: 705، وقال: حسنٌ.
^19 رواه البخاري: 536، ومسلم: 615.
^20 رواه البخاري: 386، ومسلم: 555.
^21 رواه أبو داود: 652.
^23 رواه البخاري: 3260، ومسلم: 617.
^25 رواه البخاري: 2485، ومسلم: 625.
^26 رواه البخاري: 560، ومسلم: 646.
^27 رواه البخاري: 627، ومسلم: 838.
^28 رواه مسلم: 1097.
^29 رواه مسلم: 638.
^30 رواه الترمذي: 167.
^31 رواه أحمد: 18377.
^32 رواه البخاري: 578، ومسلم: 645.
^33 رواه البخاري: 541، ومسلم: 461.
^34 رواه أبو داود: 424، والترمذي: 154، وقال: حسنٌ صحيحٌ، والنسائي: 1543، وابن ماجه: 672، وأحمد: 17257.
^35 رواه مسلم: 680.
^36 رواه مسلم: 1718.
^38 رواه الترمذي: 179، والنسائي: 1638، وأحمد: 3555.
^39 رواه أحمد: 16975.
zh