جدول المحتويات
قال المصنف رحمه الله:
أمنية أهل الجنة وأهل النار
أما أهل النار فواضح أنهم يتمنون أن يُرَدُّوا إلى الدنيا لكي يعملوا صالحًا؛ كما قال سبحانه: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر: 37]، وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام: 27]. لكن لو رُدُّوا؛ هل سيستقيمون؟ لا، بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ [الأنعام: 28]؛ سبحان الله! ما أطغى العقل البشري! يرى النار أمامه، ولو رُدَّ لَعَادَ لِمَا نُهِيَ عنه.
فإذَن؛ هذه الدار يتمناها أهل النار لكي يعملوا صالحًا، وأيضًا يتمناها أهل الجنة؛ لأنهم يَرَوْن أن كل شيء مرتب على العمل في هذه الدنيا، وأنه على مقدار العمل تكون منزلة الإنسان في الجنة.
ما يرى الإنسان بعد الموت بشأن عمله
يا إخواني، إذا مات الإنسان يرى أن كل شيء مرتب على العمل، كل شيء، وأن كل شيء مُحصًى؛ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ [لقمان: 16]، وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء: 47]؛ أي: كل عمل تعمله ستجده مُحصًى، حتى مثاقيل الذرّ، تُحصى الأعمال كلها على ابن آدم ثم تُوزَن في الميزان؛ الحسنات في كفة، والسيئات في كفة؛ فإن رجحت كفة الحسنات -ولو بحسنة واحدة- كان من أهل الجنة؛ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 8]، فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [القارعة: 6، 7]. وإن رجحت كفة السيئات -ولو بسيئة واحدة- كان من أهل النار -إلا أن يعفو الله عنه-؛ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ [القارعة: 8-11].
والقسمة العقلية المنطقية تقول: إما أن ترجح كفة الحسنات، وإما أن ترجح كفة السيئات. لكن هناك قسم ثالث؛ ما هو؟
طالب: التساوي.
أحسنت، تتساوى الحسنات والسيئات لطائفة من البشر. سبحان الله! ما تزيد كفة الحسنات ولا بحسنة واحدة، ولا أيضًا ترجح كفة السيئات ولا بسيئة واحدة، هؤلاء هم "أهل الأعراف"؛ من تمام عدل الله أنهم لا يتساوون مع أهل الجنة في دخول الجنة، بل يُحبَسون في مكانٍ بين الجنة والنار، ثم يدخلون الجنة برحمة أرحم الراحمين؛ ذكر الله شأنهم في سورة الأعراف.
هذه النتيجة العامة، بعد ذلك هناك نتيجة تفصيلية؛ إذا دخل أهل الجنة الجنة، في أي مرتبة يكونون؟ الجنة درجات، وما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فعلى مقدار العمل أيضًا تكون درجة الإنسان في الجنة. النار أيضًا دركات، وعلى مقدار الذنوب يكون موضعه في النار؛ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: 145]. إذَن؛ كل شيء مرتب على العمل، ولذلك يتمنى أهل الجنة وأهل النار أن لو يُرَدُّون إلى الدنيا لكي يعملوا صالحًا، ولكن هيهات! ولهذا؛ ما من ميت يموت إلا وقد ندم، إن كان محسنًا ندم ألا يكون قد ازداد، وإن كان مسيئًا ندم ألا يكون قد استَعْتَب وتاب.
أرواح الشهداء بعد الموت
قال:
هذا قد ورد بهذا اللفظ، وورد أيضًا بلفظ آخر؛ وهو: أن روح المؤمن تكون على شكل نسمة طائر تسرح في الجنة حيث شاءت.
الإنسان إذا مات؛ روحه تفارق جسده، الجسد يوضع في التراب، ويصبح مع مرور الوقت ترابًا تأكله الديدان، إلا الأنبياء ومَن شاء الله من الصديقين والشهداء. أما الروح؛ إن كان من أهل الجنة تصعد للجنة وتكون على شكل نسمة طائر، وإن كان من أهل النار يكون في سِجِّين.
قال:
هذا ليس في الصحيح.
هذا إنما ورد للشهداء خاصة؛ ولذلك قالوا: ثم تردنا إلى الدنيا فنُقتَل فيك مرةً أخرى. وهذا محالٌ أن أحدًا مات يُرَدُّ إلى الدنيا.
قال:
فهنا جمع المؤلف هذا الحديث من عدة أحاديث، وجمعها في هذا الحديث وإلا ليست حديثًا واحدًا.
هل حياة الشهداء عند ربهم خاصة بهم وحدهم؟
قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: إن هذا ليس خاصًّا بالشهداء؛ بل أحياء عند ربهم يرزقون، ليس خاصًّا بالشهداء، وإنما يشمل جميع المؤمنين؛ وإنما ذكر الله تعالى الشهداء لأن الناس يعتقدون أن الإنسان إذا قُتِل في سبيل الله فإنه قد مات، فبيَّن الله تعالى أنهم أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [آل عمران: 169، 170]، وأن هذا ليس خاصًّا بالشهداء، وإنما يشمل المؤمنين جميعًا.
والحاصل: أن الإنسان إذا مات فإنه يندم ويتمنى الرجوع إلى الدنيا لكي يعمل صالحًا! وها نحن الآن في دار العمل، فينبغي أن نتزود ما دام باب العمل مفتوحًا، وما دام باب التوبة مفتوحًا!