والآن أصبحت منى لا تتسع لجميع الحجاج، قد يكون ما لا يقل عن ربع الحجاج تضيق بهم منى، فيبيتون في أقرب مكان يلي منى -مثلًا من جهة مزدلفة أو من جهة العزيزية-؛ لأنه يَصدُق بذلك عليه أنه اتقى الله ما استطاع، كمَن أتى المسجد الجامع يوم الجمعة ولم يجد له فيه مكانًا وصلى خارج المسجد، تصح صلاته بالإجماع؛ لأنه اتقى الله ما استطاع. وقال بعض العلماء المعاصرين: إن مَن لم يجد مكانًا في منى سقط عنه وجوب المبيت؛ ولكن الأقرب أنه لا يسقط، وإنما يبيت في أقرب مكان يلي منى؛ هذا هو الأظهر في هذه المسألة -والله تعالى أعلم-.
من واجبات الحج
أيضًا من واجبات الحج.
رمي الجمار مرتبًا
لقول النبي : بمثل هذه فارموا[1] فأمَرَ بالرمي، ولقوله : إنما جُعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار؛ لإقامة ذكر الله[2]، ولفِعل النبي ؛ وقد قال: خذوا عني مناسككم[3]؛ فالرمي من واجبات الحج.
حُكم الرمي قبل الزوال
وترد ها هنا مسألة يكثر السؤال عنها؛ وهي الرمي قبل الزوال:
فجمهور الفقهاء على أنه لا يجزئ؛ لأن النبي إنما رمى بعد الزوال، وقد قال: خذوا عني مناسككم؛ ولهذا كان الصحابة يتحيَّنون الرمي بعد الزوال. وذهب بعض الفقهاء إلى أنه يجزئ الرمي قبل الزوال في اليوم الثاني عشر، وهو قولٌ عند الحنفية وروايةٌ عند الحنابلة؛ لأن الله تعالى قال: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [البقرة: 203].
قالوا: فالله تعالى قال: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ واليوم يبدأ من طلوع الفجر، فمَن رمى في اليوم الثاني عشر قبل الزوال يَصدُق عليه أنه تعجَّل في يومين.
قالوا: ولا دليل يدل على المنع من الرمي قبل الزوال في اليوم الثاني عشر؛ ومما يدل لهذا أن النبي رخَّص للرعاة في أن يجمعوا رميَ يومٍ إلى اليوم الذي بعده، مما يدل على أن كل هذا وقتٌ للرمي، والترخيص لهم في الانتقال من وقتٍ إلى وقتٍ يدل على أن هذا الوقت كله وقتٌ للرمي، كما أنه وقتٌ للذبح، كما أنه وقتٌ للتكبير؛ وأما فِعل النبي فيدل على الاستحباب، وكذلك تحيُّن الصحابة؛ لأن الصحابة عندهم حرص شديد على السُّنة.
ثم إن النبي كان يحرص على أن تكون أفعاله في أوقات الصلوات؛ لأن الناس متفرقون في منى، فإذا أتى وقت الصلاة اجتمعوا وصلى بهم النبي في مسجد الخَيْف. فالرمي فجرًا أو بعد صلاة الفجر غير مناسب؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان يرمي بغَلَس، ولم يكن هناك كهرباء ومصابيح، ثم إن الرمي يبدأ بعد الفجر، فالرمي بعد الفجر غير مناسب.
أنسب الأقوال أن الناس يجتمعون لصلاة الظهر فيرمي، ثم بعد ذلك يجتمعون للصلاة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام يريد من الصحابة أن ينظروا إليه ويقتدوا به ويتأسوا به، فهم يجتمعون في أوقات الصلوات، فهذا يدل على أن هذا الوقت هو الأفضل للرمي، لكنه ليس صريحًا في عدم إجزاء الرمي قبل الزوال؛ ولذلك مَن رمى في اليوم الثاني عشر قبل الزوال فلا يُنكر عليه؛ لأنه قولٌ قوي -كما تَرَوْن-، ولكن يُوَجَّه الناس ابتداءً بالحرص على السُّنة، وأن يجعلوا الرمي بعد الزوال؛ لأن هذا هو فِعل النبي وفِعل خلفائه الراشدين من بعده، ولأن هذا فيه خروج من الخلاف وإبراء للذمة؛ فالأفضل أن يُجعل الرمي بعد الزوال.
وينبغي للقائمين على الحملات أن يحملوا الناس على السُّنة، وألَّا يحرجوا الناس؛ لأن بعض الناس قد يتحرج أيضًا، لأنه يجد مَن يفتيه بأن الرمي قبل الزوال لا يجزئ، فيتحرج بعض الحجاج؛ ولهذا ينبغي للقائمين على الحملات أن يحملوا الناس على السُّنة، وأن يجعلوا الناس يؤدون هذه العبادة وهم مطمئنون.
فإذَن؛ هذه المسألة -كما تَرَوْن- فيها الخلاف الذي أشرت إليه، والقول بالإجزاء -بإجزاء الرمي قبل الزوال- قولٌ قوي. بل إنني أقول: إن القول بإجزاء الرمي قبل الزوال أولى بالجواز من الرمي ليلًا؛ لأن -على الأقل- الرمي قبل الزوال فيه الآية الكريمة: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة: 203]. بينما الرمي ليلًا؛ جمهور الفقهاء المتقدمين يمنعون منه، ومع ذلك جمهور العلماء المعاصرين أجازوا الرمي ليلًا، فالرمي قبل الزوال أولى بالجواز من الرمي ليلًا، فينبغي عدم التشديد في هذه المسألة؛ لأن أيضًا بعض طلبة العلم يشدد فيها وينكر، فهذا التشديد ليس في محله، لكن يُوَجَّه الناس إلى السُّنة.
الحلق أو التقصير
قال:
أي: أنه واجب؛ لأن الله تعالى جعل الحلق أو التقصير وصفًا للحج والعمرة، فقال: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ [الفتح: 27]، وقد ورد هذا في سياق الامتنان؛ ولقول النبي : وَلْيُقَصِّرْ وَلْيَحْلِلْ[4]، ولأنه دعا للمُحَلِّقين ثلاثًا، وللمُقَصِّرين مرة واحدة. وأما النساء فالمشروع في حقهنَّ التقصير دون الحلق، وهذا بالإجماع.
وهنا أُوجِّه وأقول: مَن حج أو اعتمر ينبغي أن يحرص على السُّنة، والسُّنة هي الحلق، والتقصير جائز، لكن السُّنة هي الحلق، فأنت ذهبتَ إلى تلك البقاع وتلك الأماكن تبتغي فضلًا من الله ورضوانًا، فاختر ما هو الأكمل والأفضل -وهو الحلق-، خاصةً إذا كان الإنسان طالب علم ويُقتدى به ليس مناسبًا أنه يختار التقصير، وهو يَعلَم ويُعلِّم الناس بأن الحلق أفضل من التقصير؛ فأين أثر العلم عليه؟!
أنا أعجب من بعض طلبة العلم يأتي يعتمر أو يحج، لكن يقصر، ما يحلق! طيب، أَلَستَ قرأتَ وتعلمتَ، وربما أنك تعلم الناس بأن الحلق أفضل من التقصير؛ فأين التطبيق؟! والنبي دعا للمُحَلِّقين ثلاثًا وللمُقَصِّرين مرة واحدة. إلا في حالة واحدة يكون التقصير فيها أفضل من الحلق؛ وهي ما إذا كان قدومه قريبًا من وقت الحج -وهي حالة أكثر الحجاج الآن- ويريد أن يتمتع؛ أتى مثلًا يوم الرابع أو الخامس أو السادس أو السابع أو الثامن، ويريد أن يتمتع، فهنا إذا أتى بعمرة فالأفضل أن يقصر ولا يحلق؛ لأجل أن يجعل الحلق للحج، لأن الحج أفضل من العمرة، هذه الحالة الوحيدة التي يكون التقصير فيها أفضل من الحلق، وما عدا ذلك فالحلق أفضل.
الحلق المقصود به: استئصال جميع الشعر، وذلك يكون بالموس، وأما الماكينة فإنها لا تستأصل جميع الشعر. طيب، حتى لو كانت على رقم صفر؟ نعم، حتى لو كانت على رقم صفر؛ لأنها ما تستأصل جميع الشعر، لكن أخبرني بعض الإخوة أنه وُجدت الآن ماكينات تستأصل جميع الشعر كالموس، لكنها لم تنتشر بعد، هذه الماكينات يمكن أن يقال إنها حلق.
موجودة وتستأصل جميع الشعر؟
الأخ الكريم يقول إنها موجودة الآن، وبدأت بالانتشار، فهذه الماكينات تُعتبر حلقًا. أما الماكينات المعروفة الآن عند أكثر الحلاقين؛ هذه تعتبر تقصيرًا وليست حلقًا.
وإذا اختار الإنسان التقصير فلا بُدَّ أن يكون التقصير شاملًا لجميع الشعر، فلا يصح أن يكون لأجزاءٍ من الشعر كما يفعل بعض الناس، يأخذ من هنا شعرتين ومن هنا شعرتين ومن هنا شعرتين؛ هذا لا يجزئ، لا بُدَّ أن يكون شاملًا لجميع الرأس، كما أنه لا يجزئ مسح بعض شعرات الرأس في الوضوء، فكذلك أيضًا بالنسبة للتقصير.
طواف الوداع
أيضًا من واجبات الحج:
لقول النبي : لا ينفرنَّ أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت[5]، ولقول ابن عباس: "أُمِرَ الناسُ أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خُفِّف عن الحائض والنفساء".
لكن يرد هنا إشكال: وهو أنه لو كان طواف الوداع من واجبات الحج لَوَجب على جميع الحُجاج -المقيم والمسافر-، وطواف الوداع لا يجب على أهل مكة ولا على مَن أقام بمكة؛ فكيف نعتبره من واجبات الحج؟! ولهذا بعض العلماء يقول إنه لا بُدَّ من تقييد هذا الواجب بأن يقال: طواف الوداع واجب إلا على أهل مكة ومَن أقام بمكة.