logo
الرئيسية/دروس علمية/دورة في التعليق على كتاب الحج من كتاب السلسبيل (الكويت)/(21) باب أركان الحج وواجباته، من قوله: “واجباته سبعة ..”

(21) باب أركان الحج وواجباته، من قوله: “واجباته سبعة ..”

مشاهدة من الموقع

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه واتَّبع سُنته إلى يوم الدين.

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.

اللهم آتنا من لدنك رحمةً، وهيِّئ لنا من أمرنا رشدًا.

هذا -أيها الإخوة- هو الدرس الأخير في التعليق على “السلسبيل في شرح الدليل”، وهو المجلس السادس في التعليق على “السلسبيل”، والذي به -إن شاء الله- سنختتم التعليق على كتاب “الحج” من “السلسبيل في شرح الدليل” بإذن الله .

وكنا قد وصلنا إلى واجبات الحج.

واجبات الحج

قال المصنف رحمه الله:

وواجباته سبعةٌ.

واجبات الحجِّ هي التي يصح الحجُّ بدونها، لكنها تُجْبَر بدمٍ، فهي كواجبات الصلاة التي تصح الصلاة بدونها، لكنها تُجْبَر بسجود السهو.

ولكن تفترق واجبات الحجِّ عن واجبات الصلاة: بأن تعمد ترك واجبات الصلاة يُبطلها، بينما تعمد ترك واجبات الحجِّ لا يُبطله؛ لأن واجبات الصلاة مُتعلقةٌ بذات العبادة، أما واجبات الحجِّ فهي مُكملةٌ لغيرها؛ ولذلك كان هذا الفرق بينهما.

ولكن لا شكَّ أن تعمد ترك الواجب ينقص من أجر الحجِّ ويُنزله عن مرتبة الحجِّ المبرور، فإن الحجَّ المبرور هو الذي أتى به صاحبه على الوجه الأكمل، ولم يقع منه فيه إثمٌ ولا معصيةٌ.

هذا تعريف الحجِّ المبرور: هو الذي أتى به صاحبه على الوجه الأكمل، ولم يقع منه فيه إثمٌ ولا معصيةٌ.

الإحرام من الميقات

أول هذه الواجبات:

الإحرام من الميقات.

هنا المؤلف قال:

الإحرام من الميقات.

لو أن المؤلف قال: “أن يكون الإحرام من الميقات” لكان أوضح في العبارة؛ لأن قوله: “الإحرام من الميقات” يُوهم أن الإحرام نفسه واجبٌ، وهذا ليس بمرادٍ للمؤلف، فإن الإحرام نفسه ركنٌ، وليس واجبًا، ولكن مراد المؤلف: أن يكون الإحرام من الميقات، وهذا مُتَّفقٌ عليه بين الفقهاء.

وعلى ذلك فالأدق في العبارة أن نقول: أن يكون الإحرام من الميقات.

والميقات تكلمنا عنه في دروسٍ سابقةٍ، وقلنا: إن المواقيت خمسةٌ، وهي التي ذُكرتْ في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي قال: يُهِلُّ أهل المدينة من ذي الحُلَيفة، وأهل الشام من الجُحْفَة، وأهل نجدٍ من قَرْنٍ، ويُهِلُّ أهل اليمن من يَلَمْلَم [1]، هنَّ لهنَّ، ولمَن أتى عليهنَّ من غير أهلهنَّ ممن أراد الحجَّ والعمرة [2].

فقوله: يُهِلُّ خبرٌ أُريد به الأمر، أي: فَلْيُهِلّ، فهذا يدل على وجوب الإحرام من الميقات.

وعلى ذلك فمَن لم يُحرم من الميقات يكون قد ترك واجبًا، فعليه دمٌ.

لكن لو أنه أحرم من الميقات بالمخيط، يعني: أحرم من الميقات -مثلًا- وعليه ثيابٌ، فالواجب عليه فديةٌ، وهي التي تكلمنا عنها في درس الأمس.

والفدية يكون فيها مُخَيَّرًا بين ذبح شاةٍ، أو صيام ثلاثة أيامٍ، أو إطعام ستة مساكين.

لاحظ الفرق بين الأمرين: إذا تجاوز الميقات بدون إحرامٍ تحتم الدم، وليس مُخَيَّرًا، لكن إذا أحرم من الميقات بثيابه يكون مُخَيَّرًا بين هذه الأمور الثلاثة: ذبح شاةٍ، أو صيام ثلاثة أيامٍ، أو إطعام ستة مساكين.

الوقوف بعرفة إلى الغروب لمَن وقف نهارًا

الثاني من واجبات الحجِّ، قال:

والوقوف إلى الغروب لمَن وقف نهارًا.

أي: مَن وقف بعرفة نهارًا يجب عليه أن يقف إلى غروب الشمس؛ لأن هذا هو فعل النبي ، وقد قال: خُذُوا عني مناسككم [3].

وقد كان أهل الجاهلية إذا وقفوا بعرفة دفعوا قبل غروب الشمس، فخالفهم النبي ووقف بعرفة إلى غروب الشمس، ومُخالفة المشركين واجبةٌ، فدلَّ ذلك على وجوب أن يكون الوقوف إلى غروب الشمس.

وللفقهاء في هذه المسألة ثلاثة أقوالٍ:

  • القول الأول: أن الوقوف بعرفة إلى غروب الشمس، وليس الوقوف بعرفة، الوقوف بعرفة من أركان الحجِّ، لكن أن يستمر الوقوف إلى غروب الشمس؛ أنه واجبٌ، هذا هو المذهب عند الحنفية والحنابلة.
  • القول الثاني: أنه مُستحبٌّ، وهو المذهب عند الشافعية.
  • يُقابله القول الثالث: وهو أنه ركنٌ لا يصح الحجُّ إلا به، وهو المذهب عند المالكية.

ولاحظ هنا تقابل الأقوال بين الشافعية والمالكية، فالشافعية يرون أنه مُستحبٌّ، والمالكية يرون أنه ركنٌ لا يصح الحجُّ إلا به.

والحنفية والحنابلة توسَّطوا فقالوا: إنه واجبٌ.

ولاحظ هذا الاختلاف الشديد بين الأقوال الذي يدل على أن أفهام البشر تختلف؛ ولذلك مسائل الحجِّ من أشكل مسائل الفقه؛ للاختلاف الكبير بين الفقهاء في كثيرٍ من مسائله وأحكامه.

وبعض المسائل تجد فيها أقوالًا مُتقابلةً، مثل: صيام يوم الشك، فتجد هناك -مثلًا- مَن يقول: إنه يجب. وهناك مَن يقول: إنه يَحْرُم. فهي أقوالٌ مُتقابلةٌ، والعبرة بالدليل.

وهذه المسألة الأقرب فيها هو التوسط، وهو مذهب الحنفية والحنابلة، وهو: أن الوقوف بعرفة إلى غروب الشمس واجبٌ، وليس بركنٍ، وليس مُستحبًّا، وإنما هو واجبٌ، وهو وسطٌ بين قول مَن قال: إنه مُستحبٌّ. وقول مَن قال: إنه ركنٌ.

المبيت ليلة النَّحر بمُزدلفة

قال:

والمبيت ليلة النَّحر بمُزدلفة.

المبيت بمُزدلفة واجبٌ من واجبات الحجِّ، وسبق أن ذكرنا الخلاف في هذا الواجب، وأن هناك مَن قال: إنه ركنٌ، وهم الحنفية، وهناك مَن قال: إنه مُستحبٌّ، كالخلاف في الوقوف بعرفة لمَن وقف نهارًا، ورجحنا القول بالوجوب أيضًا.

نحن ذكرنا في المسألة السابقة وقلنا: الوقوف بعرفة لمَن وقف نهارًا أن يقف إلى غروب الشمس.

طيب، مَن وقف ليلًا؟

يقولون: مَن وقف ليلًا ليس عليه شيءٌ، لكن مَن وقف نهارًا لا بد أن يجمع بين النهار والليل.

أما المبيت بمُزدلفة -كما ذكرنا- القول الراجح أنه واجبٌ إلى بعد نصف الليل، وهذه المسألة أيضًا فيها خلافٌ بين الفقهاء، والقول بأن المبيت بمُزدلفة إلى ما بعد منتصف الليل هو المذهب عند الشافعية والحنابلة، وهو قول الجمهور.

وعند الحنفية يقولون: إنه يجب المبيت بمُزدلفة إلى طلوع الفجر، ويرون أن ذلك من أركان الحج.

وأما المالكية فهم أوسع المذاهب في هذه المسألة، قالوا: إن الواجب في مُزدلفة هو الوقوف بمقدار حَطِّ الرِّحال.

والقائلون بالوجوب استدلوا بفعل النبي ، وأنه رخَّص للضَّعَفَة في أن يدفعوا بعد منتصف الليل، والرخصة لا تكون إلا من عزيمةٍ، أي: من أمرٍ واجبٍ، فلا يُقال: إنه رخَّص من أمرٍ مُستحبٍّ، إنما الرخصة تكون من أمرٍ واجبٍ.

وأما الحنفية القائلون بوجوب المبيت إلى طلوع الفجر فاستدلوا بفعل النبي ، وبحديث عروة بن مُضَرِّسٍ الطائي الذي أتى النبي وهو في مُزدلفة فقال: يا رسول الله، إني جئتُ من جبلي طَيٍّ، أَكْلَلْتُ راحلتي، وأتعبتُ نفسي، والله ما تركتُ من جبلٍ إلا وقفتُ عليه، فهل لي من حجٍّ؟ قال عليه الصلاة والسلام: مَن شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلًا أو نهارًا؛ فقد تَمَّ حجُّه، وقضى تَفَثَه [4].

وهنا قال: مَن شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع فاستدلوا بهذا على أنه يجب المبيت إلى طلوع الفجر.

وأما القائلون بأن الواجب هو الوقوف بمقدار حَطِّ الرِّحال فاستدلوا بالحديث نفسه، قالوا: فإنه عليه الصلاة والسلام قال: مَن شهد صلاتنا هذه، وهذا دليلٌ على أن الوقوف يكفي بمقدار حَطِّ الرِّحال؛ لأن الله قال: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198]، وقد فسَّر كثيرٌ من أهل العلم ذِكْرَ الله عند المشعر الحرام بأنه صلاة المغرب والعشاء، فإذا صلاهما فقد حصل المقصود بذكر الله عند المشعر الحرام.

واستدلوا أيضًا بحديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: “إنما جَمْعٌ منزلٌ ترتحل منه إذا شئتَ” [5]، لكن هذا موقوفٌ على عبدالله بن عمرو، وليس مرفوعًا، والمقصود بـ”جَمْع” أي: مُزدلفة.

والقول الراجح هو القول الأول، وهو: أنه يجب المبيت بمُزدلفة إلى ما بعد منتصف الليل، وهو قول الجمهور، وهو القول الذي تجتمع به الأدلة.

وتتفرع عن هذا مسألةٌ هي: مَن الذين يجوز لهم الدفع بعد منتصف الليل؟

بعض الفقهاء خَصَّ الذين يجوز لهم الدفع بعد منتصف الليل بالضَّعَفَة، فقالوا: إن الرخصة إنما وردتْ للضَّعَفة، فيبقى مَن عداهم على الأصل وهو البقاء في مُزدلفة إلى طلوع الفجر.

والذي يظهر أنه يجوز الدفع بعد منتصف الليل للجميع: للقادر ولغير القادر، وهو قول جمهور الفقهاء، لكن الأفضل هو البقاء إلى طلوع الفجر.

وليس هناك دليلٌ ظاهرٌ يدل على وجوب البقاء إلى طلوع الفجر، فإذا بقي إلى منتصف الليل فقد ذهب أكثر الليل، وحصل مُسمى البيتوتة في مُزدلفة، فيجوز الدفع والتَّعجل.

وأما قول مَن قال بأن النبي رخَّص للضَّعَفَة في الدفع بعد منتصف الليل، فبتتبع ألفاظ الحديث لم نجد هذا اللفظ: “رخَّص”، إنما اللفظ المحفوظ: “أَذِنَ”، “أَذِنَ للضَّعَفَة” بلفظ الإذن، وليس بلفظ التَّرخيص.

والإذن باعتبار النبي هو الإمام، هو إمام الحجِّ، والإمام هو أمير الحجِّ، ومَن كان معه يريد أن يدفع قبله لا بد أن يستأذنه، فهو مجرد استئذانٍ من الإمام في أن يدفع آخر الليل، والقول بأنه يجب البقاء إلى طلوع الفجر للأقوياء يحتاج إلى دليلٍ، وتأثيم الناس بالدفع قبل الفجر يحتاج إلى دليلٍ، وليس هناك دليلٌ ظاهرٌ يدل لذلك.

وأنا ذكرتُ في “السلسبيل” أنني كنتُ فيما سبق أُشدد في هذه المسألة حتى تأملتُها وتباحثتُ فيها مع بعض أهل العلم، وتبين أنه ليس هناك دليلٌ ظاهرٌ يدل على وجوب البقاء إلى طلوع الفجر، وأن قول الجمهور في الدفع بعد منتصف الليل هو الأقرب والأيسر للناس والأرفق بهم، خاصةً في وقتنا الحاضر الذي كثر فيه الحُجَّاج، وأصبح أمر كثيرٍ من الحُجَّاج ليس بيده، وإنما أمره بيد الرُّفْقَة التي هو معها، وقد يكون هذا مع رُفْقَةٍ في حافلةٍ، وهم يريدون الدفع بعد منتصف الليل؛ لوجود عوائل معهم.

وإذا قلنا: يجب عليك أن تبقى حتى طلوع الفجر، فيلحقه حرجٌ عظيمٌ، وبعضهم يضيع، ما يصل إلى مكانه بسهولةٍ، وبعضهم أيضًا لا يجد وسيلةً للمواصلات، لا تتيسر مع كثرة الحجيج، فيلحق الناس حرجٌ عظيمٌ بالقول بأنه يجب عليكم البقاء إلى طلوع الفجر، والله تعالى يقول: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، ويقول: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، وليس هناك دليلٌ ظاهرٌ يدل على وجوب البقاء إلى طلوع الفجر.

وهذا اختيار شيخنا عبدالعزيز بن باز، وكذلك الشيخ محمد بن عثيمين رحمهما الله تعالى: أن الواجب إلى ما بعد منتصف الليل، لكن مع ذلك يُبين للناس السُّنة، وهي: أن السُّنة للأقوياء أن يبقوا إلى ما بعد طلوع الفجر وحصول الإسفار؛ لأن هذا هو فعل النبي ، وإنما البحث السابق في الوجوب: هل يجب أو لا يجب؟ ولا خلاف في أن السُّنة: البقاء إلى طلوع الفجر وحصول الإسفار.

أيضًا من واجبات الحج:

المبيت بِمِنًى في ليالي التَّشريق

المبيت بِمِنًى في ليالي التَّشريق.

لقول النبي : خُذُوا عني مناسككم [6]، وقد بات بِمِنًى في ليالي التَّشريق.

وأيضًا لأن العباس بن عبدالمطلب -عمّ النبي – استأذن منه أن يبيت بمكة ليالي مِنًى من أجل سقايته للحُجَّاج، فأذن له، والحديث في الصحيحين [7].

وفي بعض الألفاظ: “رخَّص له” [8]، والرخصة تُقابلها العزيمة، فهذا دليلٌ على أن المبيت بِمِنًى واجبٌ؛ ولأن مقصود الشارع من مبيت الحُجَّاج بِمِنًى أن يجتمعوا ويكونوا أُمةً واحدةً، وعلى ذلك مَن لم يجد مكانًا، وقد امتلأتْ مِنًى، فإنه يبيت في أقرب مكانٍ إلى مِنًى.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 133، ومسلم: 1182.
^2 رواه البخاري: 1524، ومسلم: 1181.
^3, ^6 رواه البيهقي في “السنن الكبرى”: 9524، ورواه مسلم: 1297 بلفظ: لتأخذوا مناسككم.
^4 رواه أبو داود: 1950، والترمذي: 891 وقال: حسنٌ صحيحٌ.
^5 رواه ابن أبي شيبة في “مصنفه”: 13759.
^7 رواه البخاري: 1634، ومسلم: 1315.
^8 رواه البخاري: 1743.
zh