شروط صحة الطواف
ثم انتقل المؤلف بعد ذلك للكلام عن شروط صحة الطواف والسعي.
قال:
النية والإسلام والعقل
وهذه الشروط لصحة جميع العبادات -كما سبق-.
دخول وقت الطواف
يعني: دخول وقت الطواف؛ فطواف الإفاضة وقته يبتدئ من منتصف ليلة النحر عند جمهور أهل العلم، وحُكي الإجماع على ذلك، وبعضهم يجعل ابتداء وقت طواف الإفاضة من طلوع الفجر، ولكن الأقرب هو قول الجمهور أنه يبتدئ من منتصف ليلة النحر؛ وعلى ذلك مَن طاف طواف الإفاضة قبل منتصف ليلة النحر لم يصح.
سألني بالأمس أحد الإخوة عن رجل طاف طواف الإفاضة يوم عرفة؛ قلت له: ما يصح، طواف الإفاضة لا يصح يوم عرفة، أول وقت لطواف الإفاضة هو منتصف ليلة النحر.
ستر العورة
هذا من شروط صحة الطواف؛ لقول النبي : لا يطوفنَّ بالبيت عريان[1].
اجتناب النجاسة، والطهارة من الحدث
لحديث ابن عباس: "الطواف بالبيت صلاة إلا أنكم تتكلمون فيه"؛ والصواب أنه موقوف على ابن عباس، ولا يصح مرفوعًا، لكن بعض أهل العلم يقول إن له حُكم الرفع. وقد اختُلف في اشتراط الطهارة لصحة الطواف؛ فالجمهور يَرَوْن اشتراط الطهارة لصحة الطواف، وهذا هو الذي عليه المذاهب الأربعة -مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة-. وقال بعض أهل العلم إن الطهارة لا تُشترط لصحة الطواف، واختار هذا الإمامُ ابن تيمية رحمه الله.
الجمهور استدلوا بحديث ابن عباس السابق: "الطواف بالبيت صلاة إلا أنكم تتكلمون فيه"، والصلاة يُشترط لها الطهارة، لكن هذا حديثٌ -كما ذكرنا- لا يصح مرفوعًا. وأيضًا استدلوا بقول النبي لعائشة: افعلي ما يفعل الحاج غير ألَّا تطوفي بالبيت حتى تطهري[2]، فلولا أن الطهارة مُشترَطة لَرَخَّصَ لها في أن تطوف بالبيت.
وأما مَن يَرَوْن عدم اشتراط الطهارة؛ فقالوا إنه ليس هناك دليل ظاهر يدل على اشتراط الطهارة، وأما ما استدل به الجمهور من حديث ابن عباس: "الطواف بالبيت صلاة إلا أنكم تتكلمون فيه" فيقولون إن هذا لا يصح مرفوعًا، وإنما هو من قول ابن عباس. وأما أَمْرُه لعائشة بألَّا تطوف بالبيت؛ فلأن الحائض ممنوعة من المُكث في المسجد، كما قال : وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ [النساء: 43]، والحائض كالجنب؛ فهو لكونها حائضًا وليس لأن الطهارة شرط لصحة الطواف. وكما تَرَوْن؛ هذا القول قولٌ قويٌّ وله وجاهته، وقول الجمهور أحوط. ولهذا؛ نحن ننصح -ابتداءً- مَن يريد الطواف بألَّا يطوف إلا وهو متطهر، لكن لو أن أحدًا استفتى، وقال إنه طاف على غير طهارة، فلا نستطيع أن نخطِّئه، بل نقول إن طوافه صحيح؛ لأنه -كما تَرَوْن- هذا قولٌ قويٌّ وله وجاهته.
ويتفرع عن هذا مسألةٌ بالنسبة للمرأة الحائض: هل يجوز أن تطوف وهي حائض للضرورة؟
هل يجوز أن تطوف الحائض للضرورة؟
الأصل أن المرأة الحائض ممنوعة من الطواف؛ لأن النبي قال لعائشة: افعلي ما يفعل الحاج غير ألَّا تطوفي بالبيت، وأيضًا لَمَّا قيل إن صفية حاضت قال : حَلْقَى عَقْرَى؛ أحابستُنا هي؟، قيل إنها أفاضت، قال: فَلْتَنْفِرْ إذَن[3].
ولكن في عهد ابن تيمية -المتوفى سنة (728) للهجرة- حدثت نازلة؛ وهي أن امرأةً حاضت وهي مع رفقة، وهذه الرفقة لن تنتظرها حتى تطهر؛ فهي بين أمرين: إما أن تطوف وهي حائض، وإما أن ترجع إلى بلادها ولم تطف طواف الإفاضة؛ فتحرَّج ابن تيمية في الفتوى، ولما أراد أن يفتي قال -ذكرتُ عبارته في السلسبيل-: هذا هو الذي توجَّه عندي في هذه المسألة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولولا ضرورة الناس واحتياجهم إليها علمًا وعملًا لَمَا تجشَّمْتُ الكلام.
فانظر إلى تحرُّجه من الفُتيا في هذه النازلة، فهي مسألة عظيمة، وقول ابن تيمية يمكن أن يُفتى به، لكن على نطاق ضيق جدًّا؛ مثل امرأة أتت من بلاد بعيدة -أتت مثلًا من الصين أو أمريكا-، وهي بين أمرين: إما أن تطوف وهي حائض، وإما ألَّا تطوف وتُخِلّ برُكن من أركان الحج؛ فيمكن أن يُفتى بفتوى ابن تيمية. لكن مَن كان من بلاد قريبة -من دول الخليج مثلًا- لا يمكن أن يُفتى بفتوى ابن تيمية؛ لأنه بالإمكان أن تبقى المرأة الحائض في مكة حتى تطهر، أو ترجع لبلدها، فإذا طهرت رجعت لمكة وأتت بالطواف، ويلاحَظ أن بعض الناس يتوسَّع في هذه المسألة ويحتجّ بفتوى ابن تيمية؛ وفتوى ابن تيمية لا تنطبق على مَن كان في بلاد قريبة -في دول الخليج مثلًا ونحوها-.
هناك خيار آخر؛ أذكر أن رجلًا وزوجته أتيا إليَّ وأنا في منى، وقال: إن زوجته قد أتاها الحيض، وقلت: هل يمكنكما الانتظار حتى تطهر؟ قال: لا، أنا مرتبط بعمل ولا أستطيع، قلت: طيب، ممكن تذهب هي معك ثم إذا طهرت ترجعان وتطوف طواف الإفاضة، قال: أيضًا هذا فيه صعوبة، يصعب عليَّ الرجوع إلى مكة قريبًا، فأرشدتُّهما إلى حَلٍّ، قلت: إذَن اذهب للمستشفى، وتأخذ زوجتك إبرة لرفع الحيض، فإذا ارتفع الحيض وحصل الجفاف تغتسل وتطوف، وقبل ذلك استشيروا الطبيب المختص؛ لأن أيضًا تتفاوت النساء في هذا الأمر، والأطباء يقولون: إذا فُعل هذا مرة واحدة لا يضر، وإنما إذا تكرر ذلك هذا هو الذي يضر. وبالفعل ذهب لأحد المستشفيات، واستشار الطبيب، فذكر أنَّ أَخْذَها مرة واحدة لا يضر، وبالفعل أخذت هذه الإبرة، فارتفع الحيض، فاغتسلت وطافت، وأتيا في اليوم الثاني يشكران على هذا التوجيه أنْ حَلَّ لهما هذه الإشكالية.
فهذه أذكرها لكم لتكون مخرجًا عند الضرورة، لكن أؤكد على ضرورة استشارة الطبيب المختص في هذا؛ لأن النساء يتفاوَتْنَ، ربما بعض النساء قد تتضرر بهذا فلا تفعله، لكن إذا قال الطبيب المختص إنه لا يضر؛ فيُعتبر هذا مخرجًا.
تكميل سبعة أشواط
قال:
يعني: سبعة أشواط.
لفِعل النبي ؛ وقد قال: خذوا عني مناسككم[4].
المشي للطواف والسعي
أي: يُشترط لصحة الطواف أن يكون الطائف ماشيًا مع القدرة، ويُفهم من كلام المؤلف أنه إذا كان معذورًا فلا بأس أن يكون محمولًا. وهذه المسألة اختلف فيها العلماء، اختلفوا بالنسبة للقادر، أما بالنسبة للمعذور فيصح أن يكون محمولًا أو يطوف بالعربة من غير خلاف؛ لكن بالنسبة للقادر هل يجوز أن يطوف ويسعى محمولًا أو على عربة؟ والآن السيارات الصغيرة هذه تُسمَّى "الجولف" بعض الناس يطوف عليها في السطح، ويسعى عليها، النبي كان يطوف ماشيًا، فلما غشاه الناسُ أمر بأن يؤتى ببعيره، فأكمل الطواف راكبًا، وهكذا السعي؛ لأن الناس قد غَشَوْه، حَجَّ معه قرابة مئة ألف، كلٌّ يريد أن يكون قريبًا منه وينظر إليه ويتأسى به، فغشاه الناسُ ما استطاع أن يكمل الطواف، فأمر أن يؤتى ببعيره، فأكمل الطواف وهو راكب على بعيره.
وأيضًا أم سلمة رضي الله عنها كانت مريضة؛ فأمرَها النبي بأن تطوف على بعيرها وهي راكبة.
حُكم الطواف والسعي بعربات
إذا طاف الإنسان أو سعى راكبًا أو على عربة من غير عذر؛ اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال:
- القول الأول: أنه لا يصح طوافه، وهذا هو القول الذي قرَّره المؤلف، وهو المذهب عند الحنابلة؛ لحديث ابن عباس: "الطواف بالبيت صلاة"، فإذا كان صلاةً فيجب أن يؤتى به كما ورد، والطواف إنما يكون من الإنسان ماشيًا.
- القول الثاني: أنه يجزئه ذلك، ويجبره بدم؛ وهو قول أبي حنيفة.
- القول الثالث: أنه يجزئه الطواف، ولا شيء عليه؛ وهو مذهب الشافعية، وقد اختاره ابن المنذر؛ ولأن الله أمر بالطواف أمرًا مطلقًا، فكيفما أتى به أجزأه، وهذا هو القول الراجح؛ لأنه ليس هناك دليل ظاهر يدل على عدم الإجزاء، ولأن الله أمَر بالطواف وأطلَق، ولا يجوز تقييد المطلق إلا بدليل.
وعلى ذلك؛ فنقول: إن الأفضل أن يطوف ماشيًا، وأن يسعى ماشيًا، لكن لو طاف راكبًا أو على عربة فلا بأس بذلك، وهكذا لو سعى راكبًا أو على عربة فلا بأس بذلك على القول الراجح.
الموالاة بين أشواط الطواف
يعني: الموالاة بين أشواط الطواف لفِعل النبي ؛ وقد قال: خذوا عني مناسككم[5]، ولأن الطواف عبادة متعلقة بالبيت فاشترط لها الموالاة كالصلاة.
ولكن القول بأن الموالاة من السنن أو من المستحبات هذا محل نظر؛ لذلك ذهب بعض أهل العلم إلى أن الموالاة بين أشواط الطواف واجبة وليست مستحبة؛ والمؤلف قال:
هذه أيضًا كلها من شروط صحة الطواف. وعلى ذلك؛ فإذا أقيمت الصلاة المكتوبة فصلى، فهذا يعتبر فاصلًا يسيرًا، أو حضرت جنازة فصلى على الجنازة فلا يضر؛ لأن وقت الصلاة على الجنازة يسير. وبعض أهل العلم يقول إن الطائف إذا صلى على الجنازة، فإنه يستأنف الطواف من جديد؛ لأن الصلاة المكتوبة واجبة، وصلاة الجنازة ليست واجبة.
والأقرب -والله أعلم- أن الفاصل لأجل الصلاة على الجنازة لا يَقطع الموالاة، والمأخذ الذي قرَّره المؤلف أن الانتظار لصلاة الجنازة يسير وليس طويلًا، لا لكون الصلاة واجبة أو غير واجبة.
صلاة التراويح طويلة، تأخذ وقتًا طويلًا لا يقل عن نصف ساعة، فهو فاصل طويل، فلو أنه بعدما طاف شوطًا أو شوطين أو ثلاثة توقف وصلى صلاة التراويح، فعليه أن يستأنف الطواف من جديد؛ لأن الموالاة شرط لصحة الطواف.
هذه هي شروط صحة الطواف، وقد جمعها المصنف رحمه الله في أحد عشر شرطًا: النية، والإسلام، والعقل، ودخول الوقت، وستر العورة، واجتناب النجاسة، والطهارة من الحدث، وتكميل السبع، وجعل البيت عن يساره، وكونه ماشيًا مع القدرة، والموالاة.
وهذه مما تميز بها دليل الطالب؛ تجد أنه يجمع لك الشروط في مكان واحد، والسنن في مكان واحد، والواجبات في مكان واحد؛ فهو مما تميز به هذا المتن، ولا تجد هذا في متن آخر.
قال:
يعني: إذا قطع الطواف للصلاة المكتوبة أو لصلاة الجنازة؛ فإنه يعيد الشوط من جديد.
والقول الثاني في المسألة: أنه لا يعيد الشوط من جديد، وإنما يكمل من المكان الذي وقفه فيه، وهذا هو القول الراجح.
سنن الطواف
قال:
يعني: سنن الطواف.
استلام الركن اليماني بيده اليمنى
الركن اليماني هو الذي يلي الحجر الأسود. الركن اليماني على قواعد إبراهيم، والحجر الأسود على قواعد إبراهيم، بينما الركن الشامي والعراقي ليسا على قواعد إبراهيم.
الكعبة بناها إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، تهدَّمَت في عهد قريش، فأرادوا إعادة بنائها، فاشترطوا على أنفسهم شرطًا، وهو ألَّا يُستخدم في بناء الكعبة إلا أموالٌ حلالٌ متمحِّضةٌ في الحِل، وكانت معظم أموالهم يشوبها الحرام، والأموال الحلال عندهم قليلة، فقصرت بهم النفقة، فَبَنَوا الكعبة على الشكل المربع الموجود حاليًا، ووضعوا الحِجر على بقية الكعبة، أراد النبي أن يعيد بناءها على قواعد إبراهيم، ويُدخِل الحِجر، ويجعل لها بابين، لكنه عليه الصلاة والسلام خشي الفتنة؛ لأن الناس إذا أَلِفُوا شيئًا فتغييره صعب، خاصةً فيما يتعلق بالكعبة والحرم ونحو ذلك، فخشي عليه الصلاة والسلام الفتنة، فتركها؛ قال لعائشة: لولا أن قومكِ حديثو عهد بكفر؛ لهدمت الكعبة، وبنيتها على قواعد إبراهيم، وجعلت لها بابين[6].
لمَّا كان في عهد عبدالله بن الزبير -وقد حَكَمَ الحجاز ثماني سنين-، أعاد بناء الكعبة على قواعد إبراهيم، وأَدْخَل الحِجر، وجعل للكعبة بابين؛ يعني ما تمناه النبي عليه الصلاة والسلام حققه عبدالله بن الزبير. لمَّا أتى الحَجَّاج بن يوسف وحاصر ابن الزبير وقتله، ولم يكتفِ بقتله، قتله ثم صلبه على خشبة، وبقي أيامًا وهو مصلوب، سبحان الله! صحابي جليل بقي أيامًا وهو مصلوب، حتى مر به عبدالله بن عمر -وهذا في صحيح مسلم- قال: السلام عليك أبا خُبَيْب، أَمَا والله لقد كنتَ صَوَّامًا قَوَّامًا.
يقولون: كان يصوم الدهر، ما يفطر، لعله لم يبلغه النهي عن صيام الدهر، كان يصوم كل يوم، ويقوم الليل.
أمَا والله لقد كنتَ صَوَّامًا قَوَّامًا، أما لقد كنتُ أنهاك عن هذا -يعني: كان ينهاه عن الاشتغال بالسياسة، يقول: اترك هذه السياسة والأمور هذه، واشتغل بالعبادة-، أَمَا لَأُمَّة أنت شَرُّها لَأُمَّةُ خير؛ لأن الحَجَّاج ومَن معه كانوا يقولون: هذا شَرُّ الأُمَّة.
مباشرةً أبلغَ الناسُ الحَجَّاجَ بكلام ابن عمر، ابن عمر لا تأخذه في الله لومة لائم، هاب الحَجَّاجُ أن يتعرض لابن عمر، ابن عمر من كبار الصحابة، فأمر بأن يُلقى ابن الزبير في المقبرة، فألقوه في المقبرة، وأخذه المسلمون، يقولون: قد تقطع جسده، جمعوه قطعة قطعة، غسَّلوه وكفَّنوه وصلوا عليه.
وذهب الحَجَّاج إلى أُمِّ ابن الزبير -أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما-، قال: أرأيتِ ما فعلتُ بعدو الله؟ يريد أن يغيظها، قالت: أفسدتَّ عليه دنياه، وأفسد عليك آخرتك! فرجع وهو خائب. الحَجَّاج قتل عددًا كثيرًا من الناس، أَمْرُه إلى الله! لمَّا تعرَّض لسعيد بن جبير -أحد العلماء الصالحين- دعا عليه، وقال: اللهم لا تسلِّطه على أحدٍ بعدي. سبحان الله! منذ أن قتلَ سعيدَ بن جبير أصبح لا يأتيه النوم، كلما أراد أن ينام قام فزعًا، كلما أراد أن ينام أتاه سعيد بن جبير في المنام، قال: مالي ولابن جبير؟! ليتني تركتُه! فأصبح شهرًا كاملًا ما يأتيه النوم، إلى أن مات وهلك؛ ولهذا قال الذهبي: نبغضه ولا نحبه، ونرى أن بُغضه من أوثق عرى الإيمان! أَمْرُه إلى الله، أفضى إلى الله .
.....
ألف وأربعمئة وسبعة عشر للهجرة؛ يعني قبل كم سنة؟ نحن الآن ألف وأربعمئة وأربعون، يعني ليس بعيدًا، هذا آخرُ بناءٍ وإعادةِ بناءٍ للكعبة وترميمٍ لها.
فبقيَت على ما هي عليه، ولله الحكمة في هذا، لو أن الكعبة كان لها بابان، باب يدخل الناس منه وباب يخرج الناس منه؛ لَازْدحم الناس عليها، وربما تعذَّر الطواف، خاصةً في وقتنا الحاضر الآن. ما تمناه النبي عليه الصلاة والسلام متحقق في الحِجر، الحِجر له بابان، باب يدخل الناس منه وباب يخرج الناس منه، ويستطيع الإنسان أن يصلي في جوف الكعبة الآن بكل سهولة ويُسر، إذا صلى في الحِجر فقد صلى في الكعبة؛ لأن الحِجر جزء من الكعبة، فما تمناه عليه الصلاة والسلام متحقق، فلله الحكمة في هذا.
إذَن؛ استلام الركن اليماني من السنن، لكن فيه سُنة واحدة؛ وهي الاستلام، ولا يُقبَّل.
استلام الحجر الأسود وتقبيله
الحجر الأسود فيه ثلاث سنن:
- السُّنة الأولى: استلامه، وتقبيله، والسجود عليه.
- السُّنة الثانية: الإشارة إليه بعصا ونحوه، ويُقبِّل ما أشار به إليه.
- السُّنة الثالثة: أن يشير إليه ويُكبِّر، وهذا يستطيعه أكثر الناس اليوم؛ لأن استلامه وتقبيله أصبح صعبًا في وقتنا الحاضر.
لكن ينبغي أن يحرص المسلم على استلامه وتقبيله -ولو مرة واحدة في عُمُرِه-؛ لأنه قد ورد في الحديث الصحيح أن النبي قال عن الحجر الأسود: والله ليبعثنَّه الله يوم القيامة له عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به، يشهد على مَن استلمه بحق[7] ولذلك ينبغي لك أن تُقبِّل الحجر الأسود -ولو مرة واحدة في عُمُرِك-؛ حتى يشهد لك يوم القيامة.
هناك أوقات يخفّ فيها الزحام، يمكن للإنسان أن يأخذ فيها عمرة، ويُقبِّل الحجر الأسود. أما تقبيل الحجر الأسود في غير الطواف، فإنه غير مشروع؛ لأنه مرتبط بالطواف، على خلاف بين العلماء في هذه المسألة؛ بعض أهل العلم يرى أنه مشروع، لكن الأقرب أن تقبيله مرتبط بالطواف.
الدعاء والذكر أثناء الطواف
أيضًا هذا من السنن.
الدُّنُوُّ من البيت
يعني: من الكعبة، كلما دنا كان أفضل.
أيضًا من سنن الطواف: الاضطباع والرَّمَل -كما أشرنا-. ولكن إذا لم يتيسر الجمع بين الرَّمَل والدُّنُوّ من البيت، فإن الرَّمَل أفضل من الدُّنُوّ من البيت؛ لأن هناك قاعدة عند أهل العلم: وهي أن المحافظة على الفضيلة المتعلقة بذات العبادة أَوْلى من الفضيلة المتعلقة بمكانها؛ فالرَّمَل متعلق بذات الطواف.
صلاة ركعتين بعد الطواف
أيضًا من السنن؛ والأفضل أن يقرأ فيهما بـ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون: 1] وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1]، وأيضًا أن يخفِّفهما. ويُسَن بعد الركعتين أن يرجع ويستلم الحجر الأسود؛ فهذه هي السنة -إن تيسر أن يستلمه وأن يُقبِّله-.
شروط صحة السعي
ثم انتقل المؤلف إلى شروط صحة السعي؛ وحَصَرَها في ثمانية.
قال:
النية والإسلام والعقل
وهذه شروط لصحة جميع العبادات.
الموالاة بين أشواط السعي
يعني: بين أشواط السعي، هذه شرط لصحته، كما أن الموالاة بين أشواط الطواف شرط لصحته.
المشي مع القدرة
والخلاف فيه كالخلاف في المشي في الطواف، وذكرنا أن الراجح أنه ليس شرطًا في الطواف، وهو أيضًا ليس شرطًا في السعي.
أي: يُشترط لصحة السعي أن يكون بعد طوافٍ مشروع، فإذا سعى الإنسان ولم يسبق هذا السعيَ طوافٌ لم يصح سعيُه. وبعض الناس يُحرِم قارنًا أو مُفرِدًا، ويذهب مباشرةً لعرفات، ويريد أن يقدِّم السعي على الطواف؛ هنا لا يصح، لا يصح تقديم السعي على الطواف. أو أن المرأة تكون حائضًا، وتقول: أريد أن أسعى، وإذا طَهُرْتُ أكتفي بالطواف؛ ليس لها ذلك، لأنه لا يصح تقديم السعي على الطواف، وهذا هو الذي عليه المذاهب الأربعة.
إكمال سبعة أشواط، واستيعاب ما بين الصفا والمروة
أي: لا بُدَّ أن يُكمِّل سبعة أشواط، هذا شرطٌ لصحة السعي.
لا بُدَّ أن يتيقن استيعاب ما بينهما. وأما الصعود على الصفا والمروة فهو مستحب وليس واجبًا.
قال:
فلا بُدَّ أن يبدأ بالصفا أولًا وينتهي بالمروة. وقد كان المسعى مفصولًا عن المسجد الحرام، وكان بينه وبين المسجد الحرام بيوت ودكاكين ومحلات، وكان مَن يخرج له يخرج من المسجد الحرام ويأتي للمسعى من بابه؛ ولذلك تجد في كتب الفقه: أتى الصفا من بابه.
والآن اتصل المسعى بالحرم، واختلف العلماء المعاصرون: هل المسعى جزء من الحرم أم لا؟ وهذه عُرِضت على مجمع الفقه الإسلامي، وأقرَّ -بالأكثرية- أنه مَشْعَر مستقل وليس جزءًا من الحرم.
وأيضًا تكلمتُ هنا -في السلسبيل- عن المسعى الجديد، وذكرتُ أن الأقرب -والله أعلم- أنه يدخل في المسعى، وأنه لا بأس به، وأن هناك بعض العلماء من كبار السن شهدوا بامتداد جبل الصفا والمروة قبل التوسعة، وأن جبل الصفا والمروة متسعان. وعلى ذلك؛ فالمسعى الجديد لا بأس بالسعي فيه ولا حرج.
سنن السعي
ذكرها المؤلف؛ قال:
الطهارة
الطهارة مستحبة للسعي وليست شرطًا.
ستر العورة
وهذا مشكل، اعتبارُ ستر العورة من سنن السعي وليس من واجباته مشكلٌ، يعني على ذلك لو سعى وانكشفت عورته فسعيُه صحيح، والذي يظهر أنه يجب ستر العورة في السعي، وإن كان ليس شرطًا.
الموالاة بينه وبين الطواف
هذا من السنن وليس من الواجبات، لو أنه طاف أول النهار وسعى في آخر النهار، أو طاف اليوم وسعى غدًا؛ فلا بأس.
الشرب من ماء زمزم، ويرش على بدنه وثوبه
وأيضًا من السنن أن يشرب من ماء زمزم لِمَا أَحَبَّ. ماءُ زمزم ماءٌ مبارك، وجَعَلَه اللهُ تعالى آيةً، وله أكثر من خمسة آلاف سنة ولم ينضب، بينما نجد عيونًا أَمَدُها ليس طويلًا وقد نضبت وجفَّت، هذا آية من آيات الله ، وهو ماء مبارك؛ وقد قال عليه الصلاة والسلام: ماء زمزم لِمَا شُرِب له[8]. وصنَّف الحافظ ابن حجر في هذا الحديث رسالةً، وذكر أن هذا الحديث بمجموع طُرُقه يثبت للاحتجاج به، وذكر عن أناس أنهم شربوا ماء زمزم لأمور حصلت لهم؛ كالإمام الشافعي لإصابة الرمي، والحاكم لحُسن التصنيف.
قال الحافظ ابن حجر: وأنا شربتُه مرةً، وسألتُ الله -وأنا حينئذٍ في بداية طلب الحديث- أن يرزقني حالة الذهبي في حفظ الحديث، ثم حَجَجْتُ بعد مدة تقرب من عشرين عامًا، وأنا أجد من نفسي المزيد على تلك المرتبة.
وابن القيم في زاد المعاد يقول: جرَّبتُ أنا وغيري الاستشفاء بماء زمزم، ووجدتُّ أمورًا عجيبة، واستشفيتُ به من عدة أمراض، فَبَرَأتُ بإذن الله.
كان ابن القيم يقول: آخذُ ماء زمزم في كوبٍ، وأقرأ عليه سورة الفاتحة سبع مرات، فأجد الشفاء والبُرء التام بإذن الله.
وشَرِبَهُ أناسٌ لأمراض مستعصية فشفاهم الله . لكن هذا يحصل لمَن شربه بيقين، أما مَن شربه مُجرِّبًا فلن يستفيد، لكن تأخذ ماء زمزم لأي أمر تريد، وتشربه بيقين؛ يحصل لك -بإذن الله- ما أردتَّ.
قال:
وهذا رُوِيَت فيه آثار، ويقال: إن مَن رَشَّ على رأسه ماء زمزم لم تُصِبْه ذِلَّة، وهذه مقولة لبعض أهل العلم -والله أعلم بصحة ذلك-. وجاء في حديث ابن عباس: آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يَتَضَلَّعُون من زمزم[9] والحديث في سنده مقال.
التضلُّع معناه: أن يشرب من ماء زمزم ولو لم يكن عطشانًا.
قال:
يعني: عند شُرب ماء زمزم.
هذا طبعًا ليس عليه دليل، لكن لو دعا به كان حسنًا.
زيارة قبر النبي وقبر صاحبَيْه
يعني: أبا بكر وعمر، فزيارة قبر النبي سُنة؛ وقد قال : كنتُ نهيتُكم عن زيارة القبور؛ ألَا فزوروها[10]. أما شد الرحل لقبر النبي فهذا لا يجوز؛ لقول النبي : لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى[11]. ولذلك؛ مَن أراد أن يذهب للمدينة ينوي الذهاب للمسجد وليس للقبر. انتبه لهذه المسألة؛ لا يجوز شد الرحل للقبر، وإنما يُشَد الرحل لمسجد النبي .
قال:
فضل الصلاة في المساجد الثلاثة
كما قال : صلاةٌ في مسجدي هذا خيرٌ من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام[12] أخرجه البخاري ومسلم.
وهذا جاء في حديث جابر، لكن بعض المحققين من أهل الحديث يقول إن هذا الحديث موقوف على ابن الزبير، والصواب وَقْفه، وهذا هو الأقرب. وعلى ذلك؛ فالصلاة في المسجد الحرام أفضل من ألف صلاة، لكنها لا تصل إلى مئة ألف صلاة، مئة ألف رقم كبير جدًّا، وهذا يحتاج إلى دليلٍ ظاهر، والحديث -كما ذكرنا- الصواب فيه الوقف، ولو كان مئة ألف صلاة لَتَسَابق الصحابةُ على البقاء في مكة والصلاة هناك؛ فالأقرب -والله أعلم- أن فيه فضلًا يزيد على ألف صلاة، لكنها لا تصل إلى مئة ألف.
قال:
وهذا أيضًا جاء فيه حديث أبي الدرداء، لكن في سنده مقال.
الحرم في مكة والمدينة، أما في المسجد الأقصى ليس حرمًا -وإن كانت الصلاة في المسجد الأقصى فيها فضلٌ لكنه ليس حرمًا-؛ ولذلك قول بعض الناس: "ثالث الحرمين" محل نظر، الأحسن أن يقال: ثالث المسجدين.
^1 | رواه البخاري: 1622، ومسلم: 1347. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 305، ومسلم: 1211. |
^3 | رواه البخاري: 4401، ومسلم: 1211. |
^4, ^5 | رواه مسلم: 1297. |
^6 | رواه مسلم: 1333. |
^7 | رواه الترمذي: 961، وأحمد: 2215. |
^8 | رواه ابن ماجه: 3062، وأحمد: 14849. |
^9 | رواه ابن ماجه: 3061. |
^10 | بنحوه رواه مسلم: 977. |
^11 | رواه البخاري: 1189، ومسلم: 1397. |
^12 | رواه البخاري: 1190، ومسلم: 1394. |