الرابع من أركان الحج: السعي بين الصفا والمروة
هذا الركن على ثلاثة أقوالٍ:
- القول الأول: أنه ركنٌ من أركان الحجِّ، وهو قول الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة.
- القول الثاني: أنه واجبٌ، وليس ركنًا، وهذا روايةٌ عند الحنابلة، وهو مذهب الحنفية، واختاره المُوفق ابن قدامة، وعدَّه في “العمدة” من الواجبات.
- القول الثالث: أنه مُستحبٌّ، وهذا أضعف الأقوال، ورُوِيَ هذا عن ابن مسعودٍ وأُبَيٍّ وابن عباسٍ وابن سيرين، لكن هذا هو أضعف الأقوال.
وتبقى المُوازنة بين القول بأنه ركنٌ والقول بأنه واجبٌ.
طبعًا القائلون بأنه سُنةٌ استدلوا بالآية الكريمة: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158]، قالوا: إنه قد جاء في مصحف أُبَيٍّ وابن مسعودٍ رضي الله عنهما قراءة: {فلا جناح عليه ألَّا يطوف بهما}، قالوا: وهذا إن لم يكن قرآنًا فقد سمعاه من النبي فيكون حُجَّةً. ولكن هذه القراءة قراءةٌ شاذةٌ، والقراءة الشاذة لا يُحْتَجُّ بها.
وأما قول الله تعالى: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا فهذا رفعٌ لما توهمه بعض الناس حين نزول الآية؛ لأن الصفا والمروة كانا عليهما صنمان يُعبدان من دون الله، فتحرج بعض المسلمين من الطواف بهما وعليهما صنمان قبل الإسلام، فنفى الله تعالى الجناح عن الطواف بهما.
فهذا القول هو أضعف الأقوال، وتبقى المُوازنة بين القول الأول والثاني.
القائلون بأنه واجبٌ قالوا: إنه لا دليل على رُكنيته، وغاية ما فيه أنه ورد الأمر به، والأمر يقتضي الوجوب، لا الركنية.
أما القائلون بأنه ركنٌ فقد استدلوا بقول النبي : إن الله كتب عليكم السعي، فاسعوا [1]، وهو حديثٌ صحيحٌ.
قالوا: قوله: إن الله كتب يعني: أوجب، والنبي لم يترك السعي في حجِّه، ولا في جميع عُمَرِه، وقد قال: خذوا عني مناسككم [2]؛ ولأن الله تعالى جعل السعي من شعائر الله: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158]، والله يقول: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]؛ ولأن عائشة رضي الله عنها كانت تقول: “ما أتمَّ اللهُ حجَّ امرئٍ ولا عُمرته ولم يَطُفْ بين الصفا والمروة”.
ثم إننا عندما ننظر نظرةً إجماليةً للنصوص نجد أن السعي قرين الطواف، فلا يُذكر الطواف إلا والسعي معه، مثل ماذا؟
مثل: الصلاة والزكاة، فما تُذكر الصلاة إلا والزكاة معها، ولا يُذكر السعي إلا والطواف معه، فهو قرينٌ ومُلازمٌ له.
وهذا هو الأقرب -والله أعلم-: أن السعي ركنٌ من أركان الحجِّ، وإلى هذا ذهب أكثر أهل العلم.
هذه أركان الحج.
حكم المبيت بمُزدلفة
زاد بعض الفقهاء ركنًا خامسًا وهو: المبيت بمُزدلفة؛ لأن الله قال: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198]، والمشعر الحرام هو مُزدلفة؛ ولحديث عروة بن مُضَرِّسٍ الطائي، وفيه أن النبي قال: مَن شهد صلاتنا هذه يعني: الفجر، ووقف معنا حتى ندفع يعني: من مُزدلفة، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلًا أو نهارًا؛ فقد تمَّ حجُّه، وقضى تَفَثَه [3]، وهذا هو المذهب عند الحنفية: يرون أن المبيت بمُزدلفة ركنٌ من أركان الحج.
ولكن هذا محل نظرٍ؛ إذ لو كان ركنًا لما رَخَّصَ فيه النبي للضَّعَفَة أن يدفعوا آخر الليل، والقاعدة عند أهل العلم: أن الركن لا يُرخص فيه لبعض الناس دون بعضٍ، وإنما هذا من شأن الواجب، وقد دفع بعض الناس ليلًا ولم يُصلوا صلاة الفجر في مُزدلفة: كأم سلمة وسودة وابن عباسٍ ، فلو كان ركنًا لما أذن لهم؛ ولهذا تقول عائشة رضي الله عنها: “لأن أكون قد استأذنتُ رسول الله كما استأذنتْ سودة أحبّ إليَّ من مفروحٍ به”.
كأن عائشة رضي الله عنها تعبتْ ولحقها حرجٌ ومشقةٌ، فكانت تتمنى أن لو استأذنتْ.
هذا يدل على أن المبيت بمُزدلفة ليس ركنًا، وإنما هو واجبٌ، وهذا هو القول الراجح: أنه واجبٌ، وليس ركنًا.
وعلى ذلك فمَن ترك المبيت بمُزدلفة فحجّه صحيحٌ، لكن عليه دمٌ؛ لأنه واجبٌ من واجبات الحج.
هذه هي أركان الحج الأربعة التي لا يصح الحج ولا يتم الحج إلا بها: الإحرام، والوقوف بعرفة، والطواف، والسعي.
هذه لا بد منها، ولا يصح الحج ولا يتم الحج إلا بها.
وأما واجبات الحج فهذه -إن شاء الله- نفتتح بها الدرس القادم والأخير غدًا بعد صلاة الفجر، إن شاء الله تعالى.
ونكتفي بهذا القدر في التعليق على كتاب “السلسبيل في شرح الدليل”.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.