جدول المحتويات
أركان الحج
تعريف الأركان، والفرق بينها وبين الشروط
أركان جمع ركن، والركن هو جانب الشيء الأقوى؛ ولذلك يقال: ركن البيت؛ أي: جانبه الأقوى، وهو زاوية البيت.
والأركان تختلف عن الشروط، تجتمع الأركان والشروط في أنَّ تخلُّف أيٍّ منهما يفسد العبادة، فإذا تخلف شرط فسدت العبادة، وإذا تخلف ركن فسدت العبادة. ولكن؛ ما الفرق بين الركن والشرط؟ عندما نقول: الطهارة شرط لصحة الصلاة، أو نقول: تكبيرة الإحرام ركن من أركان الصلاة؛ فما الفرق بين الركن والشرط؟ الركن يكون في ماهية الشيء، داخل فيه؛ تكبيرة الإحرام، الركوع، السجود؛ هذه كلها داخلة في الصلاة. بالنسبة للحج؛ الوقوف بعرفة، الإحرام، كلها داخلة.
أما بالنسبة للشروط؛ فلا يلزم أن تكون داخلة في الشيء، قد تكون خارجة عنه؛ مثل: الطهارة خارجة عن الصلاة.
إذَن؛ نحن نتكلم عن أركان الحج، وهذه الأركان إذا تخلَّف ركنٌ منها فسد الحج أو بطل الحج، لا يتم الحج إلا بها.
الركن الأول: الإحرام
قال:
سبق أن ذكرنا بالأمس تعريف الإحرام؛ وأنه نية الدخول في النسك، فهو متعلق بالنية وليس باللباس، ولاحِظ هنا الفرق بين الإحرام وبين الإحرام من الميقات. الإحرام ركن من أركان الحج، لكن كون الإحرام من الميقات هذا ليس من أركان الحج، وإنما هو من واجباته؛ إذ إنه لو تجاوز الميقات بدون إحرام ثم أحرم من مكة فحجه صحيح، لكن يكون عليه دمٌ بتركه واجبًا. أما لو أنه لم يحرم أصلًا -لم ينوِ الإحرام أصلًا-؛ فهذا لا يصح حجه ولا عمرته. إذَن؛ الإحرام هو ركنٌ من أركان الحج كما أن تكبيرة الإحرام ركنٌ من أركان الصلاة.
لكن هنا أنبه إلى التفريق ما بين نية الدخول في النسك وبين نية فِعل النسك؛ الإحرام هو نية الدخول في الحج أو العمرة، لكن نية أنه سيحج أو سيعتمر هذه ليست إحرامًا. بعض الناس يلبس ملابس الإحرام في بلده، ويركب الطائرة، ثم يصل إلى مكة، طيب نقول له: هل أنت محرم؟ يقول: أنا من بيتي وأنا محرم، وهو يقصد أنه سيحرم، هذا ليس إحرامًا؛ الإحرام هو أن ينوي الدخول في النسك، ولذلك مثل هذا الشخص حتى نعرف نيته نسأل عن نيته، ما يستطيع أن يُعَبِّر عن نيته فلا بُدَّ من أن نسأله عدة أسئلة حتى نعرف ماذا نوى بالضبط؟ فنطرح عليه مثلًا هذا السؤال: لو أن مَن بجانبك قال: أعطني يمينك أعطرك -أضع عليه عطرًا-؛ هل تقبل؟ إن قال: نعم أقبل؛ إذَن أنت لستَ محرمًا، أنت ستحرم؛ إذا قال: لا، لن أقبل؛ إذَن نقول: أنت محرم.
المرأة؛ نقول: هل أنتِ من البيت تركتِ النقاب؟ إذا قالت: نعم؛ إذَن أنتِ نويتِ الإحرام، إذا قالت: لا، ما نويتُ النقاب، سأنوي النقاب فيما بعد؛ إذَن نقول: أنتِ غير محرمة، أنتِ ستحرمين.
فرقٌ بين كون الإنسان دخل في الإحرام -نوى الإحرام، دخل في النسك- وبين كونه سيحرم؛ فانتبهوا لهذه المسألة. والنية محلها القلب، فلا يُشرع التلفظ بها، لا يُشرع للإنسان عندما يريد أن يصلي صلاة المغرب، يقول: نويتُ لله أن أصلي ثلاث ركعات، بل عدَّ هذا بعضُ أهل العلم من البدع. بعضهم قال: يُستثنى من ذلك الحج والعمرة، فيُشرع التلفظ بالنية، لكن هذا محل نظر؛ إذ إن هذا مجرد إهلال ليس تلفظًا بالنية، ولذلك يُشرع أن يقول: لبيك عمرةً، لبيك حجًّا، لبيك عمرةً وحجًّا، هذا ليس تلفظًا بالنية، وإنما هو مجرد إهلال. وعلى ذلك؛ لو أن أحدًا نوى في قلبه، ولم يقل: لبيك عمرةً، ولبيك حجًّا؛ فإحرامه صحيح -على القول الراجح-، لأن النية تكفي في هذا، والنية محلها القلب، هذا هو الركن الأول؛ الإحرام.
الركن الثاني: الوقوف بعرفة
الركن الثاني؛ قال:
وهذا آكَد أركان الحج؛ لقول النبي : الحج عرفة[1]، وهذا بالإجماع، وحكى الإجماع ابن المنذر وابن قدامة وغيرهما. وقد ذكر الله تعالى هذا الركن؛ فقال: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة: 198].
وقت الوقوف بعرفة
أهم أعمال وأركان الحج هو الوقوف بعرفة.
يرى المؤلف أن وقت الوقوف يبتدئ من طلوع فجر يوم عرفة، وهذا هو المذهب عند الحنابلة.
والقول الثاني: أن وقت الوقوف يبدأ من بعد زوال الشمس، وإليه ذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية، وهو رواية عند الحنابلة، بل إن ابن المنذر وابن عبدالبر وابن رشد حَكَوْه إجماعًا، وإن كان لا يسلم بحكاية الإجماع لوجود المخالف -وهم الحنابلة في هذه المسألة-.
استدل مَن قال بأن وقت الوقوف يبدأ بطلوع فجر يوم عرفة بقصة عروة بن مُضَرِّس الطائي، وهي قصة مشهورة؛ الذي كان ساكنًا في جبال "طَي" بحائل، ثم أتى قال: أتيتُ رسول الله بمزدلفة حين خرج إلى الصلاة -يعني: صلاة الفجر-، فقلتُ: يا رسول الله، إني جئتُ من جبل "طَي"، أَكْلَلْتُ راحلتي، وأتعبتُ نفسي، والله ما من جبل إلا وقفتُ عليه؛ فهل لي من حج؟ قال رسول الله : مَن شهد صلاتنا هذه يعني الفجر ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلًا أو نهارًا؛ فقد تم حجه وقضى تفثه[2] هذا الحديث حديثٌ صحيح؛ أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديثٌ حسن صحيح.
والترمذي رحمه الله إمام من أئمة الحديث، وأحكامه هي محل احتفاء من أهل العلم، تجد بعض طلبة العلم مثلًا ما يعتني بأحكام الترمذي، ويأخذ مثلًا حُكم الشيخ الألباني رحمه الله، الترمذي إمام من الأئمة لا يقارَن حُكمه على الحديث بحُكم غيره من المتأخرين من أهل العلم -وإن كان في كلٍّ خير-، لكن أنا أنبه إلى أن أحكام الترمذي لها اعتبارها عند أهل العلم، إذا قال: حديثٌ صحيح أو حَسنٌ صحيح؛ فهذا يعني حُكمًا معتبرًا عند أهل العلم. إذا قال الترمذي: غريب، ماذا يقصد؟ ضعيف، لا يقصد التفرد، يقصد الضَّعف. إذا قال: حَسن، ليس مقصود الترمذي بـ"الحَسن" الحَسنَ الاصطلاحي، وإنما المقصود الضعيف ضعفًا ليس شديدًا، بحيث ليس فيه راوٍ متهم بالكذب، ولا شذوذ ولا علة.
خذ هذه الفائدة؛ الترمذي عندما يقول: حديثٌ صحيح أو حَسنٌ صحيح؛ اعتمد عليه، وعندما يقول: غريب؛ يعني ضعيف، وعندما يقول: حَسن؛ يعني ضعيف ضعفًا ليس شديدًا، بحيث لا يكون فيه متهمٌ بالكذب، ولا شذوذ ولا علة. هذا الحديث -حديث عروة بن مُضَرِّس الطائي- قال عنه الترمذي: إنه حَسنٌ صحيح، واحتج به العلماء في مسائل كثيرة؛ والشاهد قوله : وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلًا أو نهارًا، قالوا: والنهار يبدأ من طلوع الفجر.
أما أصحاب القول الثاني -وهم الجمهور-: فاستدلوا بأن النبي لم يقف بعرفة إلا بعد الزوال؛ وقد قال: خذوا عني مناسككم[3]، وخلفاؤه الراشدون من بعده لم يقفوا إلا بعد الزوال، وأيضًا حُكي الإجماع -إجماع الأمة- على أن وقت الوقوف يبدأ من بعد الزوال. قالوا: فِعل النبي عليه الصلاة والسلام كأنه مُقَيِّد لِمَا جاء في حديث عروة: أو نهارًا؛ والمقصود بقوله: أو نهارًا يعني: بعد الزوال؛ وهذا هو القول الراجح، أن وقت الوقوف يبتدئ من بعد الزوال.
وثمرة الخلاف في هذه المسألة تظهر فيما لو وقف بعرفة قبل الزوال ثم دفع إلى مزدلفة؛ فعلى القول الأول يصح حجه، وعلى القول الثاني لا يصح.
ومن فروع هذه المسألة: أن بعض الناس يأتي عرفة مبكرًا -من بعد الفجر أو من أول النهار-، فيُجْهِد نفسه في الدعاء وفي الذكر، فإذا أتى وقت الزوال إذا هو متعب فنام؛ فوقت الوقوف إنما يبدأ بعد الزوال. لو أنه عكس لكان هذا أحسن؛ إذا أتيتَ إلى عرفة مبكرًا نَمْ وَارْتَحْ واستَعِدّ لِمَا بعد الزوال، إذا أتيتَ بعد الزوال؛ هنا ابدأ في الدعاء، ابدأ في التضرع، ابدأ في الذكر، ابدأ...؛ فانتبهوا لهذه المسألة بارك الله فيكم.
على هذا نقول: القول الراجح أن وقت الوقوف يبدأ من بعد زوال الشمس.
ما الذي اشتغل به النبي يوم عرفة؟
طيب، ما أفضل عمل يشتغل به الحاج في عرفة من بعد الزوال؟ أفضل عمل يشتغل به الحاج هو العمل الذي اشتغل به النبي يوم عرفة.
ما الذي اشتغل به النبي يوم عرفة؟ الدعاء؛ فإنه عليه الصلاة والسلام لمَّا صلى بالناس الظهر والعصر جمعًا وقصرًا في نَمِرَة، وبعدما خطب الناسَ؛ سار بناقته إلى آخر عرفات من جهة الشرق عند جبلٍ يُسمَّى جبل "إلَال" الذي يسميه الناس الآن جبل "الرحمة"، وأناخ ناقته، ولم ينزل منها، وجعل طيلة الوقت مستقبلًا القبلة، رافعًا يديه يدعو هكذا؛ حتى يقول الراوي: حتى إن خطام ناقته سقط فأخذه بإحدى يديه، ولا يزال رافعًا اليد الأخرى، وهذا إلى أن غربت الشمس. سبحان الله! انظر إلى صبر النبي عليه الصلاة والسلام وقوَّته في العبادة، وقت طويل، مع أنه عليه الصلاة والسلام حج -تقريبًا- في الربيع، في الزمن المعتدل؛ يعني ما يقارب ست ساعات وهو رافع يديه يدعو، سبحان الله! وهو رسول الله، ومع ذلك بقي رافعًا يديه، لم ينشغل بأي شيء آخر، انشغَل بالدعاء فقط؛ وهذا يدل على أن أفضل ما يشتغل به الحاج هو الدعاء. والدعاء حَرِيٌّ بالإجابة؛ ولذلك قال بعض السلف: ما دعوتُ الله بعرفة إلا تبيَّنْتُ إجابة الدعاء قبل أن يحول عليَّ الحول؛ فالدعاء حَرِيٌّ بالإجابة.
ويقول النبي : ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة؛ يَكثر العتق من النار في ذلك اليوم، وتكثر مغفرة الذنوب، وإنه ليدنو بهم "وإنه" الضمير يرجع على مَن؟ على الرب ، ليدنو من الحجيج، لكنه عند أهل السنة والجماعة دُنُوٌّ ليس كَدُنُوِّ المخلوقين، وإنما على الوجه اللائق بالله ، مع أنه سبحانه فوق السماء السابعة، فوق العرش، مستوٍ على العرش، لكنه لا يقاس بخَلقه، وهو عند أهل السنة والجماعة دُنُوٌّ حقيقي على الوجه اللائق بالله ، ويقول: ما أراد هؤلاء؟[4] هذا أخرجه مسلم.
وفي رواية أخرى يقول: يباهي بعباده ملائكتَه يباهي بالحجيج ملائكتَه، ويقول: انظروا إلى عبادي هؤلاء أتوني شُعْثًا غُبْرًا ضاحين؛ أُشْهِدكم أني قد غفرت لهم[5]؛ فيَكثر العتق من النار، ومغفرة الذنوب، وإجابة الدعوات؛ ولذلك ما رُئِي الشيطان أصغرَ ولا أحقرَ منه يوم عرفة -إلا ما رُئِي يوم بدر-؛ لِمَا يرى من تنزُّل الرحمات على الحجيج، ومغفرة السيئات والذنوب، وإجابة الدعوات؛ فهو يوم عظيم، هذه السويعات التي يقضيها الحاج على صعيد عرفات يوم عرفة هذه أنفَسُ ساعات العمر؛ ولذلك ينبغي أن يغتنمها الحاج.
بعض الحجاج تجد أنه في ذلك الموقف العظيم وذلك الوقت النفيس ينام! سبحان الله! كأنَّ النوم ما يحلو إلا في ذلك الوقت، ينام إلى غروب الشمس، وهذا من قلة التوفيق، من الحرمان، صحيح أن وقوفه هذا يجزئ لكنه حَرَم نفسه، وبعضهم ينشغل بالأحاديث الجانبية والسواليف، وبعضهم ينشغل بالتصوير!
المطلوب من الحاج في ذلك المقام العظيم أن ينشغل بالدعاء، وأن يَطَّرح بين يدي الله ، وسنذكر -إن شاء الله- في درس المغرب شيئًا من آداب الدعاء.
قال:
أي: إن وقت الوقوف بعرفة يمتد إلى طلوع فجر يوم النحر بالإجماع.