جدول المحتويات
مسنونات الحج
ثم انتقل المؤلف رحمه الله إلى الكلام عن مسنونات الحج.
المبيت بمنى ليلة عرفة
قال:
يعني: على سبيل التمثيل.
وذلك لفِعل النبي ؛ وقد قال: خذوا عني مناسككم[1]. وقال بعضهم إنه واجب، مثل الشيخ الألباني رحمه الله، ولكن أكثر أهل العلم على أنه مستحب وليس واجبًا، بل حُكي الإجماع على أنه مستحب؛ لأنه وافى النبيَّ بعرفة أناسٌ كثير لم يبيتوا ليلة عرفة بمنى، ومنهم عروة بن مُضَرِّس الطائي، ولم يأمرهم النبي بدمٍ، ولو كان الذهاب لمنى يوم التروية والمبيت بها ليلة عرفة واجبًا لَأَمرهم النبي بدمٍ، خاصةً عروة بن مُضَرِّس الطائي، فإنه أتى للنبي مستفتيًا فلم يوجب عليه دمًا. لاحظ أن حديث عروة بن مُضَرِّس مَرَّ معنا في مسائل كثيرة؛ ولذلك قلت لكم: إن هذه القضية التي حصلت من عروة أفادت الأمة، لاحظ كم استدللنا بهذا الحديث في عدة مسائل.
والمؤلف هنا يقول: "المبيت بمنى ليلة عرفة"، لو قال المؤلف: المُكث أو الذهاب لمنى يوم التروية والمبيت ليلة عرفة لكان أحسن؛ لأن هذا يُوهِم بأن أيضًا الذهاب لمنى يوم التروية ليس من المسنونات، وهذا غير صحيح، فيُسَن للحاج أن يذهب لمنى يوم التروية، ويصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء وفجر يوم عرفة، يقصر الصلاة الرباعية ركعتين من غير جمع إلا أهل مكة، ومَن كان قريبًا من مكة فهؤلاء يُتِمُّون.
طواف القدوم
طواف القدوم مستحب في حق القارن والمُفْرِد، وليس واجبًا، أما المتمتع فطواف القدوم بالنسبة له هو طواف العمرة.
الرَّمَل
معنى الرَّمَل: الإسراع في المشي مع مقاربة الخُطا، وهو مستحب في الأشواط الثلاثة في طواف القدوم خاصة؛ لأن النبي أمر أصحابه به، كما جاء في حديث ابن عباس؛ قَدِم النبي وأصحابه فقال المشركون: إنه يَقدُم عليكم أصحاب محمد وقد وَهَنَتْهُم حُمَّى يثرب، فأمرهم النبي أن يرمُلوا في الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين؛ لأنهم لا يرونهم، لأنهم كانوا من الجهة الأخرى، ثم في حجة الوداع أمرهم بالرَّمَل في جميع الأشواط الثلاثة.
الاضطباع
الاضطباع معناه: أن يجعل وسط ردائه تحت إبطه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر، وهذا قد أمر به النبي الصحابة أيضًا لما قدموا في السنة السابعة؛ فقالت قريش: إنه يَقدُم عليكم أصحاب محمد وقد وَهَنَتْهُم حُمَّى يثرب، فأمرهم النبي أيضًا بالاضطباع إظهارًا للقوة، وفَعَلَه عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع وأَمَرَ به؛ فأصبح سنة. فالرَّمَل والاضطباع من سنن الحج والعمرة، لكن إنما يكونان في طواف العمرة، وفي طواف القدوم بالنسبة للحج.
قال:
تجرد الرجل من المخيط عند الإحرام
أي: يُسَن عند إرادته الإحرام أن يتجرد من ملابسه، ثم بعد ذلك يلبس الإزار والرداء. ولو كان عليه إزار ورداء، ولم يعقد النية ثم نوى الإحرام؛ فلا بأس به، لكن الأفضل أن يتجرد ثم يلبس الإزار والرداء، ثم ينوي؛ هذا هو مقصود المؤلف بهذا.
قال:
لبس إزار ورداء أبيضين
لأن النبي فعل ذلك؛ قال: وَلْيحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين[2].
لقوله عليه الصلاة والسلام: إن من خير ثيابكم البياض؛ فَالْبسوها، وكفنوا فيها موتاكم[3]؛ وهو حديث صحيح، أخرجه أصحاب السنن وأحمد بسند صحيح.
وهذا يدل على أن لبس البياض مستحب، وأنه أفضل من غيره من اللباس؛ ولذلك فالأفضل أن يكون لباس الإحرام أبيض، وأن يكون الإحرام أبيض اللون، والكفن كذلك.
لباس الإنسان غير المحرم؛ هل الأفضل أن يكون أبيض؟ نعم؛ لأنه قال: فَالْبسوها وهذا أمر، وأقل ما يفيده الأمر الاستحباب.
هل يُفهم من هذا أن لبس الغترة البيضاء أفضل من الشماغ الأحمر؟ هل يؤخذ هذا من الحديث؟ نعم، هذا هو الظاهر؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال: إن من خير ثيابكم البياض؛ فَالْبسوها؛ هذا أمر، وأقل ما يفيده الأمر الاستحباب، وقلنا: إن هذا الحديث حديثٌ صحيح، وصححه الترمذي، وقال: حسن صحيح، هذا يدل على استحباب لبس البياض.
لِمَا يُعلَم من حِرص الشريعة على النظافة، وإن كانا جديدين فهو أكمل وأحسن.
قال:
التلبية من حين الإحرام إلى أول الرمي
فهي سنة مؤكدة؛ كان النبي إذا استوت به راحلته يلبي، وكانت تلبيته: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك[4]؛ ولم يَزَل عليه الصلاة والسلام يلبي في الحج حتى رمى جمرة العقبة. فالتلبية مشروعة للحاج من حين الإحرام، وتستمر إلى رمي جمرة العقبة. ومشروعة للمعتمر من حين الإحرام إلى بداية طواف العمرة. ورفع الصوت والجهر بها سنة، وقد كان الصحابة يرفعون أصواتهم بالتلبية حتى إنهم لا يبلغون الروحاء إلا وقد بُحَّتْ حلوقهم؛ وقد جاء في حديثٍ صحيح أن النبي قال: ما من مسلم يلبي؛ إلا لبَّى مَن عن يمينه وشماله من شجر أو حجر أو مَدَر، حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا[5]، وأيضًا جاء في الحديث الآخر: أفضل الحج العَجُّ والثَّجُّ[6]؛ والعَجُّ: هو رفع الصوت بالتلبية، والثَّجُّ: إسالة الدم بالنحر -نحر الهدايا-.
إلا المرأة؛ إذا كانت بحضرة الرجال الأجانب فإنها لا ترفع صوتها، وإنما تلبي بقدر ما تُسمِع رفيقتها. فانظر عناية الشريعة بتجنيب المرأة مواطن الفتنة، حتى في هذا الشيء، حتى التلبية يقال لها: لا ترفعي صوتك أمام الرجال الأجانب، والعجب ممن يريد الزج بالمرأة في مجتمعات الرجال، فإن هذا مخالف لأمور الشرع؛ الله تعالى يقول: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب: 33].
قال:
حُكم مَن ترك ركنًا أو واجبًا أو مسنونًا
انتقل المؤلف للكلام عن بيان ما يترتب على ترك الركن والواجب والمسنون.
قال:
أركان الحج كأركان الصلاة؛ مَن ترك ركنًا من أركان الصلاة لم تصح صلاته، كذلك أركان الحج.
فواجبات الحج كواجبات الصلاة، إلا أن واجبات الصلاة تُجبَر بسجود السهو، وواجبات الحج تُجبَر بدمٍ.
والدليل على وجوب الدم قولُ ابن عباس رضي الله عنهما: مَن نسي من نُسُكه شيئًا أو تركه؛ فَلْيُهْرِق دمًا[7] أخرجه مالك في الموطأ بسند صحيح. أخذ العلماء من هذا الأثر أن مَن ترك واجبًا فعليه دم، وقد عملت الأمة بهذا من بعد ابن عباس إلى وقتنا الحاضر.
وتَرْك الواجب يستوي فيه العمد والسهو، ولكن الفرق في الإثم؛ فالمتعمد يأثم، وغير المتعمد ليس عليه إثم. وما كان من باب ترك المأمور لا يُعذر فيه الإنسان بالسهو ولا بالنسيان، أما ما كان من باب ارتكاب المحظور فيُعذر فيه بالسهو والنسيان، وهذه قاعدة مُطَّردة في جميع أبواب العبادات؛ فمثلًا في الصلاة لو نسي إنسان الوضوء، وصلى معنا صلاة الفجر؛ فيقال: اذهب، وتوضأ، وأَعِد صلاة الفجر، ولا يقال إنه ناسٍ؛ بينما لو صلى معنا صلاة الفجر، وبعد صلاة الفجر قال: أنا وجدت على ثوبي نجاسة؛ نقول: صلاتك صحيحة. الفرق بينهما أن النجاسة من باب ارتكاب المحظور، فيُعذر فيها بالجهل والنسيان، وأما الوضوء فهو من باب المأمور، فلا يُعذر فيه بالجهل ولا بالنسيان؛ فما كان من باب ترك المأمور لا يُعذر فيه بالجهل ولا بالنسيان، وما كان من باب ارتكاب المحظور يُعذر فيه بالجهل والنسيان؛ هذه القاعدة مفيدة لطالب العلم.
قال:
كما لو ترك مثلًا الاضطباع، أو الرَّمَل، أو المبيت بمنى ليلة عرفة، أو طواف القدوم، فلا شيء عليه؛ لأنه من المسنونات وليس من الواجبات.
ثم انتقل بعد ذلك المؤلف للكلام عن شروط صحة الطواف والسعي.