جدول المحتويات
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.
اللهم ارزقنا الفقه في الدين، وآتنا من لدنك رحمة، وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.
باب الفدية
هذا هو المجلس الرابع في التعليق على كتاب "السلسبيل في شرح الدليل"، وكنا قد وصلنا إلى:
قال المصنف رحمه الله:
هذا هو تعريف الفدية، وهو تعريف جيد مختصر وجامع مانع؛ "ما يجب بسبب الإحرام أو الحرم".
أما ما يجب بسبب الإحرام فظاهر، وما يجب بسبب الحرم سيتكلم عنه المؤلف، وهو متعلق بالصيد في الحرم؛ وهذا سيعقد له المصنف فصلًا، ويتكلم عنه بالتفصيل.
أقسام الفدية
وقسَّم المصنف الفدية إلى قسمين؛ قال:
فدية التخيير
قسم على التخيير؛ يعني: أن المكلف مُخيَّر بين عدة أمور. وعلى الترتيب: أي لا ينتقل من أمر إلى أمر آخر إلا عند العجز عن الأمر الذي قبله.
قال:
هذه المحظورات كلها فديتها على التخيير.
ومقصوده باللبس لبس المخيط، وتكلمنا بالأمس بالتفصيل عن معنى المخيط والمقصود به، والمخيط بالنسبة للرجل والمخيط بالنسبة للمرأة، والطِّيب هذا يشمل الجميع الرجل والمرأة، وتغطية الرأس بالنسبة للرجل. وإزالة أكثر من شعرتين هذا بناءً على المذهب، وسبق أن ذكرنا الخلاف بالأمس وقلنا: إن القول الراجح أن إزالة الشعرة أو الشعرتين والثلاث أنها لا يجب بها فدية، وأن القول الراجح هو أن الفدية تجب بما يحصل به إماطة الأذى؛ لأن الله قال: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ [البقرة: 196].
قال:
يعني: إذا تسبب في الاستمناء، بأن تعمد الاستمناء، أما لو كان الاستمناء بغير اختياره -كما لو نام واحتلم وهو محرم- فهذا ليس عليه شيء، ولا أثر له لا على الحج ولا على الصيام؛ لأنه بغير اختياره، لكن إذا استمنى باختياره فهذا هو الذي تجب فيه الفدية.
المباشرة عمومًا محرمة بغير إنزال، وهذه توجب الفدية التي هي على التخيير، أما إذا كانت بإنزال فسيأتي الكلام عنها.
التخيير بين ذبح شاة، أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين
فهذه الأمور على التخيير؛ التخيير بين ماذا؟
قال:
وهذه الفدية قد جاءت منصوصًا عليها في قول الله : فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة: 196]. والصيام يعني: ثلاثة أيام، الصدقة: إطعام ستة مساكين، النسك: ذبح شاة.
وجاء هذا موضحًا في حديث كعب بن عُجْرة ، فإن كعب بن عُجْرة أُتي به محمولًا إلى النبي والقمل يتناثر من رأسه؛ فقال: ما كنت أظن أن الجهد بلغ بك إلى ما أرى[1] لأنهم كانت شعورهم طويلة، العرب كان من عادتها أنها تطيل الشعر، وهذه المسألة يرجع فيها الإنسان لعادة أهل بلده، إن كان من عادتهم إطالة الشعور أطال شعره، وإن كان من عادتهم أنهم لا يطيلون الشعور -كما هو عليه الآن حال الناس- فلا يُطِل الشعر.
فالسُّنة أن يتبع الإنسان عادة أهل بلده فيما يتعلق بالشعر، وفيما يتعلق أيضًا باللباس، هذا هو القول الراجح. رأيتُ أحد الناس قد أطال شعره، له شعر طويل، فقلت له: لماذا؟ قال: والله أتبع السُّنة، الرسول عليه الصلاة والسلام أليس شعره طويلًا؟ طيب، أخذ بهذا الرأي، ذهب للعمرة ما حلق شعره، قصَّره، قلت: تترك السنة المتفق عليها المجمع عليها، وهي أن الحلق أفضل من التقصير بالنسبة للمعتمر، وتأتي لأمر -على الأقل- محل خلاف، وتقول: أتبع السُّنة؟! فأنت بطريقتك هذه لست متبعًا للسُّنة، إنما تتبع هواك! فبالنسبة للشعر يرجع فيه الإنسان لعادة أهل بلده، اللباس أيضًا يرجع لعادة أهل بلده.
لو قال رجل: النبي عليه الصلاة والسلام يلبس إزارًا ورداءً، أنا أريد أن ألبس إزارًا ورداءً وعمامة؛ هل هذا سنة؟ نقول: لا، اتبع عادة أهل البلد، لا تشذّ عنهم؛ ولذلك ورد النهي عن لباس الشهرة.
فكعب بن عُجْرة أُتي به للنبي محمولًا، فقال له عليه الصلاة والسلام: اذبح شاة، أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع[2]؛ لاحظ هنا أن القمل يتناثر من رأسه، والنبي عليه الصلاة والسلام تعاطَف معه، قال: ما كنت أظن أن الجهد بلغ بك إلى ما أرى، لكن مع ذلك هل أعفاه من الفدية؟ ما أعفاه.
وهذا فيه رد على بعض الإخوة عندما يؤمر مثلًا الحاج بفدية أو يؤمر بكذا؛ يقول: يسِّروا على الناس، لا تشدِّدوا عليهم. التيسير له ضوابط؛ يعني كعب بن عُجْرة بلغ إلى هذه المرحلة، النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ما كنت أظن أن الجهد بلغ بك إلى ما أرى، وأُتي به محمولًا، والقمل يتناثر من رأسه؛ لماذا لم يقل له النبي عليه الصلاة والسلام: اذهب، ما عليك شيء؟ وإنما أمره بالفدية. فمسألة يسِّروا على الناس ولا تشدِّدوا عليهم هذه ليست على إطلاقها؛ التيسير بضوابط، فنُيَسِّر بمقتضى الدليل، إذا أردنا التيسير بمقتضى الدليل، وإلا كان تمييعًا وليس تيسيرًا.
وذات مرة أنا أدركتُ رجلًا في أحد المساجد في مكة يُلَقِّن الحجاج الرُّخَص، افعلوا كذا، افعلوا كذا؛ قلتُ: ما يصلح هذا، لقِّنْهم السُّنة، مَن يحتاج الرخصة بعد ذلك نُرَخِّص له، لكن في البداية أنت لَقِّنْهم السُّنة، عَلِّمْهم السُّنة، بعد ذلك لو أتى وقال: والله عليَّ مشقة، أنا محتاج كذا؛ هنا نُرَخِّص له، يعني: هذا المنهج -أنك تُلَقِّن الناس الرُّخَص- غير صحيح، لَقِّنْهم السُّنة، اتباع السُّنة، فإذا أحدٌ سأل أو مثلًا وجد مشقة أو كذا؛ هنا يُرَخَّص له.
قال:
هذا بالنسبة للصدقة.
مقدار الإطعام في الفدية
يفرقون بين البُر وبين غيره، فالبُر -عادةً- هو أَنْفَس من غيره من الأطعمة؛ فيقولون: البُر يكفي فيه مُدُّ بُرٍّ أو نصفُ صاعٍ من غيره، وهذا قد وردت فيه بعض الآثار عن بعض الصحابة.
والقول الثاني في المسألة: أنه لكل مسكين نصف صاع، وهذا هو القول الراجح؛ لأنه هو الذي أتى منصوصًا عليه في حديث كعب بن عُجْرة، قال : أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع وهذا في الصحيحين، فما دام أن التقدير أتى من كلام النبي ؛ فلا قول لأحد مع قول النبي . وعلى ذلك؛ فالقول الراجح في الصدقة أنها نصف صاع.
قال:
هنا المؤلف تكلم عن جزاء الصيد، ثم تكلَّم بعد ذلك عن الصيد وعن جزائه؛ ولذلك الأحسن أننا نؤجل الكلام عن جزاء الصيد حتى نأتي للكلام عن الصيد، كلام المؤلف أحيانًا يكون فيه شيء من عدم الترتيب؛ ولذلك في السلسبيل حاولنا أن نرتب الأحكام، فنتكلم عنها في موضع واحد؛ فالصيد والكلام عنه سيأتي -إن شاء الله-.
قال:
فدية الترتيب
يعني: الفدية التي هي على الترتيب.
المتعة يعني: من التمتع، والمقصود به الدم الذي يذبحه المتمتع؛ وهو المذكور في قول الله : فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة: 196]. القارن؛ هل يجب عليه هدي؟ نعم، القارن يجب عليه هدي كالمتمتع. القارن تجد في بعض الآثار عن الصحابة أنهم يسمون القارن متمتعًا؛ لأن القارن يجب عليه هدي أيضًا، الذي لا يجب عليه هدي المُفْرِد، المُفْرِد ليس عليه هدي.
قال:
إذا ترك واجبًا كالإحرام من الميقات مثلًا أو الرمي أو نحو ذلك من الواجبات؛ فعليه دم.
إذا أُحْصِر فعليه دم، فمَن لم يجد فصيام عشرة أيام. وسيأتي باب مستقل آخر أبواب الحج -باب الفوات والإحصار-، وسنتكلم -إن شاء الله- غدًا في درس الفجر عن أحكام الإحصار بالتفصيل.
والوطء هو أشد محظورات الإحرام، وسيأتي الكلام عنه من كلام المؤلف بالتفصيل وما يترتب عليه.
قال:
فدية المتمتع والقارن والتارك واجبًا
المقصود بالدم يعني: شاة يذبحها في الحرم، ويوزعها على فقراء الحرم.
وقت صوم الأيام الثلاثة والسبعة للمتمتع الذي لا يجد الهدي
لقول الله : فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة: 196]؛ فالثلاثة أيام تصام في الحج، والمؤلف يقول: إن الأفضل أن يكون آخرها يوم عرفة، معنى ذلك متى تكون؟ تكون السابع والثامن والتاسع.
وقال بعض أهل العلم: إن الأفضل أن يكون آخرها يوم التروية؛ لأجل أن يكون يوم عرفة مفطرًا، وهذا هو القول الراجح؛ لأن النبي نهى الحاجَّ عن أن يصوم بعرفة، وكان عليه الصلاة والسلام في عرفة مفطرًا؛ إنه عليه الصلاة والسلام أتى أولًا إلى "نَمِرَة" وهي قرية صغيرة قبل عرفة، وأقام بها إلى أن زالت الشمس، ثم ذهب إلى الناس وهم مجتمعون الوادي -نَمِرَة-، وخطب بهم في المسجد الموجود الآن خطبةً عظيمةً، ثم أذن المؤذن فصلى بهم صلاة الظهر ركعتين، ثم أقام فصلى بهم صلاة العصر ركعتين، ثم انصرف عليه الصلاة والسلام إلى آخر عرفات -شرق عرفات-، آخر عرفات من جهة الشرق عند الصخرات، وأناخ ناقته، وجعل طيلة الوقت يدعو وهو راكب على ناقته، لم ينزل منها، مستقبلًا القبلة رافعًا يديه هكذا يدعو طيلة الوقت، والصحابة شَكُّوا هل كان عليه الصلاة والسلام صائمًا؟ ما أكل شيئًا، طيلة الوقت يدعو، فأراد الصحابة أن يختبروه، فأرسلت إليه أم الفضل بلبن بعد العصر، فأعطته، قالت: إذا كان صائمًا سيرُدُّه، إذا كان مفطرًا سيشرب اللبن، فشرب منه والناس ينظرون، فعرفوا أنه كان مفطرًا ولم يكن صائمًا.
فالسُّنة إذَن في يوم عرفة -بالنسبة للحاج- أن يفطر ولا يصوم؛ ولذلك الذي يصوم ثلاثة أيام الأفضل أن يجعلها السادس والسابع والثامن، لأجل أن يكون يوم عرفة مفطرًا. والحكمة في ذلك -والله أعلم- أن الحاج مطلوب منه الدعاء في يوم عرفة، وحتى يقوى على ذلك وينشط، فالأفضل أن يفطر؛ لأنه إذا كان صائمًا ربما يضعف بسبب الصيام.
يعني: يصح صيام الثلاثة أيام في الحج أيامَ التشريق -وهي: الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر-، وقد جاء في حديث عائشة وابن عمر ؛ قالا: "لم يُرَخَّص في أيام التشريق أن يُصَمْنَ إلا لمَن لم يجد الهدي"، أخرجه البخاري في صحيحه، وما عدا ذلك لا يجوز.
وعلى ذلك؛ مَن كان من عادته أنه يصوم أيام البيض، فبالنسبة لشهر ذي الحجة لا يصوم الثالث عشر، يصوم الرابع عشر والخامس عشر، ويُعوّض عن الثالث عشر بالسادس عشر. قال:
يعني: يصوم سبعة أيام إذا رجع إلى أهله، ولا يُشترط فيها التتابع.
قال:
فدية المُحصَر
تكلم المؤلف هنا عن الإحصار، مع أنه عَقَدَ بابًا مستقلًّا سماه "باب الفوات والإحصار". ومراده هنا: أنه إذا أُحصِر الإنسان من عدوٍّ أو من غير عدوٍّ؛ فإنه -على القول الراجح- يجب عليه دمٌ يذبحه في المكان الذي أُحصِر فيه؛ لأن النبي وأصحابه لمَّا أُحصِروا في الحديبية نحر البُدْن.
وهل يجب على المُحصَر حلق الرأس مع ذبح الدم؟
المؤلف لم يُشِر إلى حلق الرأس، والمذهب عند الحنابلة أنه لا يجب حلق الرأس؛ قال بعض أهل العلم: إنه يجب على المُحصَر أن يحلق رأسه؛ لقول الله : وَلَا تَحْلِقُوا رُؤوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة: 196]؛ ففيه إشارة إلى أنه لا بُدَّ من الحلق، ولأن النبي في قصة الحديبية أمر الصحابة أن يحلقوا رؤوسهم؛ يقول الراوي: فَوَاللهِ ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم أحد منهم دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، قالت أم سلمة: يا نبي الله، أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تُكلِّم أحدًا منهم واحلق رأسك، فخرج فلم يُكلِّم أحدًا منهم، ونحر بُدْنه، وحلق رأسه، فلما رآه الصحابة حلق رأسه حلقوا رؤوسهم[3].
امتناع الصحابة ليس معصيةً للنبي عليه الصلاة والسلام، حاشا وكلَّا، لكنهم رَجَوْا أن يُنسَخ ذلك الحُكم، فلما رأوا أنه قد حلق رأسه أَيِسُوا من النسخ، فقام وحلق بعضهم، كان يحلق بعضهم رؤوس بعض، حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غمًّا؛ لماذا غمًّا؟ من شدة الغمّ ما يريدون أن يرجعوا؛ لأن قريشًا صدَّتهم عن البيت، وكانوا متلهفين للبيت؛ يعني تصوَّر إنسانًا أُخرِج من بلده ورجع لها بعد ست سنين؛ ما ظنك بشوقه للبلد؟ فكانوا مشتاقين لمكة.
وأيضًا ظاهر بنود الصلح أن فيها غضاضة على الإسلام والمسلمين، توضع الحرب عشر سنين، يرجع النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه لا يعتمرون ذلك العام، مَن أتى لقريش مرتدًّا لا ترده، ومَن أتى للنبي مسلمًا يرده؛ قال عمر: يا رسول الله، أَلَسْنَا على الحق وهم على الباطل؟! قال: بلى، قال: فلِمَ نعطي الدَّنِيَّة في ديننا؟! قال: إني رسول الله، قال أبو بكر: استمسك بغرزه؛ فإنه رسول الله[4]. كل الصحابة حصل منهم هذا الذي حصل من الاغتمام إلا رجلًا واحدًا كان مطمئنًّا واثقًا، لم يحصل منه قلق ولا اضطراب ولا غم؛ مَن هو هذا الرجل؟ أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، أبو بكر أعلَم الصحابة، وأفقَه الصحابة، وأكثرهم يقينًا وصدقًا وفراسةً، وهو أفضلهم رضي الله عنه وأرضاه.
العجيب أنه لما انصرف النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه راجعين من الحديبية -الحديبية التي هي الآن مكانها "الشميسي" عند نقطة التفتيش، وأنت نازل من مطار جدة تأتيك نقطة تفتيش، هذه هي الحديبية- لما رجعوا من الحديبية في الطريق نزل قول الله: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح: 1]؛ فتعجب الصحابة! قالوا: يا رسول الله، أوَ فتحٌ هو؟ قال: نعم[5]. ليس نصرًا بل فتحًا، وإذا تأملت في عاقبته وجدته فتحًا عظيمًا؛ ولذلك قال : إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا.
ليس المقصود فتح مكة؛ لأن هذه الآية نزلت في السنة السادسة من الهجرة قبل فتح مكة، المقصود به صلح الحديبية؛ لأن هذا الصلح كان سببًا في نشر الإسلام، في الصلح أصبح هناك أمان انتشر به الإسلام، وأيضًا بهذا الصلح كانت العاقبة العظيمة للإسلام والمسلمين، وهذا يدل على أن بعض الأمور يكون في ظاهرها شرٌّ، لكن في عاقبتها خيرٌ عظيم، سواء على مستوى الفرد أو على مستوى الأُمَّة، بعض الأحداث يظن بعض الناس أن فيها شرًّا، لكن الله يجعل في عاقبتها خيرًا بل فتحًا مبينًا.
ولذلك كان عمر يقول: أيها الناس، اتهموا الرأي في الدين؛ لقد رأيتُني أجادل النبيَّ ؛ يعني: ما أشك أني على صواب، ثم تبيَّن أني لست على صواب؛ فاتهموا آراءكم. فأحيانًا بعض الأمور يظن الإنسان أن فيها شرًّا، لكن الله يجعل في عاقبتها خيرًا عظيمًا.
فالمُحصَر إذَن؛ يذبح هديًا ويحلق رأسه، فإن لم يجد صام عشرة أيام ثم حلَّ، وصُوَر الإحصار الآن قد تتحقق لو حج إنسان ولم يكن معه تصريح، ورُدَّ ولم يستطع أن يدخل مكة؛ فهنا يذبح هديًا ويحلق رأسه، فإن عجز عن ذبح الهدي صام عشرة أيام ثم حلَّ.
وسيأتي -إن شاء الله- الكلام عن أحكام الإحصار بالتفصيل.