عناصر المادة
تتمة محظورات الإحرام
ثم إن التَّرفه الذي يحصل بلبس هذا الإزار المَخِيط أكثر مما يحصل بلبس السراويل، فكثيرٌ من الناس يُفَضِّلونه على السراويل، وفي بيوتهم يلبسونها، فهي مُريحةٌ.
فعلى هذا القول الراجح: أن هذا الإزار المَخِيط لا يجوز لبسه للمُحْرِم.
وهناك -يا إخواني- بالنسبة لطلبة العلم قضيةٌ منهجيةٌ أُنبه عليها: طالب العلم ينبغي أن يكون عنده ورعٌ.
ما معنى الورع؟
مَرَّ معنا في درس البارحة تعريف الورع: ترك ما يُخْشَى ضرره في الآخرة.
فإذا كانت المسألة خلافيةً، حتى وإن كان طالب العلم يرى هذا الرأي، فكونه يتورع ولا يلبس هذا اللباس لا شكَّ أن هذا هو الأكمل، وهنا الورع يأتي في مثل هذه المسائل، حتى وإن كنت ترى هذا الرأي أين الورع؟
طائفةٌ من أهل العلم، بل أكثر العلماء يرون أنه لا يجوز لبسه -أكثر العلماء- فينبغي لطالب العلم أن يكون عنده ورعٌ: ترك ما يُخْشَى ضرره، يكون عنده ورعٌ، وما دام أن المسألة فيها خلافٌ، وهناك علماء كبار قالوا بعدم الجواز ينبغي أن يتورع، حتى وإن كان يرى القول الآخر، فهذه قضيةٌ مسلكيةٌ منهجيةٌ ينبغي أن يحرص عليها طالب العلم، ويكون عنده الورع.
يعني مثلًا: صلاة الفجر وما يتعلق بها.
تعرفون الخلاف في توقيت صلاة الفجر، ليس الفجر من الناحية الفقهية، الخلاف في تحقيق المناط: هل هذا التقويم فعلًا مُطابقٌ للواقع؟ طيب، أين الورع؟
ما دام فيها خلافٌ كبيرٌ بين طلبة العلم، لماذا لا أجعل -مثلًا- صلاة الفجر بعد عشرين دقيقة من الأذان، وأخرج من الخلاف؟ خاصةً أنني لو بَكَّرْتُ بصلاة الفجر يترتب على ذلك أن كثيرًا من كبار أهل العلم يقولون: إن صلاتك غير صحيحةٍ؛ لأنها كانت قبل الوقت، حتى لو كنت غير مُقتنعٍ بهذا الرأي، لكن تبقى قضية الورع.
هذه -يا إخواني- مسألة الورع، وقد بدأنا نفتقد هذه المعاني الآن، وهذه قضيةٌ منهجيةٌ مسلكيةٌ ينبغي أن يحرص عليها طالب العلم، فيكون هذا الورع في المسائل الخلافية، ويخرج من الخلاف، خاصةً إذا كان تترتب عليه صحةٌ وعدم صحةٍ، إجزاء وعدم إجزاء.
أما لو كانت المسألة فاضلًا ومفضولًا فالأمر سهلٌ، لكن إذا كان الأثر كبيرًا: إما أن تصح أو لا تصح، مثلًا: صلاة الفجر تصح أو لا تصح، وهنا يجوز للمُحْرِم أو لا يجوز، فهذه القضية لها أثرٌ كبيرٌ، فمن الناحية المسلكية ينبغي أن يكون عند طالب العلم الورع.
هناك فراش النوم الذي يُدخل المُحْرِمُ بدنه فيه، ويتغطَّى، ويُغلفه بِسَحَّابٍ، خاصةً في مُزدلفة فراش النوم يدخل فيه، ويضع السَّحَّاب، وما يظهر منه شيءٌ، وينام، هل هذا يجوز؟
الذي يظهر أنه لا بأس به، وأنه ليس بِمَخِيطٍ، وإنما هو غطاء، فلا يُعتبر من محظورات الإحرام، لكن يُغطي بدنه دون رأسه.
الثاني: تعمد تغطية الرأس
تغطية الرأس ممنوعٌ منها المُحْرِم الرجل؛ لأن النبي نهى عن لبس العمائم والبرانس [1].
وتغطية الرأس تنقسم إلى خمسة أقسامٍ:
- القسم الأول: جائزٌ بالإجماع، مثل: أن يضع على رأسه حنَّاء، أو يُلَبِّد رأسه.
ومعنى التَّلْبِيد: أن يضع على رأسه شيئًا شبيهًا بالصَّمْغ، وهذا قد فعله النبي ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان شعره طويلًا، وكانت العرب وقت النبي عليه الصلاة والسلام تُطيل شعورها.
ولهذا فهذه المسائل ترجع لعادة أهل البلد، فإذا كان من عادة أهل البلد إطالة الشعور للرجال يفعل ذلك الإنسان، وإذا كان من عادتهم -كما هو الآن في الوقت الحاضر- أنهم لا يُطيلون شعورهم، فالأفضل أن يتبع عادة أهل البلد.
لو أراد رجلٌ الآن أن يلبس إزارًا ورداءً، ويقول: أقتدي بالنبي عليه الصلاة والسلام، هل هذا سُنةٌ؟
لا، نقول: البس لباس أهل البلد، بل إن هذا يُعتبر شهرةً، والشُّهرة قد ورد النَّهي عنها، فكان عليه الصلاة والسلام شعره طويلًا، وقد حجَّ قارنًا، والمدة ستطول، وكان عليه الصلاة والسلام حريصًا جدًّا على النظافة، فلم تُشَمُّ منه رائحةٌ كريهةٌ قط، ويُحب الطِّيب، فوضع على رأسه .. لَبَّدَ شعر رأسه، وضع مادةً شبيهةً بالعسل حتى تقي الشعر من الغبار والتراب والوسخ؛ لأنه أحرم في الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة، ولم يتحلل إلا في عشر ذي الحجة، يعني: سيبقى خمسة عشر يومًا والإحرام عليه؛ ولهذا وضع هذا التَّلبيد.
أخذ العلماء من هذا فوائد:- منها: أنه يجوز وضع مثل هذه المادة، ومنها الحناء -مثلًا- فلا بأس أن يضع المُحْرِم حنَّاء على رأسه.
- أيضًا منها: أنه يجوز المسح عليها، فإذا وضع الإنسان حنَّاء أو نحوها يجوز المسح في الوضوء فوقها.
- القسم الثاني: أن يُغطيه بما لا يقصد به التغطية والستر: كحمل العفش ونحوه، فهذا لا بأس به ما دام أنه لم يقصد به التَّغطية.
- القسم الثالث: أن يُغطي رأسه بما لا يُعدّ لبسًا، لكنه مُلاصقٌ يقصد به التغطية، وهذا كالمثال الذي ذكره المؤلف بقوله: “ولو بطينٍ”، فهذا لا يجوز؛ لعموم قول النبي : ولا تُخَمِّروا رأسه [2].
- القسم الرابع: أن يستر رأسه بما يلبس عادةً على الرأس: كالطَّاقية، والشِّماغ، والغُتْرَة، والعمامة، فهذا لا يجوز بالإجماع.
- القسم الخامس: أن يُظلل رأسه بتابعٍ: كالشمسية، أو بِمُنْفَصِلٍ: كالخيمة، أو المَحْمَل، أو سقف السيارة، وهذا قد اختلف فيه العلماء على قولين:
القول الأول: أنه لا يجوز، وهذا أشار إليه المؤلف بقوله: “أو استظلالٍ بِمَحْمَلٍ”، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، لكن هذا القول أصبح الآن مهجورًا، وأصبح معمولًا به عند الشيعة، فتجد أنهم إذا ركبوا في الحافلة يُزيلون السَّقف، لكنه هو المذهب عند الحنابلة، يعني: ليس فقط قول الشيعة، بل هو قول بعض المذاهب عند أهل السنة.
القول الثاني: أنه جائزٌ؛ لأن النبي استظلَّ بالقُبة التي ضُربتْ له بِنَمِرَة، وعندما كان يرمي جمرة العقبة في ذهابه من مُزدلفة إلى مِنًى، وكان معه أسامة بن زيدٍ والفضل بن عباسٍ، وكان الفضل بن عباس رجلًا وسيمًا، فَرَأَتْه بعض النساء، فجعلن ينظرن إليه، فجعل ينظر إليهن، فالنبي عليه الصلاة والسلام أخذ برأسه وحوَّله من الجهة الأخرى، فجعل ينظر الفضل من الجهة الأخرى، فجعل النبي عليه الصلاة والسلام يُحَوِّله إلى الجهة الثانية.
انظر إلى رفق النبي عليه الصلاة والسلام ولُطْفِه وطريقة إنكاره عليه الصلاة والسلام.
فلما وصل إلى جمرة العقبة ظلَّله أسامة بن زيدٍ بثوبٍ، فرمى الجمرة [3].
وهذا يدل على أن مثل هذا التَّظليل لا بأس به؛ ولذلك فالقول الراجح أنه يجوز الاستظلال بالمَحْمَل وبالشَّمسية وبالخيمة وبالثوب غير المُلاصق وبالسيارة ونحو ذلك، فهذا كله لا بأس به، وهو الذي عليه العمل، بل إن القول الأول أصبح مهجورًا عند أهل السنة.
حكم تغطية المُحْرِمة وجهها
قال:
أي: لا يجوز للأنثى المُحْرِمة أن تُغطي وجهها وهي مُحْرِمَةٌ، لكن عند مرور الرجال الأجانب تُسْدِل الغطاء على وجهها للحاجة، فتكون تغطية الوجه بالنسبة للمرأة على كلام المؤلف من محظورات الإحرام، وهذا أحد الأقوال في المسألة.
القول الثاني: أن تغطية الوجه ليست من محظورات الإحرام، وأن المرأة إنما هي ممنوعةٌ فقط من النقاب والبُرْقُع ونحوهما مما هو مُفَصَّلٌ على الوجه، أما الغطاء الذي ليس مُفَصَّلًا على الوجه فليست ممنوعةً منه؛ لعدم الدليل الدال على أن تغطية الوجه للمُحْرِمة من محظورات الإحرام، وإنما الذي ورد هو نهيها عن النقاب: ولا تَنْتَقِب المُحْرِمة، ولا تلبس القُفَّازين [4].
وهذا هو القول الراجح، واختاره جمعٌ من المُحققين من أهل العلم: كابن تيمية، وابن القيم، وهو الذي عليه فتوى مشايخنا.
وثمرة الخلاف في هذه المسألة تظهر فيما إذا لم تكن المرأة أمام رجالٍ أجانب، فهل لها أن تُغطي وجهها بغير النِّقاب؟
فعلى القول الأول الذي قال به المؤلف: ليس لها ذلك، وعلى القول الثاني الراجح: لها ذلك.
وهنا نقلتُ في كتابي “السلسبيل” كلمةً لابن تيمية رحمه الله، قال: “إن النبي سوَّى بين وجه المرأة ويديها، وكلاهما كبدن الرجل، لا كرأسه”، وبدن الرجل إنما يُمنع فيه فقط من المُفَصَّل -من المَخِيط- أما الرأس فيُمنع من التغطية، فوجه المرأة كبدن الرجل، وليس كرأس الرجل.
قال: “وأزواجه كُنَّ يُسْدِلْنَ على وجوههن من غير مُراعاة المُجافاة، ولم ينقل أحدٌ من أهل العلم عن النبي أنه قال: إحرام المرأة في وجهها، وإنما هذا قول بعض السلف، لكن النبي نهاها أن تَنْتَقِب أو تلبس القُفَّازين”، قال: “والبُرْقُع أقوى من النِّقاب”.
فعبارة “إحرام المرأة في وجهها” ليست من كلام النبي ، لكنها من قول بعض السلف.
وعلى هذا نقول: وجه المرأة كبدن الرجل، فالمرأة لا بأس أن تُغطي وجهها، لكن بغير النقاب، وبغير البُرْقُع، يعني: بغير المُفَصَّل، بل إنها يجب عليها أن تُغطي وجهها عن الرجال الأجانب، سواء كانت مُحْرِمَةً أو غير مُحْرِمَةٍ؛ لأن الوجه هو مجمع الزينة، فالخاطب إذا أراد أن يخطب امرأةً إنما يريد النظر إلى وجهها؛ ولهذا جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك قالت لما رَأَتْ صفوان بن المُعَطّل: “فاستيقظتُ باسترجاعه حين عرفني، فَخَمَّرْتُ وجهي” [5]، هذا لفظٌ صريحٌ، وهو في الصحيحين، وهذا دليلٌ على أن النساء في عهد النبي عليه الصلاة والسلام كُنَّ يُغَطِّين وجوههنَّ عن الرجال الأجانب.
هل تُمْنَع المُحْرِمَة من جوارب الرِّجْلَين؟
نقول: لا تُمنع، إنما هذا خاصٌّ بالرجل فقط، بل يُستحب لها أن تلبس الجوربين؛ لأن هذا أستر لها.
وبعض الناس تلتبس عليهم هذه المسألة، فيظن أن المرأة المُحْرِمَة ممنوعةٌ من جوارب الرِّجْلَين، وهذا غير صحيحٍ، إنما هي ممنوعةٌ فقط من القُفَّازين في اليدين، وأما جوارب الرِّجْلَين فلا بأس بها للمرأة المُحْرِمَة.
الثالث: الطِّيب
الثالث: قصد شَمِّ الطِّيب ومَسِّ ما يَعْلَق.
الطِّيب ممنوعٌ منه المُحْرِم، سواء كان بقصد شَمِّه أو لَمْسِه، وسواء كان في الثوب، أو في البدن، أو في غيرهما؛ لقول النبي لما سُئل عما يلبس المُحْرِم: ولا تلبسوا من الثياب شيئًا مَسَّه زعفران ولا وَرْس [6]، والوَرْس: نباتٌ طيب الريح، ومثل ذلك الزعفران.
وأما منع المُحْرِم من قصد شَمِّ الطِّيب؛ فلأن النبي منع المُحْرِم من التَّطيب، فقصد شَمِّه يأخذ هذا المعنى، ويحصل به التَّرفه، لكن إذا شَمَّ الطِّيب من غير قصدٍ فلا بأس.
الطِّيب ممنوعٌ منه المُحْرِم، سواء كان مباشرةً، أو كان -مثلًا- في الصابون، فبعض أنواع الصوابين مُعَطَّرةٌ؛ فيُمنع منها المُحْرِم، و(الشامبو) أيضًا، فبعض أنواع (الشامبو) مُعَطَّرةٌ، وبعض المناديل مُعَطَّرةٌ يُمنع منها المُحْرِم؛ ولذلك انتبهوا لهذه المسألة.
يعني: بعض حملات الحجِّ تأتي بأنواع من الصوابين، وإذا قرأتَ مكونات هذا الصابون -خاصةً الصوابين السائلة- تجد من ضمن المكونات عطرًا، وهذا لا يجوز للمُحْرِم أن يستخدمه؛ ولذلك ينبغي للقائمين على هذه الحملات أن يأتوا بصوابين غير مُعَطَّرةٍ، وهي موجودةٌ في السوق، فهناك أنواعٌ من الصوابين غير مُعَطَّرةٍ، لكن هناك نكهةٌ ليست عطرًا، مثل: الموجود في الصابون (التايت) فهذا ليس عطرًا، وإنما نكهةٌ، فهذا لا بأس به، أما الصوابين المكتوب من ضمن مكوناتها: عطر، فهذه لا يجوز للمُحرم أن يستخدمها.
قال:
يعني: لا يجوز للمُحْرِم أن يستعمل الطِّيب في الأكل والشرب بحيث يظهر طعم الطِّيب أو رائحته، ومن ذلك: الزعفران، فلا يجوز للمُحْرِم أن يشربه مع القهوة أو الشاي؛ لأنه طِيبٌ، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ولا تلبسوا من الثياب شيئًا مَسَّه الزعفران ولا الوَرْس، لكن المؤلف قيَّد ذلك بأن يظهر طعمه أو ريحه، فإذا كان لا يظهر طعمه ولا ريحه فلا بأس.
وعلى هذا لو كانت نسبة الزعفران يسيرةً جدًّا، ليس لها أثرٌ: لا في الطَّعْم، ولا في الرائحة؛ هنا يُعْفَى عنها، أما إذا كان لها أثرٌ في الطَّعْم أو الرائحة -وهذا هو الغالب- فإن المُحْرِم يكون ممنوعًا منها.
وبعض أهل العلم قال: ما كان ملموسًا، أو ما كان في اللباس، أما ما كان في الأكل أو الشرب فلا يُمنع منه المُحْرِم. لكن هذا لا دليل عليه، والصواب: أن الزعفران إذا كان في مأكولٍ أو مشروبٍ فإن المُحْرِم ممنوعٌ منه؛ لعموم الأدلة.
قال:
كلام المؤلف هنا في محظورات الإحرام مُفَرَّقٌ، غير مُرَتَّبٍ، أدخل بعض العبارات في بعضٍ، وكان ينبغي أن يُؤجل هذا الكلام إلى كلامه عن الفدية، وعما يترتب على ارتكاب محظورات الإحرام، وهذا سيأتي.
وعلى كل حالٍ، مَن ارتكب شيئًا من محظورات الإحرام ناسيًا أو جاهلًا أو مُكْرَهًا فلا شيء عليه، وسيأتي بيان ذلك -إن شاء الله- عند الكلام عن أحكام الفدية.
الرابع: إزالة الشعر وتقليم الأظفار
جعلهما المؤلف محظورًا واحدًا، وبعض الفقهاء -كصاحب “زاد المُستقنع”- يجعلهما محظورين، ولا مُشاحة في الاصطلاح.
المُحْرِم ممنوعٌ من إزالة الشعر؛ لقول الله : وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196]، فلا يجوز له أن يُزيل الشعر من بدنه بلا عذرٍ؛ لأنه بإزالة الشعر يحصل التَّرفه، وهو أيضًا ممنوعٌ من تقليم الأظفار بالإجماع، سواء كانت أظفار اليد أو الرِّجْل.
وقد اختلف العلماء في حكم إزالة الشعر بالنسبة للمُحْرِم:
عند الحنابلة أن إزالة الشعر يستوي فيها عمده وجهله؛ لأن فيها إتلافًا، ومثل ذلك: تقليم الأظفار.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن إزالة الشعر وما سبق من المحظورات لها حالتان:
- الحال الأولى: أن يفعل المحظور بلا عذرٍ ولا حاجةٍ، فهذا يأثم، وعليه الفدية، وسيأتي بيانها.
- الحال الثانية: أن يفعل المحظور لحاجةٍ، كأن يحتاج لحلق رأسه لمرضٍ، أو لتغطية رأسه لبردٍ، أو يحتاج -مثلًا- للبس الجورب والجزمة؛ لأن بعض الناس عنده مشكلةٌ في القدم، فيحتاج للبس الجورب مع الجزمة، وهنا لا بأس، لكن عليه الفدية، ويدل لذلك قصة كعب بن عُجْرَة قال: حُمِلْتُ إلى النبي والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ما كنتُ أرى أن الجهد بلغ بك ما أرى، ثم أمره: إما بذبح شاةٍ، أو بصيام ثلاثة أيامٍ، أو إطعام ستة مساكين، لكل مسكينٍ نصف صاعٍ [7].
الحال الثالثة: أن يفعل المحظور جاهلًا أو ناسيًا أو مُكْرَهًا، فهذا لا إثم عليه ولا فدية؛ لعموم قول الله تعالى: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، قال الله: قد فعلتُ [8].
وهل يُقاس على ذلك قتل الصيد والوطء؟
جمهور الفقهاء يمنعون من ذلك ويقولون: إن قتل الصيد والوطء يستوي فيه العمد والنسيان والجهل؛ لأنه من باب الإتلاف.
والقول الثاني: أن قتل الصيد إنما يجب فيه الجزاء والإثم إذا كان عن عمدٍ، أما إذا لم يكن عن عمدٍ -كما لو كان عن جهلٍ أو نسيانٍ- فليس فيه شيءٌ كسائر المحظورات.
وهذا هو القول الراجح؛ لقول الله تعالى في شأن الصيد: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة:95]، فقيَّد الله الجزاء بكونه مُتعمدًا.
هذه المسألة من غرائب المسائل، لماذا؟
لأن المذاهب الأربعة -الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة- يرون أن قتل الصيد يستوي فيه العمد والجهل والنسيان والعلم، يقولون: يستوي فيها العمد والنسيان والعلم والجهل، فمَن قتل صيدًا فعليه الجزاء مطلقًا، مع أن الله تعالى في آية الصيد قيَّد ذلك بالعمد فقال: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا، ولا قول لأحدٍ مع قول الله .
وهذا يدل على أنه ليس دائمًا قول الجمهور هو الصواب، وعلى أن الحقَّ لا ينحصر في المذاهب الأربعة، فقد يكون الحقُّ في غير المذاهب الأربعة.
هذه المسألة الآن الذي عليه فتوى كثيرٍ من المُحققين هو: أن قتل الصيد إذا لم يكن عن عمدٍ ليس فيه شيءٌ، بينما المذاهب الأربعة ترى أن فيه الجزاء، وهكذا أيضًا بالنسبة للوطء في الفرج، فهو كسائر المحظورات.
وعلى هذا فجميع محظورات الإحرام إذا وقعتْ عن جهلٍ أو نسيانٍ أو إكراهٍ فلا شيء على مَن وقع فيها، أما تفصيل مَن فصَّل من الفقهاء فأخرجوا إزالة الشعر وتقليم الأظفار وقتل الصيد والوطء، فهذا ليس عليه دليلٌ.
الخامس: قتل صيد البَرِّ
قال المؤلف:
الصيد تعريفه عند الفقهاء: الحيوان الحلال البَرِّي المُتوحش بأصل الخِلْقَة.
وقولهم: “الحيوان الحلال” خرج به الحرام، فلو قتل ذئبًا -مثلًا- أو كلبًا لا يُعتبر هذا صيدًا، ولا يترتب عليه جزاء الصيد، و”البَرِّي” خرج به البحري: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ [المائدة:96].
والوحشي أو “المُتوحش بأصل الخِلْقَة”، فإن لم يكن مُتوحشًا بأصل الخِلْقَة فليس من الصيد: كالإبل والبقر والغنم.
طيب، لو كان مُتوحشًا بأصل الخِلْقَة، ثم استأنس، مثل: الحَمَام، فالحمام الآن هو أكثر صيدٍ نجده عند الحرم، فهل يُعتبر صيدًا أم لا؟
نعم يُعتبر صيدًا، فكيف نعتبره صيدًا ونحن قلنا في التعريف: المُتوحش بأصل الخِلْقَة، وهذا ليس مُتوحشًا؟ فهذا نجده الآن عند الحرم، نجده في المسجد الحرام، يعني: مُستأنسًا.
نقول: العبرة بأصل الخِلْقَة، فأصل خِلْقَة الحمام فيه التَّوحش، فالعبرة إذن بأصل الخِلْقَة، وليس بواقعه الحالي.
والدليل لهذا المحظور قول الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:95]، وقوله: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا [المائدة:96].
قال:
وقد جاء في الصحيحين في قصة أبي قتادة : أنه رأى حمارًا وحشيًّا وهم مُحْرِمُون، وهو حلالٌ، فقتله، فلما سألوا النبيَّ عن ذلك قال: منكم أحدٌ أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟ قالوا: لا. قال: فَكُلُوا ما بقي من لحمها [9]، فدلَّ ذلك على تحريم الإعانة على قتل الصيد، أو الإشارة إليه، أو الدلالة عليه ……. المُحْرِم فلا يجوز الأكل منه.
ولهذا لما أتى الصَّعْب بن جَثَّامَة وأهدى للنبي حمارًا وحشيًّا، فردَّه عليه، فلما رأى تغير وجهه قال: إنا لم نردّه عليك إلا أنا حُرُمٌ [10].
فإذا صِيدَ من أجل المُحْرِم لم يَجُزْ، وهذا من حُسن تلطفه عليه الصلاة والسلام، يعني: إذا ردَّ الإنسان الهدية لأي سببٍ ينبغي أن يتلطف مع المُهْدِي، وأن يُبين له السبب.
قال:
يعني: لا يجوز التَّعرض للصيد حتى بمجرد إفساد البيض.
الجراد معدودٌ من الصيد، لا يجوز قتله للمُحْرِم، ولا في الحرم.
يعني: لا يجوز قتل القمل للمُحْرِم، وهذه المسألة اختلف فيها الفقهاء على قولين:
- القول الأول: أنه لا يجوز، ولا جزاء فيه، وإليه ذهب الجمهور.
وقالوا: لأنه لو كان قتل القمل جائزًا لقتله كعب بن عُجْرَة ، ولم يحتج إلى حلق رأسه، ولما في القول بالجواز من التَّرفه وقضاء التَّفَث، يعني: الوسخ. - القول الثاني: أنه يجوز قتل القمل، وهو روايةٌ عن الإمام أحمد؛ ولما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رجلًا سأله قال: إني قتلتُ قملةً وأنا مُحْرِمٌ. قال ابن عمر رضي الله عنهما: هي أهون قتيلٍ.
وسأل رجلٌ مُحْرِمٌ ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: أخذتُ قملةً فألقيتُها، ثم طلبتُها فلم أجدها. قال: تلك ضالةٌ لا تُبْتَغَى.
ولأن القمل من أكثر الهوامِّ أذًى، فأُبيح قتله كسائر ما يُؤذي.
وهذا هو القول الراجح: أنه يجوز قتل القمل؛ لأنه مُؤْذٍ بطبعه، فهو كسائر الفواسق التي أمر النبي بقتلها في الحِلِّ والحَرَم.
أما قصة كعب بن عُجْرَة ، فكعبٌ لم يكن ممنوعًا من قتل القمل، لكن لكثرته في رأسه لم يكن له سبيلٌ إلى التَّخلص منه إلا بحلق شعر رأسه.
والقول بأن في قتله تَرَفُّهًا هذا غير مُسلَّمٍ؛ إذ إن فيه تَخَلُّصًا من الأذى، وما كان مُؤذيًا بطبعه أُبيح للمُحْرِم قتله: كالفأرة والعقرب والحدأة والغراب والكلب العَقُور.
على هذا نقول: القول الراجح أنه يُباح قتل القمل، ولا جزاء فيه.
قال:
فيجوز قتلها.
يعني: أكثر ما يقع السؤال عنه: البعوض أو الناموس، هل يجوز للمُحْرِم قتله؟
نعم يجوز قتله؛ لأنه مُؤْذٍ بطبعه، فيجوز قتله.
قال:
كل مُؤْذٍ من الحيوانات يجوز قتله في الحِلِّ والحرم.
السادس: عقد النكاح
يَحْرُم على المُحْرِم عقد النكاح؛ لقول النبي : لا يَنْكِح المُحْرِم، ولا يُنْكِح، ولا يَخْطُب [11].
فلا يجوز للمُحْرِم أن يتزوج، أو يُزَوِّج مُحْرِمًا، أو يكون وليًّا للنكاح، ولا يصح عقد النكاح لو عقده.
وهذه المسألة أكثر ما ترد عندما لا يُتمّ الإنسانُ العمرةَ أو الحجَّ.
فمثلًا: لو تركت المرأةُ طوافَ العمرة، ثم عُقِدَ عليها؛ نكاحها غير صحيحٍ، أو ترك الرجلُ أو المرأةُ طوافَ الإفاضة، ثم تزوج في تلك الفترة؛ لم يصح الزواج.
وأذكر مرةً من المرات أن رجلًا ترك طواف العمرة أو طواف الإفاضة، وقد تزوج، وله أولادٌ، وبقي ثلاثة عشر عامًا، ثم أتى يسأل، فأفتاه المشايخ بعدم صحة عقد النكاح، وأن أولاده شرعيون؛ للوطء بشبهةٍ، لكن أمروه بتجديد عقد النكاح، فَأُمِرَ بتجديد العقد.
هذه مسألةٌ أكثر ما تقع بالنسبة لهذا: أن الرجل أو المرأة لا يُتمّ حجَّه أو عمرته، ثم يتزوج في تلك الفترة.
السابع: الوطء ودواعيه
الوطء -كما سبق- هو أشد محظورات الإحرام، وإذا كان قبل التَّحلل الأول فسد الحجُّ.
وسيأتي الكلام عن تفاصيل: ما الذي يترتب على الوطء قبل التَّحلل الأول وبعد التَّحلل الأول؟
فهي مُحرَّمةٌ على المُحْرِم.
أما الفدية فسيأتي الكلام عنها.
هذه محظورات الإحرام، عدَّها المؤلف سبعةً، وبعضهم يجعلها ثمانيةً، وبعضهم يجعلها تسعةً، ولا مُشاحة في الاصطلاح.
قال المؤلف:
قتل القمل ذكرنا أن الصواب أنه ليس من محظورات الإحرام، أما عقد النكاح فلا فدية فيه، لكن لا يصح هذا العقد.
وسيأتي الكلام عن هذا بالتفصيل عند الكلام عن جزاء الصيد.
إذا قطع شعرةً واحدةً يقول المؤلف: فيها إطعام مسكينٍ، أو قلَّم ظفرًا واحدًا مسكين، وفي الثِّنتين إطعام اثنين، وفيما زاد الفدية، وهذا هو المذهب عند الحنابلة والشافعية.
وقال بعض أهل العلم: إذا حلق أربع شعراتٍ فعليه فديةٌ.
وقيل: إذا حلق ربع الرأس فعليه فديةٌ، وهو مذهب الحنفية.
وقيل -وهو الأقرب-: إذا حلق ما يحصل به إماطة الأذى فعليه فديةٌ وإلا فلا.
وهذا هو مذهب المالكية، وهو القول الراجح: أن يحلق ما يحصل به إماطة الأذى؛ لأن التَّحديد بابه التَّوقيف، والتَّحديد بثلاث شعراتٍ أو أربع أو ربع الرأس يحتاج إلى دليلٍ؛ ولأن الله قال: وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ [البقرة:196]، فجعل الله مناط الحكم بالأذى، فيكون مَن حلق أو أزال من الشعر ما يحصل به إماطة الأذى فعليه فديةٌ.
وأما إزالة الشعرة أو الشعرتين أو الثلاث أو الأربع فهذه لا يحصل بها إماطة الأذى، ولا يترتب عليها شيءٌ، ويدل لذلك أن النبي احتجم في رأسه وهو مُحْرِمٌ [12]، ومن المعلوم أنه لا يمكن أن يحتجم في الرأس إلا إذا حلق موضع الحجامة، يعني: مَن أراد أن يُحْجَم في رأسه لا بد أن يحلق الشعر الذي ستكون فيه الحجامة، ولم يُنقل أن النبي دفع فديةً.
حكم مَن اضطرَّ لفعل محظورٍ
قال:
يعني: إذا اضطرَّ أو حتى لم يضطرّ، وإنما احتاج لفعل محظورٍ من المحظورات السابقة جاز ذلك مع وجوب الفدية، كأن تكون المرأة -مثلًا- ضعيفة البصر، وتريد أن تلبس النقاب لأجل أن ترى الطريق، ولو لم تفعل ذلك للحقها الحرج بتغطية الوجه بغير النقاب، هنا لا بأس أن تلبس النقاب، لكن تدفع الفدية.
ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والدرس القادم -إن شاء الله- نبدأ بباب الفدية.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 5805، ومسلم: 1177. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 1265، ومسلم: 1206. |
^3 | رواه مسلم: 1218، 1298. |
^4 | رواه البخاري: 1838. |
^5 | رواه البخاري: 4141، ومسلم: 2770. |
^6 | رواه البخاري: 5803، ومسلم: 1177. |
^7 | رواه البخاري: 1816، ومسلم: 1201. |
^8 | رواه مسلم: 126. |
^9 | رواه البخاري: 1824، ومسلم: 1196. |
^10 | رواه البخاري: 1825، ومسلم: 1193. |
^11 | رواه مسلم: 1409. |
^12 | رواه البخاري: 5698، ومسلم: 1203. |