logo
الرئيسية/دروس علمية/دورة في التعليق على كتاب الحج من كتاب السلسبيل (الكويت)/(07) باب الإحرام- من قوله: “وإذا انعقد لم يبطل إلا بالردة ..”

(07) باب الإحرام- من قوله: “وإذا انعقد لم يبطل إلا بالردة ..”

مشاهدة من الموقع

مع هذه الأمور.

الإحرام يبطل بالردة

وإذا انعقد لم يبطل إلا بالردة.

إذا انعقد الإحرام لم يبطل إلا بالردة، فالردة تُحبط الأعمال؛ لقول الله : لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65].

ومُراد المؤلف بهذه العبارة: أنه إذا انعقد لم يبطل، أن الإحرام لا يَرْتَفِض بِرَفْضِه، فإذا أحرمتَ بالعمرة أو الحجِّ يلزمك إتمام النُّسُك، وليس لك أن تَرْفُض الإحرام وتقول: أرجع إلى بلدي.

تجد بعض العامة -مثلًا- يُحرم بالعمرة أو الحجِّ، فإذا وجد زحامًا أو مشقةً أو -مثلًا- حصل له مرضٌ أو كذا يرجع ويلبس ملابسه، ويقول: لن أعتمر، أو لن أحجَّ.

نقول: هذا غير صحيحٍ، أنت الآن مُحْرِمٌ، لا يمكن أن تَرْتَفِضَ الإحرام إلا في حالةٍ واحدةٍ إذا اشترطتَ وقلتَ عند الإحرام: وإن حَبَسَنِي حابسٌ فمحلي حيث حَبَسْتَنِي. فإن حَبَسَك حابسٌ جاز لك أن تتحلل، أما أن الإنسان يلبس ملابسه، ثم يريد أن يرفض الإحرام ويرجع إلى بلده فهذا غير صحيحٍ، ليس له ذلك، لا بد أن يُكمل النُّسُك.

إذن عندنا قاعدةٌ هي: أن الإحرام لا يَرْتَفِض برفضه.

الإحرام يفسد بالوطء

قال:
لكن يفسد بالوطء في الفرج قبل التَّحلل الأول.

وهذا بالإجماع، كما نقل الإجماع ابن المنذر رحمه الله، ولا يفسد إلا بالجِمَاع قبل التَّحلل الأول.

والجِمَاع هو أشد محظورات الإحرام، وهو أشد مُفطرات الصيام، فهو يُفْسِد الحجَّ إذا وقع قبل التَّحلل الأول، ويُفْسِد الصيام وتترتب عليه الكفارة المُغلظة، وهي عتق رقبةٍ، ولا توجد رقابٌ الآن، فيصوم شهرين مُتتابعين.

وسيأتي الكلام -إن شاء الله- عن هذا في محظورات الإحرام، سيأتي الكلام عنه بالتفصيل، وهو: أن الجِمَاع قبل التَّحلل الأول يُفْسِد الحجَّ.

أَنْسَاك الحج الثلاثة

قال:
ويُخَيَّر مَن يريد الإحرام بين أن ينوي التَّمتع -وهو أفضل- أو ينوي الإفراد أو القِرَان.

مَن يريد الحجَّ مُخَيَّرٌ بين الأنساك الثلاثة، وهي: التَّمتع والإفراد والقِرَان.

وبيَّن المؤلف المقصود بكل واحدٍ منها فقال:

النُّسُك الأول: التَّمتع

فالتَّمتع أن يُحرم بالعمرة في أشهر الحجِّ، ثم بعد فراغه منها يُحرم بالحجِّ.

التَّمتع معناه: أن يُحرم بالعمرة في أشهر الحجِّ التي هي شوال وذو القعدة وذو الحجة، أو عشر من ذي الحجة على الخلاف، ثم يُحرم بالحجِّ من عامه، بشرط: ألا يعود إلى بلده؛ لأنه لو عاد إلى بلده انقطع تمتعه.

والإفراد هو: أن يُحرم بالحجِّ.

والقِرَان: يُحرم بالعمرة والحجِّ جميعًا.

أيّهما أفضل؟

أولًا: مَن ساق الهدي يلزمه أن يكون قَارِنًا، والنبي كان قارنًا؛ لأنه قد ساق الهدي، والصحابة الذين ساقوا الهدي معه كانوا قارنين.

ما معنى: سوق الهدي؟

مَن يُجيب عن هذا السؤال؟

يأتي بالهدي من خارج حدود الحرم، ويُدخله الحرم، كأن يأتي به من المدينة، أو يأتي به من أي بلدٍ خارج حدود الحرم.

وهذه السُّنة الآن شبه مهجورة، سوق الهدي هذه السُّنة شبه مهجورة الآن.

مَن ساق الهدي يجب في حقِّه القِرَان، ومَن لم يَسُقِ الهدي فهو مُخَيَّرٌ بين الأنساك الثلاثة.

وقال بعض أهل العلم: إنه ليس مُخَيَّرًا، وإنما يجب التَّمتع، وأن الإفراد والقِرَان قد نُسِخَا إلا في حقِّ مَن لم يستطع التَّمتع فله القِرَان خاصةً.

وهذا قد رُوي عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، وانتصر لهذا القول ابن القيم، ومن المعاصرين الشيخ الألباني، رحمهم الله تعالى جميعًا.

ولكن الراجح -والله أعلم- أن الحاجَّ مُخَيَّرٌ كما هو قول الجماهير، وأن التَّمتع واجبٌ في حقِّ مَن لم يَسُقِ الهدي من الصحابة فقط دون غيرهم، كما قرر ذلك الإمام ابن تيمية رحمه الله.

وذكر أن هذا القول هو الذي يدل عليه مجموع النصوص، كما في حديث أبي ذرٍّ  قال: “كانت المُتعة في الحجِّ لأصحاب محمدٍ خاصةً” [1].

طيب، لماذا كانت لهم خاصةً؟

لأن هناك اعتقادًا كان موجودًا عند أهل الجاهلية، وكان موجودًا عند الصحابة في البداية، وهو: أن العمرة في أشهر الحجِّ من أفجر الفجور، فالنبي أراد أن يُبطل هذا الاعتقاد، وأنه لا بأس بالعمرة في أشهر الحجِّ؛ ولذلك في البداية خيَّرهم؛ خيَّر مَن لم يَسُقِ الهدي من الصحابة بين الأنساك الثلاثة، وحثَّ على التَّمتع، ثم لما دَنَوا من مكة أمرهم بالتَّمتع، لكن ليس أمر إلزامٍ، قالوا: وأنت يا رسول الله ما تمتعتَ. قال: لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لم أَسُقِ الهَدْي، ولجعلتُها عمرةً [2]، يعني: كنتُ مُتمتعًا، لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لكنتُ مُتمتعًا.

وهذه العبارة من أحسن ما يُقال في تدارك الأمور الماضية، يعني: إذا ندمتَ على شيءٍ فأحسن عبارةٍ أن تقول: لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ.

وإنما قال عليه الصلاة والسلام ذلك تطييبًا لخواطرهم؛ لأنهم يقولون: كيف تأمرنا بالتَّمتع وأنت يا رسول الله لم تتمتع؟ فبين لهم أنه ساق الهدي.

ثم بعد ذلك لما فرغوا من السَّعي أمرهم أمر إلزامٍ بالتمتع، فقالوا: يا رسول الله، كيف ننطلق إلى مِنًى ومَذَاكِيرنا تقطر مَنِيًّا؟! [3] قال: افعلوا ما آمركم به [4]، ما مُرادهم بهذا الكلام؟

لأن التَّمتع أن يأتي الإنسان بعمرةٍ، ثم يتحلل، فإذا تحلل حلَّ له كل شيءٍ حرم عليه بالإحرام حتى جِمَاع الزوجة.

يقولون: كيف نأتي بعمرةٍ في أشهر الحجِّ ونتحلل منها، وأُجامع أهلي وأذهب إلى مِنًى وأنا حديث عهدٍ بهذا؟!

فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: افعلوا ما آمركم به، أراد أن يُبطل هذا المُعتقد، فقالوا: يا رسول الله، أي الحِلّ؟ قال: الحِلُّ كله [5]، فأمرهم عليه الصلاة والسلام بهذا حتى يُبطل هذا المُعتقد.

لاحظ هنا: أن المُعتقدات التي ترسخ في أذهان الناس من الصعب إزالتها.

لاحظ: كيف عانى النبي عليه الصلاة والسلام مع الصحابة، وهم الصحابة، وكيف تدرج معهم، لكن في الأخير استجابوا، فكان الوجوب خاصًّا بالصحابة، ومَن عداهم مُخَيَّرٌ بين الأنساك الثلاثة.

ومما يدل لذلك ما جاء في “صحيح مسلم” عن أبي هريرة : أن النبي قال: والذي نفسي بيده، لَيُهِلَّنَّ ابن مريم بِفَجِّ الرَّوحاء حاجًّا أو مُعتمرًا أو لَيَثْنِيَنَّهُمَا [6].

فذكر عليه الصلاة والسلام الأنساك الثلاثة: حاجًّا يعني: مُفْرِدًا، أو مُعتمرًا يعني: مُتمتعًا، أو لَيَثْنِيَنَّهُمَا يعني: قارنًا.

هذا يدل على عدم النَّسخ؛ لأن عيسى عليه الصلاة والسلام عندما ينزل في آخر الزمان ينزل ويحكم بشريعة محمدٍ ، وعيسى عليه الصلاة والسلام رفعه الله تعالى ببدنه وروحه إلى السماء: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157]، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء:158].

ومن حكمة الله : أن البشر إنما يموتون في الأرض، وليس في السماء؛ ولذلك ينزل في آخر الدنيا بعد خروج المسيح الدجال.

والمسيح الدجال يأتي بخوارق لا قِبَل للبشر بها: يقتل الرجل ثم يقول: “قم” فيقوم ويمشي، ويقول للسماء: “أَمْطِرِي” فَتُمْطِر، ويقول للأرض: “أخرجي كنوزك” فتُخرج كنوزها، ويفتن الناس، ويحتلّ الأرض كلها، الكرة الأرضية كلها يحتلها في وقتٍ وجيزٍ إلا مكة والمدينة، ويدَّعي الربوبية، يدَّعي أنه الإله، فالبشر لا قِبَل لهم به.

يُنْزِل اللهُ المسيحَ عيسى ابن مريم، وعندما يرى المسيحُ الدجال المسيحَ عيسى ابن مريم يذوب كما يذوب الملح -يخاف منه- حتى يُدركه عند باب لُدٍّ في فلسطين فيقتله.

ويحكم عيسى ابن مريم بشريعة الإسلام، ويقوى الإسلام جدًّا حتى إنه يعمُّ الكرة الأرضية كلها، ولا يبقى بيت شجرٍ ولا حَجَرٍ ولا مَدَرٍ إلا أدخله الله هذا الدين بِعِزِّ عزيزٍ أو ذُلِّ ذليلٍ، حتى إنه من قوة الإسلام يقتل الخنزير، ويكسر الصليب، وهذا ما حصل حتى في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، ما حصل مثل هذا، وهذا يدل على قوة الإسلام عند نزول المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام.

ثم بعد ذلك يبعث اللهُ ريحًا طيبةً تقبض روح كل مؤمنٍ ومؤمنةٍ، فلا يبقى إلا شِرَار الناس، وعليهم تقوم الساعة.

الشاهد من هذا: أن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام يُهِلُّ حاجًّا أو مُعتمرًا أو بهما معًا، فذكر الأنساك الثلاثة.

فهذا استدلالٌ عزيزٌ قَلَّ مَن يستدلُّ به.

يعني: هذا استنباطٌ لطيفٌ ذكره بعض أهل العلم، سمعتُه من شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله، ونقلتُه في هذا الكتاب.

فلاحظ هنا: هذا فيه ردٌّ على مَن قالوا بالنَّسخ، فلو كان منسوخًا لما قال عليه الصلاة والسلام ذلك عن عيسى ابن مريم : أنه يُهِلُّ بأحد الأنساك الثلاثة.

إذن الحاجُّ إذا لم يَسُقِ الهدي -والآن عامة الناس لا يسوقون الهدي- فهو مُخَيَّرٌ بين الأنساك الثلاثة: التَّمتع والإفراد والقِرَان، وأفضلها التَّمتع، يليه القِرَان، ثم الإفراد.

ما معنى: التَّمتع؟

قال المؤلف: “فالتَّمتع أن يُحرم بالعمرة في أشهر الحجِّ، ثم بعد فراغه منها يُحرم بالحجِّ”.

هذا هو تعريف التَّمتع.

يعني مثلًا: يأتي بعمرةٍ ويبقى في مكة، أو -مثلًا- يذهب لجدة، المهم أنه لا يرجع إلى بلده، ثم يُحْرِم بالحج من ذلك العام؛ فيكون مُتمتعًا، بشرط: ألا يرجع إلى بلده، فإن رجع إلى بلده انقطع تمتعه.

لو أن شخصًا -مثلًا- أحرم في واحد شوال، كان في العشر الأواخر في مكة، ويوم العيد لما أُعلن أتى بعمرةٍ، ثم رجع للكويت، ثم أحرم بالحج في ذلك العام، هل يُعتبر مُتمتعًا؟

هو من أهل الكويت، هنا انقطع تمتعه.

لو أنه بقي -مثلًا- في العشر الأواخر في مكة، وأتى بعمرةٍ يوم العيد، وبقي في مكة إلى وقت الحجِّ، ثم أحرم بالحجِّ يكون مُتمتعًا أم لا؟

يكون مُتمتعًا.

إذا قال: أنا ما نويتُ التَّمتع، أنا أتيتُ بعمرةٍ يوم العيد وما نويتُ التَّمتع.

نقول: أنت مُتمتعٌ شئتَ أم أبيتَ، فالتَّمتع لا تُشترط له نيةٌ، وإنما المُعتبر هو: أن يأتي بالعمرة في أشهر الحجِّ، ثم يُحْرِم بالحجِّ من عامه، ولا يقطع تمتعه برجوعه إلى بلده.

فانتبه لهذه المسألة، فهذه يكثر السؤال عنها، فبعض الناس يأتي بعمرةٍ في أشهر الحجِّ، ثم يُحْرِم بالحج ويقول: أنا ما نويتُ التَّمتع.

التَّمتع لا يحتاج إلى نيةٍ.

النُّسك الثاني: الإفراد

قال:

والإفراد: أن يُحْرِم بالحجِّ، ثم بعد فراغه منه يُحْرِم بالعمرة.

الإفراد معناه: أن يُحْرِم بالحجِّ فقط، يقول: لبيك حجًّا.

وقول المؤلف: “ثم بعد فراغه منه يُحْرِم بالعمرة” هذا محل نظرٍ، فإن هذه ليست حقيقة الإفراد، وإن كانت من صوره، فحقيقة الإفراد هي: أن يُحْرِم بالحجِّ، ولو أحرم بالحجِّ ثم بعده أحرم بعمرةٍ يصدق عليه أنه مُفْرِدٌ، كما فعلتْ عائشة رضي الله عنها، لكن هذا ليس داخلًا في حقيقة الإفراد.

وأفادنا المؤلف بأنه لا بأس أن يعتمر الحاجُّ بعد الحجِّ، وإن كان الأفضل ألا يفعل؛ لأن النبي حجَّ معه قُرابة مئة ألفٍ ولم يفعل ذلك أحدٌ من الصحابة سوى عائشة رضي الله عنها، وعائشة إنما فعلتْ ذلك لأنها -كما ذكرنا- أتاها الحيض، وهي كانت مُتمتعةً، فبقيتْ تنتظر الطُّهْر، فأتى يوم عرفة ولم تَطْهُر، فأمرها النبي بأن تقلب التَّمتع إلى قِرَانٍ، ففعلتْ، لكن رأتْ أن القِرَان أدنى مرتبة من التَّمتع، وعندها جاراتٌ -أزواج النبي عليه الصلاة والسلام- وبينهن شيءٌ من المُنافسة والغيرة التي تحصل بين النساء.

قالت: ترجع صُوَيْحِبَاتي بحجٍّ وعمرةٍ، وأنا أرجع بحجٍّ؟

فقال لها النبي : يَسَعُكِ طوافكِ لحَجِّكِ وعُمرتكِ [7]، يعني: أنتِ قارنةٌ، فأنتِ أيضًا سترجعين بعمرةٍ وحجٍّ، لكنها رضي الله عنها رأتْ أن القِرَان أدنى رُتْبَة من التَّمتع، فقالت: لا، أنا أريد أن أعتمر بعد الحجِّ.

يقول جابرٌ : “وكان رسول الله رجلًا سهلًا” [8]، إذا أرادت الشيء طاوعها عليه .

كان رفيقًا، رحيمًا، هَيِّنًا، سهلًا، فَأَذِنَ لها أن تعتمر، وأمر أن يذهب معها أخوها عبدالرحمن إلى التَّنعيم، فأتتْ بعمرةٍ.

فدلَّ هذا على أن الحاجَّ لو أراد أن يعتمر بعد الحجِّ لا بأس، لكن الأفضل ألا يفعل ذلك؛ لأن النبي لم يفعله، ولم يفعله أحدٌ من الصحابة سوى أم المؤمنين رضي الله عنها.

النُّسك الثالث: القِرَان

قال:
والقِرَان هو: أن يُحْرِم بالحجِّ والعمرة معًا، أو يُحْرِم بالعمرة، ثم يُدخل الحجَّ عليها قبل الشروع في طوافها.

هذا هو القِرَان، وقد ذكر المؤلف له صورتين:

  • الصورة الأولى: أن يُحْرِم بالعمرة والحجِّ جميعًا، يقول: اللهم لبيك عمرةً وحجًّا.
  • الصورة الثانية: أن يُحْرِم بالعمرة، ثم يُدخل عليها الحجَّ قبل الشروع في طوافها، كما حصل مع أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فإنها أحرمتْ مُتمتعةً، وأدركها وقت الوقوف بعرفة ولم تَطْهُر؛ فأدخلت الحجَّ على العمرة، فأصبحتْ قارنةً.

مثالٌ آخر: رجلٌ أحرم بالعمرة يريد التَّمتع، ثم مرض أو حصل له ما يُعِيقُه حتى أتاه وقت الوقوف بعرفة ولم يتمكن من الإتيان بعمرةٍ، فيُدخل الحجَّ على العمرة، ويقلب التَّمتع إلى قِرَانٍ.

حكم الانتقال من نُسُكٍ إلى نُسُكٍ

قال:
فإن أحرم به ثم بها لم يصح.

يعني: إذا أدخل العمرة على الحجِّ لأجل أن يكون قارنًا لم يصح.

وبعبارةٍ أوضح: إذا أراد أن ينتقل من الإفراد إلى القِرَان يقول المؤلف: إنه لا يصح، وهو قول الجمهور.

وذهب الحنفية إلى أنه يصح الانتقال من الإفراد إلى القِرَان.

والمسألة عندي محل توقفٍ، والخلاف فيها قويٌّ، والأدلة تقريبًا مُتكافئةٌ، ولم يظهر لي رُجْحَان أيٍّ من القولين.

أما لو أراد أن ينتقل من التَّمتع إلى الإفراد فليس له ذلك.

والقاعدة في هذا الباب: أنه إذا أراد أن ينتقل من الأفضل إلى المفضول فليس له ذلك، أما إذا أراد أن ينتقل من المفضول إلى الأفضل فلا بأس، بل هو المُستحب.

فلو كان مُفْرِدًا أو قارنًا، وأراد أن يكون مُتمتعًا فهذا هو الأفضل.

مثال ذلك: رجلٌ أحرم مُفْرِدًا، ثم لما أتى مع الحملة في الحجِّ نصحه زملاؤه أو نصحه مُرشد الحملة وقال: يا فلان، التَّمتع أفضل. قال: والله أنا أحرمتُ مُفْرِدًا. قال: اقلب الإفراد إلى تمتعٍ. فهذا يُستحب، يُستحب أن يقلب الإفراد إلى تمتعٍ، وهكذا القِرَان يقلبه إلى تمتعٍ، فالانتقال من المفضول إلى الفاضل هذا هو المُستحب؛ ولذلك أمر النبي مَن كانوا معه مُفْرِدين وقارنين أن يقلبوا ذلك إلى تمتعٍ.

هنا ذكر فائدةً في صفحة (252) جاء في “صحيح مسلم” من حديث جابرٍ : أن النبي قال: دخلت العمرةُ في الحجِّ [9].

ووجه هذا: أن النبي أمر أصحابه أن مَن كان منهم قد أحرم بالحجِّ ولم يَسُقِ الهدي أن يقلبه إلى عمرةٍ.

قالوا: يا رسول الله، كيف نفعل هذا؟

لأنهم يرون أن العمرة في أشهر الحجِّ من أفجر الفجور، فأراد أن يُبطل مُعتقدهم، وأن العمرة تكون مع الحجِّ، وتكون في أشهر الحجِّ، يعني: هذا كله لأجل أن يُبطل هذا المُعتقد الموجود لديهم.

أفضل النُّسك لأهل مكة

أهل مكة ما النُّسك الأفضل لهم؟

الأدلة جاءت عامةً لأهل مكة ولغيرهم؛ لذلك الأفضل لهم التَّمتع.

وبعض العلماء يرى أن الأفضل لهم الإفراد، ولكن ليس لذلك دليلٌ ظاهرٌ، والله لما ذكر التَّمتع قال: ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:196]، هذا دليلٌ على أن حاضري المسجد الحرام يأتون بالتَّمتع.

والحكمة من كون أهل مكة ليس عليهم هديٌ: أنهم هم حاضرو المسجد الحرام، وحاضرو المسجد الحرام هم أهله، فالهدي يأتي من الضيف على البيت، ضيوف الرحمن الذين يأتون من أماكن بعيدةٍ هم الذين يهدون للبيت، أما مَن كان من أهل مكة فلا يُقال: إنه يُهدي للبيت، وإنما يكون الإهداء من غيرهم.

هناك قولٌ لبعض أهل العلم ورأيتُه؛ لأنه أصبح الآن يُتداول عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يقولون: إن أهل مكة ليس عليهم عمرة، وإنما عمرتهم الطواف بالبيت.

هذا مرويٌّ عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، لكن ليس عليه دليلٌ ظاهرٌ، والأدلة أتتْ عامةً لأهل مكة ولغيرهم، والقول بأن أهل مكة ليس عليهم عمرة، وإنما عمرتهم الطواف؛ ليس عليه دليلٌ ظاهرٌ، والله تعالى قال: ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، هذا دليلٌ على أن أهل مكة يأتون بالتَّمتع، والتَّمتع معناه: عمرة وحجّ، فكيف يُقال: إن أهل مكة ليس عليهم عمرة، ولا يأتون بعمرةٍ؟

الأقرب -والله أعلم- هو قول الجمهور، وهو: أن أهل مكة كغيرهم في ذلك، لكن يبقى الطواف مشروعًا لأهل مكة ولغيرهم، طواف التَّطوع مشروعٌ، لكن مع ذلك ننصح مَن أراد أن يطوف طواف تطوعٍ ألا يفعل ذلك في أوقات الزحام، فلا يفعل ذلك في وقت الحجِّ، ولا يفعل ذلك في رمضان؛ حتى يُتيح الفرصة لإخوانه المسلمين؛ لأننا نرى أن من أسباب الزحام الآن في المطاف: وجود الطائفين المُتطوعين.

كما ترون الآن الأعداد الكثيرة للمسلمين، فالمسلمون الآن عددهم يزيد على مليار ونصف، والذين يحجون أقلّ من ربع واحد بالمئة، فينبغي أن يحرص المسلم على مُراعاة أحوال إخوانه المسلمين، يعني: الحمد لله طرق الخير كثيرةٌ.

مثلًا: أتى وقت الحجِّ، أو في رمضان، إذا أتيتَ بالعمرة في رمضان، أو -مثلًا- في الحجِّ أتيتَ بالعمرة أو الحج اكْتَفِ بالطواف، وهناك يمكن أن تُصلي في الحرم ما شئتَ، فالصلاة في الحرم أجرها مُضاعفٌ، لكن الطواف انْوِ أنك تُوسع على إخوانك المسلمين، وإلا فلو أن كل واحدٍ أراد أن يتطوع بالطواف في رمضان، وفي وقت الحجِّ؛ هذا يُسبب الزحام الشديد، وأعداد الناس الآن في تزايدٍ، وهذا قد يكون من أشراط الساعة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام ذكر من أشراط الساعة: أن أعداد الناس تكون كثيرةً.

ذكر في الملحمة الكبرى التي تقع بين المسلمين والروم: أنهم يأتونكم في ألف ألفٍ، يعني: بجيشٍ مقداره مليون تقريبًا، وهذا لم يحصل حتى الآن، وهذا يدل على أن أعداد البشر ستزيد، فهذا قد يكون -والله أعلم- من أشراط الساعة: زيادة أعداد البشر، وقد زاد عدد المسلمين.

أقول هذا حتى يبين أنه ينبغي في أوقات الزحام أن يُوسِّع المسلمُ على إخوانه بألا يطوف طواف التَّطوع، وإنما ينشغل بأعمال الخير الأخرى.

حكم مَن أحرم ولم يَنْوِ نُسُكًا

قال:
ومَن أحرم وأطلق صحَّ، وصرفه لما شاء، وما عمل قبل فَلَغْوٌ.

يعني: إذا أحرم الإنسان، أتى عند الميقات وأحرم، قال: لبيك اللهم لبيك. قيل: يا فلان، بِمَ أحرمتَ؟ هل أنت مُتمتعٌ أو مُفْرِدٌ أو قارنٌ؟ قال: ما نويتُ شيئًا، لم أَنْوِ شيئًا. فيقول المؤلف: إن هذا يصح، ويصرفه لما شاء. يُقال: إذا لم تَنْوِ شيئًا إذن اخْتَر التَّمتع أو الإفراد أو القِرَان، والتَّمتع أفضل.

ويصح كذلك أن يقول: أحرمتُ بما أحرم به فلان.

كأن يأتي إنسانٌ عند الميقات ويثق في أحد المشايخ أو أحد أهل العلم، ويقول: اللهم لبيك بما لَبَّى به الشيخ فلان. وهو يعرف أن الشيخ فلانًا عنده تَحَرٍّ للسنة، وعنده حرصٌ، هل هذا يصح؟

نعم يصح، والدليل لهذا ما جاء في الصحيحين عن أنسٍ قال: قدم عليٌّ  على النبي من اليمن، فقال: بِمَ أَهْلَلْتَ؟ قال: بما أهلَّ به النبي [10]. فأقره النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك، وهذا يدل على فقه عليٍّ ، وعلى جودة رأيه.

إذن مَن أحرم وأطلق صحَّ، ثم يختار بعد ذلك أي نُسُكٍ يريد، أو إذا أحرم بما أحرم به فلانٌ فإن ذلك يصح.

السنة لمَن أراد نُسُكًا أن يُعينه

قال:
ولكن السنة لمَن أراد نُسُكًا أن يُعينه.

يعني: الأفضل أنه يُعين التَّمتع أو الإفراد أو القِرَان، ولا يُطلق.

قال:

وأن يشترط فيقول: اللهم إني أريد النُّسك الفلاني.

إذا أراد الإفراد يقول: اللهم لبيك حجًّا. وإذا أراد القِرَان يقول: لبيك عمرةً وحجًّا. وإذا أراد التَّمتع ماذا يقول؟

لبيك عمرةً مُتمتعًا بها إلى الحج.

هذا قولٌ لبعض الفقهاء، والأقرب للسنة أن يقول: اللهم لبيك عمرةً. ولا داعي إلى أن يقول: مُتمتعًا بها إلى الحجِّ؛ لأنك أصلًا مُتمتعٌ إلى الحجِّ، ولا داعي للتَّلفظ بذلك، فَتُهِلّ بالنُّسك فقط، فالأقرب للسنة أن يقول: اللهم لبيك عمرة. ولا يزيد فيقول: مُتمتعًا بها إلى الحج.

حكم التَّلفظ بالنية في النُّسك

قال:
وأن يشترط فيقول: اللهم إني أريد النُّسك الفلاني، فَيَسِّرْهُ لي، وتقبله مني، وإن حَبَسَني حابسٌ فمحلي حيث حَبَسْتَنِي.

قوله: “فيقول: اللهم إني أريد النُّسك الفلاني، فَيَسِّرْهُ لي، وتقبله مني”، هذا محل نظرٍ، ويحتاج إلى دليلٍ، ولم يرد هذا عن النبي عليه الصلاة والسلام، أو عن أحدٍ من الصحابة أنهم كانوا يقولون ذلك.

ثم ما الفرق بين أن يقول: “اللهم إني أريد النُّسك الفلاني”، وبين مَن إذا أراد أن يُصلي يقول: اللهم إني أريد أن أُصلي صلاة العصر، أو صلاة المغرب، أو صلاة العشاء؟ ما الفرق؟

ونحن نقول: إن هذا غير مشروعٍ، التَّلفظ بالنية غير مشروعٍ: “اللهم إني أريد النُّسك الفلاني” أيضًا تلفظٌ بالنية، فلا فرق في الحقيقة بينها؛ ولذلك الصواب أن هذا لا يُشرع، فلا يُشرع أن يقول: “اللهم إني أريد النُّسك الفلاني، فَيَسِّرْهُ لي، وتقبله مني”، وأن السنة أن يقتصر على الإهلال، فإذا كان مُتمتعًا يقول: اللهم لبيك عمرة. وإذا كان مُفْرِدًا يقول: لبيك حجًّا. وإذا كان قارنًا يقول: لبيك عمرةً وحجًّا.

متى يُهِلُّ بالنُّسك؟

السنة أن يكون إهلاله بعدما تستوي به الراحلة، فإنه عليه الصلاة والسلام إنما أَهَلَّ بعدما استوى على الراحلة.

وفي الوقت الحاضر -مثلًا- السيارة، يعني مثلًا: ذهب لميقات السَّيل فاغتسل وصلَّى، الأفضل أنه ما يُهِلُّ حتى يركب السيارة يريد الذهاب لمكة، هنا يُهِلُّ، إذا استوى على السيارة يريد الذهاب إلى مكة هنا يُهِلُّ، هذا الأفضل.

وإذا ركب السيارة يستقبل القبلة، وهنا سُنةٌ قَلَّ مَن ينتبه لها، بل قَلَّ مَن يذكرها من الفقهاء، وقد ذكرتُها هنا في كتابي “السلسبيل”، وأخذتُها من كتب الأحاديث، وإلا لم أقف عليها في كتب الفقه، وهذا من فوائد هذا الكتاب: أنك تجد فيه بعض الدقائق وبعض الفوائد واللطائف التي لا تجدها في كتب الفقه: السُّنة أنه يُسبح، ويحمد الله، ويُكبر الله. يعني يقول: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر قبل أن يُهِلَّ.

قال الحافظ ابن حجر: “هذا الحكم -وهو استحباب التَّسبيح وما ذكر معه قبل الإهلال- قَلَّ مَن تعرض لذكره مع ثبوته”.

قال البخاري في “صحيحه”: “باب التَّحميد والتَّسبيح والتَّكبير قبل الإهلال عند الركوب على الدابة”، ثم ساق بسنده من حديث أنسٍ قال: صلَّى النبي الظهر بالمدينة أربعًا، والعصر بذي الحُلَيفة ركعتين، فَبَاتَ بها، فلما أصبح ركب راحلته، فجعل يُهلل ويُسبح، فلما علا على البَيْدَاء لَبَّى بهما جميعًا [11].

ثم يقول مُستقبلًا القبلة: “اللهم لبيك عمرةً”، أو “اللهم لبيك حجًّا”، أو “اللهم لبيك عمرةً وحجًّا”.

وجاء في روايةٍ أصرح من هذا: أنه عليه الصلاة والسلام إذا أراد أن يُهِلَّ يستقبل القبلة ويقول: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر [12].

إذن الأفضل قبل أن تقول: “لبيك عمرةً”، أو “لبيك حجًّا”، أو “لبيك عمرةً وحجًّا” أن تستقبل القبلة وتقول: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه مسلم: 1224.
^2 رواه أبو داود: 1905، وأحمد: 14440.
^3 رواه النسائي: 2805، وابن ماجه: 2980، وأحمد: 14409.
^4 رواه مسلم: 1216.
^5 رواه البخاري: 3832، ومسلم: 1240.
^6 رواه مسلم: 1252.
^7 رواه مسلم: 1211.
^8 رواه مسلم: 1213.
^9 رواه مسلم: 1218.
^10 رواه البخاري: 1558، ومسلم: 1250.
^11 رواه البخاري: 1714.
^12 رواه البخاري: 1551.
zh